فصل: فصل: (لا جزية على المجانين):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [لا جزية على المجانين]:

وَأَمَّا الْمَجَانِينُ أخذ الجزية منهم فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ، وَأَنَّهُمْ فِي جُمْلَةِ الذَّرَارِي، وَلَا يُقْتَلُ الْمَجْنُونُ إِذَا سُبِيَ، هَذَا إِذَا كَانَ جُنُونُهُ مُطْبِقًا، فَأَمَّا إِذَا جُنَّ فِي زَمَانٍ، وَأَفَاقَ فِي زَمَانٍ، فَقَدْ قَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُرَاعَى فِيهِ أَغْلَبُ حَالَتَيْهِ. فَإِنْ كَانَ الْمَجْنُونُ أَكْثَرَ، فَلَا جِزْيَةَ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ، فَعَلَيْهِ الْجِزْيَةُ. وَمَذْهَبُ الشَّافِعِيِّ يُلَفَّقُ زَمَانُ الْإِفَاقَةِ قَلَّ أَوْ كَثُرَ حَتَّى يَسْتَكْمِلَ حَوْلًا، فَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمًا وَيُفِيقُ يَوْمًا أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ سَنَتَيْنِ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمَيْنِ وَيُفِيقُ يَوْمًا أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ ثَلَاثِ سِنِينَ، وَإِنْ كَانَ يُجَنُّ يَوْمًا، وَيُفِيقُ يَوْمَيْنِ أُخِذَتْ مِنْهُ جِزْيَةُ سَنَةٍ مِنْ سَنَةٍ وَنِصْفٍ، ثُمَّ عَلَى هَذَا الْقِيَاسِ: لِأَنَّهُ لَمَّا اخْتَلَفَ حُكْمُ الْإِفَاقَةِ، وَحُكْمُ الْجُنُونِ كَانَ تَمَيُّزُهَا أَوْلَى مِنْ تَغْلِيبِ أَحَدِهِمَا: لِأَنَّ فِي التَّمْيِيزِ جَمْعًا بَيْنَ الْحُكْمَيْنِ وَفِي تَغْلِيبِ الْأَكْثَرِ إِسْقَاطُ أَحَدِهِمَا.

.فصل: [لا جزية على العبيد]:

وَأَمَّا الْعَبِيدُ أخذ الجزية منهم، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ، لِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا جِزْيَةَ عَلَى الْعَبِيدِ. وَقَالَ عُمَرُ: لَا جِزْيَةَ عَلَى مَمْلُوكٍ. وَلِأَنَّهُمْ تَبَعٌ لِسَادَاتِهِمْ، وَلِأَنَّهُمْ لَا يَمْلِكُونَ، فَكَانُوا أَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْفُقَرَاءِ، وَلِأَنَّهُمْ مَمَالِيكُ، فَكَانُوا كَسَائِرِ الْأَمْوَالِ، وَكَذَا لَا جِزْيَةَ عَلَى مُدَبَّرٍ، وَلَا مُكَاتَبٍ، وَلَا أُمِّ وَلَدٍ: لِأَنَّهُمْ عَبِيدٌ، وَلَا جِزْيَةَ عَلَى مَنْ بَعْضُهُ حُرٌّ وَبَعْضُهُ مَمْلُوكٌ: لِأَنَّ أَحْكَامَ الرِّقِّ عَلَيْهِ أَغْلَبُ. وَقِيلَ: إِنَّهُ يُؤَدِّي مِنَ الْجِزْيَةِ بِقَدْرِ مَا فِيهِ مِنَ الْحُرِّيَّةِ: لِأَنَّهُ يُمْلَكُ بِهَا، فَإِذَا عَتَقَ الْعَبْدُ عَلَى كُفْرِهِ، وَكَانَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ اسْتُؤْنِفَتْ جِزْيَتُهُ، وَسَوَاءٌ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ أَوْ كَافِرٌ. وَقَالَ مَالِكٌ: إِنْ أَعْتَقَهُ مُسْلِمٌ، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِ، لِحُرْمَةِ وَلَائِهِ، وَهَذَا خَطَأٌ: لِأَنَّ حُرْمَةَ النَّسَبِ أَغْلَظُ، وَلَا تَسْقُطُ الْجِزْيَةُ بِإِسْلَامِ الْأَبِ، فَكَانَ أَوْلَى أَنْ لَا تَسْقُطَ بِإِسْلَامِ الْمُعْتِقِ، لَكِنْ إِنْ كَانَ الْمُعْتِقُ مُسْلِمًا اسْتُؤْنِفَتْ جِزْيَتُهُ عَنْ مُرَاضَاةٍ، وَإِنْ كَانَ مُعْتِقُهُ ذِمِّيًّا، فَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنَّهُ يَلْزَمُهُ جِزْيَةُ مُعْتِقِهِ: لِأَنَّهَا لَزِمَتْهُ بِعِتْقِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَلْزَمُهُ جِزْيَةُ عَصَبَتِهِ: لِأَنَّهُمْ أَخَصُّ بِمِيرَاثِهِ وَنُصْرَتِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنَّهُ لَا يَلْزَمُهُ إِلَّا مَا اسْتَأْنَفَ الصُّلْحَ عَلَيْهِ بِمُرَاضَاتِهِ، لِيُفْرِدَهُ بِهَا مِنْ غَيْرِهِ، فَإِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا نُبِذَ إِلَيْهِ عَهْدُهُ ثُمَّ صَارَ حُرًّا، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ الْأَوَّلِينَ تُؤْخَذُ مِنْهُ جَبْرًا.

.فصل: [لا جزية على الصبيان]:

وَأَمَّا الصِّبْيَانُ أخذ الجزية منهم، فَلَا جِزْيَةَ عَلَيْهِمْ لِارْتِفَاعِ الْقَلَمِ عَنْهُمْ، وَلِأَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِمُعَاذٍ: خُذْ مِنْ كُلِّ حَالِمٍ دِينَارًا، فَدَلَّ عَلَى سُقُوطِهَا عَنْ غَيْرِ الْحَالِمِ، وَلِأَنَّهُمْ مِنْ غَيْرِ أَهْلِ الْقِتَالِ، وَلِأَنَّهُمْ يُسْتَرَقُّونَ إِذَا سُبُوا، فَصَارُوا أَمْوَالًا، فَإِذَا بَلَغُوا وَجَبَتْ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةُ. وَالظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ أَنَّهُمْ يَلْتَزِمُونَ جِزْيَةَ آبَائِهِمْ مِنْ غَيْرِ اسْتِئْنَافِ عَقْدٍ مَعَهُمْ: لِأَنَّهُمْ خَلَفٌ لِسَلَفِهِمْ. وَقَالَ أَبُو حَامِدٍ الْإِسْفَرَايِينِيُّ: لَا تَلْزَمُهُمْ جِزْيَةُ آبَائِهِمْ، وَيُسْتَأْنَفُ مَعَهُمْ عَقْدُهَا عَنْ مُرَاضَاتِهِمْ، إِمَّا بِمِثْلِهَا أَوْ بِأَكْثَرَ أَوْ أَقَلَّ إِذَا لَمْ يَنْقُصْ عَنِ الدِّينَارِ، وَهَذَا وَهَمٌ فِيهِ يَفْسُدُ مِنْ وَجْهَيْنِ: مَذْهَبٍ، وَحِجَاجٍ. أَمَّا الْمَذْهَبُ: فَإِنَّ الشَّافِعِيَّ قَدْ جَعَلَ جِزْيَةَ الْوَلَدِ إِذَا اخْتَلَفَتْ جِزْيَةُ أَبَوَيْهِ أَنَّ جِزْيَتَهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ. وَأَمَّا الْحِجَاجُ: فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ لَمَّا كَانُوا تَبَعًا لِآبَائِهِمْ فِي أَمَانِ الذِّمَّةِ كَانُوا تَبَعًا لَهُمْ فِي قَدْرِ الْجِزْيَةِ. وَالثَّانِي: أَنَّ عَقْدَ الذِّمَّةِ مُؤَبَّدٌ، وَهَذَا يَجْعَلُهُ مُؤَقَّتًا يَلْزَمُ اسْتِئْنَافُهُ مَعَ بُلُوغِ كُلِّ وَلَدٍ، وَفِيهِ أَعْظَمُ مَشَقَّةٍ، وَمَا فَعَلَهُ أَحَدٌ مِنَ الْأَئِمَّةِ. فَأَمَّا الْبُلُوغُ: فَيَكُونُ بِالِاحْتِلَامِ، وَبِاسْتِكْمَالِ خَمْسَ عَشْرَةَ سَنَةً، وَيُحْكَمُ بِبُلُوغِهِ بِإِنْبَاتِ الشَّعْرِ: لِأَنَّ سَعْدَ بْنَ مُعَاذٍ حَكَمَ فِي بَنِي قُرَيْظَةَ أَنَّ مَنْ جَرَتْ عَلَيْهِ الْمَوَاسِيُّ قُتِلَ، وَمَنْ لَمْ تَجْرِ عَلَيْهِ اسْتُرِقَّ.
فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: هَذَا حُكْمُ اللَّهِ مِنْ فَوْقِ سَبْعَةِ أَرْقِعَةٍ. وَهَلْ يَكُونُ ذَلِكَ بُلُوغًا فِيهِمْ كَالسِّنِّ وَالِاحْتِلَامِ، أَوْ يَكُونُ دَلِيلًا عَلَى بُلُوغِهِمْ، فِيهِ قَوْلَانِ مَضَيَا.

.فصل: [في أخذ الجزية من الصبي إذا بلغ والعبد إذا أعتق والمجنون إذا أفاق]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا، وَبَلَغَ الصَّبِيُّ، وَأُعْتِقَ الْعَبْدُ، وَأَفَاقَ الْمَجْنُونُ نُظِرَ. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ: فَقَدْ سَاوَوْا أَهْلَ دِينِهِمْ فِي حَوْلِ جِزْيَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي تَضَاعِيفِ الْحَوْلِ مِثْلَ أَنْ يَكُونَ قَدْ مَضَى مِنَ الْحَوْلِ نِصْفُهُ قِيلَ لَهُمْ: لَا يُمْكِنُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ لَكُمْ حَوْلٌ غَيْرُ حَوْلِ أَهْلِ دِينِكُمْ لِأَنَّهُ شَاقٌّ، وَأَنْتُمْ بِالْخِيَارِ إِذَا حَالَ حَوْلُ الْجَمَاعَةِ وَقَدْ مَضَى لَكُمْ مِنَ الْحَوْلِ نِصْفُهُ بَيْنَ أَنْ تُعْطُوا جِزْيَةَ نِصْفِ سَنَةٍ ثُمَّ يُسْتَأْنَفُ لَكُمُ الْحَوْلُ مَعَ الْجَمَاعَةِ، وَبَيْنَ أَنْ تَتَعَجَّلُوا جِزْيَةَ سَنَةٍ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْكُمْ فِي السَّنَةِ الثَّانِيَةِ جِزْيَةُ نِصْفِ سَنَةٍ، وَبَيْنَ أَنْ تَسْتَنْظِرُوا بِجِزْيَةِ نِصْفِ هَذِهِ السَّنَةِ حَتَّى تُؤْخَذَ مِنْكُمْ مَعَ جِزْيَةِ السَّنَةِ الثَّانِيَةِ إِذَا تَمَّتْ جِزْيَةُ سَنَةٍ وَنِصْفٍ فَأَيُّ هَذِهِ الثَّلَاثَةِ سَأَلُوهَا أُجِيبُوا إِلَيْهَا.

.مسألة: تُؤْخَذُ الجزية مِنَ الشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَتُؤْخَذُ مِنَ الشَّيْخِ الْفَانِي وَالزَّمِنِ أخذ الجزية منهم.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى إِبَاحَةِ قَتْلِ مَنْ أُسِرَ مِنْهُمْ، وَقَدِ اخْتَلَفَ قَوْلُ الشَّافِعِيِّ فِي إِبَاحَةِ قَتْلِ الرُّهْبَانِ، وَأَصْحَابِ الصَّوَامِعِ، وَالْأَعْمَى وَمَنْ لَا نَهْضَةَ فِيهِ مِنَ الشُّيُوخِ وَالزَّمْنَى الَّذِينَ لَا يُقَاتِلُونَ إِمَّا لِتَعَبُّدٍ كَالرُّهْبَانِ، أَوْ لِعَجْزٍ كَالشَّيْخِ الْفَانِي، فَفِي جَوَازِ قَتْلِهِمْ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ قَتْلُهُمْ: لِأَنَّهُمْ مِنْ جِنْسٍ مُبَاحِ الْقَتْلِ، وَلِأَنَّهُمْ كَانَ رَأْيُهُمْ، وَتَدْبِيرُهُمْ أَضَرَّ عَلَيْنَا مِنْ قِتَالِ غَيْرِهِمْ، فَعَلَى هَذَا لَا يُقَرُّونَ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ إِلَّا بِجِزْيَةٍ. وَالْقَوْلُ الثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَجُوزُ قَتْلُهُمْ: لِأَنَّ الْقَتْلَ لِلْكَفِّ عَنِ الْقِتَالِ، وَقَدْ كَفُّوا أَنْفُسَهُمْ عَنْهُ، فَلَمْ يُقْتَلُوا، فَعَلَى هَذَا يُقَرُّونَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ وَهُوَ مَذْهَبُ أَبِي حَنِيفَةَ فَصَارَ فِي إِقْرَارِهِمْ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ قَوْلَانِ.

.فصل: [في أخذ الجزية من يهود خيبر]:

فَأَمَّا يَهُودُ خَيْبَرَ وفرض الجزية عليهم، فَالَّذِي عَلَيْهِ الْفُقَهَاءُ أَنَّهُمْ مِمَّنْ أُخِذَ الْجِزْيَةُ مِنْهُمْ كَغَيْرِهِمْ، وَقَدْ تَظَاهَرُوا فِي هَذَا الزَّمَانِ بِأَمَانِ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي كِتَابٍ نَسَبُوهُ إِلَيْهِ أَسْقَطُوا بِهِ الْجِزْيَةَ عَنْ نُفُوسِهِمْ، وَلَمْ يَنْقُلْهُ أَحَدٌ مِنْ رُوَاةِ الْأَخْبَارِ، وَلَا مِنْ أَصْحَابِ الْمَغَازِي، وَلَمْ أَرَ لِأَحَدٍ مِنَ الْفُقَهَاءِ فِي إِثْبَاتِهِ قَوْلًا غَيْرَ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ- فَإِنَّهُ- جَعَلَ مُسَاقَاةَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فِي نَخْلِ خَيْبَرَ حِينَ افْتَتَحَهَا، وَقَوْلُهُ لَهُمْ: أُقِرُّكُمْ مَا أَقَرَّكُمُ اللَّهُ أَمَانًا، وَجَعْلَهُمْ بِالْمُسَاقَاةِ خَوَلًا، وَأَنَّ بِهَذَيْنِ سَقَطَتِ الْجِزْيَةُ عَنْهُمْ، وَهَذَا قَوْلٌ تَفَرَّدَ بِهِ لَا أَعْرِفُ لَهُ مُوَافِقًا عَلَيْهِ، وَلَيْسَ الْأَمَانُ مُوجِبًا لِسُقُوطِ الْجِزْيَةِ: لِأَنَّهَا تَجِبُ بِالْأَمَانِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِهِ، وَلَا تَسْقُطُ بِالْمُعَامَلَةِ كَمَا لَا تَسْقُطُ بِهَا جِزْيَةُ غَيْرِهِمْ، وَلَوْ جَازَ هَذَا فِيهِمْ لَكَانَ فِي أَهْلِ فَدَكَ أَجْوَزَ: لِأَنَّهُ فَتَحَهَا صُلْحًا، وَفَتَحَ خَيْبَرَ عَنْوَةً، وَأَحْسَبُ أَبَا عَلِيِّ بْنَ أَبِي هُرَيْرَةَ لَمَّا رَأَى الْوُلَاةَ عَلَى هَذَا أَخْرَجَ لِفِعْلِهِمْ وَجْهًا، وَمَا لَمْ يُثْبِتْهُ الْفُقَهَاءُ لِنَقْلٍ أَوْجَبَ التَّخْصِيصَ فَحُكْمُ الْعُمُومِ فِيهِ أَمْضَى، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.مسألة: [جزية من بلغ واختلف دين أبويه]:

مَنْ بَلَغَ وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ أُمُّهُ مَجُوسِيَّةٌ وَأَبُوهُ نَصْرَانِيٌّ فَجِزْيَتُهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ.
قَالَ الشَافِعِيُّ: وَمَنْ بَلَغَ وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةٌ وَأَبُوهُ مَجُوسِيٌّ أَوْ أُمُّهُ مَجُوسِيَّةٌ وَأَبُوهُ نَصْرَانِيٌّ قدر جزيته في هذه الحالة فَجِزْيَتُهُ جِزْيَةُ أَبِيهِ: لِأَنَّ الْأَبَ هُوَ الَذِي عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ لَسْتُ أَنْظُرُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ إِذَا اخْتَلَفَ حُكْمُ أَبَوَيِ الْكَافِرِ فِي حُكْمِ كُفْرِهِمَا الْمُتَعَدِّي عَنْهُمَا إِلَى وَلَدِهِمَا تَعَلَّقَ بِاخْتِلَافِهِمَا أَرْبَعَةُ أَحْكَامٍ: أَحَدُهَا: الْجِزْيَةُ. وَالثَّانِي: النِّكَاحُ وَالذَّبِيحَةُ. وَالثَّالِثُ: عَقْدُ الذِّمَّةِ. وَالرَّابِعُ: الدِّيَةُ. فَأَمَّا الْحُكْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ الْجِزْيَةُ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَبُوهُ نَصْرَانِيًّا لَهُ جِزْيَةٌ، وَأُمُّهُ يَهُودِيَّةً لِقَوْمِهَا جِزْيَةٌ أُخْرَى، فَجِزْيَةُ الْوَلَدِ جِزْيَةُ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ سَوَاءٌ قَلَّتْ جِزْيَةُ أَبِيهِ أَوْ كَثُرَتْ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ دَاخِلٌ فِي نَسَبِ أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَدَخَلَ فِي جِزْيَتِهِ دُونَهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْجِزْيَةَ عَلَى أَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ، فَدَخَلَ فِي جِزْيَةِ مَنْ تَجِبُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةُ دُونَ مَنْ لَا تَجِبْ عَلَيْهِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّانِي: وَهُوَ اسْتِبَاحَةُ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ، وَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ يَهُودِيًّا، وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَيُنْظَرُ. فَإِنْ كَانَ أَبُوهُ مَجُوسِيًّا وَأُمُّهُ نَصْرَانِيَّةً، لَمْ تَحِلَّ ذَبِيحَةُ الْوَلَدِ، وَلَمْ يُنْكَحْ إِنْ كَانَ امْرَأَةً تَغْلِيبًا لِحُكْمِ الْحَظْرِ، وَاعْتِبَارًا بِلُحُوقِ النَّسَبِ. وَإِنْ كَانَ أَبُوهُ نَصْرَانِيًّا وَأُمُّهُ مَجُوسِيَّةً، فَفِيهِ قَوْلَانِ:
أَحَدُهُمَا: يُعْتَبَرُ بِأَبِيهِ وَاسْتِبَاحَةِ نِكَاحِهِ، وَأَكْلِ ذَبِيحَتِهِ، تَعْلِيلًا بِلُحُوقِ النَّسَبِ بِهِ.
وَالْقَوْلُ الثَّانِي: يُعْتَبَرُ بِأُمِّهِ فِي حَظْرِ نِكَاحِهِ، وَتَحْرِيمِ ذَبِيحَتِهِ تَعْلِيلًا لِتَغْلِيبِ الْحَظْرِ عَلَى الْإِبَاحَةِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ عَقْدُ الذِّمَّةِ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، وَالْآخَرُ وَثَنِيًّا لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ كَلَامُ أَصْحَابِنَا فِيهِ: لِأَنَّ الشَّافِعِيَّ عَطَفَ بِهِ عَلَى اسْتِبَاحَةِ النِّكَاحِ وَالذَّبِيحَةِ عَطْفًا مُرْسَلًا، فَخَرَجَ عَنِ اخْتِلَافِهِمْ فِيهِ أَرْبَعَةُ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ فِي ذِمَّتِهِ وَدِينِهِ مُلْحَقًا بِأَبِيهِ دُونَ أُمِّهِ اعْتِبَارًا بِنَسَبِهِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ أَبُوهُ كِتَابِيًّا، فَهُوَ كِتَابِيٌ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ وَإِنْ كَانَ وَثَنِيًّا فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ فِي دِينِهِ مُلْحَقًا بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ اعْتِبَارًا بِجِزْيَتِهِ وَرِقِّهِ فِي لُحُوقِهِ بِأُمِّهِ دُونَ أَبِيهِ، وَلِحُدُوثِهِ عَنِ اخْتِلَافِ الدِّينِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كِتَابِيَّةً، فَهُوَ كِتَابِيٌّ يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ وَثَنِيَّةً، فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: أَنْ يُلْحَقَ بِأَثْبَتِهِمَا دِينًا كَمَا يُلْحَقُ بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا دُونَ الْكَافِرِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ كَانَ أَبُوهُ كِتَابِيًّا وَأُمُّهُ وَثَنِيَّةً أُلْحِقَ بِأَبِيهِ، وَجُعِلَ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ، وَإِنْ كَانَتْ أُمُّهُ كِتَابِيَّةً، وَأَبُوهُ وَثَنِيًّا أُلْحِقَ بِأُمِّهِ، وَجُعِلَ كِتَابِيًّا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ. وَالْوَجْهُ الرَّابِعُ: أَنْ يُلْحَقَ بِأَغْلَظِهِمَا كُفْرًا: لِأَنَّ التَّخْفِيفَ رُخْصَةٌ مُسْتَثْنَاةٌ، فَعَلَى هَذَا أَيُّهُمَا كَانَ فِي دِينِهِ وَثَنِيًّا، فَهُوَ وَثَنِيٌّ لَا يُقَرُّ بِالْجِزْيَةِ سَوَاءٌ كَانَ الْوَثَنِيُّ مِنْهُمَا أَبًا أَوْ أُمًّا، وَهُوَ ضِدُّ الْوَجْهِ الثَّالِثِ كَمَا أَنَّ الْوَجْهَ الثَّانِيَ ضِدُّ الْوَجْهِ الْأَوَّلِ. وَأَمَّا الْحُكْمُ الرَّابِعُ: وَهُوَ الدِّيَةُ: إِذَا قُتِلَ، فَهُوَ أَنْ يَكُونَ أَحَدُ أَبَوَيْهِ نَصْرَانِيًّا وَالْآخَرُ مَجُوسِيًّا، فَهُوَ مُلْحَقٌ فِي الدِّيَةِ بِأَكْثَرِ أَبَوَيْهِ دِيَةً سَوَاءٌ كَانَ أَبًا أَوْ أُمًّا، نَصَّ عَلَيْهِ الشَّافِعِيُّ فِي الْأُمِّ. وَالْفَرْقُ بَيْنَ الدِّيَةِ وَالنَّسَبِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّ الدِّيَةَ لَمَّا اخْتَلَفَتْ بِاخْتِلَافِ الدِّينِ، وَلَمْ تَخْتَلِفْ بِاخْتِلَافِ النِّسَبِ، وَكَانَ فِي الدِّينِ مُلْحَقًا بِالْمُسْلِمِ مِنْهُمَا تَغْلِيظًا كَانَ فِي الدِّيَةِ مُلْحَقًا بِأَغْلَظِهِمَا دِيَةً. وَالثَّانِي: أَنَّ مَا أَوْجَبَ ضَمَانَ النُّفُوسِ كَانَ مُعْتَبَرًا بِأَغْلَظِ الْحُكْمَيْنِ كَالْمُحْرِمِ إِذَا قَتَلَ مَا تَوَلَّدُ مِنْ بَيْنِ وَحْشِيٍّ وَأَهْلِيٍّ، أَوْ مَأْكُولٍ وَمَحْظُورٍ لَزِمَهُ الْجَزَاءُ تَغْلِيظًا.

.مسألة: [إِذَا مَاتَ الذِّمِّيُّ أَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ الْحَوْلِ هل تسقط عنه الجزية؟]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَأَيُّهُمْ أَفْلَسَ أَوْ مَاتَ فَالْإِمَامُ غَرِيمٌ يَضْرِبُ مَعَ غُرَمَائِهِ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا مَاتَ الذِّمِّيُّ أَوْ أَفْلَسَ بَعْدَ الْحَوْلِ هل تسقط عنه الجزية في هذه الحالة لَمْ تَسْقُطْ عَنْهُ الْجِزْيَةُ بِمَوْتِهِ وَفَلَسِهِ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ بِمَوْتِهِ احْتِجَاجًا بِأَنَّ الْجِزْيَةَ عُقُوبَةٌ تَسْقُطُ عَنِ الْمَيِّتِ كَالْحُدُودِ: لِأَنَّهُ يَخْرُجُ بِالْمَوْتِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ عَنْهُ الْجِزْيَةُ كَالنِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّهُ مَالٌ اسْتَقَرَّ قَبُولُهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ بِمَوْتِهِ كَالدُّيُونِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ عِوَضٌ عَنْ حَقْنِ دَمِهِ، وَإِقْرَارِهِ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى كُفْرِهِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِمَوْتِهِ كَالْأُجُورِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اعْتِبَارِهِمْ بِالْحُدُودِ، فَهُوَ أَنَّ الْحَدَّ مُتَعَلِّقٌ بِالْبَدَنِ، فَسَقَطَ بِالْمَوْتِ كَالْقِصَاصِ، وَالْجِزْيَةَ مُتَعَلِّقَةٌ بِالْمَالِ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْمَوْتِ كَالدِّيَةِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِخُرُوجِهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ، فَهُوَ أَنَّهَا تُؤْخَذُ عَلَى مَا مَضَى فِي حَيَاتِهِ، وَقَدْ كَانَ فِيهِ مِنْ أَهْلِ الْقِتَالِ. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّهَا لَا تَسْقُطُ بِالْمَوْتِ وَالْفَلَسِ، كَانَتْ كَالدُّيُونِ الْمُسْتَقِرَّةِ تُقَدَّمُ عَلَى الْوَصَايَا، وَالْوَرَثَةِ، وَيُسَاهِمُ فِيهَا الْغُرَمَاءُ بِالْحِصَصِ، وَيَكُونُ مَا عَجَزَ الْمَالُ عَنْهَا دَيْنًا فِي ذِمَّةِ الْمُفْلِسِ، وَثَابِتًا عَلَى الْمَيِّتِ. وَهَكَذَا لَوْ زَمِنَ أَوْ عَمِيَ أَوْ جُنَّ لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ، وَأَسْقَطَهَا أَبُو حَنِيفَةَ عَنْهُ، وَدَلِيلُهُ مَا قَدَّمْنَاه.

.مسألة: أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَإِنْ أَسْلَمَ وَقَدْ مَضَى بَعْضُ السَّنَةِ أُخِذَ مِنْهُ بِقَدْرِ مَا مَضَى مِنْهَا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، إِذَا أَسْلَمَ الذِّمِّيُّ بَعْدَ وُجُوبِ الْجِزْيَةِ عَلَيْهِ حكم الجزية في هذه الحالة لَمْ تَسْقُطْ بِإِسْلَامِهِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: تَسْقُطُ عَنْهُ بِإِسْلَامِهِ اسْتِدْلَالًا بِقَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 29]. وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ، وَبِقوله تعالى: {قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الْأَنْفَالِ: 38]. وَقَدِ انْتَهَى بِالْإِسْلَامِ، فَوَجَبَ أَنْ يُغْفَرَ لَهُ مَا سَلَفَ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ. وَبِمَا رَوَى مُحَارِبُ بْنُ دِثَارٍ عَنِ ابْنِ عُمَرَ، عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ، وَهَذَا نَصٌّ. وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهَا عُقُوبَةٌ تَتَعَلَّقُ بِالْكُفْرِ، فَوَجَبَ أَنْ تَسْقُطَ بِالْإِسْلَامِ كَالْقِتَالِ. وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ تُؤْخَذُ مِنْهُ صَغَارًا وَذِلَّةً، وَالْمُسْلِمُ لَا صَغَارَ عَلَيْهِ، فَوَجَبَ سُقُوطُهَا عَنْهُ. وَدَلِيلُنَا: قَوْلُ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: الزَّعِيمُ غَارِمٌ وَقَدْ ضَمِنَهَا، فَوَجَبَ أَنْ يَلْزَمَهُ غُرْمُهَا.
وَمِنَ الْقِيَاسِ: أَنَّهُ مَالٌ اسْتَقَرَّ ثُبُوتُهُ فِي ذِمَّتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ لَا يَسْقُطَ بِإِسْلَامِهِ كَالدُّيُونِ. فَإِنْ قِيلَ: يَبْطُلُ بِالزَّوْجَيْنِ الْوَثَنِيَّيْنِ إِذَا أَسْلَمَ الزَّوْجُ مِنْهُمَا قَبْلَ الدُّخُولِ سَقَطَ عَنْهُ صَدَاقُهَا بِإِسْلَامِهِ. قِيلَ: صَدَاقُهَا إِنَّمَا بَطَلَ بِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ كَمَا يَبْطُلُ صَدَاقُهَا بِالرِّدَّةِ، لِوُقُوعِ الْفُرْقَةِ أَلَا تَرَى أَنَّ مَنْ تَكَلَّمَ فِي صَلَاتِهِ، فَبَطَلَتْ بِكَلَامِهِ حَلَّ لَهُ الْكَلَامُ بِبُطْلَانِ الصَّلَاةِ لَا بِالْكَلَامِ؟ فَإِنْ قِيلَ: إِنَّمَا لَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ الدَّيْنُ بِإِسْلَامِهِ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهُ فِي إِسْلَامِهِ، وَسَقَطَتِ الْجِزْيَةُ بِإِسْلَامِهِ: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يَثْبُتَ ابْتِدَاؤُهَا فِي إِسْلَامِهِ. فَالْجَوَابُ عَنْهُ: أَنَّهُ تَبْطُلُ عِلَّةُ الْأَصْلِ بِالْمَوْتِ: لِأَنَّهُ يَمْنَعُ مِنِ ابْتِدَاءِ الدِّينِ وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ، وَتُبْطُلُ عِلَّةُ الْفَرْعِ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَيَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنِ ابْتِدَائِهِ، وَلَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتَدَامَتِهِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ وَالْخَرَاجَ مُسْتَحَقَّانِ بِالْكُفْرِ، لَمَّا لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ مَا وَجَبَ مِنَ الْخَرَاجِ لَمْ يَسْقُطْ بِهِ مَا وَجَبَ مِنَ الْجِزْيَةِ. وَتَحْرِيرُهُ قِيَاسًا: أَنَّهُ مَالٌ مُسْتَحَقٌّ بِالْكُفْرِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهُ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بَعْضُ أَهْلِ خُرَاسَانَ بِأَنَّ مَا وَجَبَ عَلَى الْكَافِرِ بِالِالْتِزَامِ لَمْ يَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ كَالْخَرَاجِ، وَلِأَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ عَنْ حَقْنِ الدَّمِ وَالْمُسَاكَنَةِ، فَلَمْ يَسْقُطْ مَا وَجَبَ مِنْهَا بِالْإِسْلَامِ كَالْأُجْرَةِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى: {وَهُمْ صَاغِرُونَ} [التَّوْبَةِ: 129]. فَهُوَ أَنَّ الصَّغَارَ عِلَّةٌ فِي الْوُجُوبِ دُونَ الْأَدَاءِ، وَوُجُوبُهَا يَسْقُطُ بِالْإِسْلَامِ، وَأَدَاؤُهَا لَا يَسْقُطُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى: {يُغْفَرْ لَهُمْ مَا قَدْ سَلَفَ} [الْأَنْفَالِ: 38]. فَهُوَ أَنَّ الْغُفْرَانَ مُخْتَصٌّ بِالْآثَامِ دُونَ الْحُقُوقِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الْإِسْلَامُ يَجُبُّ مَا قَبْلَهُ، فَهُوَ أَنَّهُ يَقْطَعُ وُجُوبَ مَا قَبْلَهُ، وَلَا يَرْفَعُ مَا وَجَبَ مِنْهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: لَا جِزْيَةَ عَلَى مُسْلِمٍ فَهُوَ أَنَّهُ مَحْمُولٌ عَلَى ابْتِدَاءِ الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الْقَتْلِ، فَهُوَ أَنَّ الْجِزْيَةَ مُعَاوَضَةٌ، وَلَيْسَتْ عُقُوبَةً، ثُمَّ هُوَ مُنْتَقِضٌ بِالِاسْتِرْقَاقِ لَا يَبْطُلُ بِالْإِسْلَامِ، وَإِنْ وَجَبَ بِالْكُفْرِ، ثُمَّ الْمَعْنَى فِي الْقَتْلِ أَنَّهُ وَجَبَ بِالْإِصْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ، وَقَدْ زَالَ الْإِصْرَارُ بِالْإِسْلَامِ، فَلِذَلِكَ سَقَطَ. وَالْجِزْيَةُ وَجَبَتْ مُعَاوَضَةً عَنِ الْمُسَاكَنَةِ، وَتِلْكَ الْمُسَاكَنَةُ لَمْ تَنْزِلْ، فَلَمْ تَسْقُطْ بِالْإِسْلَامِ.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِمْ: إِنَّهُمْ صَغَارٌ، فَهُوَ أَنَّهُ مُنْتَقِضٌ بِالِاسْتِرْقَاقِ، وَبِالْخَرَاجِ، وَيَفْسُدُ بِالْحُدُودِ، وَهِيَ عُقُوبَةٌ وَإِذْلَالٌ، وَلَا تَسْقُطُ بِالْعُقُوبَةِ بَعْدَ الْوُجُوبِ عَلَى أَنَّ الصَّغَارَ عَلَيْهِ، فِي الْوُجُوبِ دُونَ الِاسْتِيفَاءِ وَقَدْ يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنْ وُجُوبِ مَا لَا يَمْنَعُ مِنِ اسْتِيفَائِهِ كَذَلِكَ الْجِزْيَةُ.