فصل: فصل: (في أن الْقُدْرَةَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الجزية وَأَدَائها):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [في أن الْقُدْرَةَ شَرْطٌ فِي وُجُوبِ الجزية وَأَدَائها]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ تَوْجِيهُ الْقَوْلَيْنِ، فَإِنْ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَى الْفَقِيرِ مطالبته بالجزية، كَانَتِ الْقُدْرَةُ عَلَيْهَا شَرْطًا فِي الْوُجُوبِ وَالْأَدَاءِ، فَلَا يُخَاطَبُ بِوُجُوبِهَا مَعَ الْفَقْرِ، إِذَا أَيْسَرَ بِهَا اسْتُوقِفَ حَوْلَهُ، وَأُخِذَتْ مِنْهُ بِانْقِضَائِهِ. وَإِنْ قُلْنَا: إِنَّ الْجِزْيَةَ وَاجِبَةٌ عَلَى الْفَقِيرِ، لَمْ تَكُنِ الْقُدْرَةُ شَرْطًا فِي وُجُوبِهَا، فَإِذَا حَالَ الْحَوْلُ، وَهُوَ فَقِيرٌ وَجَبَتْ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ، وَفِيهَا وَجْهَانِ دَلَّ كَلَامُ ابْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ عَلَيْهِمَا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُنْظَرُ بِهَا إِلَى مَيْسَرَتِهِ مَعَ إِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ كَسَائِرِ الدُّيُونِ الَّتِي يَجِبُ الْإِنْظَارُ بِهَا إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُنْظَرَ بِهَا لِإِعْسَارِهِ: لِأَنَّ لَهَا بَدَلًا فِي حَقْنِ دَمِهِ وَهُوَ قَائِمٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ الْإِسْلَامُ، فَإِذَا امْتَنَعَ مِنْهُ لَمْ يَجُزْ إِنْظَارُهُ. وَقِيلَ: إِنْ لَمْ تُسْلِمْ، وَلَمْ يُتَوَصَّلْ إِلَى تَحْصِيلِ الْجِزْيَةِ بِالطَّلَبِ وَالْمَسْأَلَةِ، لَمْ يَجُزْ أَنْ تُقَرَّ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ، وَأُبْلِغْتَ مَأْمَنَكَ، ثُمَّ كُنْتَ حَرْبًا، أَلَا تَرَى أَنَّ الْكَفَّارَةَ، لَمَّا كَانَ الصَّوْمُ فِيهَا بَدَلًا لَمْ تَسْقُطْ بِالْإِعْسَارِ؟ وَلَمْ يَجِبْ فِيهَا إِنْظَارٌ إِلَى وَقْتِ الْيَسَارِ؟ كَذَلِكَ الْجِزْيَةُ.

.مسألة: [في المصحالة على ضيافة أهل الذمة للمسلمين]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ صَالَحُوا عَلَى ضِيَافَةِ ضيافة أهل الذمة للمسلمين إذا اشترطها الإمام مَا ضِفْتَ ثَلَاثًا، قَالَ: وَيُضِيفُ الْمُوسِرُ كَذَا وَالْوَسَطُ كَذَا، وَيُسَمَّى مَا يُطْعِمُونَهُمْ خُبْزُ كَذَا، وَيَعْلِفُونَ دَوَابَّهُمْ مِنَ التِّبْنِ وَالشَعِيرِ كَذَا، وَيُضِيفُ مَنْ مَرَّ بِهِ مِنْ وَاحِدٍ إِلَى كَذَا، وَأَيْنَ يُنْزِلُونَهُمْ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ، أَوْ فِي كَنَائِسِهِمْ، أَوْ فِيمَا يُكِنُّ مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى عَقْدِ الْجِزْيَةِ عَلَى ضِيَافَةِ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رُوِيَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أُكَيْدِرَ دُومَةَ عَنْ نَصَارَى أَيْلَةَ عَلَى ثَلَاثِمِائَةِ دِينَارٍ، وَكَانُوا ثَلَاثَمِائَةِ رَجُلٍ، وَأَنْ يُضِيفُوا مَا مَرَّ بِهِمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ ثَلَاثَةَ أَيَّامٍ لَا يَغُشُّوا مُسْلِمًا. وَصَالَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه نَصَارَى الشَّامِ عَلَى أَنْ ضَرَبَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ عَلَى أَهْلِ الذَّهَبِ أَرْبَعَةَ دَنَانِيرَ، وَعَلَى أَهْلِ الْوَرِقِ ثَمَانِيَةً وَأَرْبَعُونَ دِرْهَمًا، وَضِيَافَةَ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ، وَلِأَنَّهُ مِرْفَقٌ يُسْتَزَادُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَيَسْتَعِينُ بِهِ سَابِلَةُ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَالْكَلَامُ فِي عَقْدِ هَذِهِ الضِّيَافَةِ مُشْتَمِلٌ عَلَى ثَلَاثَةِ فُصُولٍ:
أَحَدُهَا: حُكْمُهَا فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ.
وَالثَّانِي: حُكْمُهَا فِيمَنْ تُشْتَرَطُ لَهُ.
وَالثَّالِثُ: حُكْمُ بَيَانِهَا.
فَأَمَّا:

.الْفَصْلُ الْأَوَّلُ: فِيمَنْ يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ:

فَمُعْتَبَرٌ بِثَلَاثَةِ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَبْذُلُوهَا طَوْعًا لَا يُجْبَرُونَ عَلَيْهَا: لِأَنَّهَا عَقْدُ مُرَاضَاةٍ، فَلَمْ يَصِحَّ إِلَّا عَنِ اخْتِيَارٍ كَالْجِزْيَةِ، فَإِنِ امْتَنَعُوا مِنَ الضِّيَافَةِ، وَلَمْ يُجِيبُوا إِلَى غَيْرِ الدِّينَارِ قُبِلَ مِنْهُمْ، وَأُسْقِطَتِ الضِّيَافَةُ عَنْهُمْ كَمَا تَسْقُطُ عَنْهُمُ الزِّيَادَةُ عَلَى الدِّينَارِ إِذَا امْتَنَعُوا مِنْهَا، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا بَعْضُهُمْ، وَأَجَابَ إِلَيْهَا بَعْضُهُمْ سَقَطَتْ عَمَّنِ امْتَنَعَ وَلَزِمَتْ مَنْ أَجَابَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ بِهِمْ قُوَّةٌ عَلَيْهَا لَا يَضْعُفُونَ عَنْهَا إِمَّا لِخِصْبِ بِلَادِهِمْ، وَإِمَّا لِكَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، فَإِنْ ضَعُفُوا عَنْهَا لَمْ يُؤْخَذُوا بِهَا، وَاخْتَصَّ وَجُوبُهَا بِالْأَغْنِيَاءِ وَالْمُتَوَسِّطِينَ دُونَ الْمُقِلِّينَ، بِخِلَافِ الْجِزْيَةِ: لِأَنَّ الضِّيَافَةَ تَتَكَرَّرُ فِي السُّنَّةِ، وَالْجِزْيَةَ لَا تَتَكَرَّرُ. وَالثَّالِثُ: أَنْ تُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ بَعْدَ جِزْيَةِ رُءُوسِهِمْ وَهُوَ الدِّينَارُ الَّذِي هُوَ أَصْلُ الْمَأْخُوذِ مِنْهُمْ، لِيَكُونَ زِيَادَةَ مَعُونَةٍ وَمِرْفَقٍ، فَإِنْ جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ هِيَ الْجِزْيَةَ، وَلَمْ يُؤْخَذْ دِينَارُ الْجِزْيَةِ، فَفِي جَوَازِهِ لِأَصْحَابِنَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ، وَأَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ، وَجُمْهُورِ الْبَغْدَادِيِّينَ- أَنَّهُ لَا يَجُوزُ إِلَّا بَعْدَ الدِّينَارِ: لِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم صَالَحَ أَهْلَ أَيْلَةَ عَلَيْهِمَا، وَكَذَلِكَ عُمَرُ فِي صُلْحِ أَهْلِ الشَّامِ، وَلِأَنَّ الدِّينَارَ مَعْلُومٌ يَعُمُّ نَفْعُهُ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَسْقُطَ بِالضَّيَافَةِ الَّتِي يَخُصُّ نَفْعُهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي:- وَهُوَ قَوْلُ كَثِيرٍ مِنَ الْبَصْرِيِّينَ- يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا إِذَا لَمْ يَبْذُلُوا الدِّينَارَ مَعَهَا، إِذَا كَانَ مَبْلَغُهَا فِي السُّنَّةِ مَعْلُومًا قَدْرُ الدِّينَارِ فَمَا زَادَ: لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِزْيَةٌ، فَلَمْ يَلْزَمْ أَنْ يَجْمَعَ عَلَيْهِمْ بَيْنَ جِزْيَتَيْنِ، كَمَا لَمْ يَلْزَمْ فِي نَصَارَى بَنِي تَغْلِبَ حِينَ ضَاعَفَ عُمَرُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ أَنْ يَأْخُذَهَا مَعَ دِينَارِ الْجِزْيَةِ: لِأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا جِزْيَةٌ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى الدِّينَارِ دُونَ الضِّيَافَةِ جَازَ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى الضِّيَافَةِ دُونَ الدِّينَارِ. فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ: يَجُوزُ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَيْهِمْ ضِيَافَةُ مَنْ يَمُرُّ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهِمْ أَحَدٌ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ ثَمَنُ الضِّيَافَةِ. وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي: لَا يَصِحُّ حَتَّى يُعْلَمَ عَدَدُ الْأَضْيَافِ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، وَإِنْ لَمْ يَمُرَّ بِهِمْ أَحَدٌ، أَوْ مَرَّ بِهِمْ بَعْضُ الْعَدَدِ حُوسِبُوا، وَأُخِذَ مِنْهُمْ ثَمَنُ ضِيَافَةِ مَنْ بَقِيَ، فَيَكُونُ الْفَرْقُ بَيْنَ الْوَجْهَيْنِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: جَوَازُهُ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ لَمْ يُعْلَمْ عَدَدُهُمْ في جَمِيعِ السَّنَةِ، وَلَا يَجُوزُ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي حَتَّى يُعْلَمَ عَدَدُهُمْ فِي جَمِيعِ السَّنَةِ. وَالثَّانِي: أَنْ لَا يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ قِيمَةُ الضِّيَافَةِ إِنْ تَأَخَّرَ الْأَضْيَافُ، وَتُؤْخَذَ مِنْهُمْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي قِيمَتُهَا إِنْ تَأَخَّرُوا.

.فصل: [في حُكْمِهَا فِيمَنْ تُشْتَرَطُ لَهُ]:

وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّانِي: وَهُوَ مَنْ يُشْتَرَطُ لَهُ مِنَ الْأَضْيَافِ على أهل الذمة، فَهُمْ أَهْلُ الْفَيْءِ مِنَ الْمُجْتَازِينَ بِهِمْ دُونَ الْمُقِيمِينَ بَيْنَهُمْ: لِأَنَّ الضِّيَافَةَ جِزْيَةٌ، وَالْجِزْيَةَ لِأَهْلِ الْفَيْءِ خَاصَّةٌ: فَعَلَى هَذَا تَكُونُ مَقْصُورَةً عَلَى الْجَيْشِ الْمُجَاهِدِينَ خَاصَّةً، أَوْ تَكُونُ لَهُمْ وَلِغَيْرِهِمْ مِنْ أَهْلِ الْفَيْءِ عَلَى قَوْلَيْنِ مِنْ مَصْرِفِ مَالِ الْفَيْءِ، هَلْ يَخْتَصُّ بِالْجَيْشِ أَوْ يَعُمُّ جَمِيعَ أَهْلِ الْفَيْءِ؟ فَإِنْ شُرِطَتِ الضِّيَافَةُ لِغَيْرِ أَهْلِ الْفَيْءِ مِنْ تُجَّارِ الْمُسْلِمِينَ، وَجَمِيعِ السابَلَةِ جَازَ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا قِيلَ: إِنَّهَا تُشْتَرَطُ بَعْدَ الدِّينَارِ، وَلَمْ تَجُزْ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي إِذَا قِيلَ: يَجُوزُ الِاقْتِصَارُ عَلَيْهَا وَحْدَهَا، فَإِنْ أَرَادَ الضَّيْفُ أَنْ يَأْخُذَ مِنْهُمْ قَدْرَ ضِيَافَتِهِ، وَلَا يَأْكُلَ مِنْ عِنْدِهِمْ نُظِرَ. فَإِنْ طَالَبَهُمْ بِثَمَنِ الضِّيَافَةِ لَمْ يَلْزَمْهُمْ دَفْعُهُ، وَإِنْ طَالَبَهُمْ بِطَعَامِ الضِّيَافَةِ لَزِمَهُمْ دَفْعُهُ، وَفَارَقَ مَا أُبِيحُ مِنْ أَكْلِ طَعَامِ الْوَلَائِمِ الَّذِي لَا يَجُوزُ أَخْذُهُ: لِأَنَّ هَذِهِ مُعَارَضَةٌ، وَالْوَلِيمَةُ مَكْرُمَةٌ، وَلَا يُطَالِبُهُمْ بِطَعَامِ الْأَيَّامِ الثَّلَاثَةِ فِي الْأَوَّلِ مِنْهَا: لِأَنَّهُ مُؤَجَّلٌ فِيهَا، فَلَا يُطَالَبُونَ بِهِ قَبْلَ حُلُولِهِ، وَيُطَالِبُ فِي كُلِّ يَوْمٍ بِقَدْرِ ضِيَافَتِهِ، فَإِنْ لَمْ يُطَالِبْ بِضِيَافَةِ الْيَوْمِ حَتَّى مَضَى لَمْ يَجُزْ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ إِذَا جُعِلَ تَبَعًا لِلدِّينَارِ، وَجَازَ أَنْ يُطَالِبَهُمْ بِهِ عَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي إِذَا جُعِلَ مَقْصُودًا كَالدِّينَارِ. وَلَوْ تَكَاثَرَ أَهْلُ الذِّمَّةِ عَلَى ضَيْفٍ تَنَازَعُوهُ كَانَ الْخِيَارُ إِلَى الضَّيْفِ دُونَ الْمُضِيفِ فِي نُزُولِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْهُمْ بِغَيْرِ قُرْعَةٍ، وَلَوْ تَكَاثَرَ الْأَضْيَافُ عَلَى الْمُضِيفِ كَانَ الْخِيَارُ إِلَى الْمُضِيفِ دُونَ الْأَضْيَافِ إِلَّا أَنْ يُقَصِّرَ عَدَدُ أَهْلِ النَّاحِيَةِ عَنْ إِضَافَةِ جَمِيعِهِمْ، فَيُقْرَعَ بَيْنَهُمْ، وَيُضِيفُ كُلُّ وَاحِدِ مِنْهُمْ مَنْ قَرَعَ، وَالْأَوْلَى أَنْ يَكُونَ لِلْأَضْيَافِ عَرِّيفٌ يَكُونُ هُوَ الْمُرَتِّبَ لَهُمْ، لِيَنْقَطِعَ التَّنَازُعُ بَيْنَهُمْ.

.فصل: [في بيان الضيافة]:

وَأَمَّا الْفَصْلُ الثَّالِثُ: فِي بَيَانِ الضِّيَافَةِ، فَيُعْتَبَرُ فِيهَا ثَلَاثَةُ شُرُوطٍ: أَحَدُهَا: عَدَدُ الْأَضْيَافِ. وَالثَّانِي: أَيَّامُ الضِّيَافَةِ. وَالثَّالِثُ: قَدْرُ الضِّيَافَةِ. فَأَمَّا الشَّرْطُ الْأَوَّلُ: فِي عَدَدِ الْأَضْيَافِ، فَهُوَ أَنْ يُشْتَرَطَ عَلَى الْمُوسِرِ مَا اسْتَقَرَّ عَلَيْهِ مِنْ خَمْسَةٍ إِلَى عَشَرَةٍ، وَعَلَى الْمُتَوَسِّطِ مِنْ ثَلَاثَةٍ إِلَى خَمْسَةٍ بِحَسَبِ مَا يَقَعُ عَلَيْهِ التَّرَاضِي، لِيُضِيفَ كُلُّ وَاحِدٍ مِنْهُمُ الْقَدْرَ الْمَشْرُوطَ عَلَيْهِ فِي يَسَارِهِ وَتَوَسُّطِهِ، فَإِنْ سَوَّى بَيْنِ الْمُوسِرِ وَالْمُتَوَسِّطِ فِي عَدَدِ الْأَضْيَافِ جَازَ مَعَ الْمُرَاضَاةِ، كَمَا يَجُوزُ أَنْ يُسَوِّيَ بَيْنَهُمْ فِي دِينَارِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ شَرَطَ عَلَى جَمِيعِ النَّاحِيَةِ عَدَدًا مِنَ الْأَضْيَافِ كَأَنَّهُ شَرَطَ عَلَى النَّاحِيَةِ ضِيَافَةَ أَلْفِ رَجُلٍ جَازَ، وَاجْتَمَعُوا عَلَى تَقْسِيطِ الْأَلْفِ بَيْنَهُمْ عَلَى مَا يُنْفِقُونَ عَلَيْهِ مِنْ تُفَاضِلٍ أَوْ تَسَاوٍ، فَإِنِ اخْتَلَفُوا، وَتَنَازَعُوا إِلَيْنَا قُسِّطَتْ بَيْنَهُمْ عَلَى التَّسَاوِي دُونَ التَّفَاضُلِ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ جِزْيَةُ رُءُوسٍ: تَفَاضَلُوا فِيهَا، فَفِي اعْتِبَارِ الضِّيَافَةِ بِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَتَفَاضَلُونَ فِي الضِّيَافَةِ بِحَسَبِ تَفَاضُلِهِمْ فِي جِزْيَةِ الرُّءُوسِ إِذَا جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ تَبَعًا. وَالثَّانِي: يَتَسَاوَوْنَ فِي الضِّيَافَةِ، وَإِنْ تَفَاضَلُوا فِي الْجِزْيَةِ إِذَا جُعِلَتِ الضِّيَافَةُ أَصْلًا. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّانِي: فِي أَيَّامِ الضِّيَافَةِ: فَالْعُرْفُ وَالشَّرْعُ فِيهَا لِكُلِّ ضَيْفٍ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ. أَمَّا الْعُرْفُ فَمَشْهُورٌ في النَّاسِ تَقْدِيرُهَا بِالثَّلَاثِ. وَأَمَّا الشَّرْعُ: فَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الضِّيَافَةُ ثَلَاثَةُ أَيَّامٍ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مَكْرُمَةٌ. وَرُوِيَ: صَدَقَةٌ، وَلِأَنَّ الضِّيَافَةَ مُسْتَحَقَّةٌ لِلْمُسَافِرِ، وَمُقَامُهُ فِي سَفَرِهِ ثَلَاثٌ، وَمَا زَادَ عَلَيْهَا مُغَيِّرٌ لِحُكْمِ السَّفَرِ إِلَى الْإِقَامَةِ، وَالضِّيَافَةُ لَا يَسْتَحِقُّهَا مُقِيمٌ، فَإِنْ زَادَ فِي الشَّرْطِ عَلَى ثَلَاثٍ أَوْ نَقَصَ مِنْهَا كَانَ الشَّرْطُ أَحَقَّ مِنْ مُطْلَقِ الشَّرْعِ وَالْعُرْفِ، وَيَذْكَرُ عَدَدَ أَيَّامِ الضِّيَافَةِ فِي السَّنَةِ أَنَّهَا مِائَةُ يَوْمٍ أَوْ أَقَلُّ، أَوْ أَكْثَرُ لِيَكُونَ أَنْفَى لِلْجَهَالَةِ، فَإِنْ لَمْ يَذْكُرْ عَدَدَ الضِّيَافَةِ، وَأَيَّامَهَا فِي السَّنَةِ، وَاقْتَصَرَ عَلَى ذِكْرِ ثَلَاثَةِ أَيَّامٍ عِنْدَ قُدُومِ كُلِّ قَوْمٍ كَانَ عَلَى الْوَجْهَيْنِ فِي الضِّيَافَةِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ تَبَعًا. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ إِذَا جُعِلَتْ أَصْلًا. وَأَمَّا الشَّرْطُ الثَّالِثُ: فَهُوَ قَدْرُ الضِّيَافَةِ على أهل الذمة، فَمُعْتَبَرَةٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: جِنْسُ الطَّعَامِ، وَذَلِكَ غَالِبُ أَقْوَاتِهِمْ مِنَ الْخُبْزِ وَالْأُدْمِ، فَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الْحِنْطَةَ، وَيَتَأَدَّمُونَ بِاللَّحْمِ، فَإِنَّ عَلَيْهِمْ أَنْ يُضِيفُوهُمْ بِخُبْزِ الْحِنْطَةِ وَأُدْمِ اللَّحْمِ. وَإِنْ كَانُوا يَقْتَاتُونَ الشَّعِيرَ، وَيَتَأَدَّمُونَ بِالْأَلْبَانِ أَضَافُوهُمْ مِنْهُ أَوْ بِمَا سِوَى ذَلِكَ مِمَّا هُوَ غَالِبُ قُوتِهِمْ وَإِدَامِهِمْ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ ثِمَارٌ وَفَوَاكِهُ يَأْكُلُونَهَا غَالِبًا فِي كُلِّ يَوْمٍ شَرَطَهَا عَلَيْهِمْ فِي زَمَانِهَا، وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ أَنْ يُكَلِّفُوهُمْ مَا لَيْسَ بِغَالِبٍ مِنْ أَقْوَاتِهِمْ، وَإِدَامِهِمْ، وَلَا ذَبْحَ حُمْلَانِهِمْ وَدَجَاجِهِمْ، وَلَا الْفَوَاكِهَ النَّادِرَةَ وَالْحَلْوَى الَّتِي لَا تُؤْكَلُ فِي يَوْمٍ غَالِبًا، وَلَا مَا لَمْ يَتَضَمَّنْهُ شَرْطُ صُلْحِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: مِقْدَارُ الطَّعَامِ وَالْإِدَامِ، وَلِلطَّعَامِ فِي الشَّرْعِ أَصْلٌ أَكْثَرُهُ مُدَّانِ مِنْ حَبٍّ فِي فِدْيَةِ الْأَذَى، وَأَقَلُّهُ مُدٌّ فِي كَفَّارَةِ الْأَيْمَانِ: لِأَنَّهُ لَيْسَ يَحْتَاجُ أَحَدٌ فِي الْأَغْلَبِ إِلَى أَكْثَرَ مِنْ مُدَّيْنِ، وَلَا يَقْتَنِعُ فِي الْأَغْلَبِ بِأَقَلَّ مِنْ مُدٍّ، والْمُدُّ رِطْلٌ وَثُلُثٌ، وَيَكُونُ خُبْزُهُ رَطْلَيْنِ، وَالْمُدَّانِ أَرْبَعَةُ أَرْطَالٍ خُبْزًا. فَأَمَّا الْإِدَامُ، فَلَا أَصْلَ لَهُ فِي الشَّرْعِ، فَيَكُونُ مِقْدَارُهُ مُعْتَبَرًا بِالْعُرْفِ الْغَالِبِ يَشْرِطُ لِكُلِّ ضَيْفٍ مِنَ الْخُبْزِ كَذَا، فَإِنْ ذَكَرَ أَقَلَّ مِنْ رِطْلَيْنِ لَمْ يَقْتَنِعْ، وَإِنْ ذَكَرَ أَكْثَرَ مِنْ أَرْبَعَةٍ لَمْ يَحْتَجْ إِلَيْهَا، وَلَوْ شَرَطَ ثَلَاثَةً كَانَ وَسَطًا، وَيَذْكُرُ جِنْسَ الْإِدَامِ، وَمِقْدَارَهُ لِلضَّيْفِ فِي كُلِّ يَوْمٍ، وَإِنْ كَانَتْ لَهُ دَوَابُّ ذَكَرَ مَا يَعْلِفُهُ الْوَاحِدُ مِنْهَا فِي كُلِّ يَوْمٍ مِنَ التِّبْنِ وَالْقَتِّ وَالشَّعِيرِ بِمِقْدَارٍ كَافٍ، لَا سَرَفَ فِيهِ وَلَا تَقْتِيرَ، فَإِنْ شَرَطَ عَلْفَهَا، وَأَطْلَقَهُ عُلِفَتِ التِّبْنَ وَالْقَتَّ، وَلَا يَلْزَمُهُمْ لِلْأَضْيَافِ أُجْرَةُ حَمَّامٍ، وَلَا طَبِيبٍ، وَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنَّ مَنِ انْقَطَعَ مَرْكُوبُهُ حَمَلُوهُ إِلَى أَقْرَبِ بِلَادِ الضِّيَافَةِ لَهُمْ، فَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ يَلْزَمْهُمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: السَّكَنُ لِحَاجَتِهِمْ إِلَيْهِ فِي الْحَرِّ وَالْبَرْدِ، فَيُشْتَرَطُ عَلَيْهِمْ أَنْ يُسَكِّنُوهُمْ مِنْ فُضُولِ مَنَازِلِهِمْ، وَكَنَائِسِهِمْ، وَبِيَعِهِمْ، لِيَكِنُّوا فِيهَا مِنْ حَرٍّ وَبَرْدٍ، وَكَذَلِكَ لِدَوَابِّهِمْ. وَقَدْ كَتَبَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ رضي الله عنه إِلَى الشَّامِ أَنْ يُؤْخَذَ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِتَوْسِيعِ أَبْوَابِ كَنَائِسِهِمْ وَبِيَعِهِمْ، لِيَدْخُلَهَا الرَّاكِبُ إِذَا نَزَلَهَا، وَلَيْسَ لِلْأَضْيَافِ إِخْرَاجُهُمْ مِنْ مَسَاكِنِهِمْ إِذَا نَزَلُوا عَلَيْهِمْ، وَإِنْ ضَاقَتْ بِهِمْ. وَيُثْبِتُ الْإِمَامُ مَا اسْتَقَرَّ مِنْ صُلْحِ هَذِهِ الضِّيَافَةِ فِي دِيوَانِ كُلِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ الضِّيَافَةِ، لِيَأْخُذَهُمْ عَامِلُ ذَلِكَ الْبَلَدِ بِمُوجِبِهِ، ثُمَّ يُثْبِتُهُ فِي الدِّيوَانِ الْعَامِّ: لِثُبُوتِ الْأَمْوَالِ كُلِّهَا لِيُرْفَعَ إِلَيْهِ عِنْدَ الْحَاجَةِ إِذَا تَنَازَعَ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ وَأَهْلُ الذِّمَّةِ، وَإِنْ فُقِدَ الدِّيوَانُ، وَلَمْ يُعْرَفْ فِيهِ مَا صُولِحُوا عَلَيْهِ عَمِلَ مَا يَشْهَدُ بِهِ شَاهِدَانِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَإِنْ لَمْ يَكُنْ عِنْدَهُمْ شَهَادَةٌ قُبِلَ فِيهِ قَوْلُ أَهْلِ الذِّمَّةِ إِقْرَارًا لَا خَبَرًا وَلَا شَهَادَةً، فَإِنْ عَمِلَ عَلَى قَوْلِهِمْ فِيهَا ثُمَّ بَانَ لَهُ زِيَادَةٌ رَجَعَ عَلَيْهِمْ بِهَا.
تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْ النِّسَاءَ وَالْمَجَانِينَ وَالْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ.

.مسألة: [فيمن لا تؤخذ منه الجزية]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُؤْخَذُ مِنِ امْرَأَةٍ وَلَا مَجْنُونٍ حَتَّى يَفِيقَ، وَلَا مَمْلُوكٍ حَتَّى يَعْتِقَ، وَلَا صَبِيٍّ حَتَّى يَنْبُتَ الشَعْرُ تَحْتَ ثِيَابِهِ أَوْ يَحْتَلِمَ أَوْ يَبْلُغَ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً: فَيَلْزَمُهُ الْجِزْيَةُ كَأَصْحَابِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: ذَكَرَ الشَّافِعِيُّ فِيمَنْ تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ عَنْهُ أَرْبَعَةَ أَصْنَافٍ: النِّسَاءَ وَالْمَجَانِينَ وَالْعَبِيدَ وَالصِّبْيَانَ. فَأَمَّا النِّسَاءُ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِخُرُوجِهِنَّ عَنِ الْمُقَاتِلَةِ، وَتَحْرِيمِ قَتْلِهِنَّ عِنْدَ السَّبْيِ، وَاللَّهُ تَعَالَى يَقُولُ: {قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ} [التَّوْبَةِ: 29]. وَهُنَّ غَيْرُ مُقَاتِلَاتٍ. وَقَدْ مَرَّ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي بَعْضِ غَزَوَاتِهِ بِامْرَأَةٍ مَقْتُولَةٍ، فَقَالَ: مَا بَالُ هَذِهِ تُقْتَلُ وَهِيَ لَا تُقَاتِلُ؟: فَلِذَلِكَ قُلْنَا: إِنَّهُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهَا، سَوَاءٌ كَانَتْ ذَاتَ زَوْجٍ يُؤَدِّي الْجِزْيَةَ أَوْ كَانَتْ خَالِيَةً لَا تَتْبَعُ رَجُلًا، وَهَكَذَا الْخُنْثَى الْمُشْكِلُ لَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، لِجَوَازِ أَنْ يَكُونَ امْرَأَةً، فَلَوْ بَذَلَتِ امْرَأَةٌ مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ الْجِزْيَةَ عَنْ نَفْسِهَا لَمْ يَلْزَمْ لِخُرُوجِهَا مِنْ أَهْلَ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ دَفَعَتْهَا مُخْتَارَةً جَازَ قَبُولُهَا مِنْهَا، وَتَكُونُ هَدِيَّةً لَا جِزْيَةً، فَإِنِ امْتَنَعَتْ مِنْ إِقْبَاضِهَا لَمْ تُجْبَرْ عَلَى دَفْعِهَا: لِأَنَّ الْهَدَايَا لَا إِجْبَارَ فِيهَا، وَإِذَا نَزَلَ جَيْشُ الْمُسْلِمِينَ حِصْنًا، فَبَذَلَ نِسَاؤُهُ الْجِزْيَةَ لَمْ يَخْلُ حَالُهُنَّ مِنْ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَعَهُنَّ رِجَالٌ، فَلَا يَصِحُّ عَقْدُ الْجِزْيَةِ مَعَهُنَّ، سَوَاءٌ بَذَلْنَ الْجِزْيَةَ مِنْ أَمْوَالِهِنَّ أَوْ مِنْ أَمْوَالِ رِجَالِهِنَّ: لِأَنَّهُنَّ إِنْ بَذَلْنَهَا مِنْ أَمْوَالِهِنَّ، فَلَسْنَ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ، فَلَا تَلْزَمُهُنَّ، وَإِنْ بَذَلْنَهَا مِنْ أَمْوَالِ رِجَالِهِنَّ لَمْ يُلْزَمِ الرِّجَالُ بِعَقْدِ غَيْرِهِمْ. وَالثَّانِي: أَنْ يَنْفَرِدَ النِّسَاءُ فِي الْحِصْنِ عَنْ رَجُلٍ مُخْتَلِطٍ بِهِنَّ، فَفِي انْعِقَادِ الْجِزْيَةِ مَعَهُنَّ مُنْفَرِدَاتٍ قَوْلَانِ حَكَاهُمَا أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ، وَأَشَارَ إِلَيْهِمَا أَبُو عَلِيِّ بْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ تَوْجِيهًا: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ لَا تَنْعَقِدُ بِهِمَا الذِّمَّةُ لَهُنَّ لِخُرُوجِهِنَّ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ، فَلَمْ تَنْعَقِدْ مَعَهُمُ الْجِزْيَةُ، فَعَلَى هَذَا يُصَمِّمُ أَمِيرُ الْجَيْشِ عَلَى حِصَارِهِنَّ حَتَّى يُسْبَيْنَ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: تَنْعَقِدُ مَعَهُنَّ الذِّمَّةُ بِمَا بَذَلْنَهُ مِنَ الْجِزْيَةِ وَيَحْرُمُ سَبْيُهُنَّ: لِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ إِقْرَارُهُنَّ بِالْجِزْيَةِ تَبَعًا: كَانَ إِقْرَارُهُنَّ بِمَا بَذَلْنَهُ مُنْفَرِدَاتٍ أَوْلَى، فَعَلَى هَذَا، هَلْ تَلْزَمُهُنَّ الْجِزْيَةُ بِبَذْلِهِنَّ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ أَشَارَ إِلَيْهِمَا ابْنُ أَبِي هُرَيْرَةَ: أَحَدُهُمَا: يَلْزَمُهُنَّ أَدَاؤُهَا بَعْدَ إِعْلَامِهِنَّ عِنْدَ عَقْدِهَا أَنَّهُنَّ مِنْ غَيْرِ أَهْلِهَا فَإِنِ امْتَنَعْنَ مِنْ بَذْلِهَا بَعْدَ لُزُومِهَا خَرَجْنَ عَنِ الذِّمَّةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُنَّ أَدَاؤُهَا، وَتَكُونُ كَالْهَدِيَّةِ تُؤْخَذُ مِنْهُنَّ إِذَا أَجَبْنَ إِلَيْهَا، وَلَا تُؤْخَذُ إِذَا امْتَنَعْنَ مِنْهَا، وَهَلْ عَلَى ذِمَّتِهِنَّ فِي حَالَتَيِ الْإِجَابَةِ وَالْمَنْعِ. وَإِذَا اجْتَمَعَ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ، فَبَذَلَ الرِّجَالُ الْجِزْيَةَ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَنِسَائِهِمْ نُظِرَ. فَإِنْ بَذَلُوهَا مِنْ أَمْوَالِهِمْ جَازَ، وَلَزِمَهُمْ مَا بَذَلُوهُ، وَجَرَى مَجْرَى زِيَادَةٍ بَذَلُوهَا مِنْ جِزْيَتِهِمْ، وَلَا يُؤْخَذُ الرِّجَالُ إِلَّا بِجِزْيَةِ أَنْفُسِهِمْ دُونَ نِسَائِهِمْ.