فصل: فصل: (في وجوب الذب عن أهل الذمة):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فصل: [في وجوب الذب عن أهل الذمة]:

وَإِذَا عُقِدَتِ الذِّمَّةُ مَعَ قَوْمٍ وَجَبَ الذَّبُّ عن أهل الذمة عَنْهُمْ مِنْ كُلِّ مَنْ آذَاهُمْ مِنْ مُسْلِمٍ وَمُشْرِكٍ سَوَاءٌ اخْتَلَطُوا بِالْمُسْلِمِينَ أَوِ اعْتَزَلُوهُمْ، فَلَوْ عَجَّلَ الْإِمَامُ بِجِزْيَتِهِمْ، وَقَصَدَهُمُ الْعَدُوُّ، فَلَمْ يَذُبَّ عَنْهُمْ وَجَبَ عَلَيْهِ أَنْ يَرُدَّ مِنْ جِزْيَتِهِمْ مَا قَابَلَ زَمَانَ مُتَارَكَتِهِمْ مَعَ عَدُوِّهِمْ دُونَ مَا عَدَاهُ، فَإِنِ اشْتَرَطُوا فِي عَقْدِ صُلْحِهِمْ أَنْ لَا يَذُبَّ أَهْلَ الْحَرْبِ عَنْهُمْ لَمْ يَصِحَّ الشَّرْطُ إِنْ كَانُوا مُخْتَلِطِينَ بِالْمُسْلِمِينَ: لِئَلَّا يَتَعَدَّى ذَلِكَ إِلَى الْمُسْلِمِينَ، وَإِنِ اعْتَزَلُوا الْمُسْلِمِينَ بِقَرْيَةٍ انْفَرَدُوا بِسُكْنَاهَا، فَإِنْ كَانَ بَيْنَهُمْ مُسْلِمٌ أَوْ مَالُ مُسْلِمٍ، أَوْ كَانَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ دَارِ الْحَرْبِ قَرْيَةٌ لِلْمُسْلِمِينَ لَمْ يَصِحِّ هَذَا الشَّرْطُ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ فِيهِمْ، وَلَا فِيمَا بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَهْلِ الْحَرْبِ مُسْلِمٌ حُمِلُوا عَلَى الشَّرْطِ فِي مُتَارِكَتِهِمْ مَعَ أَهْلِ الْحَرْبِ، وَلَمْ يَلْزَمِ الذَّبُّ عَنْهُمْ إِلَّا أَنْ يَخَافَ عَلَيْهِمُ الِاصْطِلَامَ، فَيَلْزَمُ اسْتِنْقَاذُ نُفُوسِهِمْ دُونَ أَمْوَالِهِمْ: لِأَنَّ لِلذِّمَّةِ حَقًّا فِي حِفْظِهَا، وَسَقَطَ حِفْظُ أَمْوَالِهِمْ بِالشَّرْطِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.باب فِي نَصَارَى الْعَرَبِ تُضَعَّفُ عَلَيْهُمِ الصَّدَقَةُ وَمَسْلَكُ الْجِزْيَةِ:

.مَسْأَلَةٌ: [فِي نَصَارَى الْعَرَبِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: اخْتَلَفَتِ الْأَخْبَارُ عَنْ عُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ رضي الله عنه فِي نَصَارَى الْعَرَبِ مِنْ تَنُوخَ وَبَهْرَاءَ وَبَنِي تَغْلِبَ، فَرُوِيَ عَنْهُ أَنَّهُ صَالَحَهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهُمُ الْجِزْيَةَ وَلَا يُكْرَهُوا عَلَى غَيْرِ دِينِهِمْ، وَهَكَذَا حَفِظَ أَهْلُ الْمَغَازِي قَالُوا: رَامَهُمْ عُمَرُ عَلَى الْجِزْيَةِ فَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ، يَعْنُونَ الصَدَقَةَ فَقَالَ: عُمَرُ رضي الله عنه لَا، هَذَا فَرْضٌ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، فَقَالُوا: فَزِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسِمْ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ: فَرَاضَاهُمْ عَلَى أَنْ يُضَعِّفَ عَلَيْهِمُ الصَدَقَةَ، (قَالَ:) فَإِذَا ضَعَّفَهَا عَلَيْهِمْ فَانْظُرْ إِلَى مَوَاشِيهِمْ وَذَهَبِهِمْ وَوَرِقِهِمْ وَأَطْعِمَتِهِمْ وَمَا أَصَابُوا مِنْ مَعَادِنِ بِلَادِهِمْ وَرِكَازِهَا وَكُلِّ أَمْرٍ أُخِذَ فِيهِ مِنْ مُسْلِمٍ خُمْسٌ فَخُذْ خُمْسَيْنِ أَوْ عُشْرٌ فَخُذْ عُشْرَيْنِ أَوْ نِصْفُ عُشْرٍ فَخُذْ عُشْرًا أَوْ رُبُعُ عُشْرٍ فَخُذْ نِصْفَ عُشْرٍ، وَكَذَلِكَ مَاشِيَتُهُمْ خُذِ الضِّعْفَ مِنْهَا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: أَمَّا دِينُ الْعَرَبِ، فَلَمْ يَكُونُوا أَهْلَ كِتَابٍ، وَكَانُوا عَبَدَةَ أَوْثَانٍ، فَجَاوَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ الْيَهُودَ، فَتَهَوَّدُوا وَجَاوَرَتْ طَائِفَةٌ مِنْهُمُ النَّصَارَى، فَتَنَصَّرُوا، فَكَانَ فِي قَحْطَانَ بِالشَّامِ تَنُوخُ وَبَهْرَاءُ وَبَنُو تَغْلِبَ مُجَاوِرِينَ لِلنَّصَارَى، فَتَنَصَّرُوا، وَأَشْكَلَتْ حَالُهُمْ عِنْدَ فَتْحِ الشَّامِ عَلَى عُمَرَ رضي الله عنه هَلْ دَخَلُوا فِي النَّصْرَانِيَّةِ قَبْلَ التَّبْدِيلِ فَيُقَرُّونَ أَوْ بَعْدَ التَّبْدِيلِ مَعَ الْمُبَدِّلِينَ، فَلَا يُقَرُّونَ، فَغَلَّبَ فِيهِمْ حُكْمَ الْحَظْرِ فِي حَقْنِ دِمَائِهِمْ، وَتَحْرِيمِ مَنَاكِحِهِمْ وَذَبَائِحِهِمْ، فَأَقَرَّهُمْ عَلَى هَذَا، وَشَرَطَ عَلَيْهِمْ أَلَّا يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ، ثُمَّ طَالَبَهُمْ بِالْجِزْيَةِ حِينَ أَقَرَّهُمْ عَلَى النَّصْرَانِيَّةِ، فَأَبَوْا أَنَفَةً مِنْ ذُلِّ الْجِزْيَةِ، وَقَالُوا: نَحْنُ عَرَبٌ لَا نُؤَدِّي مَا يُؤَدِّي الْعَجَمُ، وَلَكِنْ خُذْ مِنَّا كَمَا يَأْخُذُ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ الصَّدَقَةَ، فَقَالَ عُمَرُ: لَا آخُذُ مِنْ مُشْرِكٍ صَدَقَةً فَرَضَهَا اللَّهُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ طُهْرَةً: فَنَفَرَ بَعْضُهُمْ وَلَحِقَ بِالرُّومِ، وَكَادَ الْبَاقُونَ أَنْ يَلْحَقُوا بِهِمْ، فَقَالَ عُبَادَةُ بْنُ النُّعْمَانِ التَّغْلِبِيُّ: يَا أَمِيرَ الْمُؤْمِنِينَ إِنَّ لِلْقَوْمِ بَأْسًا وَشِدَّةً، فَلَا تُعِزَّ عَدُوَّكَ بِهِمْ، وَخُذْ مِنْهُمُ الْجِزْيَةَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، فَأَعَادَ مَنْ رَحَلَ إِلَى مَنْ أَقَامَ، وَقَالُوا: زِدْ مَا شِئْتَ بِهَذَا الِاسْمِ لَا بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَرَاضَاهُمْ عُمَرُ عَلَى أَنْ أَضْعَفَ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةَ وَجَعَلُوهَا جِزْيَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، تُؤْخَذُ مِنْ أَمْوَالِهِمُ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ كَمَا تَجِبُ الصَّدَقَةُ عَلَى الْمُسْلِمِينَ فِي الْأَمْوَالِ الظَّاهِرَةِ وَالْبَاطِنَةِ مِنَ الْمَوَاشِي وَالزُّرُوعِ، وَالثِّمَارِ، وَالذَّهَبِ، وَالْفِضَّةِ، وَعَرُوضِ التِّجَارَةِ إِذَا بَلَغَتْ نِصَابًا، وَلَا شَيْءَ عَلَيْهِمْ دُونَ النِّصَابِ، وَلَا فِي الدُّورِ وَالْعَقَارِ، وَلَا فِي الْخَيْلِ، وَالْبِغَالِ، وَالْحَمِيرِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُمْ عَنْ كُلِّ خَمْسٍ مِنَ الْإِبِلِ شَاتَانِ، وَعَنْ كُلِّ ثَلَاثِينَ بَقَرَةً تَبِيعَانِ، وَعَلَى كُلِّ أَرْبَعِينَ شَاةً شَاتَانِ، وَعَمَّا سَقَتْهُ السَّمَاءُ مِنَ الزُّرُوعِ وَالثِّمَارِ الَّتِي يَجِبُ فِيهَا الْعُشْرُ الْخُمُسُ، وَعَمَّا سُقِيَ بِنَضْحٍ أَوْ غَرْبٍ يَجِبُ فِيهِ نِصْفُ الْعُشْرِ الْعُشْرُ، وَعَمَّا وَجَبَ فِيهِ رُبُعُ الْعُشْرِ مِنَ الْفِضَّةِ وَالذَّهَبِ نِصْفُ الْعُشْرِ، فَيُؤْخَذُ مِنْ عِشْرِينَ مِثْقَالًا مِنَ الذَّهَبِ مِثْقَالٌ، وَمِنْ مِائَتَيْ دِرْهَمٍ مِنَ الْوَرِقِ عَشَرَةُ دَرَاهِمَ، وَعَمَّا وَجَبَ فِيهِ الْخُمُسُ مِنَ الرِّكَازِ وَالْمَعَادِنِ الْخُمُسَيْنِ، فَكَانَ عَقْدُ صُلْحِهِمْ مَعَ عُمَرَ مُسْتَقِرًّا عَلَى هَذَا، وَحَمَلَهُمْ عَلَيْهِ بَعْدَ عُمَرَ عُثْمَانُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا وَعَلِيٌّ عليه السلام وَلَمْ يَمْنَعُوهُمْ أَنْ يُنَصِّرُوا أَوْلَادَهُمْ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ اشْتِرَاطَ ذَلِكَ عَلَيْهِمْ كَانَ إِرْهَابًا وَلَمْ يَكُنْ إِلْزَامًا.

.فصل: [في صُلْحِ عُمَرَ مع نصارى العرب]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَاهُ مِنْ صُلْحِ عُمَرَ، فَهُوَ شَيْءٌ يَزِيدُ، وَيَنْقُصُ بِكَثْرَةِ الْمَالِ وَقِلَّتِهِ، وَيَجِبُ وَلَا يَجِبُ بِوُجُودِ الْمَالِ وَعَدَمِهِ، وَيُعْلَمُ وَلَا يُعْلَمُ بِظُهُورِ الْمَالِ وَاسْتِبْطَانِهِ، فَصَارَ مَجْهُولًا لِتَبَرُّزِهِ بَيْنَ قَلِيلٍ وَكَثِيرٍ وَوُجُوبٍ وَإِسْقَاطٍ، وَمَكْتُومٍ وَمَشْهُورٍ. وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ عُمَرَ صَالَحَهُمْ عَلَيْهِ، وَلَمْ يَأْخُذْ مِنْهُمْ دِينَارَ الْجِزْيَةِ: لِأَنَّهُمُ امْتَنَعُوا مِنْ بَذْلِ الْجِزْيَةِ لِئَلَّا يَجْرِيَ عَلَيْهِمْ صَغَارٌ، فَصَارَتْ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ على نصارى العرب هِيَ الْجِزْيَةَ مَأْخُوذَةً بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، وَقَدْ قَالَ عُمَرُ: هَؤُلَاءِ قَوْمٌ حَمْقَى، أَبَوْا الِاسْمَ، وَرَضُوا بِالْمَعْنَى. وَاخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي عَقْدِ الصُّلْحِ مع أهل الحرب على مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ التي على المسلمين عليهم عَلَى هَذَا الْوَجْهِ عَلَى ثَلَاثَةِ أَوْجُهٍ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ حَمْلُهُمْ عَلَيْهِ سَوَاءٌ بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا أَوْ نَقَصَ عَنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَبْلُغْ مَالُهُ نِصَابَ الزَّكَاةِ لَمْ يُؤْخَذْ مِنْهُ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ مَالًا مُزَكًّى، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ، وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ فِعْلِ عُمَرَ فَكَانَ إِمْضَاؤُهُ عَلَى هَذَا، وَإِنْ نَقَصَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ عَلَى الدِّينَارِ: لِأَنَّهُ قَدْ يَجُوزُ أَنْ يَزِيدَ فِي وَقْتٍ آخَرَ عَلَى الدِّينَارِ لِمَا يَسْتَفِيدُهُ، وَيَجُوزُ أَنْ يَمْلِكَ مَنْ لَا مِلْكَ لَهُ، فَيُؤَدَّى، فَيَكُونُ الِاعْتِبَارُ بِهَا لَا بِالدِّينَارِ، وَيَكُونُ مَا يُخَافُ مِنْ نُقْصَانِ الدِّينَارِ فِي وَقْتٍ مَجْبُورًا بِمَا يُرْجَى مِنَ الزِّيَادَةِ عَلَيْهِ فِي وَقْتٍ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَجُوزُ أَنْ يُصَالَحُوا عَلَى هَذَا إِذَا عُلِمَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ مِنْهُمْ يَفِي بِدِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ مِنْ جَمِيعِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَفِ بِالدِّينَارِ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ لَمْ يَجُزْ. مِثَالُهُ: أَنْ يَكُونُوا أَلْفَ رَجُلٍ، فَإِنْ عُلِمَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِمُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ أَلْفُ دِينَارٍ فَصَاعِدًا جَازَ، وَإِنْ عُلِمَ أَنَّهُ أَقَلُّ مِنْ دِينَارٍ لَمْ يَجُزْ، وَلَا يَضُرُّ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْ بَعْضِهِمْ أَقَلُّ مِنْ دِينَارٍ إِذَا أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ أَكْثَرُ مِنْهُ، وَلَا شَيْءَ عَلَى مَنْ لَا مَالَ لَهُ مِنْ مُزَكًّى: لِأَنَّهُ قَدْ أُخِذَ مِنْ غَيْرِهِ مَا جَبَرَهُ، فَصَارَ بَدَلًا مِنْهُ، وَحَمَلَ قَائِلُ هَذَا الْوَجْهِ صُلْحَ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ كَثْرَةَ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذَوِي الْأَمْوَالِ يَفِي بِجِزْيَةِ جَمِيعِهِمْ. وَالْوَجْهُ الثَّالِثُ: وَهُوَ الظَّاهِرُ مِنْ مَذْهَبِ الشَّافِعِيِّ بِأَنَّهُ يَجُوزُ حَمْلُهُمْ عَلَيْهِ إِذَا بَلَغَ الْمَأْخُوذُ مِنْ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ دِينَارًا فَصَاعِدًا، فَإِنْ نَقَصَ عَنِ الدِّينَارِ أُخِذَ مِنْهُ تَمَامُ الدِّينَارِ، وَلَا يُجْبَرُ بِزِيَادَةِ غَيْرِهِ، وَمَنْ لَمْ يَمْلِكْ نِصَابًا مُزَكًّى، أُخِذَ مِنْهُ دِينَارُ الْجِزْيَةِ، وَلَمْ يَسْقُطْ عَنْهُ بِأَخْذِهَا مِنْ غَيْرِهِ: لِأَنَّ أَهْلَ الذِّمَّةِ لَا يَجُوزُ أَنْ يُقَرُّوا فِي دَارِ الْإِسْلَامِ عَلَى التَّأْبِيدِ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُنْقَصَ وَاحِدٌ مِنْهُمْ عَنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ، وَحَمْلُ صُلْحِ عُمَرَ عَلَى أَنَّهُ عَلِمَ أَنَّ جَمِيعَهُمْ أَغْنِيَاءُ: لِمَا شَاهَدَهُ مِنْ كَثْرَةِ أَمْوَالِهِمْ، وَأَنَّهُ لَيْسَ فِيهِمْ مَنْ يَعْجِزُ عَنِ الْمَأْخُوذِ مِنْهُ عَنْ دِينَارٍ، وَهَذَا الْوَجْهُ هُوَ الْأَقْيَسُ وَالْأَوَّلُ هُوَ الْأَشْبَهُ بِصُلْحِ عُمَرَ.

.فصل: [في أن مضاعفة الجزية كانت على أموال الرجال دون النساء والصبيان]:

فَإِذَا ثَبَتَ مَا ذَكَرْنَا كَانَتْ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ على من تكون من أهل الذمة مَأْخُوذَةً مِنْ أَمْوَالِ الرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ وَالصِّبْيَانِ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: آخُذُهَا مِنَ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ دُونَ الصِّبْيَانِ، احْتِجَاجًا بِأَنَّ مَا أُخِذَ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ، وَكَانَ النِّصَابُ فِيهِ وَالْحَوْلُ فِيهِ مُعْتَبَرَيْنِ اشْتَرَكَ فِيهِ الرِّجَالُ وَالنِّسَاءُ كَالزَّكَاةِ عَلَى الْمُسْلِمِينَ، وَخَرَجَ مِنْهُ الصِّبْيَانُ: لِأَنَّهُ لَا زَكَاةَ عَلَيْهِمْ. وَدَلِيلُنَا: هُوَ أَنَّ الْمَأْخُوذَ بِالْإِقْرَارِ عَلَى الْكُفْرِ جِزْيَةٌ فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِالرِّجَالِ دُونَ النِّسَاءِ كَالدِّينَارِ، وَلِأَنَّ النِّسَاءَ مَحْقُونَاتُ الدِّمَاءِ، فَلَمْ تُضَاعَفْ صَدَقَةُ الْجِزْيَةِ كَالصِّبْيَانِ وَالْمَجَانِينِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قِيَاسِهِمْ عَلَى الزَّكَاةِ، فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهَا جِزْيَةٌ، فَكَانَ اعْتِبَارُهَا بِالْجِزْيَةِ أَوْلَى مِنَ اعْتِبَارِهَا بِالزَّكَاةِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهَا لَمَّا خَرَجَتْ عَنِ الزَّكَاةِ قَدْرًا وَمَصْرِفًا خَرَجَتْ عَنْهَا حُكْمًا وَالْتِزَامًا.

.فصل: [هل يعتبر النصاب بمضاعفة الجزية على نصارى العرب؟]

وَإِذَا كَانَ النِّصَابُ فِي مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ على نصارى العرب عَلَيْهِمْ مُعْتَبَرًا، فَفِي زَمَانِهِ وَجْهَانِ:
أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ بِوُجُودِ النِّصَابِ فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ كَالزَّكَاةِ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنَّهُ يُعْتَبَرُ وُجُودُهُ فِي رَأْسِ الْحَوْلِ: لِأَنَّهُ لَمَّا اعْتُبِرَ الْيَسَارُ بِدِينَارِ الْجِزْيَةِ، فِي رَأْسِ الْحَوْلِ كَذَلِكَ النِّصَابُ: لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْهُ جِزْيَةٌ. فَإِذَا تَقَرَّرَ هَذَانِ الْوَجْهَانِ لَمْ يَخْلُ النِّصَابُ مِنْ أَرْبَعَةِ أَحْوَالٍ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَيُؤْخَذُ مِنْهُ.
وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ مَعْدُومًا فِي الْحَوْلِ كُلِّهِ، فَلَا شَيْءَ عَلَيْهِ. وَالثَّالِثُ: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي آخِرِهِ مَعْدُومًا فِي أَوَّلِهِ، فَعَلَى الْوَجْهِ الْأَوَّلِ لَا شَيْءَ فِيهِ اعْتِبَارًا بِالزَّكَاةِ، وَعَلَى الْوَجْهِ الثَّانِي يَجِبُ فِيهِ ضِعْفُ الصَّدَقَةِ اعْتِبَارًا بِالْجِزْيَةِ. وَالرَّابِعُ: أَنْ يَكُونَ مَوْجُودًا فِي أَوَّلِ الْحَوْلِ مَعْدُومًا فِي آخِرِهِ، فَيُنْظَرُ فِيهِ فَإِنْ عُدِمَ بِالتَّلَفِ، فَلَا شَيْءَ فِيهِ، وَإِنْ عُدِمَ بِنَقْلِهِ إِلَى مَالٍ غَيْرِ مُزَكًّى أُخِذَ مِنْهُ: لِأَنَّهُمْ مُتَّهَمُونَ لَا يَتَدَيَّنُونَ بِأَدَائِهَا، فَأُخِذَتْ مِنْهُمْ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُتَّهَمُونَ: لِأَنَّهُمْ يَتَدَيَّنُونَ بِأَدَائِهَا، فَلَمْ تُؤْخَذْ مِنْهُمْ.

.فصل: [فيما إذا بذل قوم من أهل الحرب للإمام أن يعقد معهم الذمة على مضاعفة الجزية]:

وَإِذَا بَذَلَ قَوْمٌ مِنْ أَهْلِ الْحَرْبِ لِلْإِمَامِ فِي وَقْتِنَا أَنْ يَعْقِدَ مَعَهُمُ الذِّمَّةَ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ كَالَّذِي فَعَلَهُ عُمَرُ جَازَ اقْتِدَاءً بِهِ، وَاتِّبَاعًا، وَلَوْ سَأَلُوهُ أَنْ يَعْقِدَهَا عَلَى صَدَقَةٍ وَاحِدَةٍ مِنْ غَيْرِ مُضَاعَفَةٍ جَازَ إِذَا لَمْ تَنْقُصْ عَنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ نَقَصَتْ عَنْهُ لَمْ يَجُزْ أَنْ يَعْقِدَهَا مَعَهُمْ وَجْهًا وَاحِدًا: لِأَنَّ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْأَوْجُهِ الثَّلَاثَةِ، إِنَّمَا هِيَ فِي عَقْدٍ أَمْضَاهُ إِمَامٌ مُجْتَهِدٌ، فَإِذَا عَقَدَ عَقْدًا مُسْتَأْنَفًا، فَلَا يَمْضِي بِأَقَلَّ مِنْ دِينَارِ الْجِزْيَةِ، فَإِنْ بَلَغَ أَخْذَهَا مِنْ بَعْضِهِمْ دِينَارًا عَلَى كُلِّ رَأْسٍ مِنْهُمْ، فَفِي جَوَازِهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا:- وَهُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيِّ لَا يَجُوزُ: لِأَنَّ فِيهِمْ مَنْ لَا يُؤَدِّي دِينَارًا. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ قَوْلُ أَبِي عَلِيِّ بْنِ أَبِي هُرَيْرَةَ يَجُوزُ: لِأَنَّ الْمَطْلُوبَ أَخْذُ دِينَارٍ عَنْ كُلِّ رَأْسٍ وَقَدْ أُخِذَ. فَعَلَى هَذَيْنِ الْوَجْهَيْنِ، لَوْ أَنَّ رَجُلًا مِنْ أَهْلِ الذِّمَّةِ عَقَدَ الْجِزْيَةَ عَلَى نَفْسِهِ، وَمِائَةِ رَجُلٍ مِنْ قَوْمِهِ عَلَى مِائَةِ دِينَارٍ يُؤَدُّونَهَا مِنْ مَالِهِ نُظِرَ فِي مَوْضُوعِهَا، فَإِنْ أَوْجَبَهَا عَلَيْهِمْ وَتَحَمَّلَهَا عَنْهُمْ جَازَ: لِأَنَّهُ تَبَرَّعَ بِهَا وَهُمْ مَأْخُوذُونَ بِهَا إِنِ امْتَنَعَ مِنْهَا، وَإِنْ أَوْجَبَهَا عَلَى نَفْسِهِ لِتَكُونَ عَنْهُ وَعَنْهُمْ، فَفِي جَوَازِهِ مَا قَدَّمْنَاهُ مِنَ الْوَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: هُوَ قَوْلُ أَبِي إِسْحَاقَ، لَا يَجُوزُ: لِأَنَّهُمْ يُقِيمُونَ بِغَيْرِ جِزْيَةٍ تَلْزَمُهُمْ.
وَالثَّانِي: وَهُوَ قَوْلِ أَبِي عَلِيٍّ، يَجُوزُ لِحُصُولِ الْفَرْضِ الْمَطْلُوبِ مِنْهُمْ.

.فصل: [فيمَنْ بَذَلَ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ أَنَفَةً مِنَ اسْمِ الْجِزْيَةِ]:

إِذَا قَالَ: مَنْ بَذَلَ ضِعْفَ الصَّدَقَةِ أَنَفَةً مِنَ اسْمِ الْجِزْيَةِ: قَدْ أَسْقَطْتُ اسْمَ الصَّدَقَةِ عَنِّي، وَرَضِيتُ بِاسْمِ الْجِزْيَةِ، فَقَدِ اخْتَلَفَ أَصْحَابُنَا فِي سُقُوطِهَا وَالِاقْتِصَارِ عَلَى دِينَارِ الْجِزْيَةِ عَلَى وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: تَسْقُطُ مُضَاعَفَةُ الصَّدَقَةِ- عَلَيْهِ: لِأَنَّهَا فِي مُقَابَلَةِ مَا قَدْ أَسْقَطَ عَنْ نَفْسِهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: وَهُوَ أَصَحُّ أَنَّهُ لَا تَسْقُطُ عَنْهُ: لِأَنَّ حُكْمَ الْجِزْيَةِ مَوْجُودٌ فِي الْحَالَيْنِ، فَلَمْ يَكُنْ لِاخْتِلَافِ الْأَسْمَاءِ تَأْثِيرٌ.

.مسألة: [في أن كُلَّ مَا أُخِذَ مِنْ ذِمِّيٍّ عَرَبِيٍّ فَمَسْلَكُهُ الْفَيْءُ]:

قَالَ الشَافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وَكُلُّ مَا أُخِذَ مِنْ ذِمِّيٍّ عَرَبِيٍّ فَمَسْلَكُهُ الْفَيْءُ وَمَا اتَّجَرَ بِهِ نَصَارَى الْعَرَبِ وَأَهْلُ دِينِهِمْ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ لِأَنَّ الْمَأْخُوذَ مِنْ ذِمَّةِ الْعَرَبِيِّ بِاسْمِ الصَّدَقَةِ جِزْيَةٌ، وَلَيْسَتْ زَكَاةً، وَإِنْ كَانَتْ عِنْدَ أَبِي حَنِيفَةَ فِي إِيجَابِهَا عَلَى النِّسَاءِ زَكَاةً. وَالدَّلِيلُ عَلَى أَنَّهَا لَيْسَتْ زَكَاةً قَوْلُ اللَّهِ تَعَالَى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ} [التَّوْبَةِ: 103] الْآيَةَ. وَالْكَافِرُ لَا يَتَطَهَّرُ بِمَا يُؤَدِّيهِ مِنْهَا. وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: هَذِهِ فَرِيضَةُ الصَّدَقَةِ الَّتِي فَرَضَهَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم عَلَى الْمُسْلِمِينَ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهَا لَا تَجِبُ عَلَى الْمُشْرِكِينَ. وَقَالَ عُمَرُ: النَّاسُ رَجُلَانِ: مُسْلِمٌ فَرَضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الصَّدَقَةَ، وَكَافِرٌ فَرْضَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجِزْيَةَ. وَقَالَ عَلِيٌّ: لَا زَكَاةَ عَلَى مُشْرِكٍ، فَكَانَ هَذَا إِجْمَاعُ الْأَئِمَّةِ رِضْوَانُ اللَّهِ عَلَيْهِمْ. وَإِذَا ثَبَتَ هَذَا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَصْرُوفًا فِي أَهْلِ الْفَيْءِ دُونَ أَهْلِ الصَّدَقَةِ.

.مسألة: [فيما إِنْ كَانُوا يَهُودًا تُضَاعَفْ عَلَيْهِمِ فِيهِ الصَدَقَةُ]:

قَالَ الشَافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ تَعَالَى-: وَإِنْ كَانُوا يَهُودًا تُضَاعَفْ عَلَيْهِمِ فِيهِ الصَدَقَةُ.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ: لِأَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى فِي جَوَازِ صُلْحِهِمْ عَلَى مُضَاعَفَةِ الصَّدَقَةِ على اليهود والنصارى سَوَاءٌ، وَإِنْ كَانَ صُلْحُ عُمَرَ مَعْقُودًا عَلَى نَصَارَى الْعَرَبِ، فَلَيْسَ يَمْتَنِعُ أَنْ يُعْقَدَ مَعَ الْيَهُودِ، وَمَعَ نَصَارَى الْعَجَمِ: لِأَنَّ جَمِيعَهُمْ فِي الْجِزْيَةِ سَوَاءٌ، فَإِذَا اتَّجَرُوا بِأَمْوَالِهِمْ وَجَبَ أَنْ يُؤْخَذَ مِنْهَا بَعْدَ الْحَوْلِ ضِعْفُ الزَّكَاةِ: لِأَنَّ أَمْوَالَ التِّجَارَةِ مُزَكَّاةٌ، فَلَوْ تَجِرَ بَعْضُ نَصَارَى الْعَرَبِ إِلَى الْحِجَازِ الذي يجب عليه في هذه الحالة أُخِذَ مِنْهُ الْعُشْرُ فِي دُخُولِ الْحِجَازِ، وَضِعْفُ الصَّدَقَةِ بِعَقْدِ الصُّلْحِ، وَجُمِعَ عَلَيْهِ بَيْنَ الْأَمْرَيْنِ، وَإِنْ كَانَا حَرْبِيَّيْنِ كَمَا يُجْمَعُ عَلَيْهِ بَيْنَ الدِّينَارِ وَالْعُشْرِ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ. اهـ.