فصل: مسألة: (في دخول أهل الحرب لبلاد الإسلام تجارا):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسألة: [في دخول أهل الحرب لبلاد الإسلام تجارا]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وَلَا يُتْرَكْ أَهْلُ الْحَرْبِ يَدْخُلُونَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ تُجَّارًا فَإِنْ دَخَلُوا بِغَيْرِ أَمَانٍ وَلَا رِسَالَةٍ غُنِمُوا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ. يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يُرَاعِيَ ثُغُورَ الْمُسْلِمِينَ الْمُتَّصِلَةَ بِدَارِ الْحَرْبِ مِنْ دُخُولِ الْمُشْرِكِينَ إِلَيْهَا: لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمَنُونَ عَلَيْهَا مِنْ غِرَّةٍ يَظْفَرُونَ بِهَا أَوْ مَكِيدَةٍ يُوقِعُونَهَا، وَمَنْ دَخَلَهَا مِنْهُمْ، فَهُوَ حَرْبٌ مَغْنُومٌ يَتَحَكَّمُ الْإِمَامُ فِيهِ بِخِيَارِهِ مِنْ قَتْلِهِ أَوِ اسْتِرْقَاقِهِ أَوْ فِدَائِهِ أَوِ الْمَنِّ عَلَيْهِ إِلَّا فِي حَالَتَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ رَسُولًا لِلْمُشْرِكِينَ فِيمَا يَعُودُ بِمَصْلَحَةِ الْمُسْلِمِينَ مِنْ صُلْحٍ يُجَدَّدُ أَوْ هُدْنَةٍ تُعْقَدُ أَوْ فِدَاءِ أَسْرَى: لِقَوْلِ اللَّهِ تعالى: {وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ} [التَّوْبَةِ: 6]. قِيلَ: إِنَّهَا فِي الْمُرْسَلِ فَيَكُونُ لَهُ بِالرِّسَالَةِ أَمَانٌ عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، لَا يَحْتَاجُ مَعَهَا إِلَى اسْتِئْنَافِ أَمَانٍ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ رَسُولًا فِي وَعِيدٍ وَتَهْدِيدٍ، فَلَا يَكُونُ أَمَانٌ، وَيَكُونُ حَرْبًا يَفْعَلُ فِيهِ الْإِمَامُ مَا يَرَاهُ مِنَ الْأُمُورِ الْأَرْبَعَةِ: لِأَنَّ فِي هَذِهِ الرِّسَالَةِ مَضَرَّةً، وَفِي الْأُولَى مَنْفَعَةً فَصَارَ بِالْمَنْفَعَةِ مُوَالِيًا: فَأَمِنَ، وَبِالْمَضَرَّةِ مُعَادِيًا، فَغُنِمَ. فَلَوِ ادَّعَى وَقَدْ دَخَلَ بِلَادَ الْإِسْلَامِ أَنَّهُ رَسُولٌ نُظِرَ فِي دَعْوَاه. فَإِنْ عُلِمَ صِدْقُهُ فِيهَا كَانَ آمِنًا، وَإِنْ عُلِمَ كَذِبُهُ فِيهَا كَانَ مَغْنُومًا، وَإِنْ أَشْبَهَتْ حَالُهُ قُبِلَ قَوْلُهُ، وَكَانَ آمِنًا، وَلَمْ يَلْزَمْ إِحْلَافُهُ عَلَى الرِّسَالَةِ: لِأَنَّهُ مُبَلِّغٌ {مَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلَاغُ} [الْمَائِدَةِ: 99].
وَلَا يَجُوزُ إِذَا دَخَلَ الرُّسُلُ بِلَادَ الْإِسْلَامِ ماذا لهم وماذا عليهم أَنْ يُظْهِرُوا فِيهَا مُنْكَرًا مِنْ صُلْبَانِهِمْ، وَخُمُورِهِمْ، وَخَنَازِيرِهِمْ، وَجَوَّزَ لَهُمْ أَبُو حَنِيفَةَ إِظْهَارَ خُمُورِهِمْ وَخَنَازِيرِهِمْ: لِأَنَّهَا عِنْدَهُ مِنْ جُمْلَةِ أَمْوَالِهِمُ الْمَضْمُونَةِ الِاسْتِهْلَاكِ وَهَذَا فَاسِدٌ: لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: «الْإِسْلَامُ يَعْلُو وَلَا يُعْلَى».
وَالْحَالُ الثَّانِيَةُ: أَنْ يَكُونَ لِهَذَا الدَّاخِلِ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ إلى دَارَ الْإِسْلَامِ: حقوقه أَمَانٌ يَدْخُلُ بِهِ دَارَ الْإِسْلَامِ، فَيَصِيرُ آمِنًا عَلَى نَفْسِهِ وَمَالِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يَتَوَلَّاهُ إِلَّا الْإِمَامُ أَوْ مَنْ نَابَ عَنْهُ من يتولى عقد الأمان مِنْ أُولِي الْأَمْرِ: لِأَنَّهُ أَعْرَفُ بِالْمَصْلَحَةِ مِنْ أَشْذَاذٍ وَأَقْدَرُ عَلَى الِاحْتِرَازِ مِنْ كَيْدِهِ، فَإِنْ قَدَّرَ لَهُ الْإِمَامُ مُدَّةَ الْأَمَانِ أُقِرَّ عَلَيْهَا إِلَى انْقِضَائِهَا مَا انْتَهَتْ إِلَى أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ، وَلَا يَبْلُغُ بِهِ سَنَةً إِلَّا بِجِزْيَةٍ، وَفِيمَا بَيْنَ الْأَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ وَالسَّنَةِ قَوْلَانِ مَضَيَا.
وَلَا تُنْقَضُ عَلَيْهِ مُدَّةُ أَمَانِهِ، وَلَا يَخْرُجُ قَبْلَ انْقِضَائِهَا إِلَّا بِمُوجِبٍ لِنَقْضِ الْأَمَانِ: لِوُجُوبِ الْوَفَاءِ بِالْعُقُودِ، فَإِنْ كَانَ الَّذِي أَمَّنَهُ فِي دُخُولِهِ رَجُلٌ مِنْ جُمْلَةِ الْمُسْلِمِينَ هل يصح أمانه كَانَ أَمَانُهُ مَقْصُورًا عَلَى حَقْنِ دَمِهِ وَمَالِهِ دُونَ مُقَامِهِ، وَنَظَرَ الْإِمَامُ فِي حَالِهِ، فَإِنْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِقْرَارَهُ أَقَرَّهُ عَلَى الْأَمَانِ، وَقَرَّرَ لَهُ مُدَّةَ مُقَامِهِ، وَلَمْ يَكُنْ لِمَنْ أَمَّنَهُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ تَقْدِيرُ مُدَّتِهِ، وَإِنْ لَمْ يَرَ الْإِمَامُ مِنَ الْمَصْلَحَةِ إِقْرَارَهُ فِي دَارِ الْإِسْلَامِ أَخْرَجَهُ مِنْهَا آمِنًا حَتَّى يَصِلَ إِلَى مَأْمَنِهِ ثُمَّ يَصِيرُ حَرْبًا، فَيَكُونُ أَمَانُ الْمُسْلِمِ لَهُ مُوجِبًا لِحَقْنِ دَمِهِ وَلِمُقَامِهِ، وَإِقْرَارِهِ، فَافْتَرَقَا فِي الْحُكْمِ مِنْ وَجْهٍ، وَاجْتَمَعَا فِيهِ مِنْ وَجْهٍ.

.فصل: [فيما إِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانِ الْإِمَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ]:

وَإِذَا دَخَلَ الْحَرْبِيُّ بِأَمَانِ الْإِمَامِ ثُمَّ عَادَ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ انْقَضَى حُكْمُ أَمَانِهِ، فَإِنْ عَادَ ثَانِيَةً بِغَيْرِ أَمَانٍ غُنِمَ حَتَّى يَسْتَأْنِفَ أَمَانًا: لِأَنَّهُ خَاصٌّ. فَلَمْ يَتَكَرَّرْ، فَلَوْ عَقَدَ لَهُ الْأَمَانَ عَلَى تَكْرَارِ الدُّخُولِ صَحَّ اعْتِبَارًا بِصَرِيحِ الْعَقْدِ، وَكَانَ فِي عَوْدِهِ وَتَرَدُّدِهِ آمِنًا يُقِيمُ فِي كُلِّ دَفْعَةٍ مَا شُرِطَ لَهُ مِنَ الْمُدَّةِ وَإِذَا كَانَ أَمَانُ الْحَرْبِيِّ مِنْ قِبَلِ الْإِمَامِ كَانَ عَامًّا فِي جَمِيعِ بِلَادِ الْإِسْلَامِ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَهُ مَقْصُورًا عَلَى بَلَدٍ بِعَيْنِهِ، فَلَا يَصِيرُ آمِنًا فِي غَيْرِهِ، وَإِذَا كَانَ أَمَانُهُ مِمَّنِ اسْتَنَابَهُ الْإِمَامُ كَانَ عَامًّا فِي بِلَادِ وِلَايَتِهِ وَلَا يَكُونُ عَامًّا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا: لِأَنَّ وِلَايَةَ الْإِمَامِ عَامَّةٌ، وَوِلَايَةَ النَّائِبِ عَنْهُ خَاصَّةٌ، وَإِذَا كَانَ أَمَانُهُ مِنْ جِهَةِ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ كَانَ أَمَانُهُ مَقْصُورًا عَلَى بَلَدِهِ خَاصَّةً، وَفِيمَا كَانَ طَرِيقًا لَهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ: لِأَنَّ الْأَمَانَ يَقْتَضِي عَوْدَهُ إِلَى مَأْمَنِهِ، وَلَا يَكُونُ لَهُ أَمَانٌ إِنْ يَتَجَاوَزْ ذَلِكَ إِلَى غَيْرِهِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَإِذَا دَخَلَ حَرْبِيٌّ دَارَ الْإِسْلَامِ وَادَّعَى أَنَّهُ دَخَلَهَا بِأَمَانِ مُسْلِمٍ، فَإِنْ كَانَ مَنِ ادَّعَى أَمَانَهُ حَاضِرًا رَجَعَ إِلَى قَوْلِهِ، فَإِنْ صَدَّقَهُ عَلَى الْأَمَانِ قُبِلَ قَوْلُهُ: لِأَنَّهُ لَوْ أَمَّنَهُ فِي حَالِ تَصْدِيقِهِ صَحَّ أَمَانُهُ، وَإِنْ أَكْذَبَهُ عَلَى الْأَمَانِ كَانَ الْحَرْبِيُّ مَغْنُومًا، وَإِنْ كَانَ مَنِ ادَّعَى أَمَانَهُ غَائِبًا فَفِي قَبُولِ قَوْلِ الْحَرْبِيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُقْبَلُ قَوْلُهُ، وَيَكُونُ آمِنًا كَمَا يُقْبَلُ قَوْلُ مَنِ ادَّعَى الرِّسَالَةَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُقْبَلُ وَإِنْ قُبِلَ فِي الرِّسَالَةِ: لِأَنَّ إِقَامَةَ الْبَيِّنَةِ عَلَى الرِّسَالَةِ مُتَعَذِّرٌ فَقُبِلَ قَوْلُهُ فِيهَا، وَإِقَامَتُهَا عَلَى الْأَمَانِ مُمْكِنَةٌ، فَلَمْ يُقْبَلْ قَوْلُهُ فِيهِ.

.مسألة: [إِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشُرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عُشْرٌ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ أُخِذَ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فَإِنْ دَخَلُوا بِأَمَانٍ وَشُرِطَ عَلَيْهِمْ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُمْ عُشْرٌ أَوْ أَقَلُّ أَوْ أَكْثَرُ أُخِذَ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَجُمْلَتُهُ أَنَّهُ يَجِبُ عَلَى الْإِمَامِ أَنْ يَشْتَرِطَ فِي مَتَاجِرِ أَهْلِ الْحَرْبِ إِذَا دَخَلُوا بِلَادَ الْإِسْلَامِ لِمَنَافِعِهِمْ، وَكَانَ انْقِطَاعُهَا عَنِ الْمُسْلِمِينَ غَيْرَ ضَارٍّ بِهِمْ حَتَّى يَأْخُذَهُ الْإِمَامُ مِنْهُمْ مِنْ عُشْرٍ أَوْ أَقَلَّ أَوْ أَكْثَرَ بِحَسَبِ مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ يَكُونُ عِبْئًا مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ: لِأَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه صَالَحَ أَهْلَ الْحَرْبِ فِي حَمْلِ مَتَاجِرِهِمْ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ عَلَى الْعُشْرِ، وَصَالَحَ أَهْلَ الذِّمَّةِ فِي حَمْلِهَا إِلَى الْمَدِينَةِ عَلَى نِصْفِ الْعُشْرِ لِيَكُونَ ذَلِكَ ضِعْفَ مَا يُؤْخَذُ فِي زَكَاةِ الْمُسْلِمِ مِنْ رُبْعِ الْعُشْرِ: وَلِأَنَّ الْإِمَامَ مَنْدُوبٌ إِلَى تَوْفِيرِ مَا يَصِلُ إِلَى الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَمْوَالِ الْمُشْرِكِينَ إِمَّا بِغَنِيمَةٍ إِنْ قُهِرُوا، وَإِمَّا بِجِزْيَةٍ وَخَرَاجٍ إِنْ صُولِحُوا، فَكَذَلِكَ عُشْرُ أَمْوَالِهِمْ إِذَا اتَّجَرُوا، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الشُّرُوطِ الْوَاجِبَةِ عَلَيْهِمْ كَانَ الْعُرْفُ الَّذِي عَمِلَ بِهِ الْأَئِمَّةُ الْعُشْرَ، وَلَيْسَ بِحَدٍّ لَا يَجُوزُ مُجَاوَزَتُهُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ: لِأَنَّهُ مَوْقُوفٌ عَلَى مَا يُؤَدِّي إِلَيْهِ الِاجْتِهَادُ الْمُعْتَبَرُ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: فِي كَثْرَةِ الْحَاجَةِ إِلَيْهِ وَقِلَّتِهَا، فَإِنْ كَثُرَتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالْأَقْوَاتِ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَقَلَّ، وَإِنْ قَلَّتِ الْحَاجَةُ إِلَيْهِ كَالطَّرَفِ وَالدَّقِيقِ كَانَ الْمَأْخُوذُ مِنْهُ أَكْثَرَ، فَإِنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَ مِنْ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ، وَأَخَذَ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّبِيبِ نِصْفَ الْعُشْرِ. وَالثَّانِي: الرُّخْصُ وَالْغَلَاءُ، فَإِنْ كَانَ انْقِطَاعُهَا يُحْدِثُ الْغَلَاءَ كَانَ الْمَأْخُوذُ أَقَلَّ، وَإِنْ كَانَ لَا يُحْدِثُ الْغَلَاءَ كَانَ الْمَأْخُوذُ أَكْثَرَ، وَإِذَا كَانَ الِاجْتِهَادُ فِيهِ مُعْتَبَرًا مِنْ هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ عَمِلَ الْإِمَامُ فِي تَقْرِيرِهِ عَلَى مَا يُؤَدِّيهِ اجْتِهَادُهُ إِلَيْهِ، فَإِنْ رَأَى مِنَ الْمَصْلَحَةِ اشْتِرَاطَ الْعُشْرِ فِي جَمِيعِهَا فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى اشْتِرَاطَ نِصْفِ الْعُشْرِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى اشْتِرَاطَ الْخُمُسِ فَعَلَ، وَإِنْ رَأَى أَنْ يُنَوِّعَهَا بِحَسَبِ الْحَاجَةِ إِلَيْهَا، فَيَشْرِطَ فِي نَوْعٍ مِنْهَا الْخُمُسَ، وَفِي نَوْعٍ الْعُشْرَ، وَفِي نَوْعٍ نِصْفَ الْعُشْرِ فَعَلَ، وَصَارَ مَا انْعَقَدَ شَرْطُهُ عَلَيْهِ حَقًّا وَاجِبًا فِي مَتَاجِرِهِمْ مَا أَقَامُوا عَلَى صُلْحِهِمْ، كَالْجِزْيَةِ لَا يَجُوزُ لِغَيْرِهِ مِنَ الْأَئِمَّةِ أَنْ يَنْقُضَهُ إِلَى زِيَادَةٍ أَوْ نُقْصَانٍ، فَإِنْ نَقَضُوا شَرْطَهُمْ بَطَلَ حُكْمُ الشَّرْطِ بِنَقْضِهِمْ، وَجَازَ اسْتِئْنَافٌ وَصُلْحٌ مَعَهُمْ يَبْتَدِئُهُ بِمَا يَرَاهُ مِنْ زِيَادَةٍ عَلَى الْأَوَّلِ أَوْ نُقْصَانٍ مِنْهُ.

.فصل: [في أخذ العشر]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ حَالُ الْعُشْرِ مِنْ أَنْ يَكُونَ مَشْرُوطًا فِي عَيْنِ الْمَالِ أَوْ يَكُونَ فِي ذِمَمِهِمْ عَنِ الْمَالِ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي الْمَالِ وَجَبَ عَلَى كُلِّ مَنْ حَمَلَهُ إِلَى بِلَادِ الْإِسْلَامِ مِنْ حَرْبِيٍّ وَذِمِّيٍّ وَمُسَالِمٍ، أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهُ الْعُشْرُ، وَلَا يَمْنَعُ الْإِسْلَامُ مِنْ أَخْذِهِ، وَلَا يَكُونُ أَخْذُهُ مِنَ الْمُسْلِمِ جِزْيَةً، إِنَّمَا يَكُونُ ثَمَنًا يُضَافُ إِلَى الثَّمَنِ الَّذِي ابْتَاعَهُ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَيَكُونُ مَا أَدَّاهُ إِلَيْهِمْ تِسْعَةُ أَعْشَارِ ثَمَنِهِ، وَمَا أَدَّاهُ إِلَى الْإِمَامِ عُشْرُ الثَّمَنِ أَوْ عُشْرُ الْأَصْلِ، وَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا فِي ذِمَمِهِمْ لِأَجْلِ الْمَالِ، وَعَنْهُ أُخِذَ عُشْرَهُ مِنَ الْحَرْبِيِّ إِذَا حَمَلَهُ وَلَمْ يُؤْخَذْ مِنَ الْمُسْلِمِ: لِأَنَّهُ جِزْيَةٌ مَحْضَةٌ. وَفِي أَخْذِهِ مِنَ الذِّمِّيِّ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُؤْخَذُ مِنْهُ لِشِرْكِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُؤْخَذُ مِنْهُ لِجَرَيَانِ حُكْمِ الْإِسْلَامِ عَلَيْهِ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا اتَّجَرَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ: لِأَنَّ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةٌ مِنْهُ عَنْ نَفْسِهِ وَعَنْ مَالِهِ، إِلَّا أَنْ يَدْخُلَ تَاجِرًا إِلَى الْحِجَازِ فَيُمْنَعَ مِنْ دُخُولِهِ إِلَّا بِمَا يُشْتَرَطُ عَلَيْهِ مِنْ عُشْرِ مَالِهِ: لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنِ اسِتِيطَانِ الْحِجَازِ فَمُنِعَ مِنَ التِّجَارَةِ فِيهِ إِلَّا مَعْشُورًا، وَهُوَ لَا يُمْنَعُ مِنِ اسْتِيطَانِ غَيْرِهِ، فَلَمْ يُعْشَرْ.

.مسألة: [في اشتراط العشر]:

قَالَ الشَافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: فَإِنْ لَمْ يَكُنْ شُرِطَ عَلَيْهِمْ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ شَيْءٌ، وَسَوَاءٌ كَانُوا يَعْشِرُونَ الْمُسْلِمِينَ إِذَا دَخَلُوا بِلَادَهُمْ أَوْ يُخَمِّسُونَهُمْ أَوْ لَا يَعْرِضُونَ لَهُمْ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ إِذَا دَخَلَ أَهْلُ الْحَرْبِ بِأَمَانٍ، وَلَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ عُشُورُ أَمْوَالِهِمْ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ فِيهَا إِذَا حَمَلُوهَا مَعَهُمْ، وَلَا وَجْهَ لِمَا قَالَهُ بَعْضُ أَصْحَابِنَا أَنَّهُمْ يَعْشِرُونَ اعْتِبَارًا بِالْعُرْفِ الْمَعْهُودِ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: يُفْعَلُ مَعَهُمْ مَا يَفْعَلُونَهُ مَعَ تُجَّارِنَا إِذَا دَخَلُوا إِلَيْهِمْ، فَإِنْ كَانُوا يَعْشِرُونَهُمْ عُشِرُوا، وَإِنْ كَانُوا يَخْمِسُونَهُمْ خُمِسُوا، وَإِنْ كَانُوا يَتْرُكُونَهُمْ تُرِكُوا: لِأَنَّهَا عُقُوبَةٌ، وَقَدْ قال الله تعالى: {وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ} [النَّحْلِ: 126] وَهَذَا خَطَأٌ: لِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الْمُسْلِمُونَ عَلَى شُرُطِهِمْ: وَلِأَنَّ عُمَرَ لَمْ يَأْخُذْ عُشْرَهُمْ إِلَّا بَعْدَ اشْتِرَاطِهِ عَلَيْهِمْ: وَلِأَنَّهُ مَالٌ مَأْخُوذٌ عَنْ أَمَانٍ، فَلَمْ يَلْزَمْ بِغَيْرِ شَرْطٍ كَالْجِزْيَةِ: وَلِأَنَّ عُلُوَّ الْإِسْلَامِ يَمْنَعُ مِنْ الِاقْتِدَاءِ بِهِمْ كَمَا يُقْتَدَى بِهِمْ فِي الْغَدْرِ إِنْ غَدَرُوا، فَأَمَّا الْآيَةُ فَوَارِدَةٌ فِي الِاقْتِصَاصِ مِمَّنْ مُثِّلَ بِهِ مِنْ قَتْلَى أُحُدٍ، ثُمَّ قَالَ: {وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ} [النَّحْلِ: 126].

.مسألة: [في أن العشر لا يؤخذ في السنة إلا مرة واحدة كالجزية]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وَإِذَا اتَّجَرُوا فِي بِلَادِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى أُفُقٍ مِنَ الْآفَاقِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُمْ فِي السَّنَةِ إِلَّا مَرَّةً كَالْجِزْيَةِ، وَقَدْ ذُكِرَ عَنْ عُمَرَ بْنِ عَبْدِ الْعَزِيزِ أَنَّهُ كَتَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِمَّا ظَهَرَ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْوَالِ الْمُسْلِمِينَ، وَأَنْ يُكْتَبَ لَهُمْ بَرَاءَةٌ إِلَى مِثْلِهِ مِنَ الْحَوْلِ، وَلَوْلَا أَنَّ عُمَرَ رضي الله عنه أَخَذَهُ مِنْهُمْ مَا أَخَذْنَاهُ، وَلَمْ يَبْلُغْنَا أَنَّهُ أَخَذَ مِنْ أَحَدٍ فِي سَنَةٍ إِلَّا مَرَّةً (قَالَ:) وَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ مَا أَخَذَ عُمَرُ مِنَ الْمُسْلِمِينَ رُبُعُ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ نِصْفُ الْعُشْرِ، وَمِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ الْعُشْرُ اتْبَاعًا لَهُ عَلَى مَا أَخَذَ (قَالَ الْمُزَنِيُّ)- رَحِمَهُ اللَّهُ-: قَدْ رَوَى الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ- عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه مِنَ حَدِيثٍ صَحِيحِ الْإِسْنَادِ أَنَّهُ أَخَذَ مِنَ النَبَطِ مِنَ الْحِنْطَةِ وَالزَّيْتِ نِصْفَ الْعُشْرِ، يُرِيدُ بِذَلِكَ أَنْ يَكْثُرَ الْحَمْلُ إِلَى الْمَدِينَةِ وَمِنَ الْقُطْنِيَّةِ الْعُشْرَ (قَالَ الشَّافِعِيُّ:) وَلَا أَحْسَبُهُ أَخَذَ ذَلِكَ مِنْهُمْ إِلَّا بِشَرْطٍ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، إِذَا أَخَذَ مِنَ الْحَرْبِيِّ عُشْرَ مَالِهِ فِي دُخُولِهِ، ثُمَّ نَقَلَهُ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ لَمْ يُعْشَرْ، وَكَذَلِكَ لَوْ طَافَ بِهِ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ: لِأَنَّهَا دَارٌ وَاحِدَةٌ، فَإِنَّهُ بَاعَ مَالَهُ وَاشْتَرَى بِهِ مَتَاعًا مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، وَأَرَادَ حَمْلَهُ إِلَى دَارِ الْحَرْبِ رُوعِيَ شَرْطُ صُلْحِهِمْ، فَإِنْ كَانَ مَشْرُوطًا عَلَيْهِمْ تَعْشِيرُ أَمْوَالِهِمْ مِنْ دُخُولِهِمْ وَخُرُوجِهِمْ عُشِرُوا خَارِجِينَ كَمَا عُشِرُوا دَاخِلِينَ. وَإِنْ لَمْ يُشْتَرَطْ عَلَيْهِمْ لَمْ يُعْشَرُوا فِي الْخُرُوجِ وَعُشِرُوا فِي الدُّخُولِ، وَإِذَا اتَّجَرُوا فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِمُ الْحَوْلُ، قَالَ الشَّافِعِيُّ: عُشِرُوا بَعْدَ انْقِضَاءِ الْحَوْلِ ثَانِيَةً، وَاعْتَبَرَهُمْ بِالْمُسْلِمِينَ فِي أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْهُمْ فِي كُلِّ حَوْلٍ، وَهَذَا عِنْدَهُ مُعْتَبَرٌ بِالشَّرْطِ الْمَعْقُودِ مَعَهُمْ، فَإِنْ تَضَمُّنَ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ فِي كُلِّ حَوْلٍ عُشِرُوا، وَإِنْ تَضَمَّنَ تَعْشِيرَهَا مَا حَمَّلُوهُ مِنْ دَارِ الْحَرْبِ لَمْ يُعْشَرُوا اعْتِبَارًا بِمُوجِبِ الشَّرْطِ. فَأَمَّا الذِّمِّيُّ إِذَا اتَّجَرَ فِي الْحِجَازِ بَعْدَ تَعْشِيرِ مَالِهِ حَتَّى حَالَ عَلَيْهِ الْحَوْلُ عُشِرَ ثَانِيَةً فِي كُلِّ حَوْلٍ: لِأَنَّ لِلذِّمِّيِّ فِي الْجِزْيَةِ حَوْلًا مُقَيَّدًا تَتَكَرَّرُ جِزْيَتُهُ فِيهِ، فَجُعِلَ أَصْلًا لِعَشْرِ مَالِهِ فِي كُلِّ حَوْلٍ، وَلَيْسَ هُوَ فِي حَوْلِ الْجِزْيَةِ أَصْلًا: وَلِأَنَّ أَحْكَامَ الْإِسْلَامِ جَارِيَةٌ عَلَى الذِّمِّيِّ دُونَ الْحَرْبِيِّ، فَلَمَّا اسْتَقَرَّ حُكْمُ الْإِسْلَامِ عَلَى أَخْذِ الزَّكَاةِ مِنْ مَالِ الْمُسْلِمِ فِي كُلِّ حَوْلٍ، صَارَ ذَلِكَ أَصْلًا فِي تَعْشِيرِ مَالِ الذِّمِّيِّ فِي الْحِجَازِ فِي كُلِّ حَوْلٍ. فَأَمَّا إِذَا اتَّجَرَ الذِّمِّيُّ فِي غَيْرِ الْحِجَازِ مِنْ بِلَادِ الْإِسْلَامِ، فَلَا عُشْرَ عَلَيْهِ لِجَوَازِ اسْتِيطَانِهِ لَهَا بِخِلَافِ بِلَادِ الْحِجَازِ الَّتِي لَا يَجُوزُ أَنْ يَسْتَوْطِنَهَا، فَإِنْ شَرَطَ الْإِمَامُ عَلَيْهِمْ ذَلِكَ حُمِلُوا عَلَى شُرُوطِهِ، وَكَانَ زِيَادَةً فِي جِزْيَتِهِمْ.

.مسألة: [فيما يُحَدِّدُه الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وَيُحَدِّدُ الْإِمَامُ بَيْنَهُ وَبَيْنَهُمْ فِي تِجَارَاتِهِمْ مَا يَبِينُ لَهُ وَلَهُمْ وَلِلْعَامَّةِ لِيَأْخُذَهُمْ بِهِ الْوُلَاةُ، وَأَمَّا الْحَرَمُ دخول أهل الذمة إليه فَلَا يَدْخُلَهُ مِنْهُمْ أَحَدٌ بِحَالٍ كَانَ لَهُ بِهَا مَالٌ أَوْ لَمْ يَكُنْ، وَيَخْرُجُ الْإِمَامُ مِنْهُ إِلَى الرُسُلِ، وَمَنْ كَانَ بِهَا مِنْهُمْ مَرِيضًا أَوْ مَاتَ في الحرم أُخْرِجَ مَيِّتًا وَلَمْ يُدْفَنْ بِهَا. وَرُوِيَ أَنَّهُ سَمِعَ عَدَدًا مِنْ أَهْلِ الْمَغَازِي يَرْوُونَ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: لَا يَجْتَمِعُ مُسْلِمٌ وَمُشْرِكٌ فِي الْحَرَمِ بَعْدَ عَامِهِمْ هَذَا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ، حَتَّى يَنْتَشِرَ فِي كَافَّةِ الْمُسْلِمِينَ، وَفِيهِمْ، يَزُولُ الْخِلَافُ مَعَهُمْ، فَإِذَا انْتَشَرَ فِي بِلَادِ الْإِسْلَامِ كُلِّهَا فِي عَصْرٍ بَعْدَ عَصْرٍ اكْتَفَى بِانْتِشَارِهِ عَنْ تَجْدِيدِهِ، فَإِنْ خِيفَ بِتَطَاوُلِ الزَّمَانِ أَنْ يُخْفَى جَدَّدَهُ، كَمَا يَفْعَلُ الْحُكَّامُ فِي الْوُقُوفِ إِذَا خِيفَ دُرُوسُهَا جَدَّدُوا الْإِسْجَالَ بِهَا: لِتَكُونَ حُجَجُ سَبِيلِهَا دَائِمَةَ الثُّبُوتِ.

.فصل: [فيما إِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ بِحَادِثٍ اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ]:

وَإِذَا رَأَى الْإِمَامُ أَنْ يُسْقِطَ عَنْ أَهْلِ الْحَرْبِ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ بِحَادِثٍ اقْتَضَاهُ نَظَرُهُ مِنْ جَدَبٍ أَوْ قَحْطٍ أَوْ لِخَوْفٍ مِنْ قُوَّةٍ تَجَدَّدَتْ لَهُمْ جَازَ إِسْقَاطُهُ عَنْهُمْ، وَلَوْ رَأَى إِسْقَاطَ الْجِزْيَةِ عَنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ لَمْ يَجُزْ إِسْقَاطُهَا: لِأَنَّ الْجِزْيَةَ نَصٌّ وَالْعُشْرَ اجْتِهَادٌ. وَإِذَا زَالَ السَّبَبُ الَّذِي تَرَّكَهُ تَعْشِيرَ أَمْوَالِهِمْ لَمْ يَأْخُذْهُمْ بِعُشْرِ مَا كَانُوا حَمَلُوهُ، وَنَظَرَ فِي التَّرْكِ: فَإِنْ كَانَ مُسَامَحَةً لَهُمْ أَخَذَ عُشْرَهُمْ بَعْدَ زَوَالِ السَّبَبِ بِالشَّرْطِ الْأَوَّلِ، وَإِنْ كَانَ إِسْقَاطًا لَمْ يَأْخُذْهُ بَعْدَ زَوَالِ سَبَبِهِ إِلَّا بِشَرْطٍ مُسْتَأْنَفٍ. وَإِذَا دَعَتِ الْإِمَامَ الضَّرُورَةُ فِي الِاسْتِعَانَةِ بِأَهْلِ الذِّمَّةِ عَلَى قِتَالِ أَهْلِ الْحَرْبِ أَنْ يَتْرُكَ عَلَيْهِمُ الْجِزْيَةَ: لِيَسْتَعِينُوا بِهَا عَلَى مَعُونَةِ الْمُسْلِمِينَ كَانَ الْأَوْلَى قَبْضُهَا مِنْهُمْ، وَرَدُّهَا عَلَيْهِمْ، فَإِنْ لَمْ يَفْعَلْ وَأَرْفَقَهُمْ بِتَرْكِهَا عَلَيْهِمْ جَازَ، وَكَانَ ذَلِكَ إِبْرَاءً مِنْهَا فِي وَقْتِهَا، وَلَمْ يَكُ إِسْقَاطًا لَهَا مِنْ أَصْلِهَا، فَإِذَا زَالَ السَّبَبُ عَادَ إِلَى أَخْذِهَا بِالْعَقْدِ الْأَوَّلِ.