فصل: فصل: (في أخذ الجزية من أهل الكتاب وحل ذبائحهم ومناكحتهم):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال أبو عبيد يريد أن المسلمين كانوا يأخذون من أهل الذمة الخمر والخنازير من جزية رءوسهم وخراج أرضيهم بقيمتها ثم يتولى المسلمون بيعها فهذا الذي أنكره بلال ونهى عنه عمر ثم رخص لهم أن يأخذوا ذلك من أثمانها إذا كان أهل الذمة المتولين لبيعها لأن الخمر والخنازير مال من أموال أهل الذمة ولا يكون مالا للمسلمين.
ومما يبين ذلك ما حدثني به علي بن معبد عن عبيدالله بن عمرو عن الليث بن أبي سليم أن كمر كتب إلى العمال يأمرهم بقتل الخنازير ويقضي أثمانها لأهل الجزية من جزيتهم.
قال أبو عبيد فهو لم يجعلها قصاصا من الجزية إلا وهو يراها مالا من أموالهم فإذا مر الذمي بالخمر والخنازير على العاشر فإنه لا يطيب له أن يعشرها ولا يأخذ ثمن العشر منها وإن كان الذمي هو المتولي لبيعها أيضا وهذا ليس من الباب الأول ولا يشبهه لأن ذلك حق وجب على رقابهم وأرضيهم والعشر هاهنا إنما هو شيء يوضع على الخمر والخنازير أنفسها فلذلك ثمنها لا يطيب لقول رسول الله إن الله إذا حرم شيئا حرم ثمنه.
قال أبو عبيد وقد روي عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه أفتى في مثل هذا بغير ما أفتى به في ذلك وكذلك عمر بن عبد العزيز.
ثنا أبو الأسود المصري حدثنا عبدالله بن لهيعة عن عبدالله بن هبيرة الشيباني أن عتبة بن فرقد بعث إلى عمر بن الخطاب رضي الله عنه بأربعين ألف درهم صدقة الخمر فكتب إليه عمر بعثت إلي بصدقة الخمر وأنت أحق بها من المهاجرين وأخبر الناس بذلك وقال والله لا أستعملك على شيء بعدها قال فنزعه.
قال وحدثنا عبدالرحمن بن مهدي عن المثنى بن سعيد الضبعي قال كتب عمر بن عبدالعزيز إلى عدي بن أرطاة أن ابعث إلي بتفصيل الأموال التي قبلك من أين دخلت فكتب إليه بذلك وصنفه له فكان فيما كتب إليه من عشر الخمر أربعة آلاف درهم قال فلبثنا ما شاء الله ثم جاء.
جواب كتابه إنك كتبت إلي تذكر من عشور الخمر أربعة آلاف درهم وإن الخمر لا يعشرها مسلم ولا يشتريها ولا يبيعها فإذا أتاك كتابي هذا فاطلب الرجل فارددها عليه فهو أولى بما كان فيها فطلب الرجل فردت عليه الأربعة الآلاف وقال أستغفر الله إني لم أعلم.
قال أبو عبيد فهذا عندي الذي عليه العمل وإن كان إبراهيم النخعي قد قال غير ذلك.
حدثنا يحيى بن سعيد القطان وعبدالرحمن بن مهدي كلاهما عن سفيان عن حماد عن إبراهيم في الذمي يمر بالخمر على العاشر قال يضاعف عليه العشور.
قال أبو عبيد وكان أبو حنيفة يقول إذا مر على العاشر بالخمر والخنازير عشر الخمر ولم يعشر الخنازير سمعت محمد بن الحسن يحدث بذلك عنه.
قال أبو عبيد وقول الخليفتين عمر بن الخطاب رضي الله عنه وعمر بن عبدالعزيز رحمه الله أولى بالاتباع ألا يكون على الخمر عشر أيضا. انتهى.
وهذا الفرق هو محض الفقه فإنهم إذا تبايعوها فيما بينهم فقد تعاقدوا على ما يعتقدونه مالا فإذا أخذناه منهم أخذنا ما هو حلال عندهم.
وإن كانوا لا يعتقدونه كل سنة كما اكتسبوه بعقود أو مواريث أو أسباب من هبات ووصايا فغيرها لا يجوز في شرعنا وعاملونا به أو قضونا إياه مما لنا عليهم ساغ لنا أخذه وإن لم يسوغ في شرعنا تلك الأسباب التي حدها كما تأخذ المرأة من مهر في عقد نكاح لا نجيزه نحن وهم يعتقدونه نكاحا وهذا بخلاف ما سرقوه أو غصبوه أو اكتسبوه بوجه يعتقدون تحريمه كالربا فإنه حرام عليهم بنص التوراة.
وأما ما منعه الخليفتان فهو فرض العشر على نفس الخمر والخنازير إذا اتجروا فيها فهذا غير أخذ أثمانها منهم إذا كان لنا عليهم ذلك من وجه آخر.
فالفرق بين أن يكون المأخوذ من جهة الخمر والخنازير وبين أن يكون من جهة الجزية والدين والدية وغيرها ظاهر وبالله التوفيق.

.فصل: [في أخذ الجزية من أهل الكتاب وحل ذبائحهم ومناكحتهم]:

وأخذ الجزية من أهل الكتاب وحل ذبائحهم ومناكحتهم مرتب على أديانهم لا على أنسابهم فلا يكشف عن آبائهم هل دخلوا في الدين قبل المبعث أو بعده ولا قبل النسخ والتبديل ولا بعده فإن الله سبحانه أقرهم بالجزية ولم يشرط ذلك وأباح لنا ذبائحهم وأطعمتهم ولم يشرط ذلك في حلها مع العلم بأن كثيرا منهم دخل في دينهم بعد تبديله ونسخه وكانت المرأة من الأنصار تنذر إن عاش لها ولد أن تهوده فلما جاء الإسلام أرادوا منع أولادهم من المقام على اليهودية وإلزامهم بالإسلام فأنزل الله تعالى: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} فأمسكوا عنهم.
ومعلوم قطعا أن دخولهم في دين اليهودية كان بعد تبديله وبعد مجيء المسيح ولم يسأل النبي أحدا ممن أقره بالجزية متى دخل آباؤه في الدين ولا من كان يأكل هو وأصحابه من ذبائحهم من اليهود ولا أحد من خلفائه البتة.
وكيف يمكن العلم بهذا أو يكون شرطا في حل المناكحة والذبيحة والإقرار بالجزية ولا سبيل إلى العلم به إلا لمن أحاط بكل شيء علما وأي شيء يتعلق به من آبائه إذا كان هو على دين باطل لا يقبله الله فسواء كان آباؤه كذلك أو لم يكونوا.
والنبي الجزية من يهود اليمن وإنما دخلوا في اليهودية بعد المسيح في زمن تبع وأخذها رسول الله وخلفاؤه من بعده من نصارى العرب ولم يسألوا أحدا منهم عن مبدأدخوله في النصرانية هل كان قبل المبعث أو بعده وهل كان بعد النسخ والتبديل أم لا.
وقد اختلف كلام الشافعي رحمه الله تعالى في الجزية والمناكحة فقال في المختصر وأصل ما أبني عليه أن الجزية لا تقبل من أحد دان دين كتاب إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان فلا تقبل ممن بدل يهودية بنصرانية أو نصرانية بمجوسية أو مجوسية بنصرانية أو بغير الإسلام وإنما أذن الله عز وجل بأخذ الجزية منهم على ما دانوا به قبل محمد وذلك خلاف ما أحدثوا من الدين بعده فإن أقام على ما كان عليه وإلا نبذ إليه عهده وأخرج من بلاد الإسلام بماله وصار حربا ومن بدل دينه من كتابية لم يحل نكاحها.
قال المزني قد قال في كتاب النكاح إذا بدلت بدين يحل نكاح أهله فهو حلال وهذا عندي أشبه.
وقال ابن عباس رضي الله عنهما في قوله تعالى: {ومن يتولهم منكم فإنه منهم} فمن دان منهم دين أهل الكتاب قبل نزول الفرقان وبعده سواء عندي في القياس وبالله التوفيق.
قال المنازعون له الكلام على هذا من وجوه.
أحدها أن يقال الأصل الذي تبني عليه لابد أن يكون معلوما ثبوته بكتاب الله أو سنة رسوله نصا أو استنباطا فأين في كتاب الله عز وجل أو سنة رسوله أن الجزية لا تقبل ممن دان بدين إلا أن يكون آباؤه دانوا به قبل نزول الفرقان وأين يستنبط ذلك منهما أو من أحدهما فيكون أصلا منصوصا أو مستنبطا.
الثاني أن سكوت القرآن والسنة عن اعتبار ذلك في جميع المواضع وعن الإيماء إليه والدلالة عليه دليل على عدم اعتباره.
الثالث أن إطلاقهما وعمومهما المطردين في جميع المواضع متناول لكل من اتصف بتلك الصفة ولم يرد فيهما موضع واحد مخصص ولا مقيد فيجب التمسك بالعام حتى يقوم دليل على تخصيصه.
الرابع أن عمل النبي وسيرته في أهل الكتاب بعد نزول الآية مبين أنه المراد منهما وقد علم أنه لم يبن في أخذ الجزية وحل الذبائح والنكاح إلا على مجرد دينهم لا على آبائهم وأنسابهم.
الخامس أنه سبحانه قد حكم ولا أحسن من حكمه أنه من تولى اليهود والنصارى فهو منهم ومن يتولهم منكم فإنه منهم فإذا كان أولياؤهم منهم بنص القرآن كان لهم حكمهم وهذا عام خص منه من يتولاهم ودخل في دينهم بعد التزام الإسلام فإنه لا يقر ولا تقبل منه الجزية بل إما الإسلام أو السيف فإنه مرتد بالنص والإجماع ولا يصح إلحاق من دخل في دينهم من الكفار قبل التزام الإسلام بمن دخل فيه من المسلمين.
يوضحه الوجه السادس أن من دان بدينهم من الكفار بعد نزول الفرقان فقد انتقل من دينه إلى دين خير منه وإن كانا جميعا باطلين.
وأما المسلم فإنه قد انتقل من دين الحق إلى الدين الباطل بعد إقراره بصحة ما كان عليه وبطلان ما انتقل إليه فلا يقر.
السابع أن دين أهل الكتاب قد صار باطلا بمبعث رسول الله فلا فرق بين من اختاره بنفسه ممن لم يتقدم دخول آبائه فيه قبل ذلك وبين من دخل فيه ممن تقدم دخول آبائه فيه فإن كل واحد منهما اختار دينا باطلا وما على الرجل من أبيه وأي شيء يتعلق به منه.
الثامن أن تبعيته لأبيه منقطعة ببلوغه بحيث صار مستقلا بنفسه في جميع الأحكام فما بال تبعية الأب بعد البلوغ أثرت في إقراره على دين باطل قد قطع الإسلام تبعيته فيه.
التاسع أن ذلك الدين قد علم بطلانه ونسخه قطعا بمجيء المسيح فقد أقر على دين دخل فيه آباؤه بعد نسخه وتبديله.
العاشر أن نسبة من دخل في اليهودية بعد بعث المسيح وترك دين المسيح كنسبة من دخل في النصرانية بعد مبعث رسول الله إذ كلاهما دخل في دين باطل منسوخ.
الحادي عشر أن آباء هذا الكتابي لو أدركوا دين الإسلام فدخلوا فيه وأقام هو على دينه بعد بلوغه لأقررناه ولم نتعرض له مع اعتراف آبائه ببطلان دينهم الذي كانوا عليه فإذا أقر على دين قد اعترف آباؤه ببطلانه فكيف لا يقر على دين دخل آباؤه فيه وهم معتقدون صحته.
الثاني عشر أن النبي قبل أن يؤمر بالجهاد كان يقر الناس على ما هم عليه ويدعوهم إلى الإسلام بل كانت المرأة تسلم وزوجها كافر فلا يفرق الإسلام بينهما ولم ينزل تحريم المسلمة على الكافر إلا بعد صلح الحديبية وكان النبي مع الناس في الدعوة مراتب فإنه أمر أولا أن يقرأ باسم ربه ثم أمر ثانيا أن يقوم نذيرا فأمر بإنذار عشيرته وقومه ودعوتهم إلى الله تعالى ثم أمر بإنذار الناس والصبر والعفو والهجر لمن آذاه ثم أمر بالهجرة ثم أمر بقتال من قاتله ثم أمر بالجهاد العام ثم بضرب الجزية على أهل الكتاب فضربها عليهم وألحق بهم المجوس وكانت العرب من عباد الأوثان قد دخلوا كلهم في الدين وكان يقر الناس على ما هم عليه حتى يأتيه الأمر من الله بما يأخذهم به ويفعله معهم فلما جاءه أمره بالهجرة بادر إلى امتثاله ثم جاءه الأمر بالجهاد فقام به حق القيام ثم جاءه الأمر بالتفريق بين المؤمنات والكفار في النكاح ثم جاءه الأمر بصلح الكفار بتوادعهم ثم جاءه الأمر بأخذ الجزية منهم وإقرارهم على دينهم ولا يتعرض لهم ما لم ينقصوه شيئا مما شرط عليهم فلم يكن قبل الهجرة والجهاد يمنع من أراد التهود أو التنصر من أهل الأوثان فلما علت كلمة الإسلام وصار للمسلمين الغلبة والقهر منع من أراد منهم التهود أو التنصر بعد أن أقر بالإسلام وأمر بقتله إن لم يراجع دين الإسلام ولم يمنع يهوديا من نصرانية ولا نصرانيا من يهودية كما منع المسلم منهما.
وقد علم أن من أبناء الأنصار من دخل في اليهودية بعد النسخ والتبديل كما روى أبو داود في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال كانت المرأة تكون مقلاتا فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوده فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا لا ندع أبناءنا فأنزل الله عز وجل: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} قال أبو داود المقلات التي لا يعيش لها ولد.
وهو يدل على أن من تهود وإن كان أصله غير يهودي فإنه مثلهم والنبي لم يمنع قبل فرض الجهاد ولا بعده وثنيا دخل في دين أهل الكتاب بل ولا يهوديا تنصر أو نصرانيا تهود أو مجوسيا دخل في التهود والتنصر بل جمهور الفقهاء اليوم يقررونه على ذلك كما هو مذهب مالك وأبي حنيفة وأحمد في إحدى الروايات عنه وعنه رواية ثانية لا يقبل منه إلا الإسلام وعنه رواية ثالثة لا يقبل منه إلا الإسلام أو دينه الأول إن كان دينا يقر أهله عليه.
الثالث عشر أنه لو لم يعرف له أب لكونه لقيطا أو انقطع نسبه من أبيه بكونه ولد زنى فإن ذلك لا يمنع اعتباره في دينه بنفسه ولو كان من شرط ذلك دخول آبائه في الدين قبل النسخ والتبديل لم يثبت لهذا حكم دينه ولم يقر عليه لعدم أبيه حسا وشرعا إذ تبعيته هنا منتفية وإنما له حكم نفسه.
ولهذا قال الإمام أحمد ومن تبعه إنه يحكم بإسلامه في هذه المواضع وفيما إذا مات أبواه أو أحدهما وهو دون البلوغ لأنه إنما كان كافرا تبعا لهما وإلا فهو على الفطرة الأصلية فإذا لم يكن له من يتبعه على دينه كان مسلما لأن مقتضى الفطرة موجود والمغير لها مفقود فأحمد اعتبر في بقائه على دينه وجود أبويه لتتحقق التبعية والشافعي لم يعتبر بقاء الأبوين ولا وجودهما في كونه تبعا لهما فإذا كان قد أقره على الدين الباطل حيث لا تتحقق تبعية الأبوين علم أن إقراره لم يكن لأجل آبائه وهو ظاهر.