فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «يا عدي! ما تقول؟ أيضرك أن يقال: الله أكبر؟ فهل تعلم شيئًا أكبر من الله؟ ما يضرك أن يقال: لا إله إلا الله، فهل تعلم إلهًا غير الله»؟ ثم دعاه إلى الإسلام فأسلم وشهد شهادة الحق.
قال فلقد رأيت وجهه استبشر، ثم قال: «إن اليهود مغضوب عليهم والنصارى ضالون».
قال ابن كثير: وهكذا قال حذيفة بن اليمان وابن عباس وغيرهما في تفسير هذه الآية، أنهم اتبعوهم فيما حللوا وحرموا.
وقال السدّي: استنصحوا الرجال، ونبذوا كتاب الله وراء ظهورهم.
وقد ذكر بعض المفسرين وجهًا في تفسير اتخاذهم أربابًا، قال: بأن أطاعوهم بالسجود لهم.
قال الشهاب: والأول هو تفسير النبيّ صلى الله عليه وسلم، فينبغي الاقتصار عليه، لأنه لما أتاه عديّ بن حاتم وهو يقرؤها قال له: إنا لم نعبدهم، فقال: «ألم تتبعوهم في التحليل والتحريم؟ فهذه هي العبادة»، والناس يقولون: فلان يعبد فلانًا، إذا أفرط في طاعته، فهو استعارة بتشبيه الإطاعة بالعبادة، أو مجاز مرسل بإطلاق العبادة، وهي طاعة مخصوصة على مطلقها، والأول أبلغ. انتهى.
فقال: رازي: قال الربيع: قلت لأبي العالية: كيف كانت تلك الربوبية في بني إسرائيل؟ فقال: إنهم ربما وجدوا في كتاب الله ما يخالف أقوال الأحبار والرهبان، فكانوا يأخذون بأقوالهم، وما كانوا يقبلون حكم كتاب الله تعالى.
قال الرازي: قال شيخنا ومولانا خاتمة المحققين والمجتهدين رضي الله عنه: قد شاهدت جماعة من مقلدة الفقهاء، قرأت عليهم آيات كثيرة في كتاب الله تعالى في بعض مسائل، وكانت مذاهبهم بخلاف تلك الآيات، فلم يقبلوا تلك الآيات ولم يلتفتوا إليها، وبقوا ينظرون إليّ كالمتعجب، يعني كيف يمكن العمل بظواهر هذه الآيات، مع أن الرواية عن سلفنا وردت على خلافها؟ ولو تأملت حق التأمل وجدت هذا الداء ساريًا في عروق الأكثرين من أهل المدينة. انتهى.
{وَمَا أُمِرُوا} أي: والحال أن أولئك الكفرة ما أمروا في كتابهم: {إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا} أي: يطيعوا أمره، ولا يطيعوا أمر غيره بخلافه، وقوله: {لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ} صفة ثانية لإله، أو استئناف مقرر للتوحيد: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} أي: به في العبادة والطاعة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}
الجملة تقرير لمضمون جملة {وقالت اليهود عزير ابن الله وقالت النصارى المسيح ابن الله} [التوبة: 30] ليُبنى على التقرير زيادة التشنيع بقوله: {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدًا} إلخ، فوزان هذه الجملة وزان جملة {اتخذوه وكانوا ظالمين} [الأعراف: 148] بعد جملة {واتخذ قوم موسى من بعده من حليهم عجلًا جسدًا له خوار} [الأعراف: 148].
والضمير لليهود والنصارى.
والأحبار جمع حَبَر بفتح الحاء وهو العالِم من علماء اليهود.
الرهبان اسم جمع لراهب وهو التقي المنقطع لعبادة الله من أهل دين النصرانية، وإنّما خص الحَبر بعالمِ اليهود لأنّ عظماء دين اليهودية يشتغلون بتحرير علوم شريعة التوراة فهم علماء في الدين وخصّ الراهب بعظيم دين النصرانية لأنّ دين النصارى قائم على أصل الزهد في الدنيا والانقطاع للعبادة.
ومعنى اتّخاذهم هؤلاء أربابًا أنّ اليهود ادّعوا لبعضهم بنوةَ الله تعالى وذلك تأليه، وأنّ النصارى أشدّ منهم في ذلك إذ كانوا يسجدون لصور عظماء ملّتهم مثل صورة مريم، وصور الحواريين، وصورة يحيى بن زكرياء، والسجود من شعار الربوبية، وكانوا يستنصرون بهم في حروبهم ولا يستنصرون بالله.
وهذا حال كثير من طوائفهم وفرقهم، ولأنّهم كانوا يأخذون بأقْوال أحبارهم ورهبانهم المخالفة لما هو معلوم بالضرورة أنّه من الدين، فكانوا يعتقدون أنّ أحبارهم ورهبانهم يحلّلون ما حرم الله، ويحرّمون ما أحلّ الله، وهذا مطرد في جميع أهل الدينين، ولذلك أفحم به النبي صلى الله عليه وسلم عديًا بنَ حاتم لمّا وفد عليه قُبيل إسلامه لما سمع قوله تعالى: {اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أربابًا من دون الله} وقال عدي: لسنا نعبدهم فقال: «أليس يحرّمون ما أحلّ الله فتحرّمونه ويحلّون ما حرّم الله فتستحلّونه فقلت: بلى قال: فتلك عبادتهم». فحصل من مجموع أقوال اليهود والنصارى أنّهم جعلوا لبعض أحبارهم ورهبانهم مرتبة الربوبية في اعتقادهم فكانت الشناعة لازمة للأمتين ولو كان من بينهم من لم يقل بمقالهم كما زعم عدي بن حاتم فإنّ الأمّة تؤاخذ بما يصدر من أفرادها إذا أقرته ولم تنكره، ومعنى اتّخاذهم أربابًا من دون الله أنّهم اتّخذوهم أربابًا دون أن يفردوا الله بالوحدانية، وتخصيص المسيح بالذكر لأنّ تأليه النصارى إياه أشنع وأشهر.
وجملة {وما أمروا إلا ليعبدوا إلها واحدًا} في موضع الحال من ضمير {اتخذوا أحبارهم}، وهي محطّ زيادة التشنيع عليهم وإنكار صنيعهم بأنّهم لا عذر لهم فيما زعموا، لأنّ وصايا كتب الملّتين طافحة بالتحذير من عبادة المخلوقات ومن إشراكها في خصائص الإلهية.
وجملة {لا إله إلّا هو} صفة ثانية لـ {إلهًا واحدًا}.
وجملة {سبحانه عما يشركون} مستأنفة لقصد التنزيه والتبرّئ ممّا افتروا على الله تعالى، ولذلك سمي ذلك إشراكًا. اهـ.

.قال الشعراوي:

{اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ}
والحَبْر هو لقب عند اليهود، وهو العالم. ويقال في اللغة حِبر أو حَبْرُ أي رجل يدقق الكلام ويزنه بأسلوب عالم. والرهبان عند النصارى والمقصود بهم المنقطعون للعبادة، فالحَبر عالِم اليهود، والراهب عابد النصارى، أما عالم النصارى فيسمى قسيس ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {قِسِّيسِينَ وَرُهْبَانًا} [المائدة: 82].
فإن قصدنا عالم الدين المسيحي قلنا: قسيس، وإن قصدنا رجل التطبيق أي العابد قلنا: الراهب والراهب هو من يقول: إنه انقطع لعبادة الله فوق ما طلب الله منه من جنس ما طلب، ونعلم أنه لا رهبانية في الإسلام، ولكن الإنسان يستطيع أن يتقرب إلى الله كما يحلو له من جنس ما طلب الله منه، فإن كان الحق عز وجل قد أمر بإقامة الصلاة خمس مرات في اليوم، فالمسلم الذي يرغب في زيادة التقرب إلى الله يمكنه أن يصلي ضعف عدد مرات الصلاة، وإذا كان الحق سبحانه قد فرض أن تكون الزكاة بمقدار اثنين ونصف في المائة، فالعبد الصالح قد يزيد ذلك بضعفه أو أضعافه. وهذه زيادة من جنس ما فرض الله تعالى وزيادة، وهذا يعني في الإسلام الدخول إلى مقام الإحسان، واقرأ إن شئت قول الحق تبارك وتعالى: {إِنَّ المتقين فِي جَنَّاتٍ وَعُيُونٍ آخِذِينَ مَا آتَاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كَانُواْ قَبْلَ ذَلِكَ مُحْسِنِينَ} [الذاريات: 15- 16].
أي: أنهم قد دخلوا إلى مقام الإحسان أي ارتقوا فوق مقام الإيمان. ويزيدنا الحق علمًا بمقام الإحسان فيقول: {كَانُواْ قَلِيلًا مِّن الليل مَا يَهْجَعُونَ وبالأسحار هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ وفي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ لَّلسَّائِلِ والمحروم} [الذاريات: 17-19].
وسبحانه لا يطلب منا في فروض الدين ألا نهجع إلا قليلا من الليل، بل نصلي العشاء وننام إلى الفجر. لكن إنْ قام الإنسان منَّا وتهجد فذلك زيادة عما فرض الله ولكنه من جنس ما فرض الله. وكذلك الاستغفار فمن تطوع به فهو خير له. وكذلك الصدقة على غير المحتاج، فهنا زيادة في العطاء على ما فرضه الله من الزكاة التي حُدِّدَتْ من قبل في قول الحق تبارك وتعالى: {والذين في أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَّعْلُومٌ} [المعارج: 24].
والرهبانية كانت رغبة من بعضهم في الدخول إلى مقام الإحسان، ولكن الحق لم يفرضها عليهم؛ لأنه هو الذي خلق وَعلم أزلًا قدرات من خلق، لذلك قال الحق وتعالى: {وَرَهْبَانِيَّةً ابتدعوها مَا كَتَبْنَاهَا عَلَيْهِمْ} [الحديد: 27].
هم إذن قد ابتدعوها ابتغاء رضوان الله وزيادة في العبادة، وليس في ذلك ملامة عليهم، ولكنها ضد الطبيعة البشرية؛ لذلك لم يراعوا الرهبانية حق رعايتها، ويقول المولى سبحانه وتعالى هنا في الآية الكريمة التي نحن بصدد خواطرنا عنها: {اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا} فهل معنى ذلك أنهم يقولون للحبر أو الراهب رب؟ لا، ولكن كانت معاملتهم لهم كمن يعامل ربه؛ لأن الله هو الذي يُحل ويحرم بافعل ولا تفعل، فإذا جاء هؤلاء الأحبار وأحلُّوا شيئًا حرمه الله أو حرَّموا شيئًا أحلَّه الله، فهم إنما قد أخذوا صفة الألوهية فوصفوهم بها؛ لأن التحليل والتحريم هي سلطة الله، فلذلك عندما دخل عدي بن حاتم على سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد الرسول صلى الله عليه وسلم في عنق الرجل صليبًا من الذهب أو من الفضة قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: «اخلع هذا الوثن»، ومن أدب الرجل مع الرسول خلع الصليب. وقال صلى الله عليه وسلم: «إنكم لتتخذون الأحبار والرهبان أربابًا». فقال الرجل: نحن لا نعبدهم.. قال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: أولا تطيعونهم فيما حرموا وأحلوا؟ قال: نعم. قال: «تلك هي العبادة».
{اتخذوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مِّن دُونِ الله والمسيح ابن مَرْيَمَ} ولسائل أن يسأل: وما معنى عطف المسيح على الأرباب، وعلى الأحبار والرهبان؟ والإجابة: إن الذي يحلل ويحرم إن لم يكن رسولًا، فهو إنسان يطلب السلطة الزمنية، وذلك لا يتأتى من الرسول؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم إنما جاء ليلفت الناس إلى عبادة الله بما شرعه الله، وعيسى عليه السلام هو رسول لم يقم إلا بالبلاغ عن الله، ولكن البعض أخطأ التقدير وظن أنه ابن الله، ولذلك يتابع الحق قوله: {وَمَا أمروا إِلاَّ ليعبدوا إلها وَاحِدًا لاَّ إله إِلاَّ هُوَ سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وهكذا يذكر الحق أن الأمر لم يصدر منه سبحانه وتعالى إلا بأن يعبد من يؤمن بالرسالات الإله الواحد. ورسولنا صلى الله عليه وسلم يقول: «خير ما قلته أنا والنبيون: لا إله إلا الله».
وأنت حين تنظر إلى: «لا إله إلا الله» تجد النفي في لا والاستثناء من النفي والإثبات في إلا، وهذا نفي الألوهية عن غير الله وإثباتها له وحده، وحين نقول: الله واحدا فهذا يتضمن الإثبات فقط. ويأخذ الفلاسفة الذين يملكون قوة الأداة والبيان من هذه القضية الإثبات والنفي، أو الموجب والسالب، ويقولون: كل التقاء بين موجب وسالب إنما يعطي طاقة، والطاقة يمكن استخدامها في الإنارة أو تدار بها آلة، وكذلك الطاقة الإيمانية تحتاج إلى سالب وموجب، ويقول الشاعر إقبال:
إنما التوحيدُ إيجَابٌ وسَلبٌ ** فِيهِما للنفْسِ عزمٌ ومَضَاء

ويقول سبحانه وتعالى تذليلًا للآية الكريمة: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} وحين تسمع كلمة {سُبْحَانَهُ} فاعرف أنها للتنزيه، فلا ذات مثل ذات الله، ولا صفة مثل صفات الله، فالله عني وأنت غني، فهل غناك الحادث مثل غنى الله الأزلي؟ وأنت حي والله حي، فهل حياتك الموقوتة مثل حياته؟ فحياته ذاتية وحياتك موهوبة، فسبحانه حي بذاته، ولذلك يجب أن تفرق بين اسمه الحي واسمه المحيي، فهو حي في ذاته، ومُحْي لغيره، وإن كانت الصفة لله في الذات فهي لا تتعدى إلى الغير، إن الله يوصف بها ولا يوصف بنقيضها، فتقول حي ولا تقول المقابل، ولكن إن قلت: محيي فأنت تأتي بالمقابل وتقول: مميت.
وتقول: قابض وباسط ورحيم وقهار.
إذن: فصفة الذات يتصف الله بها ولا يتصف بمقابلها، وأما صفة الفعل فيتصف بها ويتصف بمقابلها لأنها في غيره، فسبحانه هو مُحي لغيره، ومميت لغيره، لكنه حي في ذاته. إذن فكلمة {سُبْحَانَهُ} تعني التنزيه ذاتًا، وصفاتٍ، وأفعالًا، وإذا جاء فعل من الله، ويأتي مثله فعل من البشر، نقول: إن فعل الله عز وجل غير فعل البشر لأن فعل الله بلا علاج، ولكن فعل البشر بعلاج، بمعنى أن كل جزئية من الزمن تأخذ قدرًا من الفعل، كأن تنقل شيئًا من مكان إلى مكان، فأنت تأخذ وقتًا وزمنًا على قدر قوتك، أما فعل الله عز وجل فلا يحتاج إلى زمن، وقوته سبحانه وتعالى لا نهائية.
ولذلك حين قال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم: لقد أسْرِيَ بي إلى بيت المقدس، قال من سمعوه: أتدعي أنك أتيتها في ليلة ونحن نضرب إليها أكباد الإبل شهرًا؟ لكن لم يلتفت أحد منهم إلى أن محمدًا صلى الله عليه وسلم لم يقل: لقد ذهبت إليها بقوتي، بل قال: لقد أسرِيَ بي من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى. إذن: فالذي أسْرَى هو الله القوي القادر ولا يحتاج الله إلى زمن.
إذن: فـ {سُبْحَانَهُ} هي تنزيه لله سبحانه وتعالى عن أي شيء يوجد في البشر. ولا تقارن قدرة الله سبحانه وتعالى بقدرة البشر مهما كان، بل إن العمل ينسب لقدرة صاحبه، وكلما زادت القوة زادت القدرة والله هو القوي. وقوله تعالى: {سُبْحَانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ} هو تنزيه لله، ولا تجد بشرًا يقول لبشر حتى من الكفار الذين يعاندون الإيمان، لا يقول واحد منهم لآخر سبحانك لأن التنزيه أمر يختص به الله عز وجل.