فصل: فصل اسْتِطْرَادِيٌّ فِي هَيْمَنَةِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَشَهَادَتِهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(7) إِنَّ اسْتِشْهَادَهُ عَلَى كَلِمَةِ ابْنِ اللهِ بِمَا جَاءَ فِي الْفَصْلِ 3 مِنْ سِفْرِ دَانْيَالَ غَرِيبٌ جِدًّا جِدًّا، فَإِنَّ عَادَتَهُ فِي قَامُوسِهِ أَنْ يَذْكُرَ بِجَانِبِ كُلِّ كَلِمَةٍ تَفْسِيرًا لَهَا وَشَاهِدًا عَلَيْهَا مِنْ كَلَامِ اللهِ أَوْ كَلَامِ الْأَنْبِيَاءِ، وَالْعِبَارَةُ الَّتِي ذَكَرَهَا هُنَا هِيَ كَلِمَةُ الْمَلِكِ بَابِلَ نِبُوخَذْ نَصْرِ الْوَثَنِيِّ قَالَهَا فِي أَحَدِ الْأَفْرَادِ الَّذِينَ أَلْقَاهُمْ فِي أَتُونِ النَّارِ وَلَمْ يَحْتَرِقُوا، وَهِيَ وَمَنْظَرُ الرَّابِعِ شَبِيهٌ بِابْنِ الْآلِهَةِ فَلْيَنْظُرِ الْمُسْلِمُونَ وَغَيْرُهُمْ مِنَ الْعُقَلَاءِ بِمَ يُؤَيِّدُ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى تَسْمِيَتَهُمُ الْمَسِيحَ ابْنَ اللهِ؟! وَبِمَ يُثْبِتُونَ أَنَّ لِلَّهِ ابْنًا حَقِيقِيًّا؟ إِنَّهُمْ يُحَاوِلُونَ إِثْبَاتَ هَذَا أَوْ يُؤَيِّدُونَهُ بِكَلَامِ الْوَثَنِيِّينَ فِي عَقَائِدِهِمْ، ثُمَّ يُنْكِرُونَ أَنَّهُمْ وَثَنِيُّونَ.
(8) إِنَّهُ حَاوَلَ أَنْ يُفَرِّقَ بَيْنَ مَا أَمَرَ الْمَسِيحُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ خِطَابِهِمْ لِلَّهِ تَعَالَى فِي الصَّلَوَاتِ بِقَوْلِهِ فِي أَوَّلِ الصَّلَاةِ الرَّبَّانِيَّةِ أَبَانَا الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ إِلَخْ وَمَا فِي مَعْنَاهُ كَقَوْلِهِ أَبِي وَأَبِيكُمْ وَبَيْنَ رِوَايَتِهِمْ عَنْهُ فِي بَعْضِ الْمَوَاضِعِ مِنْ قَوْلِهِ أَبِي فَهُوَ يَزْعُمُ تَقْلِيدًا لِرُؤَسَاءِ مَلَّتِهِ أَنَّ إِضَافَةَ الْأَبِ إِلَى ضَمِيرِ الْمُتَكَلِّمِ مِنْهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَإِضَافَتَهُ إِلَى ضَمِيرِ الْجَمِيعِ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ قَوْلِ أَبَانَا دَلِيلٌ عَلَى أَنَّ أُبُوَّتَهُ تَعَالَى لَهُ حَقِيقِيَّةٌ وَأُبُوَّتَهُ لِلْمُؤْمِنِينَ عَلَى سَبِيلِ التَّبَنِّي.
وَهَذَا مِنْ أَغْرَبِ مَا يُؤْثَرُ عَنْهُمْ مِنَ التَّحَكُّمِ وَالِابْتِدَاعِ الْمُخَالِفِ لِلُّغَةِ وَلِلْعَقْلِ وَلِلنَّقْلِ الْمَأْثُورِ عَنِ الْأَنْبِيَاءِ، فَأُبُوَّةُ اللهِ الْحَقِيقِيَّةُ لِبَعْضِ الْبَشَرِ أَوْ غَيْرِهِمْ مِنَ الْخَلْقِ لَا تُعْقَلُ، وَأُبُوَّةُ التَّبَنِّي تَزْوِيرٌ يَجِلُّ اللهُ عَنْهُ كَمَا يَتَنَزَّهُ عَنْ مُجَانَسَةِ الْخَلْقِ بِالْأُبُوَّةِ الْحَقِيقِيَّةِ، وَالْأَظْهَرُ فِي هَذِهِ الْأُبُوَّةِ فِي كُلِّ مَوْضِعٍ إِنْ صَحَّ النَّقْلُ أَنَّهَا مَجَازٌ عَنِ الرَّحْمَةِ وَالرَّأْفَةِ وَالتَّكْرِيمِ، وَلَا نُنْكِرُ أَنَّ حَظَّ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنْهَا جَدِيرٌ بِأَنْ يَكُونَ أَعْلَى مِنْ حَظِّ يَعْقُوبَ وَأَفْرَايِمَ وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ مِمَّنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِمْ هَذَا اللَّقَبُ فِي أَسْفَارِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ، وَمِنَ الْكُفْرِ الصَّرِيحِ، وَالطَّعْنِ فِي تَنْزِيهِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ عِنْدَنَا وَعِنْدَ كُلِّ عَاقِلٍ مُسْتَقِلِّ الْفِكْرِ أَنْ يُقَالَ: إِنَّ لَهُ سُبْحَانَهُ ابْنًا حَقِيقِيًّا، وَأَبْنَاءَ بِالتَّبَنِّي، أَيْ أَدْعِيَاءَ، وَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ يَقُولُ فِي أَبْنَاءِ التَّبَنِّي الَّذِي كَانَ مَعْهُودًا عِنْدَ الْعَرَبِ وَأَبْطَلَهُ بِالْإِسْلَامِ: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ} [33: 4 و5].
وَأَمَّا الْفَرْقُ بَيْنَ ضَمِيرِ الْجَمْعِ وَضَمِيرِ الْمُفْرَدِ فِيمَا نَقَلُوهُ فَسَبَبُهُ يَعْرِفُهُ الْعَوَامُّ كَالْخَوَاصِّ، وَهُوَ أَنَّ الْجَمْعَ لِلْجَمَاعَةِ وَالْمُفْرَدَ لِلْمُفْرَدِ، وَلَوْ نَقَلُوهُ عَنِ الْمَسِيحِ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ فِي صَلَاتِهِ: أَبِي الَّذِي فِي السَّمَاوَاتِ لَكَانَ لَهُمْ شُبْهَةٌ فِي هَذِهِ التَّفْرِقَةِ. عَلَى أَنَّهُ مُعَارَضٌ بِقَوْلِ الرَّبِّ فِي دَاوُدَ (مز 89: 26 هُوَ يَدْعُونِي أَنْتَ أَبِي) فَإِذَا كَانَتْ إِضَافَةُ لَفْظِ أَبٍ إِلَى ضَمِيرِ الْمُفْرَدِ الْمُتَكَلِّمِ تَقْتَضِي أَنْ يَكُونَ الْمُضَافُ إِلَيْهِ ابْنًا حَقِيقِيًّا لِلَّهِ تَعَالَى، فَقَدْ كَانَ هَذَا الْفَخْرُ لِدَاوُدَ قَبْلَ الْمَسِيحِ، وَأَنَّ لِإِضَافَةِ ابْنٍ إِلَى ضَمِيرِ الرَّبِّ الْمُفْرَدِ مِنَ الِاخْتِصَاصِ مَا يُسَاوِي بَلْ يَفُوقُ إِضَافَةَ لَفْظِ الْأَبِ إِلَى ضَمِيرِ الْعَبْدِ. وَقَدْ تَقَدَّمَ مَا فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ مِنْ قَوْلِ الرَّبِّ (4: 22 ابْنِي بِكْرِي إِسْرَائِيلُ) وَمِثْلَهُ قَوْلُهُ فِي سِفْرِ أَرْمَيَا (31: 9 إِنِّي صِرْتُ أَبًا لِإِسْرَائِيلَ وَإِفْرَايِمَ هُوَ بِكْرِي) وَوَصْفُ الْأَبِ الِابْنَ بِكَوْنِهِ بِكْرًا لَهُ يَقْرُبُ بِهِ مِنَ الْحَقِيقَةِ أَوِ الِاخْتِصَاصِ مَا لَا يَقْرُبُ مِثْلَهُ بِإِضَافَةِ الِابْنِ اسْمَ أَبِيهِ إِلَى ضَمِيرِ نَفْسِهِ، إِذْ مِنَ الْمَعْلُومِ أَنَّ الْمُتَبَنَّى يُخَاطِبُ مُتَبَنِّيَهُ وَيُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ أَبِي كَالِابْنِ مِنَ الصُّلْبِ، وَلَكِنَّ الرَّجُلَ لَا يَصِفُ مَنْ تَبَنَّاه، وَلَا يُخْبِرُ عَنْهُ بِقَوْلِهِ ابْنِيَ الْبِكْرِ.
(9) قَوْلُهُ: إِنَّ الْمُؤْمِنِينَ أَعْضَاءٌ فِي عَائِلَةِ اللهِ الرُّوحِيَّةِ- مَا أَمْلَاهُ عَلَيْهِ إِلَّا أَنَّ عَقْلَهُ لَا يَفْهَمُ مِنْ لَفْظِ ابْنِ اللهِ وَأَبْنَاءِ اللهِ إِلَّا الْمَعْنَى الْمَجَازِيَّ. وَمُقْتَضَاهُ أَنَّ كُلَّ مَا يُعْقَلُ مِنْ نُصُوصِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ فِي إِطْلَاقِ اللَّفْظِ عَلَى الْمَسِيحِ بِكَثْرَةٍ أَوْ نَوْعِ امْتِيَازٍ، إِنَّمَا يُرَادُ بِهِ أَنَّهُ عَلَيْهِ السَّلَامُ كَانَ أَفْضَلَ مِنْ غَيْرِهِ مِنْ أَعْضَاءِ هَذِهِ الْعَائِلَةِ الرُّوحِيَّةِ الْمُدَّعَاةِ، وَالْمُسْلِمُونَ لَا يُنْكِرُونَ هَذَا الِامْتِيَازَ فَإِنَّهُمْ يُفَضِّلُونَهُ عليه السلام عَلَى أَجْدَادِهِ إِسْرَائِيلَ وَدَاوُدَ وَغَيْرِهِمَا مِمَّنْ أُطْلِقَ عَلَيْهِ لَقَبُ (ابْنِ اللهِ) فِي الْعَهْدِ الْقَدِيمِ بَلْ يُفَضِّلُونَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَنْبِيَاءِ مَا عَدَا إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَمُحَمَّدَ صَلَوَاتُ اللهِ وَسَلَامُهُ عَلَيْهِمْ أَجْمَعِينَ.
(10) إِنَّنَا عَلَى بَحْثِنَا هَذَا فِي كَلَامِهِ لِإِقَامَةِ الْحُجَّةِ عَلَى النَّصَارَى كُلِّهِمْ نُنْكِرُ لَفْظَ عَائِلَةِ اللهِ وَأَمْثَالَهُ مِمَّا يُخِلُّ بِتَنْزِيهِ اللهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ عَمَّا تَقْتَضِيهِ مِنَ الْمُجَانَسَةِ، فَهُوَ عَزَّ وَجَلَّ لَيْسَ لَهُ جِنْسٌ مَادِّيٌّ وَلَا رُوحِيٌّ {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} [42: 11] و{سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} [37: 180] و{قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ اللهُ الصَّمَدُ لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُوًا أَحَدٌ} [112: 1- 4].
وَأَمَّا مَعْنَى {رُوحِ الْقُدُسِ} وَبُطْلَانُ مَا زَعَمُوهُ مِنْ كَوْنِهِ هُوَ اللهَ فَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ مُفَصَّلًا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: {وَأَيَّدْنَاهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ} [2: 87] وَآيَةِ: {وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ} [4: 171] الْمُشَارُ إِلَيْهَا فِيمَا تَقَدَّمَ قَرِيبًا.
(11) إِنَّهُ مِنْ أَجْلِ عَدَاوَتِهِ لِلتَّوْحِيدِ، وَلِتَنْزِيهِ الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ عَنِ الْجِنْسِ وَالْوَلَدِ وَالشَّرِيكِ، لَمْ يَذْكُرْ فِي صِفَاتِهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا وَرَدَ فِي الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ، مِنْ تَنَزُّهِهِ تَعَالَى عَنِ النِّدِّ وَالنَّظِيرِ وَالشَّبِيهِ، الَّذِي يَجِبُ بِحُكْمِ الْعَقْلِ أَنْ تُئَوَّلَ لِأَجْلِهِ أَوْ تُحْمَلَ عَلَيْهِ وَتُقَيَّدَ بِهِ جَمِيعُ النُّصُوصِ الدَّالَّةِ عَلَى التَّشْبِيهِ، كَمَا جَعَلَ الْمُسْلِمُونَ قَوْلَهُ عَزَّ وَجَلَّ: {لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ} وَقَوْلَهُ: {سُبْحَانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ} أَصْلَ عَقِيدَةِ التَّنْزِيهِ وَقَيَّدُوا بِهَا مَعَانِيَ الْآيَاتِ الْمُوْهِمَةِ لِلتَّشْبِيهِ. وَقَدْ جَاءَ فِي سِفْرِ الِاسْتِثْنَاءِ مِنْ أَسْفَارِ التَّوْرَاةِ [4: 12] فَكَلَّمَكُمُ الرَّبُّ مِنْ جَوْفِ النَّارِ فَسَمِعْتُمْ صَوْتَ كَلَامِهِ، وَلَمْ تَرَوُا الشَّبَهَ أَلْبَتَّةَ (15) فَاحْفَظُوا أَنْفُسَكُمْ بِحِرْصٍ فَإِنَّكُمْ لَمْ تَرَوْا شَبَهًا يَوْمَ كَلَّمَكُمُ الرَّبُّ فِي حُورِيبَ مِنْ جَوْفِ النَّارِ وَالْعُقَلَاءُ مِنَ الْيَهُودِ يَرُدُّونَ جَمِيعَ الْعِبَارَاتِ الَّتِي ظَاهِرُهَا التَّشْبِيهُ وَالْأَعْضَاءُ لِلرَّبِّ تَعَالَى إِلَى هَذَا النَّصِّ النَّافِي لِلتَّشْبِيهِ.
وَقَدْ جَاءَ فِي إِنْجِيلِ يُوحَنَّا الَّذِي تَفَرَّدَ بِأَقْوَى الشُّبُهَاتِ عَلَى التَّثْلِيثِ مَا يَدُلُّ عَلَى التَّنْزِيهِ قَالَ (1: 18): اللهُ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ قَطُّ. الِابْنُ الْوَحِيدُ الَّذِي فِي حِضْنِ الْآبِ هُوَ الَّذِي خَبَّرَ وَمِثْلُهُ فِي الرِّسَالَةِ الْأُولَى لِيُوحَنَّا (4: 12 اللهُ لَمْ يَنْظُرْهُ أَحَدٌ) قَطُّ بَلْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ أُسْتَاذُهُ بُولُسُ فِي رِسَالَتِهِ الْأُولَى إِلَى نِيمُوتَادُسَ، فَإِنَّهُ وَصَّاهُ بِحِفْظِ الْوَصِيَّةِ إِلَى ظُهُورِ الْمَسِيحِ، وَقَالَ عَنْ هَذَا الظُّهُورِ: (15 الَّذِي سَيُبَيِّنُهُ فِي أَوْقَاتِهِ الْمُبَارَكُ الْوَحِيدُ مَلِكُ الْمُلُوكِ وَرَبُّ الْأَرْبَابِ 16 الَّذِي وَحْدَهُ لَهُ عَدَمُ الْمَوْتِ سَاكِنًا فِي نُورٍ لَا يُدْنَى مِنْهُ، الَّذِي لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ مِنَ النَّاسِ وَلَا يَقْدِرْ أَنْ يَرَاهُ أَحَدٌ الَّذِي لَهُ الْكَرَامَةُ وَالْقُدْرَةُ الْأَبَدِيَّةُ).
فَتَبَيَّنَ بِمَا تَقَدَّمَ أَنَّ هَذِهِ عَقِيدَةُ التَّثْلِيثِ، وَأُلُوهِيَّةُ الْمَسِيحِ الْمُخَالِفَةُ لِحُكْمِ الْعَقْلِ، لَيْسَ لَهَا أَصْلٌ فِي كُتُبِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ لَا قَطْعِيٌّ وَلَا ظَنِّيٌّ، وَأَنَّ شُبُهَاتِهَا فِي الْعَهْدِ الْجَدِيدِ ضَعِيفَةٌ لَيْسَتْ نَصًّا وَلَا ظَاهِرَةً فِيهَا. عَلَى أَنَّ كُتُبَ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ لَا يُوثَقُ بِهَا، فَإِنَّ النَّصَارَى قَدْ أَضَاعُوا أَكْثَرَ مَا كُتِبَ مِنْ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ فِي عَصْرِهِ ثُمَّ رَفَضَتْ مَجَامِعُهُمُ الْمَسْكُونِيَّةُ الرَّسْمِيَّةُ بَعْدَ دُخُولِ التَّعَالِيمِ الْوَثَنِيَّةِ فِيهِمْ مِنْ قِبَلِ الرُّومَانِيِّينَ أَكْثَرَ مَا وُجِدَ عِنْدَهُمْ مِنَ الْأَنَاجِيلِ الَّتِي كَانَتْ تُعَدُّ بِالْعَشَرَاتِ، وَقِيلَ بِالْمِئَاتِ، وَاعْتَمَدَتْ أَرْبَعًا مِنْهَا لَيْسَ فِيهَا إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا رَوَاهُ مِنْ أَقْوَالِ الْمَسِيحِ وَأَفْعَالِهِ، كَمَا قَالَ يُوحَنَّا فِي آخِرِ إِنْجِيلِهِ: وَأَشْيَاءُ أُخْرَى كَثِيرَةٌ صَنَعَهَا يَسُوعُ إِنْ كَتَبْتُ وَاحِدَةً وَاحِدَةً فَلَسْتُ أَظُنُّ أَنَّ الْعَالَمَ نَفْسَهُ يَسَعُ الْكُتُبَ الْمَكْتُوبَةَ آمِينَ. اهـ.
وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ عِنْدَمَا كَانَ يَفْعَلُ، فَلَمْ تُكْتَبْ أَقْوَالُهُ وَلَا أَفْعَالُهُ الْكَثِيرَةُ.
وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي كُتُبِ الْعَهْدِ الْجَدِيدِ وَمِنْهَا الْأَنَاجِيلُ الْأَرْبَعَةُ ذِكْرُ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ، وَفِي بَعْضِهَا يُسَمَّى إِنْجِيلَ اللهِ وَمِنَ الْمَعْلُومِ بِالْبَدَاهَةِ أَنَّهُ لَا يُرَادُ بِهَذَا الْإِنْجِيلِ أَحَدُ هَذِهِ التَّوَارِيخِ الْأَرْبَعَةِ الَّتِي تُحُدِّثَ عَنْهُ، وَفِي هَذِهِ الْكُتُبِ أَيْضًا أَنَّهُ كَانَ يُوجَدُ أَنَاجِيلُ كَاذِبَةٌ وَأَنَاجِيلُ مُحَرَّفَةٌ وَرُسُلٌ كَذَبَةٌ، وَقَدْ فَصَّلْنَا الْقَوْلَ فِي مَسْأَلَةِ إِنْجِيلِ الْمَسِيحِ وَهَذِهِ الْأَنَاجِيلِ، وَأَثْبَتْنَا عَدَمَ الثِّقَةِ بِهَا، وَأَنَّ مَجْمُوعَهَا يُثْبِتُ مَا نَطَقَ بِهِ كِتَابُ اللهِ الْمُنَزَّلُ الَّذِي {لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ}، وَهُوَ أَنَّ النَّصَارَى كَالْيَهُودِ نَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَأَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنْهُ، وَأَنَّهُمُ انْتَحَلُوا عَقَائِدَ وَثَنِيِّ الْهِنْدِ وَغَيْرِهِمْ مِنَ الْقُدَمَاءِ فِي الثَّالُوثِ [فَرَاجِعْهُ فِي ص239- 25 ج6 ط الْهَيْئَةِ].
قَالَ اللهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْوَاهِهِمْ} أَيْ: ذَلِكَ الَّذِي قَالُوهُ فِي عُزَيْرٍ وَالْمَسِيحِ هُوَ قَوْلُهُمُ الَّذِي تَلُوكُهُ أَلْسِنَتُهُمْ فِي أَفْوَاهِهِمْ، مَا أَنْزَلَ بِهِ اللهُ مِنْ سُلْطَانِهِ، وَلَا يَتَجَاوَزُ حَرَكَةَ اللِّسَانِ، إِذْ لَيْسَ لَهُ مَدْلُولٌ فِي الْوُجُودِ، وَلَا حَقِيقَةٌ فِي مَدَارِكِ الْعُقُولِ، فَهُوَ كَقوله تعالى: {وَيُنْذِرَ الَّذِينَ قَالُوا اتَّخَذَ اللهُ وَلَدًا مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَلَا لِآبَائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا} (18: 4، 5) وَفِي مَعْنَاهُ قَوْلُهُ فِي التَّبَنِّي: {وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ} [33: 4] وَقَوْلُهُ فِي أَهْلِ الْإِفْكِ: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ} [24: 15] فَذَكَرَ الْأَفْوَاهَ- وَكَذَا الْأَلْسِنَةُ- مَعَ الْعِلْمِ بِهَا بِالْحِسِّ لِبَيَانِ مَا ذَكَرَ، أَيْ أَنَّهُ قَوْلٌ لَا يَعْدُوهَا وَلَا يَتَجَاوَزُهَا إِلَى شَيْءٍ فِي الْوُجُودِ فَهُوَ كَمَا يَقُولُ الْعَوَامُّ: كَلَامٌ فَارِغٌ.
يُضَاهِئُونَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ أَيْ: يُشَابِهُونَ وَيُحَاكُونَ فِيهِ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِهِمْ فَقَالُوا هَذَا الْقَوْلَ أَوْ مِثْلَهُ، قِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِهِمْ مُشْرِكُو الْعَرَبِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْمَلَائِكَةَ بَنَاتُ اللهِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ سَلَفُهُمُ الَّذِينَ قَالُوا هَذَا الْقَوْلَ قَبْلَهُمْ، وَهَذَا مَبْنِيٌّ عَلَى أَنَّ الْكَلَامَ فِي الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى الَّذِينَ كَانُوا فِي عَصْرِ نُزُولِ الْقُرْآنَ، إِذْ لَمْ يَصِلْ إِلَيْنَا أَنَّ أَحَدًا مِنْ سَلَفِ أُولَئِكَ الْيَهُودِ فِي بِلَادِ الْعَرَبِ أَوْ غَيْرِهَا قَالُوا عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ بَعِيدٍ فِي نَفْسِهِ، وَلَوْ كَانَتِ الْآيَةُ نَصًّا فِيهِ لَجَزَمْنَا بِهِ؛ لِأَنَّهُ عَدَمُ وُصُولِ نَقْلٍ إِلَيْنَا فِيهِ لَا يَقْتَضِي عَدَمَ وُقُوعِهِ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّ الْمُرَادَ بِكُلٍّ مِنَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى فِي الْآيَةِ الْجِنْسُ، وَهُوَ يَصْدُقُ بِوُقُوعِ ذَلِكَ مِنْ بَعْضِهِمْ فِي أَيِّ عَصْرٍ كَانَ، وَالْمُخْتَارُ فِي مُضَاهَأَتِهِمْ لِلَّذِينِ كَفَرُوا مِنْ قَبْلِهِمْ يَصْدُقُ فِي كُلِّ مَنْ وَقَعَ ذَلِكَ مِنْهُمْ وَاللهُ أَعْلَمُ بِهِمْ، وَقَدْ عَلِمْنَا مِنْ تَارِيخِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ أَنَّ عَقِيدَةَ الِابْنُ اللهُ، وَالْحُلُولِ، وَالتَّثْلِيثِ، كَانَتْ مَعْرُوفَةً عِنْدَ الْبَرَاهِمَةِ فِي الْهِنْدِ وَالْبُوذِيِّينَ فِيهَا وَفِي الصِّينِ وَالْيَابَانِ وَقُدَمَاءِ الْفُرْسِ وَالْمِصْرِيِّينَ وَالْيُونَانِ وَالرُّومَانِ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا فِي تَفْسِيرِ آيَةِ: [4: 171] الَّتِي تَقَدَّمَتِ الْإِشَارَةُ إِلَيْهَا آنِفًا وَهَذَا الْبَيَانُ لِهَذِهِ الْحَقِيقَةِ مِنْ مُعْجِزَاتِ الْقُرْآنِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَكُنْ يَعْرِفُهَا أَحَدٌ مِنَ الْعَرَبِ، وَلَا مِمَّنْ حَوْلَهُمْ، بَلْ لَمْ تَظْهَرْ إِلَّا فِي هَذَا الزَّمَانِ، كَمَا يُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِيمَا بَيَّنَهُ مِنْ حَقِيقَةِ أَمْرِ كُتُبِهِمْ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ قَرِيبًا فِي فَصْلٍ خَاصٍّ.
قَاتَلَهُمُ اللهُ هَذِهِ الْجُمْلَةُ تُسْتَعْمَلُ فِي اللِّسَانِ الْعَرَبِيِّ لِلتَّعَجُّبِ، فَهُوَ الْمُرَادُ بِهَا لَا ظَاهِرُ مَعْنَاهَا. قَالَ فِي مَجَازِ الْأَسَاسِ: وَقَاتَلَهُ اللهُ مَا أَفْصَحَهُ. اهـ.
وَحَكَى النَّقَّاشُ أَنَّ أَصْلَ قَاتَلَهُ اللهُ الدُّعَاءُ، ثُمَّ كَثُرَ فِي اسْتِعْمَالِهِمْ حَتَّى قَالُوهُ عَلَى التَّعَجُّبِ فِي الْخَيْرِ وَالشَّرِّ وَهُمْ لَا يُرِيدُونَ الدُّعَاءَ. اهـ.
وَفَسَّرَهُ بَعْضُهُمْ بِالدُّعَاءِ عَلَى أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ اللَّعْنَةُ أَوِ الْهَلَاكُ. وَالْأَوَّلُ أَظْهَرُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذِهِ الْجُمْلَةِ فِي الرَّدِّ عَلَى قَوْلِ الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ اللهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ إِذْ قال تعالى: {مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَأُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كَانَا يَأْكُلَانِ الطَّعَامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآيَاتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ} [5: 75] وَمِثْلُهُ فِي سُورَةِ الْأَنْعَامِ بَعْدَ الِاسْتِدْلَالِ عَلَى الْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ: {ذَلِكُمُ اللهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ} [6: 95] وَالْإِفْكُ صَرْفُ الشَّيْءِ عَنْ وَجْهِهِ (وَبَابُهُ مِنْ وَزْنِ ضَرَبَ) وَيُقَالُ: أُفِكَ بِالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ بِمَعْنَى صُرِفَ عَقْلُهُ عَنْ إِدْرَاكِ الْحَقِيقَةِ، وَرَجُلٌ مَأْفُوكُ الْعَقْلِ، فَمَادَّةُ أَفَكَ تُسْتَعْمَلُ فِي صَرْفِ الْعَقْلِ وَالنَّفْسِ عَنِ الْحَقِّ إِلَى الْبَاطِلِ وَنَحْوِهِ. وَالْمَعْنَى هُنَا: كَيْفَ يُصْرَفُونَ عَنْ حَقِيقَةِ التَّوْحِيدِ وَالتَّنْزِيهِ لِلْخَالِقِ عَزَّ وَجَلَّ، وَهُوَ الَّذِي تَجْزِمُ بِهِ الْعُقُولُ وَالَّذِي بَلَّغَهُ عَنِ اللهِ تَعَالَى كُلُّ رَسُولٍ، فَهُوَ جَمْعٌ بَيْنَ الْمَعْقُولِ وَالْمَنْقُولِ، وَيَقُولُونَ هَذَا الْقَوْلَ الَّذِي لَا يَقْبَلُهُ عَقْلٌ، وَلَمْ يَصِحَّ بِهِ عَنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ نَقْلٌ؟ فَأَيْنَ عُزَيْرٌ وَالْمَسِيحُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، الْخَالِقِ لهَذَا الْكَوْنِ الْعَظِيمِ، الَّذِي وَصَلَ مِنْ عَجَائِبَ سَعَتِهِ إِلَى عَالَمِ الْبَشَرِ الْقَلِيلِ أَنَّ بَعْضَ شُمُوْسِهِ لَا يَصِلُ نُورُهَا إِلَى الْأَرْضِ إِلَّا بَعْدَ قَطْعِ الْمَلَايِينَ مِنَ السِّنِينَ النُّورِيَّةِ- فَهَلْ يَلِيقُ بِعَاقِلٍ مِنْ هَذِهِ الدَّوَابِّ الَّتِي تَعِيشُ عَلَى هَذِهِ الذَّرَّةِ الصَّغِيرَةِ مِنْهُ (وَهِيَ الْأَرْضُ) أَنْ يَجْعَلَ لِخَالِقِهِ كُلِّهِ وَمُدَبِّرِ أَمْرِهِ، وَلَدًا وَعَائِلَةً مِنْ جِنْسِهِ، وَأَنْ يَرْتَقِيَ بِهِ الْغُرُورُ إِلَى أَنْ يَجْعَلَ وَاحِدًا مِنْهُمْ هُوَ الْخَالِقَ لَهُ وَالْمُدَبِّرَ لِأَمْرِهِ، مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّهُ وُلِدَ مِنِ امْرَأَةٍ وَكَانَ يَأْكُلُ وَيَشْرَبُ وَيَتْعَبُ وَيَتَأَلَّمُ إِلَخْ..!؟ {وَمَا قَدَرُوا اللهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَالْأَرْضُ جَمِيعًا قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَالسَّمَاوَاتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحَانَهُ وَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ} [39: 67] و{وَقَالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمَنُ وَلَدًا سُبْحَانَهُ بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ} [21: 26- 29]
وَفِي الْآيَةِ مِنَ الْقِرَاءَاتِ تَنْوِينُ (عُزَيْرٌ) بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ عَرَبِيٌّ بِمَا تَصَرَّفَتْ بِهِ الْعَرَبُ فَجَعَلَتْهُ بِصِيغَةِ اسْمِ التَّصْغِيرِ، وَأَنَّ (ابْنُ اللهِ) خَبَرٌ عَنْهُ لَا وَصْفٌ لَهُ، وَهُوَ الْمَرْوِيُّ عَنْ عَاصِمٍ وَالْكِسَائِيِّ وَيَعْقُوبَ، وَقَرَأَهُ الْبَاقُونَ بِغَيْرِ تَنْوِينٍ بِنَاءً عَلَى أَنَّهُ اسْمٌ أَعْجَمِيٌّ فَاجْتَمَعَ فِيهِ عِلَّتَا الْعَلَمِيَّةِ وَالْعُجْمَةِ. وَفِيهِ وَجْهٌ آخَرُ فِي الْإِعْرَابِ. وَقَرَأَ عَاصِمٌ وَمَنْ أَخَذَ عَنْهُ (يُضَاهِئُونَ) بِالْهَمْزِ وَالْبَاقُونَ (يُضَاهُونَ) مِنَ النَّاقِصِ وَهُمَا لُغَتَانِ.

.فصل اسْتِطْرَادِيٌّ فِي هَيْمَنَةِ الْقُرْآنِ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ وَشَهَادَتِهِ لَهُمَا وَعَلَيْهِمَا:

(إِنْ قِيلَ): إِنَّ مَا ذَكَرْتَ يُبْطِلُ الثِّقَةَ بِالْكُتُبِ الَّتِي بِهَا سَمَّى اللهُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى أَهْلَ الْكِتَابِ حَتَّى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ، وَقَدْ شَهِدَ الْقُرْآنُ الْمَجِيدُ لِلْيَهُودِ بِأَنَّ عِنْدَهُمُ التَّوْرَاةَ فِيهَا حُكْمُ اللهِ، وَأَمَرَهُمْ بِأَنْ يَحْكُمُوا بِمَا أَنْزَلَ اللهُ فِيهَا عَلَى سَبِيلِ الِاحْتِجَاجِ عَلَيْهِمْ، كَمَا أَمَرَ أَهْلَ الْإِنْجِيلِ بِمِثْلِ ذَلِكَ، وَقَالَ فِي نَبِيِّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَوَصَفَ النَّاجِينَ مِنْهُمْ بِقَوْلِهِ: {الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوبًا عِنْدَهُمْ فِي التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ} [7: 157] وَهُمْ يَحْتَجُّونَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ بِهَذِهِ الْآيَاتِ، وَمِنْ دُعَاةِ النَّصَارَى (الْمُبَشِّرِينَ) مَنْ أَلَّفَ كِتَابًا فِي ذَلِكَ سَمَّاهُ (شَهَادَةَ الْقُرْآنِ لِكُتُبِ أَنْبِيَاءِ الرَّحْمَنِ) فَبُطْلَانُ الثِّقَةِ بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ يَسْتَلْزِمُ بُطْلَانَ الثِّقَةِ بِالْقُرْآنِ، وَيَكُونُ حُجَّةً لِمَلَاحِدَةِ التَّعْطِيلِ عَلَى بُطْلَانِ جَمِيعِ الْأَدْيَانِ، فَمَا جَوَابُكَ عَنْ هَذَا؟.