فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}
عطف على جملة {ولا يدينون دين الحق} [التوبة: 29] والتقدير: ويقول اليهود منهم عزيز ابن الله، ويقول النصارى منهم: المسيح ابن الله، تشنيعًا على قائِليهما من أهل الكتاب بأنّهم بلغوا في الكفر غايته حتّى ساووا المشركين.
وعزيز: اسم حَبر كبير من أحبار اليهود الذين كانوا في الأسر البابلي، واسمه في العبرانية (عِزْرا) بكسر العين المهملة بن (سرايا) من سبط اللاويين، كان حافظًا للتوراة.
وقد تفضّل عليه (كورش) ملك فارس فأطلقه من الأسر، وأطلق معه بني إسرائيل من الأسر الذي كان عليهم في بابل، وأذنهم بالرجوع إلى أورشليم وبناء هيكلهم فيه، وذلك في سنة 451 قبل المسيح، فكان عزرا زعيم أحبار اليهود الذين رجعوا بقومهم إلى أورشليم وجدّدوا الهيكل وأعاد شريعة التوراة من حِفْظه، فكان اليهود يعظّمون عِزرا إلى حدّ أن ادّعى عامّتهم أنّ عزرا ابن الله، غُلوا منهم في تقديسه، والذين وصفوه بذلك جماعة من أحبار اليهود في المدينة، وتبعهم كثير من عامّتهم.
وأحسب أنّ الداعي لهم إلى هذا القول أن لا يكونوا أخلياء من نسبة أحد عظمائهم إلى بنوة الله تعالى مثل قول النصارى في المسيح كما قال متقدموهم {اجعل لنا إلها كما لهم آلهة} [الأعراف: 138].
قال بهذا القول فرقة من اليهود فألصق القول بهم جميعًا لأنّ سكوت الباقين عليه وعدم تغييره يلزمهم الموافقة عليه والرضا به، وقد ذكر اسم عِزرا في الآية بصيغة التصغير، فيحتمل أنّه لمّا عرّب عُرب بصيغة تشبه صيغة التصغير، فيكون كذلك اسمه عند يهود المدينة ويحتمل أنّ تصغيره جرى على لسان يهود المدينة تحبيبًا فيه.
قرأ الجمهور {عزيرُ} ممنوعًا من التنوين للعجمة وهو ما جزم به الزمخشري وقرأه عاصم والكسائي ويعقوب: بالتنوين على اعتباره عربيًا بسبب التصغير الذي أدخل عليه لأنّ التصغير لا يدخل في الأعلام العجمية، وهو ما جزم به عبد القاهر في فصل النظم من دلائل الإعجاز، وتأوّل قراءة ترك التنوين بوجهين لم يرتضهما الزمخشري.
وأمّا قول النصارس ببنوة المسيح فهو معلوم مشهور.
وقد مضى الكلام على المسيح عند قوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} في سورة البقرة (87).
وعند قوله تعالى: {اسمه المسيح عيسى ابن مريم} في سورة آل عمران (45).
والإشارة بذلك إلى القول المستفاد من قالت اليهود وقالت النصارى.
والمقصود من الإشارة تشهير القول وتمييزه، زيادة في تشنيعه عند المسلمين.
و{بأفواههم} حال من القول، والمراد أنّه قول لا يعدو الوجودَ في اللسان وليس له ما يحقّقه في الواقع، وهذا كناية عن كونه كاذبًا كقوله تعالى: {كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبًا} [الكهف: 5].
وفي هذا أيضًا إلزام لهم بهذا القول، وسدّ باب تنصّلهم منه إذ هو إقرارهم بأفواههم وصريح كلامهم.
والمضاهاة: المشابهة، وإسنادها إلى القائلين: على تقدير مضاف ظاهرٍ من الكلام، أي يضاهي قولُهم.
و{الذين كفروا من قبل} هم المشركون: من العرب، ومن اليونان، وغيرهم، وكونُهم من قَبل النصارى ظاهر، وأمّا كونهم من قبللِ اليهود: فلأنّ اعتقاد بنوة عُزير طارئ في اليهود وليس من عقيدة قُدمائهم.
وجملة {قاتلهم الله} دعاء مستعمل في التعجيب، وهو مركّب يستعمل في التعجّب من عمل شنيع، والمفاعلة فيه للمبالغة في الدعاء: أي قتلهم الله قتلًا شديدًا.
وجملة التعجيب مستأنفة كشأن التعجب.
وجملة {أنى يؤفكون} مستأنفة.
والاستفهام فيها مستعمل في التعجيب من حالهم في الاتّباع الباطل، حتّى شبه المكان الذي يُصرفون إليه باعتقادهم بمكان مجهول من شأنه أن يُسأل عنه باسم الاستفهام عن المكان، ومعنى {يؤفكون} يُصرفون.
يقال: أفَكَه يأفِكه إذا صرفه، قال تعالى: {يؤفك عنه من أفك} [الذاريات: 9] والإفك بمعنى الكذب قد جاء من هذه المادّة لأنّ الكاذب يصرف السامع عن الصدق، وقد تقدّم ذلك غير مرة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَقَالَتِ النَّصَارَى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ}
هذا الادعاء فيه مساس بجلال الله تعالى، فالإنسان يتخذ ولدًا لعدة أسباب؛ إمَّا لأنه يريد أن يبقى ذِكْره في الدنيا بعد أن يرحل، والله سبحانه دائم الوجود؛ وإمَّا لكي يعينه ابنه عندما يكبر ويضعف، والله سبحانه وتعالى دائم القوة؛ وإما ليرث ماله وما يملك، والله تبارك وتعالى يرث الأرض ومن عليها. وإما ليكون عزوةً له، والله جل جلاله عزيز دائمًا. وهكذا تنتفي كل الأسباب التي يمكن أن تؤدي إلى هذا الادعاء. ولا يعقل أن يرسل الله سبحانه رسولًا ليبين للناس منهج الحق فإذا به يقول للناس: إنَّه ابن الله. إذن فهم لم يؤمنوا الإيمان الكامل بالله.
ويسوق الحق تبارك وتعالى قول كل من اليهود والنصارى: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله}.
وهكذا نجد أنهم لم ينزهوا الله وأخلُّوا بالإيمان الحق. ولابد أن نعلم أن من قالوا: إن عُزَيْرًا ابن الله ليسوا هم كل اليهود، بل جماعة منهم فقط هي التي جعلت عُزَيْرًا ابنًا لله لما رأى أفرادها على يديه نعمة أفاءها الله تعالى عليه، فقالوا: هذه نعمة عظيمة جدًا لا يمكن أن يعطيها ربنا لشخص عادي، بل أعطاها لابنه. ذلك أن اليهود بعد سيدنا موسى عليه السلام قتلوا الأنبياء، وعاقبهم الله بأن رفع التوراة من صدور الحافظين لها، ولكن طفلًا لم يعجبه مشهد قتل الأنبياء فخرج شاردًا في الصحراء مهاجرًا وهاربًا، فقابله شخص في الطريق فسأله: لماذا أنت شارد؟ فقال: خرجْت أطلب العلم. وكان هذا الشخص هو جبريل عليه السلام، فعلَّمه أن لله توراة، فحفظها فصار واحدًا من أربعة، هم فقط من حفظوا التوراة: موسى، وعيسى، وعزير، واليسع، ولأن الكتب قديمًا لم تكن تكتب على ورق رقيق مثل زماننا، بل كانت تكتب على الأحجار وسعف النخيل، لذلك كان وزن التوراة يقدر بسبعين حِمْل بعير، وحين رجع عزير حافظًا للتوراة، اندهش قومه وقالوا: لابد أنه ابن الله؛ لأن الله أعطاه التوراة وآثره على القوم جميعًا. ونشأت جماعة من اليهود تؤمن بذلك، وكان منهم سلاَّم بن مشكم، وشاس بن قيس، ومالك ابن الصيف، ونعمان بن أوفى. وحينما أنزل الله قوله: {وَقَالَتِ اليهود عُزَيْرٌ ابن الله} لم ينكر اليهود المعاصرون لهذا النزول تلك المسألة ولم يكذبوها، فكأن هناك من اليهود الذين كانوا بالمدينة من كان يؤمن بذلك، وإلا لاعترضوا على هذا القول، وهذا دليل على أن ما جاء بالآية يصدق على بعضهم أو هم عالمون بأن قومًا منهم قد قالوا ذلك. وكذلك قالت النصارى عن عيسى عليه السلام، فجاء قول الحق تبارك وتعالى: {وَقَالَتْ النصارى المسيح ابن الله}
ويتابع الحق: {ذلك قَوْلُهُم} فيوضح لنا سبحانه أن النبوة لله جاءت فيها مشبهة، كان يجب أن يلتفتوا إليها وينزهوا الله عن ذلك؛ لأن الحق سبحانه وتعالى يصف عباده بأنهم عباد الله، وأن الخلق كلهم خلق الله تعالى.
فالمولى سبحانه وتعالى وهو الخالق والقادر على كل شيء خلق كل الخلق من عدم ولم يتخذ صاحبة ولا ولدًا. ولكن الشبهة عند بعض من أتباع المسيح جاءت من أنه أوجِدَ من دون أب، ونقول لهم: لو أن هذا الأمر جاء لكم من هذا الطريق، فكان من الأوْلى أن تجيء ذات الشبهة في خلق آدم؛ لأن قصارى ما في المسيح أنه جاء من غير أب، ولكن آدم جاء من غير أب ومن غير أم، فأيهما كان أوْلى أن يكون ابن إله؟
ولذلك يقول القرآن الكريم: {إِنَّ مَثَلَ عيسى عِندَ الله كَمَثَلِ ءَادَمَ}. والحق سبحانه وتعالى يخلق الشيء- أي شيء- بأسباب، وكل الأَسباب مخلوقة له، والولد منا- في جمهرة الناس- ينشأ من اجتماع الأب والأم، والشيء المردود بين شيئين له صور منطقية أربعة: إما أن يوجد بوجود شيئين ذكر وأنثى، وإما أن يوجد بانعدام الشيئين مثل آدم، وإما أن يوجد بوجود واحد من الشيئين وهو الذكر مثل حواء، فقد خلقها الله من آدم مصداقًا لقوله: {وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا}، وإما بوجود واحد من الشيئين وهي الأنثى وخلق عيسى عليه السلام منها بدون وجود الذكر. وليعلمنا الله سبحانه وتعالى جميعًا أن الأسباب لا دخل لها في التكوين، وأن المسبِّب هو القادر على أن يوجِد من غير أب وأم كما أوجد آدم، وأن يوجد من أب وأم كما أوجد جمهرة الناس، وأن يوجد من أم دون أب كما أوجد عيسى، وأن يوجد من دون أم كما أوجد حواء.
إذن: فالقسمة دائرة بقدرة الله وإرادته، ولا دخل لأحد إلا إرادة الحق سبحانه وتعالى، فالأسباب ليست هي الفاعلة في ذاتها، بل إرادة الخالق سبحانه هي الفاعلة، ولذلك يقول المولى سبحانه وتعالى: {لِلَّهِ مُلْكُ السموات والأرض يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ يَهَبُ لِمَن يَشَاءُ إِنَاثًا وَيَهَبُ لِمَن يَشَاءُ الذكور أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْرَانًا وَإِنَاثًا وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ} [الشورى: 49-50].
أي: قد يوجد الذكر والأنثى ولا يعطي لهما الحق عز وجل أولادًا، وهذه طلاقة قدرة من الله تعالى، فإياك أن تقول إنها بأسباب، بل سبحانه وتعالى يَهَبُ لمن يشاء إناثًا، ويهب لمن يشاء ذكورًا، ويجمع لمن يشاء بين الذكور والإناث، ويجعل من يشاء عقيمًا، وكان استقبال الناس للمواليد يختلف؛ فالعرب كانوا يحبون إنجاب الذكر؛ لأنه قوي ويحقق العزوة ويركب الخيل، ويحارب الأعداء. ولم يكونوا يحبون إنجاب الفتاة لأنها قد تأتي منها الفضائح، ولذلك يقول الحق تبارك وتعالى: {وَإِذَا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بالأنثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَهُوَ كَظِيمٌ يتوارى مِنَ القوم مِن سواء مَا بُشِّرَ بِهِ...} [النحل: 58-59].
وجاء الإسلام ليوضح: أنه ما دام لا دخل لك في الإنجاب والإنسال، فَدع الأمر لمن يهب الأبناء. وقد سمى الحق تبارك وتعالى الأبناء هبة ليذكرك أن الإنجاب شيء أعطاه سبحانه لك بلا مقابل منك، فالذكور هبة، والإناث أيضا هبة. فلا تفضل تلك الهبة عن هذه الهبة. ودائمًا أقول للذي ينجب بنات، ويذهب هو وزوجته إلى الأطباء: لو استقبلتم هبة الله في الإناث كما تستقبلونها في الذكور، فإن الحق سبحانه وتعالى يجزيكم جزاء لا يخطر لكم على البال، فيحسن الله كل ابنة لكم في عين رجل صالح ويتزوجها، فإن كُن عشر بنات فهُنَّ يأتين بعشرة رجال أزواج يعاملون الأب والأم لكل زوجة معاملة الأب والأم، وهكذا يرزق الله من يرضى بقسمة الله في الإنجاب، ويصبح أزواج البنات أطوع من الأبناء الذكور، فالذي يرضى بالهبة في الإناث يوضح له الله: رضيتَ بهبتي فيك ولم تكن على سنة العرب من كراهة الإناث؛ لذلك أهبك من أزواج البنات أبناء لم تتعب في تربيتهم ويكونون أكثر حنانًا وولاءً من أي أبناء تنجبهم أنت. ولذلك إذا ما وجدت إنسانًا قد وُفِّقَ في زيجات بناته، من رجال يصونون أعراضهم ويحسنون معاملة أهل الزوجة، فاعلم أن الأب قد استقبل ميلاد الأنثى بالرضا؛ لأنها هبة الله.
ويقول المولى سبحانه وتعالى: {وَيَجْعَلُ مَن يَشَاءُ عَقِيمًا} [الشورى: 50].
إذن: فالعقم أيضًا هبة إلهية؛ لأن الإنسان إذا ما استقبل العقم برضا الله؛ لَوَجَد في كل رجل يراه ابنًا له؛ لأنه استقبل الهبة في المنع برضا، مثله مثل من استقبل الإناث كاستقبال الذكور. إذن: ما دامت المسألة هبة من الله فيجب أن تستقبل عطاء الله ومنعه بالرضا.