فصل: فصل اسْتِطْرَادِيٌّ آخَرُ: نَصْرَانِيَّةُ الْإِفْرِنْجِ وَلِمَاذَا لَا يُسْلِمُونَ!؟

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



(قُلْتُ). قَدْ سَبَقَ الْجَوَابُ عَنْ هَذِهِ الشُّبْهَةِ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ وَفِي (الْمَنَارِ) وَنُعِيدُهُ الْآنَ بِأُسْلُوبٍ آخَرَ لِزِيَادَةِ الْبَيَانِ، فَأَمَّا أَهْلُ الْكِتَابِ فَحُجَّتُهُمْ عَلَيْنَا بِمَا قَالُوا إِلْزَامِيَّةٌ لَا حَقِيقِيَّةٌ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْقُرْآنِ فَلَا تَنْفَعُهُمْ فِيمَا ذُكِرَ مِنَ الطَّعْنِ فِي ثُبُوتِ كُتُبِهِمْ، وَهُمْ يَكْتَفُونَ مِنْ إِغْوَاءِ الْمُسْلِمِينَ بِتَشْكِيكِهِمْ فِي دِينِهِمْ، ظَنًّا مِنْهُمْ أَنَّهُمْ إِذَا كَفَرُوا بِدِينِهِمْ يَسْهُلُ إِدْخَالُهُمْ فِي النَّصْرَانِيَّةِ وَلَوْ نِفَاقًا كَالْكَثِيرِ مِنْ أَهْلِهَا؛ لِأَنَّهَا أَدْنَى إِلَى اسْتِبَاحَةِ جَمِيعِ شَهَوَاتِ الدُّنْيَا: {وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَمَا كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَوَاءً} [4: 89] وَلَكِنَّ هَذَا الْإِلْزَامَ لَا يَتِمُّ لَهُمْ عَلَيْنَا إِلَّا إِذَا أُخِذَتْ شَهَادَةُ الْقُرْآنِ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ مَعَ شَهَادَتِهِ لَهَا، وَقَبُولِ حُكْمِهِ فِيهَا؛ لِأَنَّهُ نَصَّ عَلَى أَنَّهُ مُهَيْمِنٌ رَقِيبٌ لَهُ السَّيْطَرَةُ عَلَيْهَا، إِذْ قَالَ بَعْدَ ذِكْرِ التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ مِنْ سُورَةِ الْمَائِدَةِ: {وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتَابِ وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِمَا أَنْزَلَ اللهُ وَلَا تَتَّبِعْ أَهْوَاءَهُمْ عَمَّا جَاءَكَ مِنَ الْحَقِّ} [5: 48] وَمِمَّا حَكَمَ بِهِ عَلَى الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى جَمِيعًا أَنَّهُمْ نَسُوا حَظًّا عَظِيمًا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فِيمَا أَنْزَلَ اللهُ عَلَيْهِمْ، وَأَنَّهُمْ أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ لَا الْكِتَابَ الْمُنَزَّلَ كُلَّهُ، وَأَنَّهُمْ مَعَ هَذَا حَرَّفُوهُ وَبَدَّلُوهُ، وَقَدْ بَيَّنَّا هَذَا كُلَّهُ فِي مَوَاضِعِهِ مِنْ تَفْسِيرِ الْآيَاتِ النَّاطِقَةِ بِهِ، وَفِي الرَّدِّ عَلَى الْمُبَشِّرِينَ وَمَوَاضِعَ أُخْرَى مِنَ الْمَنَارِ.
وَأَمَّا الْمَلَاحِدَةُ الَّذِينَ اسْتَدَلُّوا بِنُصُوصِ التَّوَارِيخِ مَعَ دَلَائِلِ الْعَقْلِ عَلَى فَقْدِ تِلْكَ الْكُتُبِ، وَعَدَمِ الثِّقَةِ بِشَيْءٍ مِنَ الْمَوْجُودِ مِنْهَا، فَجَوَابُنَا لَهُمْ أَنَّ حُكْمَ اللهِ وَرَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم قَرِيبٌ مِنْ حُكْمِهِمْ عَلَيْهَا مِنْ نَاحِيَةِ فَقْدِ الثِّقَةِ بِهَا، وَلَكِنْ فِي جُمْلَتِهَا لَا فِي كُلِّ جُمْلَةٍ مِنْهَا. فَحُكْمُهُ أَدَقُّ وَأَصَحُّ فِي نَظَرِ الْعَقْلِ، مَعَ صَرْفِ النَّظَرِ عَنْ كَوْنِهِ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَكُونَ إِلَّا بِوَحْيِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ. ذَلِكَ بِأَنَّ قَوْلَهُ فِي الْيَهُودِ: {يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ} [5: 13] مَعَ قَوْلِهِ: {أُوتُوا نَصِيبًا مِنَ الْكِتَابِ} هُوَ الْمَعْقُولُ، فَإِنَّ الْعَقْلَ لَا يَتَصَوَّرُ أَنْ تَنْسَى أُمَّةٌ كَبِيرَةٌ جَمِيعَ شَرِيعَتِهَا بِفَقْدِ نُسْخَةِ الْكِتَابِ الْمُدَوَّنَةِ فِيهِ، وَقَدْ عَمِلَتْ بِهِ فِي عِدَّةِ قُرُونٍ. وَكَذَا قَوْلُهُ إِنَّهُمْ حَرَّفُوا الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ، وَذَلِكَ ثَابِتٌ بِالشَّوَاهِدِ الْكَثِيرَةِ مِنْ زِيَادَةٍ وَنُقْصَانٍ وَتَغْيِيرٍ وَتَبْدِيلٍ كَمَا بَيَّنَهُ الشَّيْخُ رَحِمَهُ اللهُ فِي كِتَابِهِ (إِظْهَارِ الْحَقِّ) وَغَيْرِهِ. وَالْيَهُودُ يَعْتَرِفُونَ بِأَنَّ عُزَيْرًا (عِزْرَا) كَتَبَ مَا كَتَبَ مِنَ الشَّرِيعَةِ بَعْدَ فَقْدِهَا بِاللُّغَةِ الْكَلْدَانِيَّةِ لَا بِلُغَةِ مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَكَانَ يَضَعُ خُطُوطًا عَلَى مَا يَشُكُّ فِيهِ، فَالْمَعْقُولُ أَنَّهُ كَتَبَ مَا ذَكَرَهُ وَتَذَكَّرَهُ هُوَ وَمَنْ مَعَهُ دُونَ مَا نَسُوهُ، وَكَانَ مِنْهُ الصَّحِيحُ قَطْعًا، وَمِنْهُ الْمَشْكُوكُ فِيهِ، وَمِنْهُ الْغَلَطُ، وَمِنْ ثَمَّ وُجِدَ التَّحْرِيفُ، وَلَا مَحَلَّ هُنَا لِلْإِتْيَانِ بِالشَّوَاهِدِ عَلَى هَذَا.
وَبِنَاءً عَلَى هَذَا قَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: لَا تُصَدِّقُوا أَهْلَ الْكِتَابِ وَلَا تُكَذِّبُوهُمْ {وقُولُوا آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا} [2: 136] الْآيَةَ. رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ، وَسَبَبُهُ أَنَّ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ قَدْ نَسَخَ شَيْئًا مِنَ التَّوْرَاةِ بِالْعَرَبِيَّةِ، وَجَاءَ بِهِ إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَأَنْكَرَهُ صلى الله عليه وسلم كَمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ وَالْبَزَّارُ مِنْ حَدِيثِ جَابِرٍ وَقَالَ: لَا تَسْأَلُوا أَهْلَ الْكِتَابِ عَنْ شَيْءٍ فَإِنَّهُمْ لَنْ يَهْدُوكُمْ وَقَدْ ضَلُّوا، وَأَنَّكُمْ إِمَّا أَنْ تُكَذِّبُوا بِحَقٍّ أَوْ تُصَدِّقُوا بِبَاطِلٍ، وَاللهِ لَوْ كَانَ مُوسَى بَيْنَ أَظْهُرِكُمْ مَا حَلَّ لَهُ إِلَّا اتِّبَاعِي فَعُلِمَ مِنْ ذَلِكَ أَنَّ فِيمَا عِنْدَهُمْ مَا هُوَ حَقٌّ وَهُوَ مَا أُوتُوهُ، وَمَا هُوَ بَاطِلٌ وَهُوَ مَا حَرَّفُوهُ، وَدَعْ مَا فُقِدَ وَهُوَ مَا نَسُوهُ.
وَمِنْ ثَمَّ كَانَ التَّحْقِيقُ عِنْدَنَا مَعْشَرَ الْمُسْلِمِينَ أَنْ نُؤْمِنَ بِالتَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ بِالْإِجْمَالِ، وَبِأَنَّ مَا وَرَدَ النَّصُّ عِنْدَنَا بِهِ بِأَنَّهُ مِنْ حُكْمِ اللهِ تَعَالَى كَحُكْمِ رَجْمِ الزَّانِي الَّذِي وَرَدَ فِيهِ {وَعِنْدَهُمُ التَّوْرَاةُ فِيهَا حُكْمُ اللهِ} [5: 43] نَجْزِمُ بِأَنَّهُ مِمَّا أَوْحَاهُ اللهُ إِلَى مُوسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ، وَمَا دَلَّ النَّصُّ عَلَى كَذِبِهِمْ فِيهِ كَكَوْنِ هَارُونَ عَلَيْهِ السَّلَامُ هُوَ الَّذِي صَنَعَ لَهُمُ الْعِجْلَ الذَّهَبِيَّ الَّذِي عَبَدُوهُ، وَكَوْنِ سُلَيْمَانَ قَدِ ارْتَدَّ وَعَبَدَ الْأَوْثَانَ، وَكَوْنِ لُوطٍ زَنَا بِابْنَتِهِ- فَإِنَّنَا نَجْزِمُ بِكَذِبِهِ، وَأَمَّا مَا احْتَمَلَ الصِّدْقَ وَالْكَذِبَ فَإِنَّنَا لَا نُصَدِّقُهُمْ وَلَا نُكَذِّبُهُمْ فِيهِ. وَالْيَهُودُ وَالنَّصَارَى فِي هَذَا سَوَاءٌ عِنْدَنَا، وَتَقَدَّمَ بَيَانُ حَالِهِمْ فِي نِسْيَانِ حَظٍّ عَظِيمٍ مِنْ إِنْجِيلِ عِيسَى عَلَيْهِ السَّلَامُ.
وَيُمْكِنُنَا أَنْ نَسْتَدِلَّ بِهَذَا التَّحْقِيقِ، وَبِتَحْقِيقِ مَسْأَلَةِ كَلِمَةِ اللهِ وَرُوحِ اللهِ (رُوحِ الْقُدُسِ) الَّتِي ضَلَّ فِيهَا قُدَمَاءُ الْوَثَنِيِّينَ وَتَبِعَهُمُ النَّصَارَى، الَّذِي جَاءَنَا عَلَى لِسَانِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي لَمْ يقرأ شَيْئًا مِنْ كُتُبِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا مِنَ التَّوَارِيخِ الْعَامَّةِ وَلَا الْخَاصَّةِ عَلَى أَنَّهُ وَحْيٌ مِنَ اللهِ تَعَالَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ، فَإِنَّهُ هُوَ التَّحْقِيقُ الْمَعْقُولُ الَّذِي يَنْطَبِقُ عَلَى نُقُولِ التَّوَارِيخِ وَحُكْمِ الْعَقْلِ، وَلَمْ يَسْبِقْ إِلَى بَيَانِهِ أَحَدٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَلَا مِنْ غَيْرِهِمْ، كَمَا أَنَّهُ لَا يَسَعُ عَاقِلًا مُنْصِفًا رَدُّهُ. وَلَا يُعْقَلُ أَنَّ مُحَمَّدًا صلى الله عليه وسلم عَرَفَهُ بِرَأْيِهِ؛ لِأَنَّ الرَّأْيَ فِي مِثْلِ هَذَا يُبْنَى عَلَى مَعْلُومَاتٍ كَثِيرَةٍ لَمْ يَكُنْ لَهُ، وَلَا لِقَوْمِهِ عِلْمٌ بِشَيْءٍ مِنْهَا، وَقَدْ قَالَ اللهُ تَعَالَى لَهُ بَعْدَ ذِكْرِ قِصَّةِ نُوحٍ مِنْ سُورَةِ هُودٍ الْمَكِّيَّةِ: {تِلْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الْغَيْبِ نُوحِيهَا إِلَيْكَ مَا كُنْتَ تَعْلَمُهَا أَنْتَ وَلَا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هَذَا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعَاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ} [11: 49] وَلَمْ يَعْتَرِضْ عَلَيْهِ أَحَدٌ مِنْ أَعْدَائِهِ مِنْ قَوْمِهِ الْمُشْرِكِينَ فَيَقُولُ: بَلْ نَعْلَمُهَا وَهِيَ مِنَ الْقِصَصِ الْمَشْهُورَةِ عَنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَأَيْنَ كَانُوا مِنْ عِلْمِ أَهْلِ الْكِتَابِ؟ وَلَا يُعْقَلُ أَيْضًا أَنْ يَكُونَ أَخَذَ حُكْمَهُ عَلَى التَّوْرَاةِ وَالْإِنْجِيلِ عَنْ أَحَدٍ مِنَ الْيَهُودِ أَوِ النَّصَارَى، لَا لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ يُوجَدُ أَحَدٌ مِنْهُمْ فِي بَلَدِهِ فَقَطْ، بَلْ لَمْ يَكُونُوا يَعْلَمُونَ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُمْ لَوْ عَلِمُوهُ لَمَا قَالُوهُ؛ لِأَنَّهُ طَعْنٌ فِيهِمْ وَفِي دِينِهِمْ- فَلَمْ يَبْقَ بَعْدَ ظُهُورِ صِدْقِهِ إِلَّا الْجَزْمُ بِكَوْنِهِ وَحْيًا مِنْ عَالِمِ الْغَيْبِ، وَوَجْهًا مِنْ وُجُوهِ إِعْجَازِ الْقُرْآنِ السَّافِرَةِ النَّيِّرَةِ.

.فصل اسْتِطْرَادِيٌّ آخَرُ: نَصْرَانِيَّةُ الْإِفْرِنْجِ وَلِمَاذَا لَا يُسْلِمُونَ!؟

(فَإِنْ قِيلَ): إِنَّكُمْ مَعْشَرَ عُلَمَاءِ الْمُسْلِمِينَ مَا وَقَفْتُمْ عَلَى كُلِّ هَذِهِ الْحَقَائِقِ التَّارِيخِيَّةِ الَّتِي تُبْطِلُ الثِّقَةَ بِنَقْلِ كُتُبِ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَعَلَى مَا فِيهَا مِنَ التَّعَارُضِ وَالتَّنَاقُضِ وَالْخَطَأِ الْعِلْمِيِّ وَالتَّارِيخِيِّ، وَكَذَا التَّعَالِيمُ الضَّارَّةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَى اسْتِحَالَةِ كَوْنِهَا كُلِّهَا وَحْيًا مِنَ اللهِ تَعَالَى، وَلَا عَلَى مَصَادِرِ عَقِيدَةِ التَّثْلِيثِ وَالصَّلْبِ وَالْفِدَاءِ مِنْ أَدْيَانِ قُدَمَاءِ الْوَثَنِيِّينَ- مَا وَقَفْتُمْ عَلَى كُلِّ هَذَا مِمَّا لَخَّصْتُمْ بَعْضَهُ هُنَا وَبَعْضَهُ مِنْ قَبْلُ- إِلَّا- مِنْ كُتُبِهِمُ الدِّينِيَّةِ وَالْعِلْمِيَّةِ وَالتَّارِيخِيَّةِ، وَلاسيما كُتُبُ عُلَمَاءِ أُورُبَّةَ مِنْ أَحْرَارِ الْمَادِّيِّينَ وَالْمُتَدَيِّنِينَ جَمِيعًا، وَبِالِاطِّلَاعِ عَلَى هَذِهِ الْكُتُبِ كَانَ الْمُتَأَخِّرُونَ مِنْكُمْ كَالشَّيْخِ رَحْمَةِ اللهِ الْهِنْدِيِّ، وَالطَّبِيبِ مُحَمَّد تَوْفِيق صِدْقِي الْمِصْرِيِّ رَحِمَهُمَا اللهُ وَغَيْرُهُمَا أَعْلَمُ بِمَا ذُكِرَ مِنْ فُحُولِ الْمُتَقَدِّمِينَ الَّذِينَ رَدُّوا عَلَى النَّصَارَى كَالْإِمَامِ ابْنِ حَزْمٍ وَشَيْخِ الْإِسْلَامِ ابْنِ تَيْمِيَةَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمَا- فَكَيْفَ نَرَى أَكْثَرَ هَؤُلَاءِ النَّصَارَى ثَابِتِينَ عَلَى دِينِهِمْ هَذَا فِي الشَّرْقِ وَالْغَرْبِ؟ وَلاسيما الْإِفْرِنْجُ الَّذِينَ نَشَرُوا تِلْكَ الْحَقَائِقَ فِي شُعُوبِهِمْ بِجَمِيعِ لُغَاتِهِمْ، وَلَا يَزَالُ أَغْنِيَاؤُهُمْ يَبْذُلُونَ الْقَنَاطِيرَ الْمُقَنْطَرَةَ مِنَ الذَّهَبِ وَالْفِضَّةِ؛ لِنَشْرِ هَذَا الدِّينِ فِي الْعَالَمِ وَتُؤَيِّدُهُمْ دُوَلُهُمْ فِي ذَلِكَ؟.
بَلْ كَيْفَ لَا يَسْتَحْيُونَ وَهَذِهِ حَالُهُمْ فِي دِينِهِمْ مِنْ دَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَيْهِ وَمِنْ طَعْنِهِمْ فِي الْإِسْلَامِ؟ بَلْ كَيْفَ لَا يَدْخُلُونَ فِي الْإِسْلَامِ أَفْوَاجًا، وَقَدِ اخْتَبَرُوا جَمِيعَ الْأَدْيَانِ وَالتَّوَارِيخِ، وَآنَ لَهُمْ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ هُوَ الدِّينُ الْقَطْعِيُّ الرِّوَايَةِ، الْمُوَافِقُ لِلْعَقْلِ وَالْفِطْرَةِ. الْحَلَّالُ لِجَمِيعِ مَشَاكِلِ الِاجْتِمَاعِ الْمُفْسِدَةِ لِلْحَضَارَةِ، الَّذِي بَيَّنَ لَهُمْ حَقِيقَةَ دِينِهِمْ، وَمَا عَرَضَ عَلَيْهِ مِنَ الْبِدَعِ فَأَيَّدَتْهُ فِيهِ أَبْحَاثُ الْمُحَقِّقِينَ مِنْ عُلَمَائِهِمُ الْأَحْرَارِ؟
(قُلْنَا): إِنَّ حَلَّ هَذِهِ الْمُشْكِلَاتِ وَالْأَجْوِبَةَ عَنْ هَذِهِ الشُّبُهَاتِ لَا يُمْكِنُ بَسْطُهَا إِلَّا فِي سِفْرٍ كَبِيرٍ، فَنَكْتَفِي هُنَا بِالْإِلْمَامِ بِقَضَايَاهَا الْكُلِّيَّةِ الْمُهِمَّةِ بِالْإِجْمَالِ، وَهِيَ مَبْسُوطَةٌ فِي مَوَاضِعَ مِنَ الْمَنَارِ وَالتَّفْسِيرِ بِالتَّفْصِيلِ، فَنَقُولُ:

.أَسْبَابُ بَقَاءِ النَّصْرَانِيَّةِ فِي أُورُبَّة:

إِنَّ لِلدِّينِ الْمُطْلَقِ سُلْطَانًا عَلَى أَرْوَاحِ الْبَشَرِ؛ لِأَنَّهُ غَرِيزَةٌ فِيهَا، فَهُوَ عِبَارَةٌ عَنْ عِلَّاتِهِمْ بِعَالَمِ الْغَيْبِ مَبْدَأً وَغَايَةً، وَهِيَ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ؛ وَلِذَلِكَ يُنْكِرُ وُجُودَهَا الْمَحْجُوبُونَ بِعَالَمِ الشَّهَادَةِ (الْمَادِّيِّ) وَهُوَ مَعَ هَذَا حَاجَةٌ مِنَ الْحَاجَاتِ الطَّبِيعِيَّةِ لِهَذَا التَّنَوُّعِ الِاجْتِمَاعِيِّ الَّذِي خُلِقَ لِحَيَاةٍ لَا نِهَايَةَ لَهَا، فَأَعْطَى اسْتِعْدَادًا لِعِلْمٍ لَا حَدَّ لَهُ، يَهْدِي إِلَى أَعْمَالٍ اجْتِمَاعِيَّةٍ لَا حَدَّ لَهَا وَلَا نِهَايَةَ، فلابد لِجَمَاعَتِهِ فِي التَّعَاوُنِ عَلَيْهَا مِنْ وَازِعٍ نَفْسِيٍّ وِجْدَانِيٍّ يَزَعُ كُلًّا مِنْهُمْ، وَيَرْدَعُهُ عَنِ الْبَغْيِ وَالْعُدْوَانِ عَلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ لَا يَتِمُّ عِلْمُهُ وَبُرُوزُ اسْتِعْدَادِهِ إِلَّا بِهِمْ أَيْنَمَا كَانَ وَكَانُوا، وَحَيْثُ لَا وَازِعَ مِنْ قُوَّةِ السُّلْطَانِ، وَالْعَدْلِ بِالْأَوْلَى. وَلَمْ يَعْرِفِ السَّوَادُ الْأَعْظَمُ مِنْ هَذِهِ الشُّعُوبِ دِينًا تَعْلِيمِيًّا يَتَوَجَّهُ إِلَيْهِ الدِّينُ الْفِطْرِيُّ الْمُطْلَقُ وَيَتَقَيَّدُ بِهِ إِلَّا هَذَا الدِّينَ الَّذِي لَا يَزَالُ فِيهِ أَثَارَةٌ مِنْ هِدَايَةِ طَائِفَةٍ مِنْ أَنْبِيَاءِ اللهِ وَرُسُلِهِ لَمْ تَقْوَ أَحْدَاثُ الزَّمَانِ الْقَدِيمَةُ عَلَى مَحْوِهَا، عَلَى كُلِّ مَا أَشَرْنَا إِلَيْهِ مِنْ عَبَثِهَا بِهَا، فَهُوَ بِهَا مُظْهِرٌ لِمَا كَانَ مِنْ تَعَرُّفِ الْخَالِقِ الْعَظِيمِ إِلَيْهِمْ بِالْآيَاتِ وَخَوَارِقِ الْعَادَاتِ وَالْإِنْبَاءِ بِالْغَيْبِيَّاتِ، وَقَدْ أَتْقَنَ رُؤَسَاؤُهُ نِظَامَ تَرْبِيَتِهِمُ الْوِجْدَانِيَّةِ عَلَيْهِ، وَتَلْقِينِهِ لَهُمْ بِالْأَسَالِيبِ الْمُؤَثِّرَةِ، وَدَفْعِ الشُّبُهَاتِ عَمَّا يَرِدُ عَلَيْهِ مِنَ الِاعْتِرَاضَاتِ الْكَثِيرَةِ، وَارْتَبَطَتْ سِيَاسَتُهُمْ وَمَصَالِحُهُمُ الْعَامَّةُ وَالْخَاصَّةُ بِهِ، وَصَارَ وَسِيلَةً مِنْ أَقْوَى وَسَائِلِ الِاسْتِعْمَارِ وَالِاسْتِيلَاءِ عَلَى الشُّعُوبِ لِدُوَلِهِمْ، فَاتَّفَقَتْ مَعَ الْجَمْعِيَّاتِ الدِّينِيَّةِ عَلَى نَشْرِهِ فِي جَمِيعِ الْأُمَمِ بِدِعَايَةِ التَّبْشِيرِ، فَاجْتَمَعَ لَهُمْ مِنْ وَسَائِلِ هَذِهِ الدِّعَايَةِ الْقُوَّةُ وَالْمَالُ الْكَثِيرُ، وَالْعِلْمُ وَالنِّظَامُ الدَّقِيقُ- فَبِمَجْمُوعِ هَذِهِ الْقُوَى وَالْأَسْبَابِ بَقِيَ هَذَا الدِّينُ حَيًّا فِي هَذِهِ الشُّعُوبِ عَلَى تَفَاوُتٍ عَظِيمٍ بَيْنَ أَهْلِهَا فِي فَهْمِهِ.

.غُلُوُّ الْإِفْرِنْجِ فِي الْإِلْحَادِ وَشُعُورُهُمْ أَخِيرًا بِالْحَاجَةِ إِلَى الدِّينِ:

إِنَّ الْمُطَّلِعِينَ عَلَى تِلْكَ الْحَقَائِقِ الَّتِي تُبْطِلُ الثِّقَةَ بِرِوَايَةِ كُتُبِهِمْ، وَكَثِيرٍ مِنْ مَعَانِيهَا الْمُخَالِفَةِ لِلْعِلْمِ وَالتَّارِيخِ، وَبِعَقَائِدِهِمْ أَيْضًا قَلِيلُونَ بِالنِّسْبَةِ إِلَى غَيْرِ الْمُطَّلِعِينَ عَلَيْهَا، وَقَدْ فَشَا فِيهِمُ الْكُفْرُ وَالتَّعْطِيلُ، أَوِ الْكُفْرُ بِدَيْنِ الْكَنِيسَةِ خَاصَّةً مِنَ التَّثْلِيثِ وَأُلُوهِيَّةِ الْمَسِيحِ. وَالْفِدَاءِ وَالِاسْتِحَالَةِ فِي الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ- أَيْ اسْتِحَالَةِ الْخُبْزِ وَالْخَمْرِ إِلَى جَسَدِ الْمَسِيحِ وَدَمِهِ- وَقَدْ كَانُوا غَلَوْا فِي الْإِلْحَادِ عَقِبَ تَمَكُّنِ الْحُرِّيَّةِ فِيهِمْ، وَالتَّوَسُّعِ فِي الْعُلُومِ، بِقَدْرِ مَا كَانَ مِنْ غُلُوِّ سَيْطَرَةِ الْكَنِيسَةِ عَلَى الْأَفْكَارِ وَالْأَعْمَالِ، وَأَلَّفُوا كَثِيرًا مِنَ الْكُتُبِ وَالرَّسَائِلِ فِي الطَّعْنِ فِي هَذَا الدِّينِ، حَتَّى كَانَ يُخَيَّلُ إِلَى زُوَّارِ أُورُبَّةَ مِنْ أَهْلِ الشَّرْقِ أَنَّ أُورُبَّةَ أَصْبَحَتْ مَادِّيَّةً، لَا تَدِينُ بِدِينٍ، وَإِنَّمَا بَقِيَ فِيهَا بَعْضُ رُسُومِ النَّصْرَانِيَّةِ يَدِينُ بِهَا الْعَامَّةُ الْمُقَلِّدُونَ، وَالْمُتَمَتِّعُونَ بِأَوْقَافِ الْكَنَائِسِ وَسُلْطَانِهَا الرُّوحَانِيِّ، وَلَكِنَّ الْفَوْضَى الدِّينِيَّةَ بَلَغَتْ غَايَةَ مَدِّهَا فِي إِثْرِ حَرْبِ الْمَدِينَةِ الْعَامَّةِ، فَشَعَرَ الْعُقَلَاءُ بِشِدَّةِ الْحَاجَةِ إِلَى الدِّينِ الْمُطْلَقِ بِسُنَّةِ رَدِّ الْفِعْلِ وَأَلَّفُوا عِدَّةَ جَمْعِيَّاتٍ لِإِرْجَاعِ هِدَايَتِهِ عَلَى قَوَاعِدَ مُخْتَلِفَةٍ، بَعْضُهَا قَرِيبٌ مِنَ الْعَقْلِ وَبَعْضُهَا بَعِيدٌ عَنْهُ، بِنَاءً عَلَى أَنَّ الدِّينَ يَجِبُ أَنْ يُؤْخَذَ كُلُّهُ بِالتَّسْلِيمِ بِغَيْرِ بَحْثٍ وَلَا عَقْلٍ، حَتَّى قِيلَ: إِنَّهُ قَدْ كَثُرَ فِي الْبُرُوتُسْتَانْتِ مِنَ الْإِنْكِلِيزِ مَنْ يَمِيلُونَ إِلَى الرُّجُوعِ إِلَى الْكَاثُولِيكِيَّةِ، لِأَنَّ لِرُسُومِهَا وَتَقَالِيدِهَا، وَصُوَرِهَا وَتَمَاثِيلِهَا، وَنَغَمَاتِ نَشِيدِهَا مِنَ السُّلْطَانِ وَالتَّأْثِيرِ فِي الْقَلْبِ مَا لَيْسَ لِلْكَنِيسَةِ الْإِصْلَاحِيَّةِ اللَّوْثَرِيَّةِ.
وَمِنْ أَعْظَمِ أَثَرِ هَذَا الِانْقِلَابِ تَوَدُّدُ جُمْهُورِيَّةِ فَرَنْسَةَ الْإِلْحَادِيَّةِ إِلَى الْبَابَا، وَإِعَادَتُهَا لِمَا سَلَبَتْ مِنْ أَوْقَافِ الْكَنَائِسِ. وَاتِّفَاقُ الدَّوْلَةِ الْإِيطَالِيَّةِ مَعَ الْبَابَا عَلَى إِرْجَاعِ سُلْطَانِهِ السِّيَاسِيِّ، وَالِاعْتِرَافِ بِمَمْلَكَتِهِ الدِّينِيَّةِ، وَرَدِّ أَمْلَاكِهَا إِلَيْهَا، ثُمَّ إِجَابَةُ طَلَبِهِ إِلَى إِعَادَةِ التَّعْلِيمِ الدِّينِيِّ الْكَاثُولِيكِيِّ إِلَى جَمِيعِ الْمَدَارِسِ الْإِيطَالِيَّةِ؛ لِمَا ثَبَتَ عِنْدَ رَجُلِ هَذِهِ الدَّوْلَةِ وَرَئِيسِ حُكُومَتِهَا فِي هَذَا، أَنَّ حِفْظَ أَخْلَاقِ الْأُمَّةِ مِنَ الْفَسَادِ وَجَامِعَتِهَا مِنَ الِانْحِلَالِ لَا يَتِمُّ إِلَّا بِالدِّينِ- أَيِّ دِينٍ يُحَرِّمُ الْفَوَاحِشَ وَالْمُنْكَرَاتِ، وَيَجْمَعُ الْكَلِمَةَ- وَأَنَّ دِينَ الْأُمَّةِ الْمَوْرُوثَ أَوْلَى بِذَلِكَ مِنْ غَيْرِهِ، إِنْ فُرِضَ أَنَّ غَيْرَهُ مُمْكِنٌ قَرِيبُ الْمَنَالِ. وَمِثْلُ هَذِهِ الْأَفْكَارِ لَا يَعْقِلُهَا مَلَاحِدَةُ هَذِهِ الْبِلَادِ وَأَمْثَالُهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يُفَكِّرُونَ فِيمَا يَنْفَعُ الْأُمَّةَ وَيَضُرُّهَا، وَلَا فِي تَأْثِيرِ الدِّينِ فِي أَخْلَاقِهَا وَوَحْدَتِهَا، فَمِنْهُمْ مَنْ يَنْشُرُ إِلْحَادَهُ تَلَذُّذًا بِتَقْلِيدِ مَلَاحِدَةِ أُورُبَّةَ، وَتَشَرُّفًا بِالتَّشَبُّهِ بِهِمْ، لِصَغَارِهِ وَخِسَّةِ نَفْسِهِ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَنْشُرُهُ خِدْمَةً لِلْمُسْتَعْمِرِينَ، وَمُسَاعَدَةً لِلْمُبَشِّرِينَ، بِأَجْرٍ حَقِيرٍ، وَإِثْمٍ كَبِيرٍ.

.مُحَافَظَةُ الْكَنِيسَةِ عَلَى عَقَائِدِهَا وَتَأْوِيلَاتِ الْمُخَالِفِينَ لَهَا:

إِنَّنَا نَعْتَقِدُ بِمَا تَيَسَّرَ لَنَا مِنَ الْبَحْثِ وَالِاخْتِبَارِ الطَّوِيلِ أَنَّ عُلَمَاءَ الشُّعُوبِ الْأُورُبِّيَّةِ وَمُسْتَقِلِّي الْفِكْرِ فِيهِمْ، لَا يُؤْمِنُونَ بِعَقَائِدِ الْكَنِيسَةِ الَّتِي أَشَرْنَا إِلَيْهَا فِي هَذَا السُّؤَالِ، وَفِي الْمَسْأَلَةِ الثَّانِيَةِ مِنْ قَضَايَا الْجَوَابِ عَنْهُ، وَلَا بِأَنَّ جَمِيعَ مَا فِي كُتُبِ الْعَهْدَيْنِ الْقَدِيمِ وَالْجَدِيدِ وَلَا أَكْثَرَهُ حَقٌّ مُوحًى بِهِ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، بَلْ نَعْلَمُ أَنَّ كَثِيرًا مِنْهُمْ قَدِ اهْتَدَى بِعَقْلِهِ وَاسْتِقْلَالِ فِكْرِهِ إِلَى مَا يَقْرُبُ مِنْ إِصْلَاحِ الْإِسْلَامِ لِلنَّصْرَانِيَّةِ التَّقْلِيدِيَّةِ، وَهُوَ أَنَّ الْمَسِيحَ بَشَرٌ مَخْلُوقٌ، وَنَبِيٌّ رَسُولٌ لَا إِلَهٌ خَالِقٌ، بَلْ حَدَّثَنِي رَجُلٌ كَانَ مِنْ كِبَارِ رِجَالِ الدِّينِ الْكَاثُولِيكِيِّ فَجَهَرَ بِمَا يَعْتَقِدُهُ مِمَّا يُخَالِفُ تَعَالِيمَهُمْ فَحَرَمَهُ الرَّئِيسُ الْأَكْبَرُ مِنْهَا- حَدَّثَنِي بِأَنَّ رُؤَسَاءَ الْكَنِيسَةِ أَنْفُسَهُمُ الَّذِينَ أَدْرَكُوا حَقَائِقَ الْعُلُومِ لَا يَعْتَقِدُونَ أُلُوهِيَّةَ الْمَسِيحِ، وَلَا التَّثْلِيثَ، وَلَا الِاسْتِحَالَةَ في الْعَشَاءِ الرَّبَّانِيِّ، بَلْ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا دَخِيلَةٌ فِي دِينِ الْمَسِيحِ، وَلَكِنَّهُمْ يَرَوْنَ أَنَّهُمْ إِذَا صَرَّحُوا بِهَذَا تَبْطُلُ ثِقَةُ النَّصَارَى بِالدِّينِ مِنْ أَصْلِهِ، فَيَتَعَذَّرُ عَلَى رِجَالِ الْكَنِيسَةِ بِسُقُوطِ رِيَاسَتِهَا حَمْلُهُمْ عَلَى الْأُصُولِ الصَّحِيحَةِ مِنَ الدِّينِ، وَهِيَ الْفَضَائِلُ وَالْآدَابُ وَتَقْوَى اللهِ الصَّادَّةُ عَنِ الشُّرُورِ وَالرَّذَائِلِ.
هَذَا وَإِنَّ لِكِبَارِ الْأَذْكِيَاءِ مِنْهُمْ تَأْوِيلَاتٍ يَتَفَصَّوْنَ بِهَا مِنْ مُنْكَرَاتِ تِلْكَ الْكُتُبِ وَالتَّقَالِيدِ كَتَأْوِيلِ عَاهِلِ الْأَلْمَانِ الْأَخِيرِ (غِلْيُومُ الثَّانِي) بَعْدَ عُثُورِ عُلَمَاءِ قَوْمِهِ عَلَى شَرِيعَةِ حَمُورَابِي فِي الْعِرَاقِ، وَقَوْلِهِمْ: إِنَّ جُلَّ شَرِيعَةِ التَّوْرَاةِ مَأْخُوذَةٌ عَنْهَا، فَإِنَّهُ كَتَبَ كِتَابًا لِصَدِيقٍ لَهُ فِي كَوْنِ هَذَا الْأَمْرِ لَا يَنْقُضُ دِينَهُمُ الْمَبْنِيَّ عَلَى أَسَاسِ التَّوْرَاةِ أَيْ كُتُبِ الْعَهْدِ الْقَدِيمِ؛ لِأَنَّهُ مَبْنِيٌّ عَلَى مَا يُسَمُّونَهُ الرُّوحَ الَّذِي فِيهَا لَا عَلَى نُصُوصِهَا وَتَشْرِيعِهَا، وَقَدْ قَالَ فِي آخِرِ ذَلِكَ الْكِتَابِ: