فصل: قال الخازن:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وأنشد الطبريّ في ذلك:
لَتَجِدَنِّي بالأمير بَرًّا ** وبالقناة مِدْعَسا مِكَرّا

إذَا غُطَيْفُ السُّلَمِيُّ فرّا

الثانية قوله تعالى: {وَقَالَتِ اليهود} هذا لفظ خرج على العموم ومعناه الخصوص؛ لأن ليس كل اليهود قالوا ذلك.
وهذا مثلُ قوله تعالى: {الذين قَالَ لَهُمُ الناس} [آل عمران: 173] ولم يقل ذلك كل الناس.
وقيل: إن قائل ما حكي عن اليهود سلاّم بن مِشْكم ونعمان ابن أبي أوْفِى وشاس بن قيس ومالك بن الصّيف؛ قالوه للنبيّ صلى الله عليه وسلم.
قال النقاش: لم يبق يهودي يقولها، بل انقرضوا؛ فإذا قالها واحد فيتوجّه أن تلزم الجماعة شُنْعَةُ المقالة؛ لأجل نباهة القائل فيهم.
وأقوال النُّبَهَاء أبدًا مشهورة في الناس يُحتجّ بها.
فمن هاهنا صح أن تقول الجماعة قول نَبِيهها.
والله أعلم.
وقد رُوي أن سبب ذلك القول أن اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السَّلام، فرفع الله عنهم التوراة ومحاها من قلوبهم، فخرج عُزير يسيح في الأرض؛ فأتاه جبريل فقال: أين تذهب؟ قال: أطلب العلم؛ فعلمه التوراة كلها فجاء عزير بالتوراة إلى بني إسرائيل فعلمهم.
وقيل: بل حفّظها الله عزيرًا كرامة منه له؛ فقال لبني إسرائيل: إن الله قد حفّظني التوراة، فجعلوا يدرسونها من عنده.
وكانت التوراة مدفونة، كان دفنها علماؤهم حين أصابهم من الفتن والجلاء والمرض ما أصاب، وقتْل بُخْتَنَصَّر إياهم.
ثم إن التوراة المدفونة وُجدت فإذا هي متساوية لما كان عُزير يدرس؛ فضلّوا عند ذلك وقالوا؛ إن هذا لم يتهيأ لعزير إلاَّ وهو ابن الله؛ حكاه الطبرِيّ.
وظاهر قول النصارى أن المسيح ابن الله؛ إنما أرادوا بنوّة النَّسل؛ كما قالت العرب في الملائكة.
وكذلك يقتضي قول الضحاك والطّبريّ وغيرهما.
وهذا أشنع الكفر.
قال أبو المعالي: أطبقت النصارى على أن المسيح إله وأنه ابن إله.
قال ابن عطية: ويُقال إن بعضهم يعتقدها بنوّة حنوّ ورحمة.
وهذا المعنى أيضًا لا يحل أن تطلق البنوّة عليه، وهو كفر.
الثالثة قال ابن العربيّ: في هذا دليل من قول ربّنا تبارك وتعالى على أن من أخبر عن كفر غيره الذي لا يجوز لأحد أن يبتدئ به لا حرج عليه؛ لأنه إنما ينطق به على معنى الاستعظام له والردّ عليه، ولو شاء ربّنا ما تكلّم به أحد، فإذا مكّن من إطلاق الألسن به فقد أذن بالإخبار عنه؛ على معنى إنكاره بالقلب واللسان، والرد عليه بالحجة والبرهان.
الرابعة قوله تعالى: {ذلك قَوْلُهُم بِأَفْوَاهِهِمْ} قيل: معناه التأكيد؛ كما قال تعالى: {يَكْتُبُونَ الكتاب بِأَيْدِيهِمْ} [البقرة: 79] وقوله: {وَلاَ طَائِرٍ يَطِيرُ بِجَنَاحَيْهِ} [الأنعام: 38] وقوله: {فَإِذَا نُفِخَ فِي الصور نَفْخَةٌ وَاحِدَةٌ} [الحاقة: 23] ومثله كثير.
وقيل: المعنى أنه لما كان قول ساذج ليس فيه بيان ولا برهان، وإنما هو قول بالفم مجرّد نفس دعوى لا معنى تحته صحيح، لأنهم معترفون بأن الله سبحانه لم يتخذ صاحبة فكيف يزعمون أن له ولدًا؛ فهو كذب وقولٌ لسانِيُّ فقط، بخلاف الأقوال الصحيحة التي تَعْضُدها الأدلة ويقوم عليها البرهان.
قال أهل المعاني: إن الله سبحانه لم يذكر قولًا مقرونًا بذكر الأفواه والألسن إلاَّ وكان قولًا زورًا؛ كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [آل عمران: 167] و{كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِن يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِبًا} [الكهف: 5] و{يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مَّا لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ} [الفتح: 11].
الخامسة قوله تعالى: {يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الذين كَفَرُواْ مِن قَبْلُ} {يضاهئون} يشابهون؛ ومنه قول العرب: امرأة ضَهْيَأ للّتي لا تحيض أو التي لا ثَدْيَ لها؛ كأنها أشبهت الرجال.
وللعلماء في {قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا} ثلاثة أقوال: الأوّل قولُ عَبَدة الأوثان: اللاَّت والعُزّى ومَناة الثالثة الأُخرى.
الثاني قول الكفرة: الملائكة بنات الله.
الثالث قول أسلافهم، فقلدوهم في الباطل واتبعوهم على الكفر؛ كما أخبر عنهم بقوله تعالى: {إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا على أُمَّةٍ} [الزخرف: 23].
السادسة اختلف العلماء في ضهيأ هل يمدُّ أو لا؛ فقال ابن وَلاّد: أمرأة ضَهْيَأ؛ وهي التي لا تحيض؛ مهموز غير ممدود.
ومنهم من يمدّ وهو سيبويه فيجعلها على فعلاء بالمدّ، والهمزة فيها زائدة؛ لأنهم يقولون نساء ضُهْي، فيحذفون الهمزة.
قال أبو الحسن قال لي النَّجِيرَمِيّ: ضهيأة بالمد والهاء.
جمع بين علامتي تأنيث؛ حكاه عن أبي عمرو الشَّيباني في النوادر.
وأنشد:
ضهيأة أو عاقر جماد

ابن عطية: من قال: {يُضَاهِئُونَ} مأخوذ من قولهم: امرأة ضهياء فقوله خطأ؛ قاله أبو عليّ، لأن الهمزة في ضاهأ أصلية، وفي ضهياء زائدة كحمراء.
السابعة قوله تعالى: {قَاتَلَهُمُ الله أنى يُؤْفَكُونَ} أي لعنهم الله، يعني اليهود والنصارى، لأن الملعون كالمقتول.
قال ابن جريج: {قَاتَلَهُمُ اللَّهُ} هو بمعنى التعجب.
وقال ابن عباس: كل شيء في القرآن قَتْل فهو لعن؛ ومنه قول أبَان بن تَغْلب:
قاتلها اللَّه تَلْحانِي وقد علمَتْ ** أنّى لنفسي إفسادي وإصلاحي

وحكى النقاش أن أصل قاتل الله الدعاء، ثم كثر في استعمالهم حتى قالوه على التعجب في الخير والشر، وهم لا يريدون الدعاء.
وأنشد الأصمعيّ:
يا قاتل الله لَيْلَى كيف تعجبني ** وأخبر الناس أني لا أُباليها

. اهـ.

.قال الخازن:

قوله: {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ} الآية.
لما ذكر الله سبحانه وتعالى في الآية المتقدمة أن اليهود والنصارى لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق بينه في هذه الآية فأخبرهم عنهم أنهم أثبتوا لله ولدًا ومن جوز ذلك على الله فقد أشرك به لأنه لا فرق بين من يعبد صنمًا وبين من يعبد المسيح فقد بان بهذا أنهم لا يؤمنون بالله ولا يدينون دين الحق وقد تقدم سبب أخذ الجزية منهم وإبقائهم على هذا الشرك وهو حرمة الكتب القديمة التي بأيديهم ولعلهم يتفكرون فيها ويعرفون الحق فيرجعون إليه.
روى سعيد بن جبير وعكرمة عن ابن عباس قال: أتى رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من اليهود سلام بن مشكم والنعمان بن أوفى وشاس بن قيس ومالك بن الصيف فقالوا كيف نتبعك وقد تركت قبلتنا وأنت لا تزعم أن عزيرًا ابن الله فأنزل الله هذه الآية: وقال عبيد بن عمير إنما قال هذه المقالة رجل واحد من اليهود اسمه فنحاص بن عازوراء وهو الذي قال إن الله فقير ونحن أغنياء فعلى هذين القولين القائل لهذه المقالة جماعة من اليهود أو واحد وإنما نسب ذلك إلى اليهود في وقالت اليهود جريًا على عادة العرب في إيقاع اسم الجماعة على الواحد تقول العرب فلان يركب الخيل وإنما يركب فرسًا واحدًا منها.
وتقول العرب: فلان مجالس الملوك ولعله لم يجالس إلا واحدًا منهم وروى عطية العوفي عن ابن عباس أنه قال: إنما قالت اليهود ذلك من أجل أن عزير كان فيهم وكانت التوراة عندهم والتابوت فيهم فأضاعوا التوراة وعملوا بغير الحق فرفع الله سبحانه وتعالى عنهم التابوت وأنساهم التوراة ونسخها من صدورهم فدعا الله عزير وابتهل إليه أن يرد إليه التوارة فبينما هو يصلي مبتهلًا إلى الله نزل نور من السماء فدخل جوفه فعادت غليه فأذن في قومه وقال يا قوم قد أتاني الله التوراة وردها إليّ فعلقوا به يعلمهم ثم مكثوا ما شاء الله ثم إن التابوت نزل بعد ذهابه منهم فلما رأوا التابوت عرضوا ما كان يعلمهم عزير على ما في التابوت فوجدوه مثله فقالوا ما أوتي عزير هذا إلا أنه ابن الله.
وقال الكلبي: إن بختنصر لما غزا بيت المقدس وظهر على بني إسرائيل وقتل من قرأ التوراة كان عزير إذا ذاك صغيرًا فلم يقتله لصغره فلما رجع بنو إسرائيل إلى بيت المقدس وليس فيهم من يقرأ التوراة بعث الله لهم عزيرا ليجدد لهم التوراة ويكون لهم آية بعدما أماته الله مائة سنة قال فأتى ملك بإناء فيه ماء فشرب منه فمثلت له التوراة في صدره فلما أتاهم قال أنا عزير فكذبوه وقالوا إن كنت كما تزعم فأمل علينا التوراة فكتبها لهم من صدره ثم إن رجلًا منهم قال إن أبي حدثني عن جدي أن التوراة جعلت في خابية ودفنت في كرم فانطلقوا معه حتى أخرجوها فعارضوها بما كتب لهم عزير فلم يجدوه غادر حرفًا فقالوا إن الله لم يقذف التوراة في قلب عزير إلا أنه ابنه فعند ذلك قالت اليهود: عزير ابن الله فعلى هذين القولين أن هذا القول كان فاشيًا في اليهود جميعًا ثم إنه انقطع واندرس فأخبر الله تعالى به عنهم وأظهره عليهم ولا عبرة بإنكار اليهود ذلك فإن خبر الله أصدق وأثبت من إنكارهم وأما قول النصارى المسيح ابن الله فكان السبب فيه أنهم كانوا على الدين الحق بعد رفع عيسى عليه السلام إحدى وثمانين سنة يصلون إلى القبلة ويصومون رمضان حتى وقع بينهم وبين اليهود حرب وكان في اليهود رجل شجاع يقال له بولص قتل جماعة من أصحاب عيسى عليه السلام ثم قال بولص لليهود إن كان الحق مع عيسى فقد كفرنا والنار مصيرنا فنحن مغبونون إن دخلنا النار ودخلوا الجنة فإني سأحتال وأضلهم حتى يدخلوا النار معنا ثم إنه عمد إلى فرس كان يقاتل عليه فعرقبه وأظهر الندامة والتوبة ووضع التراب على رأسه ثم أتى إلى النصارى فقالوا له من أنت قال: أنا عدوكم بولص فقد نوديت من السماء أنه ليس لك توبة حتى تتنصر وقد تبت وأتيتكم فأدخلوه السكينة ونصروه وأدخلوه بيتًا منها لم يخرج منه سنة حتى تعلم الإنجيل ثم خرج وقال قد نوديت أن الله قبل توبتك فصدقوه وأحبوه وعلا شأنه فيهم ثم إنه عمد إلى ثلاثة رجال اسم الواحد منهم نسطور والآخر يعقوب والآخر ملكان فعلم نسطور أن عيسى ومريم والإله ثلاثة وعلم يعقوب أن عيسى ليس بإنسان ولكنه ابن الله وعلم ملكان أن عيسى هو الله لم يزل ولا يزال فلما استمكن ذلك فيهم دعا كل واحد منهم في الخلوة وقال له: أنت خالصتي وادع الناس لما علمتك وأمره أن يذهب إلى ناحية من البلاد ثم قال لهم: إني رأيت عيسى في المنام وقد رضي عني وقال لكل واحد منهم: إني سأذبح نفسي تقربًا إلى عيسى ثم ذهب إلى المذبح فذبح نفسه وتفرق أولئك الثلاثة فذهب واحد إلى الروم وواحد إلى بيت المقدس والآخر إلى ناحية أخرى وأظهر كل واحد منهم مقالته ودعا الناس إليها فتبعه على ذلك طوائف من الناس فتفرقوا واختلفوا ووقع القتال فكان ذلك سبب قولهم المسيح ابن الله.
وقال الإمام فخر الدين الرازي، بعد أن حكى هذه الحكاية: والأقرب عندي أن يقال لعله ذكر لفظ الابن في الإنجيل على سبيل التشريف كما ورد لفظ الخليل في حق إبراهيم على سبيل التشريف فبالغوا وفسروا لفظ الابن بالبنوة الحقيقية والجهال قبلوا ذلك مهم وفشا هذا المذهب الفاسد في أتباع عيسى عليه السلام والله أعلم بحقيقة الحال {ذلك قولهم بأفواههم} يعني أنهم يقولون ذلك القول بألسنتهم من غير علم يرجعون إليه قال أهل المعاني: لم يذكر الله قولًا مقرونًا بالأفواه والألسن إلا كان ذلك اقول زورًا وكذبًا لا حقيقة له {يضاهئون} قال ابن عباس: يشابهون والمضاهاة المشابهة.
وقال مجاهد: يواطؤون وقال الحسن: يوافقون {قول الذين كفروا من قبل} قال قتادة والسدي: معناه ضاهت النصارى قول اليهود من قبلهم فقالوا: المسيح ابن الله كما قالت اليهود عزير ابن الله.
وقال مجاهد: معناه يضاهئون قول المشركين من قبل لأن المشركين كانوا يقولون: الملائكة بنات الله وقال الحسن: شبه الله كفر اليهود والنصارى بكفر الذين مضوا من الأمم الخالية الكافرة.
وقال القتيبي: يريد أن من كان في عصر النبي صلى الله عليه وسلم من اليهود والنصارى يقولون ما قال أولوهم {قاتلهم الله} قال ابن عباس: لعنهم الله وقال ابن جريج: قتلهم الله وقيل ليس هو على تحقيق المقاتلة ولكنه بمعنى التعجب أي حق أن يقال لهم هذا القول تعجبًا من بشاعة قولهم كما يقال لمن فعل فعلًا يتعجب منه قاتله الله ما أعجب فعله {أنى يؤفكون} يعني أنى يصرفون عن الحق بعد وضوح الدليل وإقامة الحجة بأن الله واحد أحد فجعلوا له ولدًا تعالى الله عن ذلك علوًا كبيرًا وهذا التعجب راجع إلى الخلق لأن الله سبحانه وتعالى لا يتعجب من شيء ولكن هذا الخطاب على عادة العرب في مخاطبتهم فالله سبحانه وتعالى عجب نبيه صلى الله عليه وسلم من تركهم الحق وإصرارهم على الباطل. اهـ.