فصل: مسألة: (في إِحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسألة: [في إِحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ]:

لَا يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ كَنِيسَةً وَلَا مَجْمَعًا لِصَلَاتِهِمْ وَلَا يُظْهِرُوا فِيهَا حَمْلَ خَمْرٍ وَلَا إِدْخَالَ خِنْزِيرٍ.
قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُحْدِثُوا فِي أَمْصَارِ الْإِسْلَامِ كَنِيسَةً وَلَا مَجْمَعًا لِصَلَاتِهِمْ، وَلَا يُظْهِرُوا فِيهَا حَمْلَ خَمْرٍ وَلَا إِدْخَالَ خِنْزِيرٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا قَدْ دَخَلَ فِي جُمْلَةِ الْقِسْمِ الثَّالِثِ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمْ، فَيُمْنَعُوا مِنْ إِحْدَاثِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فِي أَمْصَارِ الْمُسْلِمِينَ، لِمَا رَوَى مَسْرُوقٌ عَنْ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ غَنْمٍ قَالَ: لَمَّا صَالَحَ عُمَرُ بْنُ الْخَطَّابِ نَصَارَى الشَّامِ كَتَبَ لَهُمْ كِتَابًا، فَذَكَرَ فِيهِ أَنَّهُمْ لَا يَبْنُونَ فِي بِلَادِهِمْ، وَلَا فِيمَا حَوْلَهَا دِيرًا وَلَا كَنِيسَةً، وَلَا صَوْمَعَةَ رَاهِبٍ وَأَنْ لَا يَمْنَعُوا الْمَارَّةَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَأَبْنَاءِ السَّبِيلِ، وَأَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا- ذَكَرَهُ أَبُو الْوَلِيدِ فِي الْمُخَرَّجِ عَلَى كِتَابِ الْمُزَنِيِّ، وَلِأَنَّ إِحْدَاثَهَا مَعْصِيَةٌ، لِاجْتِمَاعِهِمْ فِيهَا عَلَى إِظْهَارِ الْكُفْرِ، وَلِذَلِكَ أَبْطَلْنَا الْوُقُوفَ عَلَى الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، وَعَلَى كُتُبِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَلِأَنَّهُمْ يَقْتَطِعُونَ مَا بَنَوْهُ مِنْ غَيْرِ إِظْهَارِ الْإِسْلَامِ فِيهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونَ الْإِسْلَامُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ ظَاهِرًا، فَلِهَذِهِ الْأُمُورِ الثَّلَاثَةِ مُنِعُوا. فَإِذَا تَقَرَّرَ أَنَّ حُكْمَ بِلَادِ الْإِسْلَامِ مَوْضُوعَةٌ عَلَى هَذَا لَمْ يَخْلُ حَالُهُمْ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: مَا أَحْيَاهُ الْمُسْلِمُونَ.
وَالثَّانِي: مَا فَتَحُوهُ عَنْوَةً.
وَالثَّالِثُ: مَا فَتَحُوهُ صُلْحًا.

.فصل: [فيمَا ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُونَ إِنْشَاءَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَوَاتٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ]:

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ مَا ابْتَدَأَ الْمُسْلِمُونَ إِنْشَاءَهُ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ مَوَاتٍ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهِ مِلْكٌ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحَ لِأَهْلِ الذِّمَّةِ فِي نُزُولِهَا عَلَى إِحْدَاثِ بَيْعَةٍ وَلَا كَنِيسَةٍ فِيهَا: لِأَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى مَا يَمْنَعُ مِنْهُ الشَّرْعُ، وَيَكُونُ خَارِجًا مِنْ جُمْلَةِ صُلْحِهِمْ، وَإِنْ تَمَسَّكُوا فِيهِ بِعَقْدِ الصُّلْحِ قِيلَ لَهُمْ: إِنْ رَضِيتُمْ بِإِبْطَالِ هَذَا مِنْهُ، وَإِلَّا نَقَضْنَا عَهْدَكُمْ، وَبَلَّغْنَاكُمْ مَآمِنَكُمْ، وَلَا يَبْطُلُ أَمَانُهُمْ بِنَقْضِنَا بِعَهْدِهِمْ لِأَنَّنَا نَحْنُ نَقَضْنَاهُ بِمَا مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهُ. فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ نَرَى فِي هَذِهِ الْأَمْصَارِ بِيَعًا وَكَنَائِسَ كَالْبَصْرَةِ وَالْكُوفَةِ وَبَغْدَادَ، وَهُوَ مِصْرٌ إِسْلَامِيٌّ بَنَاهُ الْمَنْصُورُ. قُلْنَا: إِنْ عَلِمْنَا أَنَّهَا أُحْدِثَتْ وَجَبَ هَدْمُهَا، وَإِنْ عَلِمْنَا أَنَّهَا كَانَتْ قَدِيمَةً فِي الْمِصْرِ قَبْلَ إِنْشَائِهِ لِأَنَّ النَّصَارَى قَدْ كَانُوا يَبْنُونَ صَوَامِعَ، وَدِيَارَاتٍ، وَبِيَعًا فِي الصَّحَارِي يَنْقَطِعُونَ إِلَيْهَا، فَتُقَرُّ عَلَيْهِمْ، وَلَا تُهْدَمُ، وَإِنْ أَشْكَلَ أَمْرُهَا، أُقِرَّتِ اسْتِصْحَابًا، لِظَاهِرِ حَالِهَا.

.فصل: [فيمَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: وَهُوَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ عَنْوَةً مِنْ بِلَادِ الشِّرْكِ إِحْدَاثِ أهل الذمةِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فيه، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى اسْتِئْنَافِ بِيَعٍ وَكَنَائِسَ فِيهَا، فَأَمَّا مَا تَقَدَّمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَمَا كَانَ مِنْهَا خَرَابًا عِنْدَ فَتْحِهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَمِّرُوهُ، لِدُرُوسِهَا قَبْلَ الْفَتْحِ، فَصَارَتْ كَالْمَوَاتِ. فَأَمَّا الْعَامِرُ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ عِنْدَ فَتْحِهَا، فَفِي جَوَازِ إِقْرَارِهَا عَلَيْهِمْ إِذَا صُولِحُوا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ إِقْرَارُهَا عَلَيْهِمْ لِخُرُوجِهَا عَنْ أَمْلَاكِهِمُ الْمَغْنُومَةِ، وَهُوَ الصَّحِيحُ، وَلِذَلِكَ أُقِرَّتِ الْبِيَعُ وَالْكَنَائِسُ فِي بِلَادِ الْعَنْوَةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَمْلِكُهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَزُولُ عَنْهَا حُكْمُ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، وَتَصِيرُ مِلْكًا لَهُمْ مَغْنُومًا لَا حَقَّ فِيهَا لِأَهْلِ الذِّمَّةِ: لِأَنَّهُ لَيْسَ لِمَا ابْتَنَوْهُ مِنْهَا حُرْمَةٌ، فَدَخَلَتْ فِي عُمُومِ الْمَغَانِمِ، فَعَلَى هَذَا إِنْ بِيعَتْ عَلَيْهِمْ، لِتَكُونَ عَلَى حَالِهَا بِيَعًا وَكَنَائِسَ لَهُمْ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ اسْتِصْحَابًا لِحَالِهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا تَجُوزُ لِزَوَالِهَا عَنْهُمْ بِمِلْكِ الْمُسْلِمِينَ لَهَا، فَصَارَتْ كَالْبِنَاءِ الْمُبْتَدَأِ.

.فصل: [فيمَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ مَا فَتَحَهُ الْمُسْلِمُونَ صُلْحًا إِحْدَاث أهل الذمةِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فيه، فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ نُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكَ الدَّارِ لَنَا دُونَهُمْ، وَيَسْكُنُونَ مَعَنَا فِيهَا بِالْجِزْيَةِ، فَيُنْظَرُ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، فَإِنِ اسْتَثْنَوْهَا فِي صُلْحِهِمْ أُقِرَّتْ عَلَيْهِمْ: لِأَنَّ الصُّلْحَ يَجُوزُ أَنْ يَقَعَ عَامًّا فِي جَمِيعِ أَرْضِهِمْ، وَخَاصًّا فِي بَعْضِهِمْ، فَيُقَرُّوا عَلَيْهَا بِالصُّلْحِ، وَيُمْنَعُوا مِنِ اسْتِحْدَاثِ غَيْرِهَا، وَإِنْ لَمْ يَسْتَثْنُوهَا فِي صُلْحٍ صَارَتْ كَأَرْضِ الْعَنْوَةِ، هَلْ يَمْلِكُ الْمُسْلِمُونَ بِيَعَهُمْ وَكَنَائِسَهُمْ إِذَا فَتَحُوهَا؟ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْوَجْهَيْنِ. وَيَكُونُ حُكْمُ هَذَا الْبَلَدِ فِي مَنْعِ أَهْلِ الذِّمَّةِ فِي الْأَقْسَامِ الْخَمْسَةِ عَلَى مَا قَدَّمْنَاهُ مِنْ أَحْكَامِنَا. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ نُصَالِحَهُمْ عَلَى أَنْ يَكُونَ مِلْكُ الدَّارِ لَهُمْ دُونَنَا عَلَى جِزْيَةٍ يُؤَدُّونَهَا إِلَيْنَا، عَنْ رُءُوسِهِمْ، أَوْ عَنْ أَرْضِهِمْ، أَوْ عَنْهُمَا جَمِيعًا، فَيَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا عَلَى بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، وَيَجُوزُ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا فِيهَا إِحْدَاثَ بِيَعٍ وَكَنَائِسَ: لِأَنَّهُ لَمْ يَجْرِ عَلَيْهَا لِلْمُسْلِمِينَ مَلِكٌ. فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الْخَمْسَةُ الَّتِي يُؤْخَذُ أَهْلُ الذِّمَّةِ بِهَا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَيُؤْخَذُ هَؤُلَاءِ فِي بَلَدِهِمْ بِقِسْمَيْنِ مِنْهَا، وَهُوَ الْأَوَّلُ وَالثَّانِي: لِأَنَّ الْأَوَّلَ هُوَ الْمَقْصُودُ بِعَقْدِ الْجِزْيَةِ وَهِيَ الْأَحْكَامُ الثَّلَاثَةُ: لِأَنَّهُمْ قَدْ صَارُوا بِهَذَا الصُّلْحِ مِنْ أَهْلِ الْجِزْيَةِ. وَبِالْقِسْمِ الثَّانِي: وَهِيَ الشُّرُوطُ السِّتَّةُ: لِأَنَّهَا مُحَرَّمَاتٌ مَنَعَ الشَّرْعُ مِنْهَا. فَأَمَّا الْأَقْسَامُ الثَّلَاثَةُ الْبَاقِيَةُ مِنْ مُنْكَرَاتِهِمْ وَاسْتِعْلَائِهِمْ، فَلَا يُؤْخَذُوا بِهَا، وَلَا يُمْنَعُوا مِنْهَا: لِأَنَّهَا دَارُهُمْ، وَهِيَ دَارُ مُنْكَرٍ فِي مُعْتَقَدٍ وَفِعْلٍ، فَكَانَ أَقَلُّ أَحْوَالِهِمْ فِيهَا أَنْ يَكُونُوا مُقَرِّينَ عَلَى مَا يُقَرُّونَ عَلَيْهِ فِي بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ.

.فصل: [في بِنَاءُ كل ما سوى ما يختص بالعبادة عندهم]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا ذَكَرْنَا مِنْ حُكْمِ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَحْدَثَ، فَهِيَ مَا كَانَتْ مَجْمَعًا لِصَلَوَاتِهِمْ، وَمَا اخْتُصَّ بِعِبَادَاتِهِمْ، وَتِلَاوَةِ كُتُبِهِمْ، وَدِرَاسَةِ كُفْرِهِمْ، فَهِيَ الْمَخْصُوصَةُ بِالْحَظْرِ وَالْمَنْعِ، فَأَمَّا بِنَاءُ كل ما سوى ما يختص بالعبادة عندهم مَا سِوَاهَا فَضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ أَمْلَاكًا خَاصَّةً، يَسْكُنُهَا أَرْبَابُهَا، فَلَا يُمْنَعُوا بِنَاءَهَا، وَلَا أَنْ يَبِيعَهَا الْمُسْلِمُونَ عَلَيْهِمْ، وَيَشْتَرُونَهَا مِنْهُمْ: لِأَنَّهَا مَنَازِلُ سُكْنَى، وَلَيْسَتْ بُيُوتَ صَلَاةٍ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَبْنُوا مَا يَسْكُنُهُ بَنُو السَّبِيلِ مِنْهُمْ لِكُلِّ مَارٍّ وَمُجْتَازٍ، وَلَا يَخْتَصُّ أَحَدٌ مِنْهُمْ بِمِلْكِهِ، فَيُنْظَرُ. فَإِنْ شَارَكَهُمُ الْمُسْلِمُونَ فِي سُكْنَاهُ فَجَعَلُوهُ لِكُلِّ مَارٍّ مِنْ مُسْلِمٍ وَذِمِّيٍّ جَازَ، وَلَمْ يُمْنَعُوا مِنْ بَقَائِهِ، وَإِنْ جَعَلُوهُ مَقْصُورًا عَلَى أَهْلِ دِينِهِمْ دُونَ الْمُسْلِمِينَ، فَفِي جَوَازِ تَمْلِيكِهِمْ مِنْ بِنَائِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ: لِأَنَّهُ مَنْزِلُ سَكَنٍ، فَصَارَ كَالْمَنْزِلِ الْخَاصِّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يَجُوزُ أَنْ يُمَكَّنُوا مِنْهُ كَالْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ: لِأَنَّهُ قَدْ صَارَ مَقْصُورًا عَلَيْهِمْ عُمُومًا، لِيَتَعَبَّدَ فِيهِ سَابِلَتُهُمْ، فَلَمْ يَكُنْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ فَرْقٌ، وَقَدْ يَئُولُ بِهِمْ إِلَى أَنْ يَصِيرَ بَيْعَةً أَوْ كَنِيسَةً لَهُمْ.

.فصل: [فيمَا اسْتُهْدِمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمِ]:

فَأَمَّا مَا اسْتُهْدِمَ مِنْ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمِ إعادة أهل الذمة لبنائها الَّتِي يَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا مَعَ عِمَارَتِهَا، فَفِي جَوَازِ إِعَادَتِهِمْ لِبِنَائِهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي سَعِيدٍ الْإِصْطَخْرِيِّ: يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِنَائِهَا، وَيَكُونُ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهَا مَا كَانَتْ بَاقِيَةً عَلَى عِمَارَتِهَا: لِأَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه شَرَطَ عَلَى نَصَارَى الشَّامِ أَنْ لَا يُجَدِّدُوا مَا خَرِبَ مِنْهَا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ لَهُمْ إِعَادَةُ بِنَائِهَا اسْتِصْحَابًا لِحُكْمِهَا، وَأَنَّ الْأَبْنِيَةَ لَا تَبْقَى عَلَى الْأَبَدِ، فَلَوْ مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا بَطَلَتْ عَلَيْهِمْ. وَالصَّحِيحُ عِنْدِي مِنْ إِطْلَاقِ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ أَنْ يُنْظَرَ فِي خَرَابِهَا، فَإِنْ صَارَتْ دَارِسَةً مُسْتَطْرَفَةً كَالْمَوَاتِ مُنِعُوا مِنْ بِنَائِهَا: لِأَنَّهُ اسْتِئْنَافُ إِنْشَاءٍ، وَإِنْ كَانَتْ شَعِثَةً بَاقِيَةَ الْآثَارِ وَالْجُدْرَانِ جَازَ لَهُمْ بِنَاؤُهَا، وَلَوْ هَدَمُوهَا لِاسْتِئْنَافِهَا لَمْ يُمْنَعُوا: لِأَنَّ عِمَارَةَ الْمُسْتَهْدَمِ اسْتِصْلَاحٌ، وَإِنْشَاءَ الدَّارِسِ اسْتِئْنَافٌ.

.مسألة: [في تطاول بنائهم على بناء المسلمين]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَلَا يُحْدِثُونَ بِنَاءً يَتَطَوَّلُونَ بِهِ بِنَاءَ الْمُسْلِمِينَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّهُ لَا تَخْلُو مَسَاكِنُهُمْ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ:
أَحَدُهَا: أَنْ يَسْتَأْنِفُوا بِنَاءَهَا. وَالثَّانِي: أَنْ يَسْتَدِيمُوا سُكْنَاهَا. وَالثَّالِثُ: أَنْ يُعِيدُوا بِنَاءَهَا.

.[فصل في استئناف البناء بعد العهد]:

فَأَمَّا الْقِسْمُ الْأَوَّلُ: وَهُوَ أَنْ يَسْتَأْنِفُوا بِنَاءَهَا بَعْدَ الْعَهْدِ، فَلَا يَخْلُو مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ مِنْ ثَلَاثَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونُوا مُسْلِمِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونُوا مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونُوا أَهْلَ ذِمَّةٍ مِنْ غَيْرِ دِينِهِمْ. فَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ مُسْلِمِينَ، لَمْ يَكُنْ لَهُمْ أَنْ يَعْلُوا بِأَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ، فَيَطَّوَّلُوا عَلَى أَبْنِيَتِهِمْ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى، فَإِنْ عَلَوْا بِأَبْنِيَتِهِمْ هُدِمَتْ عَلَيْهِمْ، وَهَلْ يُمَكَّنُونَ مِنْ مُسَاوَاتِهِمْ فِي الْأَبْنِيَةِ أَمْ لَا؟ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: يُمَكَّنُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ: لِأَنَّهُ قَدْ أُمِنَ الِاسْتِعْلَاءُ وَالِاسْتِشْرَافُ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ حَتَّى تُنْقَصَ أَبْنِيَتُهُمْ عَنْ أَبْنِيَةِ الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ فِي اللِّبَاسِ وَالرُّكُوبِ، لِقَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: الْإِسْلَامُ يَعْلُو، وَلَا يُعْلَى. وَهَلْ يُرَاعَى الْمَنْعُ مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنَ الْمِصْرِ أَوْ فِي جَمِيعِهِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي مَوْضِعِهِمُ الَّذِي هُمْ فِيهِ جِيرَةٍ: لِأَنَّ مَا بَعُدَ عَنْهُمْ، فَقَدْ أَمِنَ إِشْرَافَهُمْ عَلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُمْنَعُونَ فِي جَمِيعِ الْمِصْرِ أَنْ يَتَطَاوَلُوا بِالِاسْتِعْلَاءِ عَلَى أَهْلِ الْمِصْرِ، وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ جَازَ لَهُمْ أَنْ يَتَطَاوَلُوا فِيهَا بأبنِيَتِهِمْ، فَيَعْلُوَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ كَمَا يَعْلُو بَعْضُ الْمُسْلِمِينَ عَلَى بَعْضٍ، وَهَلْ يُمْنَعُ جَمِيعُهُمْ أَنْ يَعْلُوا بِأَبْنِيَتِهِمْ عَلَى أَبْنِيَةِ مَنْ لَا يُجَاوِرُهُمْ مِنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْمِصْرِ أَوْ لَا؟ عَلَى الْوَجْهَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ. وَإِنْ كَانَ مُجَاوِرُوهُمْ فِي مَوْضِعِهِمْ أَهْلَ ذِمَّةٍ عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ كَالْيَهُودِ مَعَ النَّصَارَى، فَفِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يَتَعَالَى بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ فِي الْأَبْنِيَةِ: لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ أَهْلُ ذِمَّةٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ إِذَا اسْتَعْدَوْنَا، وَلَا يُمْنَعُونَ مِنَ الْمُسَاوَاةِ: لِأَنَّ عَلَيْنَا أَنْ نَمْنَعَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ مِمَّا نَمْنَعُ بِهِ أَنْفُسَنَا.

.فصل: [في مساكنهم القديمة]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي: مِنْ مَسَاكِنِهِمْ أَنْ تَكُونَ قَدِيمَةَ الْأَبْنِيَةِ، إِمَّا لِأَنَّهُمْ سَكَنُوهَا قَبْلَ صُلْحِهِمْ، أَوْ لِأَنَّهُمُ اشْتَرَوْهَا مِنْ مُسْلِمٍ بَعْدَ الصُّلْحِ، فَيَجُوزُ إِقْرَارُهُمْ عَلَيْهِمَا، وَإِنِ اسْتَعْلَوْا بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، كَمَا نُقِرُّهُمْ عَلَى مَا تَقَدَّمَ مِنَ الْبِيَعِ وَالْكَنَائِسِ، وَإِنْ مُنَعُوا مِنَ اسْتِحْدَاثِهَا، لَكِنَّهُمْ يُمْنَعُونَ مِنَ الْإِشْرَافِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ لَا يَعْلُوا عَلَى سُطُوحِهَا إِلَّا بَعْدَ تَحْجِيرِهَا، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرِ الْمُسْلِمُ بِتَحْجِيرِ سَطْحِهِ مِنْ جَارِهِ، وَيُمْنَعُ صِبْيَانُهُمْ مِنَ الْإِشْرَافِ، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ صِبْيَانُ الْمُسْلِمِينَ مِنَ الْإِشْرَافِ، فَيَصِيرُوا مَأْخُوذِينَ مِنَ الْمَنْعِ مِنْ إِشْرَافِهِمْ عَلَى الْمُسْلِمِينَ كَمَا يُؤْخَذُ الْمُسْلِمُ بِالْمَنْعِ عَنْ إِشْرَافِهِ عَلَى جَارِهِ الْمُسْلِمِ وَيُؤْمَرُ بِالتَّحْجِيرِ، وَإِنْ لَمْ يُؤْمَرْ بِهِ الْمُسْلِمُ: لِأَنَّ الْمُسْلِمَ مَأْمُونٌ وَهُمْ غَيْرُ مَأْمُونِينَ.

.فصل: [في إعادة بناء مساكنهم بعد استهدامها]:

وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ: وَهُوَ أَنْ يُعِيدُوا أَبْنِيَةَ مَسَاكِنِهِمْ بَعْدَ اسْتِهْدَامِهَا أهل الذمة، فَفِيهَا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ يَصِيرُونَ كَالْمُسْتَأْنِفِينَ لِبِنَائِهَا، فَيُمْنَعُوا مِنَ الِاسْتِعْلَاءِ بِهَا عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنْ كَانَتْ عَالِيَةً قَبْلَ هَدْمِهَا، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ إِذَا اسْتُهْدِمَتْ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَتِهَا بَعْدَ الْهَدْمِ إِلَى مَا كَانَتْ عَلَيْهِ قَبْلَ الْهَدْمِ مِنَ الْعُلُوِّ الطَّائِلِ، وَهَذَا عَلَى الْوَجْهِ الَّذِي تَقُولُ فِيهِ إِنَّهُمْ لَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِعَادَةِ بِيَعِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ إِذَا اسْتُهْدِمَتْ. فَأَمَّا إِذَا أَرَادُوا أَنْ يَرْتَفِقُوا فِي أَبْنِيَتِهِمْ- بِإِخْرَاجِ الرَّوَاشِينَ وَالْأَجْنِحَةِ إِلَى طُرُقِ السَّابِلَةِ فَفِيهَا وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: لَا يُمْنَعُونَ ارْتِفَاقَهُمْ بِهَا كَالْمُسْلِمِينَ، لِاشْتِرَاكِهِمْ فِي اسْتِطْرَاقِهَا.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يُمْنَعُونَ مِنْهَا، وَإِنْ لَمْ يُمْنَعْ مِنْهَا الْمُسْلِمُونَ: لِأَنَّهَا طُرُقُ الْمُسْلِمِينَ دُونَهُمْ بِمَا يُمْنَعُونَ مِنْ إِحْيَاءِ الْمَوَاتِ الَّذِي لَا يُمْنَعُ مِنْهُ الْمُسْلِمُ، وَهَكَذَا الْقَوْلُ فِي آثَارِ حُشُوشِهِمْ إِذَا أَرَادُوا حَفْرَهَا فِي أَفَنِيَةِ دُورِهِمْ كَانَ عَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ.

.مسألة: يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَيْئَتِهِمْ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَبَيْنَ هَيْئَاتِ الْمُسْلِمِينَ:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَأَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ هَيْئَتِهِمْ فِي الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ وَبَيْنَ هَيْئَاتِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يَعْقِدُوا الزَّنَانِيرَ عَلَى أَوْسَاطِهِمْ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ أَهْلِ الذِّمَّةِ وَالْمُسْلِمِينَ فِي هَيْئَاتِ الْمَلْبَسِ وَالْمَرْكَبِ، فَيُؤْخَذُونَ بِهِ فِي عَقْدِ ذِمَّتِهِمْ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ، لِيَتَمَيَّزُوا بِهِ، فَيُعْرَفُوا، وَلَا يَتَشَبَّهُوا بِالْمُسْلِمِينَ، فَيَخْفَوْا، لِمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ، مِنِ افْتِرَاقِ الْأَحْكَامِ. وَالْفَرْقُ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْمُسْلِمِينَ فِي الْهَيْئَاتِ مُعْتَبَرٌ مِنْ ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهَا: فِي مَلَابِسِهِمْ. وَالثَّانِي: فِي أَبْدَانِهِمْ.
وَالثَّالِثُ: فِي مَوَاكِبِهِمْ. فَأَمَّا الْمُعْتَبَرُ فِي مَلَابِسِهِمْ أي أهل الذمة فَالِاخْتِيَارُ أَنْ يُجْمَعَ فِيهِ بَيْنَ أَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: لُبْسُ الْغِيَارِ. وَالثَّانِي: شَدُّ الزُّنَّارِ. فَأَمَّا الْغِيَارُ: فَهُوَ أَنْ يُغَيِّرُوا لَوْنَ ثَوْبٍ وَاحِدٍ مِنْ مَلَابِسِهِمْ لَا يَلْبَسُ الْمُسْلِمُونَ مِثْلَ لَوْنِهِ، إِمَّا فِي عَمَائِمِهِمْ، وَإِمَّا فِي قُمُصِهِمْ، وَيَكُونُوا فِيمَا سِوَاهُ مِثْلَ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُفَرَّقُ بَيْنَ غِيَارِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، لِيَتَمَيَّزُوا، وَعَادَةُ الْيَهُودِ أَنْ يَكُونَ غِيَارُهُمِ الْعَسَلِيَّ، وَهُوَ الْمَائِلُ إِلَى الصُّفْرَةِ كَالْعَسَلِ، وَرُبَّمَا غَيَّرُوا بِنَوْعٍ مِنَ الْأَزْرَقِ يُخَالِفُ مَعْهُودَ الْأَزْرَقِ، وَغِيَارُ النَّصَارَى أَنْ يَكُونَ غِيَارُهُمُ الْأَدْكَنَ، وَهُوَ نَوْعٌ مِنَ الْفَاخِتِيِّ، وَرُبَّمَا غَيَّرُوا بِنَوْعٍ مِنَ الصُّوفِ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الْأَلْوَانُ شَرْطًا لَا يُتَجَاوَزُ إِنَّمَا الِاعْتِبَارُ بِلَوْنٍ مُتَمَيِّزٍ، فَإِذَا صَارَ مَأْلُوفًا مُنِعُوا مِنَ الْعُدُولِ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ، لِئَلَّا يَقَعَ الِاشْتِبَاهُ وَالْإِشْكَالُ، فَإِنْ تَشَابَهَ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي لَوْنِ الْغِيَارِ جَازَ، وَإِنْ كَانَ تَمَيُّزُهُمْ فِيهِ أَوْلَى. وَأَمَّا الزُّنَّارُ فَهُوَ كَالْخَيْطِ الْمُسْتَغْلِظِ يَشُدُّونَهُ فِي أَوْسَاطِهِمْ فَوْقَ ثِيَابِهِمْ، وَأَرْدِيَتِهِمْ، وَيُمْنَعُوا أَنْ يَسْتَبْدِلُوا بِشَدِّ الْمَنَاطِقِ وَالْمِنْدِيلِ: لِأَنَّ الْمِنْطَقَةَ مِنْ لُبْسِ الْمُتَخَصِّصِينَ بِالرُّتَبِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، وَالْمَنَادِيلِ فِي الْأَوْسَاطِ مِنْ لُبْسِ ذَوِي الصَّنَائِعِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، فَلَمْ يَتَمَيَّزْ بِهَا أَهْلُ الذِّمَّةِ، وَجَمِيعُ الْأَلْوَانِ مِنَ الزَّنَانِيرِ سَوَاءٌ بِخِلَافِ الْغِيَارِ: لِأَنَّ أَصْلَ الزُّنَّارِ كَالْغِيَارِ. فَإِنْ شُرِطَ عَلَى أَهْلِ الذِّمَّةِ أَحَدُ الْأَمْرَيْنِ فِي غِيَارٍ أَوْ زُنَّارٍ جَازَ: لِأَنَّهُمْ يَتَمَيَّزُونَ بِهِ، وَإِنْ شَرَطَ عَلَيْهِمُ الْجَمْعَ بَيْنَ الْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ أَخَذُوا بِهِمَا مَعًا: لِأَنَّهُ أَبْلَغُ فِي التَّمَيُّزِ مِنْ أَحَدِهِمَا. فَأَمَّا نِسَاءُ أَهْلِ الذِّمَّةِ، فَيُؤْخَذْنَ بِلُبْسِ الْغِيَارِ فِي الْخِمَارِ الظَّاهِرِ الَّذِي يُشَاهَدُ، وَيَلْبَسْنَ خُفَّيْنِ مِنْ لَوْنَيْنِ أَحَدُهُمَا: أَسْوَدُ، وَالْآخَرُ: أَحْمَرُ أَوْ أَبْيَضُ، لِيَتَمَيَّزَ نِسَاؤُهُمْ عَنْ نِسَاءِ الْمُسْلِمِينَ، وَيُؤْخَذْنَ بِشَدِّ الزُّنَّارِ دُونَ الْخِمَارِ، لِئَلَّا تَصِفَهَا بِثِيَابِهَا بَعْدَ أَنْ يَكُونَ ظَاهِرًا، فَإِنِ اقْتَصَرَ فِي النِّسَاءِ عَلَى التَّمَيُّزِ بِأَحَدِهِمَا جَازَ، وَإِنْ كَانَ الْجَمْعُ بَيْنَ الثَّلَاثَةِ أَوْلَى، فَإِنْ لَبِسَ أَهْلُ الذِّمَّةِ الْعَمَائِمَ وَالطَّيَالِسَةَ، لَمْ يُمْنَعُوا. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ وَأَحْمَدُ بْنُ حَنْبَلٍ: يُمْنَعُونَ مِنْ لُبْسِ الْعَمَائِمِ وَالطَّيَالِسَةِ: لِأَنَّهَا مِنْ أَجْمَلِ مَلَابِسِ الْمُسْلِمِينَ، وَهَذَا لَيْسَ بِصَحِيحٍ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ تَمَيُّزُهُمْ عَنِ الْمُسْلِمِينَ، فَإِذَا تَمَيَّزُوا بِالْغِيَارِ وَالزُّنَّارِ جَازَ أَنْ يُسَاوُوهُمْ فِي صِفَاتِ مَلَابِسِهِمْ كَمَا يُسَاوُوهُمْ فِي أَنْوَاعِ مَأْكَلِهِمْ.
وَأَمَّا لُبْسُ فَاخِرِ الدِّيبَاجِ وَالْحَرِيرِ، فَلَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ فِي مَنَازِلِهِمْ، وَفِي مَنْعِهِمْ مِنْهُ ظَاهِرًا وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُمْنَعُونَ مِنْهُ لِمَا فِيهِ مِنَ التَّطَاوُلِ بِهِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُمْنَعُونَ مِنْهُ كَمَا لَا يُمْنَعُونَ مِنْ فَاخِرِ الثِّيَابِ الْقُطْنِ وَالْكَتَّانِ، وَلِأَنَّهُمْ يَصِيرُونَ مُتَمَيِّزِينَ بِلُبْسِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ، لِتَحْرِيمِ لُبْسِهِ عَلَيْهِمْ.