فصل: البحث الثالث: في فضل العلم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.البحث الثالث: في فضل العلم:

لو كان في الإمكان شيء أشرف من العلم لأظهر الله تعالى فضل آدم بذلك الشيء، ومما يدل على فضيلته الكتاب والسنة والمعقول. أما الكتاب فمن ذلك ما يروى عن مقاتل، أن الحكمة في القرآن على أربعة أوجه: أحدها مواعظ القرآن {وما أنزل عليكم من الكتاب والحكمة يعظكم به} [البقرة: 231] وثانيها الحكمة بمعنى الفهم والعلم {وآتيناه الحكم صبيا} [مريم: 12] {ولقد آتينا لقمان الحكمة} [لقمان: 12] وثالثها الحكمة بمعنى النبوة {فقد آتينا آل إبراهيم الكتاب والحكمة} [النساء: 54] ورابعها القرآن {يؤتي الحكمة من يشاء ومن يؤتى الحكمة فقد أوتي خيرًا كثير} [البقرة: 269] وجميع هذه الوجوه عند التحقيق ترجع إلى العلم. ومن ذلك أنه تعالى فرق بين سبعة نفر في كتابه {قل هل يستوي الذين يعلمون والذين لا يعلمون} [الزمر: 9] {قل لا يستوي الخبيث والطيب} [المائدة: 100] {لا يستوي أصحاب النار وأصحاب الجنة} [الحشر: 20] {وما يستوي الأعمى والبصير ولا الظلمات ولا النور ولا الظل ولا الحرور وما يستوي الأحياء ولا الأموات} [فاطر: 19- 22] فإذا تأملت وجدت كل ذلك مأخوذًا من الفرق بين العالم والجاهل. ومن ذلك قوله: {أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم} [النساء: 59] أي العلماء في أصح الأقوال، لأن الملوك يجب عليهم طاعة العلماء. ولا ينعكس {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18] جعلهم في الآيتين في المرتبة الثالثة، ثم زاد في الإكرام فجعلهم في المرتبة الثانية {وما يعلم تأويله إلا الله والراسخون في العلم} [آل عمران: 70] {قل كفى بالله شهيدًا بيني وبينكم ومن عنده علم الكتاب} [الرعد: 43] ومن ذلك قوله تعالى: {يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات} [المجادلة: 11] ومن ذلك وصفهم بالإيمان {والراسخون في العلم يقولون آمنا به} [آل عمران: 7] وبشهادة التوحيد {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18] وبالبكاء والسجود والخشوع {إن الذين أوتوا العلم من قبله إذا يتلى عليهم يخرّون للأذقان سجدًا ويقولون سبحان ربنا إن كان وعد ربنا لمفعولا ويخرّون للأذقان يبكون ويزيدهم خشوعًا} [الإسراء: 107- 109] وبالخشية {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28]. وأما الأخبار فمنها ما رواه أنس عن النبي صلى الله عليه وسلم: «من أحب أن ينظر إلى عتقاء الله من النار فلينظر إلى المتعلمين، فوالذي نفسي بيده ما من متعلم يختلف إلى باب العالم إلا كتب الله له بكل قدم عبادة سنة، وبنى له بكل قدم مدينة في الجنة، ويمشي على الأرض والأرض تستغفر له، ويمسي ويصبح مغفورًا له، وشهدت الملائكة لهم بأنهم عتقاء الله من النار» وعن أنس أيضًا أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من طلب العلم لغير الله لم يخرج من الدنيا حتى يأتي عليه العلم فيكون لله، ومن طلب العلم لله فهو كالصائم نهاره والقائم ليله، وإن بابًا من العلم يتعلمه الرجل خير له من أن يكون له أبو قبيس ذهبًا فينفقه في سبيل الله» وعن الحسن مرفوعًا «من جاءه الموت وهو يطلب العلم ليحيي به الإسلام كان بينه وبين الأنبياء درجة في الجنة» وعنه صلى الله عليه وسلم: «رحمة الله على خلفائي فقيل: يا رسول الله ومن خلفاؤك؟ قال: الذين يحيون سنتي ويعلمونها عباد الله» وعن أبي موسى الأشعري مرفوعًا «يبعث الله العباد يوم القيامة ثم يميز العلماء فيقول: يا معشر العلماء إني لم أضع نوري فيكم إلا لعلمي بكم، ولم أضع علمي فيكم لأعذبكم، انطلقوا فقد غفرت لكم» وقال صلى الله عليه وسلم: «معلم الخير إذا مات بكى عليه طير السماء ودواب الأرض وحيتان البحر» وعن أبي هريرة مرفوعًا «من صلى خلف عالم من العلماء فكأنما صلى خلف نبي من الأنبياء» وعن ابن عمر مرفوعًا «فضل العالم على العابد بسبعين درجة بين كل درجة حضر الفرس سبعين عامًا» وذلك أن الشيطان يضع البدعة للناس فيبصرها العالم ويزيلها والعابد يقبل على عبادته لا يتوجه إليها ولا يتعرف لها. وقال صلى الله عليه وسلم لعلي رضي الله عنه حين بعثه إلى اليمن: «لأن يهدي الله بك رجلًا واحدًا خير لك مما تطلع عليه الشمس أو تغرب» وعن ابن مسعود مرفوعًا «من طلب العلم ليحدث به الناس ابتغاء وجه الله أعطاه الله أجر سبعين نبيًا» وعن عامر الجهني مرفوعًا «يؤتى بمداد العلماء ودم الشهداء يوم القيامة لا يفضل أحدهما على الآخر» وفي رواية «فيرجح مداد العلماء» وعن أبي واقد الليثي «أن النبي صلى الله عليه وسلم بينما هو جالس والناس معه إذ أقبل ثلاثة نفر. فأما أحدهم فرأى فرجة في الحلقة فجلس إليها، وأما الآخر فجلس خلفهم، وأما الثالث فإنه رجع وفر. فلما فرغ صلى الله عليه وسلم من كلامه قال: ألا أخبركم عن النفر الثلاثة؟ فأما الأول فأوى إلى الله فآواه الله، وأما الثاني فاستحيا فاستحيا الله منه، وأما الثالث فأعرض فأعرض الله عنه».
وعنه صلى الله عليه وسلم: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء ثم العلماء ثم الشهداء» قال الراوي: فأعظم بمرتبة هي الواسطة بين النبوة والشهادة. وعن أبي هريرة مرفوعًا «إذا مات الإنسان انقطع عمله إلا من ثلاث: صدقة جارية أو علم ينتفع به أو ولد صالح يدعو له بالخير» وعن النبي صلى الله عليه وسلم: «إذا سألتم الحوائج فاسألوها الناس. قيل: يا رسول الله ومن الناس؟ قال صلى الله عليه وسلم: أهل القرآن. قيل: ثم من؟ قال: أهل العلم. قيل: ثم من؟ قال صلى الله عليه وسلم: صباح الوجوه» قال الراوي: والمراد بأهل القرآن من يحفظ معانيه. وقال صلى الله عليه وسلم: «كن عالمًا أو متعلمًا أو مستمعًا أو محبًا ولا تكن الخامسة فتهلك» قال الراوي: وجه التوفيق بين هذه الرواية وبين الرواية الأخرى «الناس رجلان عالم ومتعلم وسائر الناس همج لا خير فيه» أن المستمع والمحب بمنزلة المتعلم، وما أحسن قول بعض الأعراب لولده: كن سبعًا خالسًا، أو ذئبًا خانسًا، أو كلبًا حارسًا، وإياك أن تكون إنسانًا ناقصًا. وعن النبي صلى الله عليه وسلم أنه كان يحدث إنسانًا فأوحى الله تعالى إليه أنه لم يبق من عمر هذا الرجل الذي تحدثه إلا ساعة- وكان هذا وقت العصر- فأخبره الرسول بذلك فاضطرب الرجل وقال: يا رسول الله دلني على أوفق عمل لي في هذه الساعة. قال صلى الله عليه وسلم اشتغل بالتعلم. فاشتغل بالتعلم وقبض قبل المغرب قال الراوي: فلو كان شيء أفضل من العلم لأمره النبي صلى الله عليه وسلم به في ذلك الوقت. وأما الآثار، فإن مصعب بن الزبير قال لابنه: تعلم العلم فإنه إن يك لك مال كان لك جمالًا، وإن لم يكن لك مال كان العلم لك مالًا. وقال علي بن أبي طالب: لا خير في الصمت عن العلم كما لا خير في الكلام عن الجهل. وقيل: مثل العالم بالله كمثل الشمس لا يزيد ولا ينقص. وهو الجالس على الحد المشترك بين عالم المعقولات وعالم المحسوسات، فهو تارة مع الله بالحب له، وتارة مع الخلق بالشفقة والرحمة، فإذا رجع من ربه إلى الخلق صار كواحد منهم كأنه لم يعرف الله، وإذا خلا بربه مشتغلًا بذكره وخدمته فكأنه لا يعرف الخلق، فهذا سبيل المرسلين والصديقين.
ومثل العالم بالله فقط كمثل القمر يكمل تارة وينقص أخرى، وهو المستغرق في المعارف الالهية غير متفرغ لتعلم علم الأحكام إلا ما لابد منه، ومثل العالم بأمر الله فقط وهو العارف بالحلال والحرام دون أسرار جلال الله، كمثل السراج يحرق نفسه ويضيء لغيره. وقال شقيق البلخي: الناس يقومون من مجلسي على ثلاثة أصناف، وذلك أني أفسر القرآن فأقول عن الله وعن الرسول، فمن لا يصدقني فهو كافر محض، ومن ضاق قلبه منه فهو منافق محض، ومن ندم على ما صنع وعزم على أن لا يذنب كان مؤمنًا محضًا. وقال أيضًا: ثلاثة من النوم يبغضها الله، وثلاثة من الضحك: النوم بعد صلاة الفجر وقبل صلاة العتمة، والنوم في الصلاة، والنوم عند مجلس الذكر. والضحك خلف الجنازة، والضحك في المقابر، والضحك في مجلس الذكر.
وقيل: العالم أرأف بالتلميذ من الأب والأم، لأن الآباء والأمهات يحفظونهم من نار الدنيا وآفاتها، والعلماء يحفظونهم من نار الآخرة وشدائدها.
وقيل لابن مسعود: بم وجدت هذا العلم؟ قال: بلسان سؤل وقلب عقول.
وقال بعضهم: سل مسألة الحمقى واحفظ حفظ الأكياس.
وقيل: الدنيا بستان تزينت بخمسة أشياء: علم العلماء، وعدل الأمراء، وعبادة العباد، وأمانة التجار، ونصيحة المحترفين؛ فجاء إبليس بخمسة أعلام وأقامها بجنب هذه الخمس. فجاء بالحسد فركزه في جنب العلم، وجاء بالجور فركزه بجنب العدل، وجاء بالرياء فركزه بجنب العبادة، وجاء بالخيانة فركزها بجنب الأمانة، وجاء بالغش فركزه بجنب النصيحة. وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: العلم أفضل من المال لسبعة أوجه: العلم ميراث الأنبياء والمال ميراث الفراعنة، العلم لا ينقص بالنفقة والمال ينقص، المال يحتاج إلى الحافظ والعلم يحفظ صاحبه، إذا مات الرجل خلف ماله والعلم يدخل معه قبره، المال يحصل للمؤمن والكافر والعلم لا يحصل إلا للمؤمن، جميع الناس محتاجون إلى العالم في أمر دينهم ولا يحتاجون إلى صاحب المال، العلم يقوي الرجل عند المرور على الصراط والمال يمنعه منه. قال الفقيه أبو الليث: من جلس عند العالم ولا يقدر أن يحفظ من ذلك العلم شيئًا فله سبع كرامات: ينال فضل المتعلمين، وكان محبوسًا من الذنوب ما دام جالسًا عنده، وإذا خرج من منزله طلبًا للعلم نزلت الرحمة عليه، وإذا جلس في حلقة العلم فنزلت الرحمة عليهم حصل له منها نصيب، وما دام يكون في الاستماع تكتب له طاعة، إذا استمع ولم يفهم ضاق قلبه وانكسر فيكون في زمرة «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي»، إذا رأى إعزاز المسلمين للعالم وإذلالهم للفساق نفر عن الفسق ومال إلى طلب العلم. وقيل: ثلاثة لا ينبغي للشريف أن يأنف منها وإن كان أميرًا: قيامه من مجلسه لأبيه، وخدمته للعالم الذي يتعلم منه، والسؤال عما لا يعلم ممن هو أعلم منه.
واعلم أن الله تعالى علم سبعة نفر سبعة أشياء: علم آدم الأسماء كلها، وعلم الخضر علم الفراسة {وعلمناه من لدنا علمًا} [الكهف: 65] وعلم يوسف علم التعبير {وعلمتني من تأويل الأحاديث} [يوسف: 101] وعلم داود صنعة الدرع {وعلمناه صنعة لبوس لكم} وعلم سليمان منطق الطير {علمنا منطق الطير} [النمل: 16] وعلم عيسى عليه السلام علم التوراة والإنجيل {ويعلمه الكتاب والحكمة والتوراة والإنجيل} [آل عمران: 48] وعلم محمدًا صلى الله عليه وسلم الشرع والتوحيد {وعلمك ما لم تكن تعلم} [النساء: 113] فعلم آدم كان سببًا لحصول السجدة والتحية، وعلم الخضر كان سببًا لوجود تلميذ مثل موسى ويوشع، وعلم يوسف لوجود الأهل والمملكة، وعلم سليمان لوجدان بلقيس والغلبة، وعلم داود للرياسة والملك، وعلم عيسى لزوال التهمة عن أمه، وعلم محمد صلى الله عليه وسلم لوجدان الشفاعة. ثم نقول: من علم أسماء المخلوقات وجد تحية الملائكة، فمن علم ذات الخالق وصفاته أما يجد تحية الملائكة بل تحية ربه {سلام قولًا من رب رحيم} [يس: 58] والخضر وجد بعلم الفراسة صحبة موسى، فأمة محمد بعلم الحقيقة يجدون صحبة محمد صلى الله عليه وسلم {فأولئك مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين} [النساء: 69] ويوسف بتأويل الرؤيا نجا من حبس الدنيا، فمن كان عالمًا بتأويل كتاب الله كيف لا ينجو من حبس الشبهات {ويهدي من يشاء إلى صراط مستقيم} [يونس: 25] وأيضًا فإن يوسف عليه السلام ذكر منة الله على نفسه حيث قال: {وعلمتني من تأويل الأحاديث} [يوسف: 101] فأنت يا عالم، أما تذكر نعمة الله على نفسك حيث جعلك مفسرًا لكلامه، وسميًا لنفسه ووارثًا لنبيه وداعيًا لخلقه وواعظًا لعباده وسراجًا لأهل بلاده وقائدًا للخلق إلى جنته وثوابه، وزاجرًا لهم عن ناره وعقابه، كما جاء في الحديث: «العلماء سادة، والفقهاء قادة، ومجالستهم زيادة».
وإن سليمان لم يحتج إلى الهدهد إلا لعلمه بالماء. وروي عن نافع بن الأزرق أنه قال لابن عباس: كيف اختار سليمان الهدهد لطلب الماء؟ قال: لأن الأرض له كالزجاجة يرى باطنها من ظاهرها. فقال نافع: الفخ يغطى له بأصبع من التراب فلا يراه فيقع فيه! فقال ابن عباس: إذا جاء القضاء عمي البصر. وقال لولده: يا بني عليك بالأدب، فإنه دليل على المروءة، وأنس في الوحشة، وصاحب في الغربة، وقرين في الحضر، وصدر في المجلس، ووسيلة عند انقضاء الوسائل، وغني عند العدم، ورفعه للخسيس، وكمال للشريف، وجلال للملك. وقال سقراط: من فضيلة العلم أنك لا تقدر على أن يخدمك فيه أحد كما تجد من يخدمك في سائر الأشياء بل تخدمه بنفسك، ولا يقدر أحد على سلبه عنك. وقيل لبعض الحكماء: لا تنظر فغمض عينيه وقيل له: لا تسمع فسد أذنيه، وقيل له: لا تتكلم فوضع يده على فيه، وقيل له: لا تعلم فقال: لا أقدر عليه.
وعن بعض الحكماء: عظم العلم في ذاتك، وصغر الدنيا في عينك، وكن ضعيفًا عند الهزل، قويًا عند الجد، ولا تلم أحدًا على فعل يمكن أن يعتذر منه، ولا ترفع شكايتك إلا إلى من ترى نفعه عندك حتى تكون حكيمًا فاضلًا. ولبعضهم: آفة الزعماء ضعف السياسة، وآفة العلماء حب الرياسة. وأما النكت فالمعصية عند الجهل لا يرجى زوالها، وعند السهو يرجى زوالها انظر إلى زلة آدم فإنه بعلمه استغفر، والشيطان عصى وبقي في الغي أبدًا، لأن ذلك كان بسبب الجهل، وإن يوسف عليه السلام لما صار ملكًا احتاج إلى وزير فسأل جبريل عن ذلك فقال: إن ربك يقول لا تختر إلا فلانًا، فرآه في أسوأ الأحوال. فقال لجبريل: كيف يصلح لهذا العمل مع سوء حاله؟ فقال له جبريل: إن ربه عينه لذلك لأنه ذب عنك بعلمه حين قال: {وإن كان قميصه قُدَّ من دبر فكذبت وهو من الصادقين} [يوسف: 27] والنكتة أن من ذب عن يوسف استحق الشركة في مملكته، فمن ذب عن الدين القويم بالبرهان المستقيم فكيف لا يستحق من الله الخير والإحسان؟ وقيل: أراد واحد خدمة ملك فقال الملك: اذهب وتعلم حتى تصلح لخدمتي فلما شرع في التعلم وذاق لذة العلم، بعث الملك إليه وقال: اترك التعلم فقد صرت أهلًا لخدمتي. فقال كنت أهلًا لخدمتك حين لم ترني أهلًا لخدمتك، وحين رأيتني أهلًا لخدمتك رأيت نفسي أهلًا لخدمة الله، وذلك لأني كنت أظن أن الباب بابك لجهلي والآن علمت أن الباب باب الرب. وقال الحكيم: القلب ميت وحياته بالعلم، والعلم ميت وحياته بالطلب، والطلب ضعيف وقوته بالمدارسة، فإذا قوي بالمدارسة فهو محتجب، وإظهاره بالمناظر وإذا ظهر بالمناظرة فهو عقيم، ونتاجه بالعمل فإذا زوج العلم بالعمل توالد وتناسل ملكًا أبديًا لا آخر له. وإن نملة واحدة نالت الرياسة بمسألة واحدة علمتها وذلك قولها {وهم لا يشعرون} [النمل: 18] كأنها إشارة إلى تنزيه الأنبياء عن المعصية وإيذاء البريء من غير جرم فقالت: لو حطمكم فإنما يصدر ذلك على سبيل السهو. فمن علم حقائق الأشياء من الموجودات والمعدومات، كيف لا يستحق الرياسة في الدين والدنيا؟ وإن الكلب المعلم يكون صيده ماهرًا ببركة العلم مع أنه نجس في الأصل، فالنفس الطاهرة في الفطرة إذا تلوثت بأوزار المعصية، كيف لا تطهر ببركة العلم بالله وبصفاته؟ وإذا كان السارق عالمًا لا تقطع يده لأنه يقول: كان المال وديعة لي، وكذا الشارب يقول: حسبته حلالًا، وكذا الزاني يقول: تزوجتها فإنه لا يحد. وأما الحكايات، يحكى أن هارون الرشيد كان بحضرته فقهاء فيهم أبو يوسف فأتي برجل فادعى عليه آخر أنه أخذ من بيتي مالًا بالليل، ثم أقر الآخذ بذلك في المجلس، فاتفق العلماء على أنه تقطع يده، فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه أقر بالأخذ، وإنه لا يوجب القطع بل لابد من الاعتراف بالسرقة فصدقه الكل في ذلك ثم قالوا للآخذ: أسرقتها؟ فقال: نعم.
فأجمعوا على القطع لأنه أقر بالسرقة. فقال أبو يوسف: لا قطع عليه لأنه وإن أقر بالسرقة، لكن بعدما أوجب الضمان عليه بإقراره بالأخذ، وإذا أقر بالسرقة بعد ذلك فهو بهذا الإقرار يسقط الضمان عن نفسه فلا يسمع إقراره فتعجب الكل.
وعن الشعبي كنت عند الحجاج فأتي بيحيى بن يعمر- فقيه خراسان- من بلخ مكبلًا في الحديد. فقال الحجاج: أنت زعمت أن الحسن والحسين من ذرية الرسول؟ فقال: بلى. فقال الحجاج: لتأتيني ببينة واضحة من كتاب الله أو لأقطعنك عضوًا عضوًا. فقال: آتيك ببينة واضحة من كتاب الله يا حجاج؟ قال: فتعجب من جرأته بقوله يا حجاج فقال له: ولا تأتيني بهذه الآية: {ندع أبناءنا وأبناءكم} [آل عمران: 61] فقال: آتيك بها واضحة من كتاب الله. قال تعالى: {ونوحًا هدينا من قبل ومن ذريته داود وسليمان} [الأنعام: 84] إلى قوله: {وزكريا ويحيى وعيسى} [الأنعام: 85] فمن أبو عيسى فقد ألحق تعالى عيسى بذرية نوح قال: فأطرق مليًا ثم رفع رأسه فقال: كأني لم أقرأ هذه الآية من كتاب الله، حلوا وثاقه وأعطوه من المال كذا.
ويحكى أن جماعة من أهل المدينة جاءوا إلى أبي حنيفة ليناظروه في القراءة خلف الإمام ويبكتوه ويسفهوا عليه، فقال لهم: لا يمكنني مناظرة الجميع ففوضوا أمر المناظرة إلى أعلمكم لأناظره، فأشاروا إلى واحد فقال: هذا أعلمكم؟ قالوا: نعم قال: والمناظرة معه كالمناظرة معكم؟ قالوا: نعم. قال: والإلزام عليه كالإلزام عليكم؟ قالوا: نعم. قال: وإن ناظرته وألزمته الحجة فقد ألزمتكم الحجة؟ قالوا: نعم. قال: وكيف؟ قالوا لأنا رضينا به إمامًا فكان قوله: قولًا لنا، قال أبو حنيفة فنحن لما اخترنا الإمام في الصلاة فقراءته قراءة لنا وهو ينوب عنا فأقروا له بالعلم.
ويحكى أن المنصور دعا أبا حنيفة يومًا فقال الربيع وهو يعاديه: يا أمير المؤمنين، هذا يخالف جدك حيث يقول الاستثناء المنفصل جائز وأبو حنيفة ينكره، فقال أبو حنيفة: هذا الربيع يقول ليس لك بيعة في رقبة الناس. فقال: كيف قال إنهم يعقدون البيعة لك ثم يرجعون إلى منازلهم فيستثنون فتبطل بيعتهم؟ فضحك المنصور وقال: إياك يا ربيع وأبا حنيفة، فلما خرج الربيع قال: سعيت في دمي قال: كنت البادي. ويحكى أنه دخل اللصوص على رجل وأخذوا متاعه واستحلفوه بالطلاق ثلاثًا أن لا يعلم أحدًا. فأصبح الرجل وهو يرى اللصوص يبيعون متاعه وليس يقدر أن يتكلم من أجل يمينه، فجاء الرجل يشاور أبا حنيفة، فقال: أحضر لي إمام مسجدك وأهل محلتك فأدخلهم جميعًا في دار واحدة وأخرج واحدًا واحدًا.
فقال للرجل: إن لم يكن لصك فقل: لا، وإن كان فاسكت. فلما سكت قبض على اللص ورد الله تعالى عليه جميع ما سرق منه.
ويحكى أنه كان في جوار أبي حنيفة فتى يغشى مجلس أبي حنيفة، فقال يومًا له: إني أريد التزوج من آل فلان وقد خطبتها إليهم فطلبوا مني من المهر فوق طاقتي. قال: استقرض وادخل عليها فإن الله تعالى يسهل الأمر عليك بعد ذلك. فأقرضه أبو حنيفة ذلك القدر ثم قال له بعد الدخول: أظهر أنك تريد الخروج من هذا البلد إلى بلد بعيد، وأنك تسافر بأهلك معك. فأظهر الرجل ذلك فاشتد على أهل المرأة وجاءوا إلى أبي حنيفة يشكونه ويستفتونه فقال لهم: له ذلك، والطريق أن ترضوه بأن تردوا عليه ما أخذتموه فأجابوا إليه، فقال الزوج: إني أريد شيئًا آخر فوق ذلك. فقال له أبو حنيفة: ترضى بهذا وإلا أقرت لرجل بدين فلا يمكن المسافرة بها حتى تقضي ما عليها، فقال الرجل: الله الله، لا يسمعوا بهذا، فرضي بذلك وحصل ببركة علم أبي حنيفة فرج كل واحد من الخصمين.
وسئل أبو حنيفة عن رجل حلف ليقربن امرأته في نهار رمضان فلم يعرف أحد وجه الجواب. فقال: يسافر بامرأته فيطؤها نهارًا في رمضان.
وقال بشر المريسي للشافعي: كيف تدعي انعقاد الإجماع مع أهل المشرق والمغرب على شيء واحد- وكانت هذه المناظرة عند الرشيد- فقال الشافعي: هل تعرف إجماع الناس على خلاف هذا الجالس؟ فأقر به خوفًا وانقطع.
ويحكى أن أعرابيًا سأل الحسين بن علي رضي الله عنه حاجة وقال: سمعت جدك يقول: «إذا سألتم حاجة فاسألوها من أحد أربعة: إما عربيًا شريفًا، أو مولى كريمًا، أو حامل القرآن، أو صاحب الوجه الصبيح» فأما العرب فشرفت بجدك، وأما الكرم فدأبكم وسيرتكم، وأما القرآن ففي بيوتكم نزل، وأما الوجه الصبيح فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «إذا أردتم أن تنظروا إليّ فانظروا إلى الحسن والحسين» رضي الله عنهما. فقال الحسين رضي الله عنه: ما حاجتك؟ فكتبها على الأرض. فقال الحسين رضي الله عنه: سمعت أبي عليًا رضي الله عنه يقول: قيمة كل امرئ ما يحسنه. وسمعت جدي يقول: «المعروف بقدر المعرفة» فأسألك عن ثلاث مسائل، إن أحسنت في جواب واحدة فلك ثلث ما عندي، وإن أجبت عن اثنتين فلك ثلثا ما عندي، وإن أجبت عن الثلاث فلك كل ما عندي. وقد حمل إلى الحسين صرة مختومة من العراق فقال: سل ولا قوة إلا بالله. فقال رضي الله عنه: أي الأعمال أفضل؟ قال الأعرابي: الإيمان بالله. قال: فما نجاة العبد من الهلكة؟ قال: الثقة بالله، قال: فما يزين المرء؟ قال: علم معه حلم.
قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: فمال معه كرم. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: ففقر معه صبر. قال رضي الله عنه: فإن أخطأ ذلك؟ قال: فصاعقة تنزل من السماء فتحرقه. فضحك الحسين رضي الله عنه ورمى بالصرة إليه.
وأما الوجوه العقلية فمنها أن الأمور أربعة أقسام: قسم يرضاه العقل دون الشهوة كمكاره الدنيا، وقسم عكس ذلك كالمعاصي، وقسم ترضاه الشهوة والعقل وهو العلم والجنة، وقسم لا ترضاه الشهوة والعقل وهو الجهل والنار. فمن رضي بالجهل فقد رضي بنار حاضرة، ومن اشتغل بالعلم فقد خاض في جنة حاضرة، وكما يعيش يموت وكما يموت يبعث. ومنها أن اللذة إدراك المحبوب، وكلما كان المدرك أكمل وأشرف كانت اللذة أكمل وأتم. ومدرك العقل هو الله تعالى وجميع مخلوقاته من الملائكة والأفلاك والعناصر والمواليد وجميع أحكامه وأوامره وأي معلوم أشرف من ذلك؟ فلا كمال ولا لذة فوق كمال العلم ولذته، ولا ألم ولا نقصان مثل ألم الجهل ونقصانه، ولهذا قال عز من قائل: {اقرأ باسم ربك الذي خلق خلق الإنسان من علق إقرأ وربك الأكرم الذي علم بالقلم علم الإنسان ما لم يعلم} [العلق: 1- 5] كأنه قال: كنت في أول حالك علقة هي الغاية في الخساسة، ثم صرت في آخر حالك في غاية الشرف. وأيضًا ترتب الحكم على الوصف مشعر بالعلية، وهذا يدل على أنه إنما يستحق الأكرمية لأنه أعطى العلم، فالعلم أشرف عطية وأعظم موهبة. ومنها أنه تعالى قال: {إنما يخشى الله من عباده العلماء} [فاطر: 28] فالعلماء من أهل الخشية، وأهل الخشية أهل الجنة لقوله تعالى: {جزاؤهم عند ربهم جنات عدن} إلى قوله: {ذلك لمن خشي ربه} [البينة: 8] فالعلماء من أهل الجنة بل ليس أهل الجنة إلا العلماء وذلك لكلمة إنما المفيدة للحصر ولا جل لام الاختصاص في قوله: {لمن خشي} والسبب في أن العلماء هم أهل الخشية، أن من لم يكن عالمًا بالشيء استحال أن يكون خائفًا منه. ثم إن العلم بالذات لا يكفي في الخوف بل لابد معه من العلم بأمور ثلاثة: أحدها العلم بالقدرة لأن الملك عالم باطلاع رعيته على أفعاله القبيحة لكنه لا يخافهم لعلمه بأنهم لا يقدرون على دفعه، وثانيها العلم بكونه عالمًا لأن السارق من مال السلطان يعلم قدرته لكنه يعلم أنه غير عالم بسرقته فلا يخافه، وثالثها العلم بكونه حكيمًا فإن المسخرة عند السلطان عالم بكون السلطان قادرًا على منعه عالمًا بقبائح أفعاله لكنه يعلم أنه قد يرضى بما لا ينبغي فلا يحصل الخوف فثبت أن خوف العبد من الله لا يحصل إلا إذا علم كونه تعالى عالمًا بجميع المعلومات، قادرًا على كل المقدورات، غير راضٍ بالمنكرات والمحرمات، فإذن الخوف من لوازم العلم بالله، وبهذا يعرف نباهة قدر العلم.
ومن هنا أمر حبيبه صلى الله عليه وسلم بالازدياد منه حيث قال: {وقل رب زدني علمًا} [طه: 114]. ولم يكتف نبي الله موسى عليه السلام بما علم بل قال للخضر {هل أتبعك على أن تعلمن مما علمت رشدًا} [الكهف: 66] ولم يفتخر سليمان بالمملكة العظيمة بل افتخر بالعلم {علمنا منطق الطير} [النمل: 16] ولولا شرف العلم لم يكن للهدهد مع ضعفه أن يتكلم بحضرة سليمان بقوله: {أحطت بما لم تحط به} [النمل: 22] وهكذا الرجل الساقط إذا تعلم العلم صار نافذ القول على السلاطين، وما ذاك إلا ببركة العلم. ومنها أنه صلى الله عليه وسلم قال: «تفكر ساعة خير من عبادة ستين سنة» وذلك أن التفكر يوصلك إلى الله، والعبادة توصلك إلى ثواب الله. وأيضًا التفكر عمل القلب والعبادة عمل الجوارح. ومنها أن سائر كتب الله ناطقة بفضل العلم، أما التوراة فقال لموسى: عظم الحكمة فإني لا أجعل الحكمة في قلب عبد إلا وأردت أن أغفر له. فتعلمها ثم اعمل بها ثم ابذلها كي تنال بذلك كرامتي في الدنيا والآخرة. وأما الزبور فقال سبحانه لداود: قل لأحبار بني إسرائيل ورهبانهم حادثوا من الناس الأتقياء، فإن لم تجدوا فيهم تقيًا فحادثوا العلماء، فإن لم تجدوا عالمًا فحادثوا العقلاء، فإن التقي والعلم والعقل ثلاث مراتب، ما جعلت واحدة منهن في أحد من خلقي وأنا أريد هلاكه، وإنما قدم سبحانه التقى على العلم، لأن التقى لا يوجد بدون العلم كما بينا من أن الخشية لا تحصل إلا مع العلم، والموصوف بالأمرين أشرف من الموصوف بأمر واحد، ولهذا السر أيضًا قدم العالم على العاقل لأن العالم لابد وأن يكون عاقلًا، وأما العاقل فقد لا يكون عالمًا، فالعقل كالبذر والعلم كالشجر والتقوى كالثمر. وأما الإنجيل فقد قال عز من قائل في السورة السابعة عشرة منه: ويل لمن سمع العلم فلم يطلبه كيف يحشر مع الجهال إلى النار؟ اطلبوا العلم وتعلموه فإن العلم إن لم يسعدكم لم يشقكم، وإن لم يرفعكم لم يضعكم، وإن لم يغنكم لم يفقركم، وإن لم ينفعكم لم يضركم. ولا تقولوا نخاف أن تعلم فلا نعمل ولكن قولوا نرجو أن نعلم فنعمل، إذ العلم شفيع لصاحبه، وحق على الله أن لا يخزيه، وإن الله تعالى يقول يوم القيامة: يا معشر العلماء، ما ظنكم بربكم؟ فيقولون: ظننا أن ترحمنا وتغفر لنا فيقول: وإني قد فعلت، إني استودعتكم حكمتي لا لشر أردته بكم بل لخير أردته بكم، فادخلوا في صالحي عبادي إلى جنتي برحمتي.
وبالجملة، فكون العلم صفة شرف وكمال، وكون الجهل صفة نقصان، أمر معلوم للعقلاء بالضرورة، ولذلك لو قيل للرجل العالم يا جاهل تأذى بذلك وإن كان يعلم أنه كاذب، ولو قيل للرجل الجاهل يا عالم فرح بذلك وإن كان يعلم أنه ليس كذلك، والعلم أينما وجد كان صاحبه محترمًا معظمًا حتى إن غير الإنسان من الحيوان إذا رأى الإنسان احتشمه بعض الاحتشام وانزجر به بعض الانزجار وإن كان ذلك الحيوان أقوى بكثير من الإنسان.
والعلماء إذا لم يعاندوا كانوا رؤساء بالطبع على من دونهم في العلم، وأن كثيرًا ممن كانوا يعاندون رسول الله صلى الله عليه وسلم ويريدون قتله كانوا إذا وقع بصرهم عليه ألقى الله في قلوبهم الرعب منه فهابوه وانقادوا له.
لو لم تكن فيه آيات مبينة ** كانت بداهته تغنيك عن خبر

وما فضل الإنسان على سائر الحيوان إلا لاختصاصه بالمزية النورانية واللطيفة الربانية التي لأجلها صار مستعدًا لإدراك حقائق الأشياء والاشتغال بعبادة الله تعالى، والجاهل كأنه في ظلمة شديدة إذا أخرج يده لم يكد يراها، والعالم كأنه يطير في أقطار الملكوت ويسبح في بحار المعقولات، فيطالع الموجودات والمعدوم والواجب والممكن والمحال، ثم يعرف انقسام الممكن إلى الجوهر والعرض، والجوهر إلى البسيط والمركب، ويبالغ في تقسيم كل منها إلى أنواعها وأنواع أنواعها وأجزائها وأجزاء أجزائها والجزء الذي به يشارك غيره، والجزء الذي به يمتاز عن غيره، ويعرف أثر كل شيء ومؤثره ومعلوله وعلته ولازمه وملزومه وكليته وجزئيته، فيصير كالنسخة التي أثبت فيها جميع المعلومات بتفاصيلها وأقسامها، وأنه في عالم الأرواح كالشمس في عالم الأجسام كاملًا ومكملًا، واسطة بين الله وعباده، ولأمر ما لم يجعل الله سبحانه سائر صفات الجلال من القدرة والإرادة والسمع والبصر والوجوب والقدم والاستغناء عن المكان والحيز جوابًا للملائكة وموجبًا لسكوتهم، وإنما جعل تعالى صفة العلم جوابًا لهم ثم قال: {إني أعلم ما لا تعلمون} [البقرة: 30] وهكذا أظهر فضيلة آدم بالعلم بعد افتخارهم بالتسبيح والتقديس. وإن إبراهيم اشتغل في أول أمره بطلب العلم متنقلًا بفكره من الكوكب إلى القمر، ومن القمر إلى الشمس، إلى أن وصل إلى الدليل الباهر والبرهان الظاهر إلى المقصود وهو الملة الحنيفية. وإن الله تعالى سمى العلم تارة بالحياة {أوَ من كان ميتًا فأحييناه} [الأنعام: 122] وتارة بالروح {وكذلك أوحينا إليك روحًا من أمرنا} [الشورى: 52] وتارة بالنور {يهدي الله لنوره من يشاء} [النور: 35] وضرب المثل العلم بالماء {أنزل من السماء ماء} [الرعد: 17] فعلم التوحيد كماء العين لا يجوز تحريكه لئلا يتكدر، كذلك لا ينبغي طلب كيفية الله كيلا يفضي إلى الكفر، وعلم الفقه كماء القناة يزداد بالاستنباط والحفر، وعلم الزهد كماء المطر ينزل صافيًا ويتكدر بغبار الهواء، وكذلك علم الزهد صافٍ ويتكدر بالطبع، وعلم البدع كماء السيل يهلك الأحياء ويميت الخلق.
وأما الأخبار والآثار الدالة على وعيد من لم يعمل بعلمه أو طلب العلم لغير ذات الله فمنها: أنه صلى الله عليه وسلم قال: «لا تجالسوا العلماء إلا إن دعوكم من خمس إلى خمس: من الشك إلى اليقين، ومن الكبر إلى التواضع، ومن العداوة إلى النصيحة، ومن الرياء إلى الإخلاص ومن الرغبة إلى الزهد» وقال صلى الله عليه وسلم: «الناس كلهم هلكى إلا العالمون، والعالمون كلهم هلكى إلا العاملون، والعاملون كلهم هلكى إلا المخلصون، والمخلصون على خطر عظيم» عن عدي بن حاتم أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: «يؤتى بناس يوم القيامة فيؤمر بهم إلى الجنة حتى إذا دنو منها ووجدوا رائحتها ونظروا إلى قصورها وإلى ما أعد الله لأهلها نودوا أن اصرفوهم عنها لا نصيب لهم فيها، فيرجعون عنها بحسرة ما رجع أحد بمثلها ويقولون: يا ربنا لو أدخلتنا النار قبل أن ترينا ما أريتنا من ثوابك وما أعددت فيها لأوليائك كان أهون علينا فتودوا ذاك أردت بكم، كنتم إذا خلوتم بي بارزتموني بالعظائم، وإذا لقيتم الناس لقيتموهم مخبتين، تراؤون الناس بخلاف ما تضمرون عليه في قلوبكم. هبتم الناس ولم تهابوني، أجللتم الناس ولم تجلوني، تركتم المعاصي ولم تتركوها لي، أكنت أهون الناظرين عليكم؟ فاليوم أذيقكم أليم عذابي مع ما حرمتكم من النعيم» وقيل: أطلب أربعة في أربعة: من الموضع السلامة، ومن الصاحب الكرامة، ومن المال الفراغة، ومن العلم المنفعة، فإذا لم تجد من الموضع السلامة فالسجن خير منه، وإذا لم تجد من الصاحب الكرامة فالكلب خير منه، وإذا لم تجد من مالك الفراغة فالمدر خير منه، وإذا لم تجد من العلم المنفعة فالموت خير منه، وقيل: لا تتم أربعة أشياء إلا بأربعة أشياء: لا يتم الدين إلا بالتقوى، ولا يتم القول إلا بالفعل، ولا تتم المروءة إلا بالتواضع، ولا يتم العلم إلا بالعمل، فالدين بلا تقوى على الخطر، والقول بلا فعل كالهذر، والمروءة بلا تواضع كالشجر بلا ثمر، والعلم بلا عمل كالغيم بلا مطر، وقال علي بن أبي طالب كرم الله وجهه لجابر بن عبد الله الأنصاري: قوام الدنيا بأربعة: بعالم يعمل بعلمه، وجاهل لا يستنكف عن تعلمه، وغني لا يبخل بماله، وفقير لا يبيع آخرته بدنياه. فإذا لم يعمل العالم بعلمه استنكف الجاهل من تعلمه، وإذا بخل الغني بمعروفه باع الفقير آخرته بدنياه، فالويل لهم والثبور سبعين مرة. وقيل: إذا وضعت على سواد عينك جزءًا من الدنيا لا ترى شيئًا، فإذا وضعت على سويداء قلبك كل الدنيا كيف ترى بقلبك شيئًا؟