فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الماوردي:

واختلفوا في إبليس، هل كان من الملائكة أم لا؟ على قولين:
أحدهما: أنه كان من الملائكة، وهذا قول ابن عباس، وابن مسعود، وابن المسيب، وابن جريج، لأنه استثناء منهم، فَدَلَّ على دخوله منهم.
والثاني: أنه ليس من الملائكة، وإنما هو أبو الجن، كما أن آدم أبو الإنس، وهذا قول الحسن وقتادة وابن زيد، ولا يمتنع جواز الاستثناء من غير جنسه، كما قال تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتَّبَاعَ الظَّنِّ} [النساء: 157] وهذا استثناء منقطع.
واختُلِفَ في تَسْمِيتِهِ بإبليس على قولين:
أحدهما: أنه اسم أعجمي وليس بمشتقٍّ.
والثاني: أنه اسمُ اشتقاق، اشتُقَّ من الإبلاس وهو اليأس من الخَيْرِ، ومنه قوله تعالى: {فَإِذَا هُم مُّبْلِسُونَ} [الأنعام: 44] أي آيِسُونَ من الخير، وقال العجَّاجُ:
يَا صَاحِ هَلْ تَعْرِفُ رَسْمًا مُكْرَسًا ** قَالَ نَعَمْ أَعْرِفُهُ وَأَبْلَسَا

فأمَّا من ذهب إلى أن إبليس كان من الملائكة، فاختلفوا في قوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كان مِنَ الْجِنِّ} [50 الكهف] لِمَ سماه الله تعالى بهذا الاسم، على أربعة أقاويل:
أحدها: أنهم حي من الملائكة يُسَمَّوْن جنًّا كانوا من أشدِّ الملائكة اجتهادًا، وهذا قول ابن عباس.
والثاني: أنه جعل من الجنِّ، لأنه من خُزَّانِ الجنَّةِ، فاشتق اسمه منها، وهذا قول ابن مسعود.
والثالث: أنه سمي بذلك لأنه جُنَّ عن طاعة ربِّه، وهذا قول ابن زيدٍ.
والرابع: أن الجِنِّ لكلِّ ما اجْتَنَّ فلم يظهر، حتى إنهم سَمَّوُا الملائكة جنًا لاستتارهم، وهذا قول أبي إسحاق، وأنشد قول أعشى بني ثعلبة:
لَوْ كَانَ حَيٌّ خَالِد أَوْ مُعَمَّرًا ** لَكَانَ سُلَيْمَان البري مِنَ الدَّهْرِ

بَرَاهُ إلهي وَاصْطَفَاهُ عِبَادُهُ ** وَمَلَّكَهُ ما بَيْنَ نُوبَا إلى مِصْرِ

وَسَخَّرَ مِنْ جِنِّ الْمَلاَئِكِ تِسْعَةً ** قِيَامًا لَدَيْهِ يعْمَلُونَ بِلاَ أَجْرِ

فسمَّى الملائكة جنًا لاستتارهم. اهـ.

.قال الألوسي:

واختلف الناس فيه هل هو من الملائكة أم من الجن؟ فذهب إلى الثاني جماعة مستدلين بقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 0 5] وبأن الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر، وبأن الملائكة كما روي مسلم عن عائشة رضي الله تعالى عنها خلقوا من النور وخلق الجن من مارج من نار وهو قد خلق مما خلق الجن كما يدل عليه قوله تعالى حكاية عنه: {أَنَاْ خَيْرٌ مّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [ص: 6 7] وعد تركه السجود إباءًا واستكبارًا حينئذٍ إما لأنه كان ناشئًا بين الملائكة مغمورًا بالألوف منهم فغلبوا عليه وتناوله الأمر ولم يمتثل، أو لأن الجن أيضًا كانوا مأمورين مع الملائكة، لكنه استغنى بذكرهم لمزيد شرفهم عن ذكر الجن، أو لأنه عليه اللعنة كان مأمورًا صريحًا لا ضمنًا كما يشير إليه ظاهر قوله تعالى: {إِذْ أَمَرْتُكَ} [الأعراف: 2 1] وضمير {فَسَجَدُواْ} راجع للمأمورين بالسجود.
وذهب جمهور العلماء من الصحابة والتابعين إلى الأول مستدلين بظاهر الاستثناء وتصحيحه بما ذكر تكلف لأنه وإن كان واحدًا منهم لكن كان رئيسهم ورأسهم كما نطقت به الآثار فلم يكن مغمورًا بينهم، ولأن صرف الضمير إلى مطلق المأمورين مع أنه في غاية البعد لم يثبت، إذ لم ينقل أن الجن سجدوا لآدم سوى إبليس، وكونه مأمورًا صريحًا الآية غير صريحة فيه ودون إثباته خرط القتاد واقتضاءً ما ذكر من الآية كونه من جنس الجن ممنوع لجواز أن يراد كونه منهم فعلًا، وقوله تعالى: {فَفَسَقَ} كالبيان له، ويجوز أيضًا أن يكون {كَانَ} بمعنى صار كما روي أنه مسخ بسبب هذه المعصية فصار جنيًا كما مسخ اليهود فصاروا قردة وخنازير سلمنا لكن لا منافاة بين كونه جنًا وكونه ملكًا، فإن الجن كما يطلق على ما يقابل الملك يقال على نوع منه على ما روي عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما وكانوا خزنة الجنة أو صاغة حليهم.
وقيل: صنف من الملائكة لا تراهم الملائكة مثلنا، أو أنه يقال للملائكة جن أيضًا كما قاله ابن إسحاق لاجتنانهم واستتارهم عن أعين الناس، وبذلك فسر بعضهم قوله تعالى: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158] وورد مثله في كلام العرب، فقد قال الأعشى في سيدنا سليمان عليه السلام:
وسخر من جن الملائك تسعة ** قيامًا لديه يعملون بلا أجر

وكون الملائكة لا يستكبرون وهو قد استكبر لا يضر، إما لأن من الملائكة من ليس بمعصوم وإن كان الغالب فيهم العصمة على العكس منا وفي عقيدة أبي المعين النسفي ما يؤيد ذلك، وإما لأن إبليس سلبه الله تعالى الصفات الملكية وألبسه ثياب الصفات الشيطانية فعصى عند ذلك والملك ما دام ملكًا لا يعصي.
ومن ذا الذي يا مِيّ لا يتغير

وكونه مخلوقًا من نار وهم مخلوقون من نور غير ضار أيضًا ولا قادح في ملكيته لأن النار والنور متحدا المادة بالجنس واختلافهما بالعوارض، على أن ما في أثر عائشة رضي الله تعالى عنها من خلق الملائكة من النور جار مجرى الغالب وإلا خالفه كثير من ظواهر الآثار إذ فيها أن الله تعالى خلق ملائكة من نار وملائكة من ثلج وملائكة من هذا وهذه، وورد أن تحت العرش نهرًا إذا اغتسل فيه جبريل عليه السلام وانتفض يخلق من كل قطرة منه ملك، وأفهم كلام البعض أنه يحتمل أن ضربًا من الملائكة لا يخالف الشياطين بالذات وإنما يخالفهم بالعوارض والصفات كالبررة والفسقة من الإنس والجن يشملهما وكان إبليس من هذا الصنف، فعده ما شئت من ملك وجن وشيطان، وبذلك يحصل الجمع بين الأقوال والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
ثم المشهور أن الاستثناء متصل إن كان من الملائكة، ومنقطع إن لم يكن منهم، وقد علمت تكلفهم لاتصاله مع قولهم بالثاني، وقد شاع عند النحاة والأصوليين أن المنقطع هو المستثنى من غير جنسه، والمتصل هو المستثنى من جنسه، قال القرافي في العقد المنظوم: وهو غلط فيهما، فإن قوله تعالى: {لاَ تَأْكُلُواْ أموالكم بَيْنَكُمْ بالباطل إِلاَّ أَن تَكُونَ تجارة} [النساء: 9 2] و{لاَ يَذُوقُونَ فِيهَا الموت إِلاَّ الموتة الأولى} [الدخان: 6 5] و{مَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ أَن يَقْتُلَ مُؤْمِنًا إِلاَّ} [النساء: 2 9] الاستثناء فيه منقطع مع أن المستثنى من جنس ما قبله فيبطل الحدان، والحق أن المتصل ما حكم فيه على جنس ما حكمت عليه أولًا بنقيض ما حكمت به ولابد من هذين القيدين فمتى انخرم أحدهما فهو منقطع بأن كان غير الجنس سواء حكم عليه بنقيضه أو لا نحو رأيت القوم إلا فرسًا، فالمنقطع نوعان، والمتصل نوع واحد، ويكون المنقطع كنقيض المتصل، فإن نقيض المركب بعدم أجزائه، فقوله تعالى: {ءامِنِينَ لاَ يَذُوقُونَ} الخ منقطع بسبب الحكم بغير النقيض، لأن نقيضه ذاقوه فيها وليس كذلك وكذلك {إِلا أَن تَكُونَ تجارة} لأنها لا تؤكل بالباطل بل بحق وكذلك {إِلا} لأنه ليس له القتل مطلقًا وإلا لكان مباحًا فتنوع المنقطع حينئذٍ إلى ثلاثة، الحكم على الجنس بغير النقيض، والحكم على غيره به أو بغيره، والمتصل نوع واحد فهذا هو الضابط وقيل: العبرة بالاتصال والانفصال الدخول في الحكم وعدمه لا في حقيقة اللفظ وعدمه، فتأمل ترشد.
وافهم كلام القوم نفعنا الله تعالى بهم أن جميع المخلوقات علويها وسفليها سعيدها وشقيها مخلوق من الحقيقة المحمدية صلى الله عليه وسلم كما يشير إليه قول النابلسي قدس سره دافعًا ما يرد على الظاهر:
طه النبي تكونت من نوره ** كل الخليقة ثم لو ترك القطا

وفي الآثار ما يؤيد ذلك، إلا أن الملائكة العلويين خلقوا منه عليه الصلاة والسلام من حيث الجمال، وإبليس من حيث الجلال، ويؤل هذا بالآخرة إلى أن إبليس مظهر جلال الله سبحانه وتعالى، ولهذا كان منه ما كان ولم يجزع ولم يندم ولم يطلب المغفرة لعلمه أن الله تعالى يفعل ما يريده وأن ما يريده سبحانه هو الذي تقتضيه الحقائق، فلا سبيل إلى تغييرها وتبديلها، واستشعر ذلك من ندائه بإبليس ولم يكن اسمه من قبل بل كان اسمه عزازيل أو الحرث، وكنيته أبا مرة ووراء ذلك ما لم يمكن كشفه. والله تعالى يقول الحق وهو يهدي السبيل. اهـ.

.قال القاسمي:

قال ابن القيم: الصواب التفصيل في هذه المسألة، وأن القولين في الحقيقة قول واحد، فإن إبليس كان من الملائكة بصورته وليس منهم بمادته وأصله. كان أصله من نار، وأصل الملائكة من نور، فالنافي كونه من الملائكة والمتثبت، لم يتواردا على محل واحد. اهـ.
وذكر الطبرسي أدلة من قال إن إبليس لم يكن من جنس الملائكة، فقال:
أحدها: قوله تعالى: {إلا إبليس كان من الجن} ومن أطلق لفظ الجن لم يجز أن يعنى به إلا الجن المعروف، وكل ما في القرآن من ذكر الجن مع الإنس يدل عليه.
ثانيها: قوله تعالى: {لا يعصون الله ما أمرهم ويفعلون ما يؤمرون} [التحريم: 6] فنفى المعصية عنهم نفيًا عامًا.
وثالثها: أن إبليس له نسل وذرية قال الله تعالى: {أفتتخذونه وذريته أولياء من دوني وهم لكم عدو} ورابعها: قوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] ولا يجوز على رسل الله الكفر ولا الفسق، ولو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب، وقالوا إن استثناء الله إياه منهم لا يدل على كونه من جملتهم، وإنما استثناه منهم، لأنه كان مأمورًا بالسجود معهم، فلما دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم. اهـ.

.قال الفخر:

فصل: ذكر التفضيل بين الأنبياء والملائكة:
اعلم أن جماعة من أصحابنا يحتجون بأمر الله تعالى للملائكة بسجود آدم عليه السلام على أن آدم أفضل من الملائكة فرأينا أن نذكر هاهنا هذه المسألة فنقول: قال أكثر أهل السنّة: الأنبياء أفضل من الملائكة وقالت المعتزلة بل الملائكة أفضل من الأنبياء وهو قول جمهور الشيعة، وهذا القول اختيار القاضي أبي بكر الباقلاني من المتكلمين منا وأبي عبد الله الحليمي من فقهائنا ونحن نذكر محصل الكلام من الجانبين: أما القائلون بأن الملائكة أفضل من البشر فقد احتجوا بأمور: أحدها: قوله تعالى: {ومن عنده لا يستكبرون عن عبادته} [الأنبياء: 19] إلى قوله: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} والاستدلال بهذه الآية من وجهين:
الأول: أنه ليس المراد من هذه العندية عندية المكان والجهة فإن ذلك محال على الله تعالى بل عندية القرب والشرف ولما كانت هذه الآية واردة في صفة الملائكة علمنا أن هذا النوع من القربة والشرف حاصل لهم لا لغيرهم ولقائل أن يقول: إنه تعالى أثبت هذه العندية في الآخرة لآحاد المؤمنين وهو قوله: {في مقعد صدق عند مليك مقتدر} [القمر: 55] وأما في الدنيا فقال عليه الصلاة والسلام حاكيًا عنه سبحانه: «أنا عند المنكسرة قلوبهم لأجلي» وهذا أكثر إشعارًا بالتعظيم لأن هذا الحديث يدل على أنه سبحانه عند هؤلاء المنكسرة قلوبهم وما احتجوا به من الآية يدل على أن الملائكة عند الله تعالى، ولا شك أن كون الله تعالى عند العبد أدخل في التعظيم، من كون العبد عند الله تعالى.
الوجه الثاني: في الاستدلال بالآية، أن الله تعالى احتج بعد استكبارهم على أن غيرهم وجب أن لا يستكبروا ولو كان البشر أفضل منهم لما تم هذا الاحتجاج، فإن السلطان إذا أراد أن يقرر على رعيته وجوب طاعتهم له بقول: الملوك لا يستكبرون عن طاعتي، فمن هؤلاء المساكين حتى يتمردوا عن طاعتي أو بالجملة فمعلوم أن هذا الاستدلال لا يتم إلا بالأقوى على الأضعف.
ولقائل أن يقول: لا نزاع في أن الملائكة أشد قوة وقدرة من البشر، ويكفي في صحة الاستدلال هذا القدر من التفاوت، فإنه تعالى يقول: إن الملائكة مع شدة قوتهم واستيلائهم على أجرام السموات والأرض وأمنهم من الهرم والمرض وطول أعمارهم، لا يتركون العبودية لحظة واحدة، والبشر مع نهاية ضعفهم ووقوعهم في أسرع الأحوال في المرض والهرم وأنواع الآفات، أولى أن لا يتمردوا فهذا القدر من التفاوت كافٍ في صحة هذا الاستدلال، ولا نزاع في حصول التفاوت في هذه المعنى، إنما النزاع في الأفضلية بمعنى كثرة الثواب، فلم قلتم إن هذا الاستدلال لا يصح إلا إذا كان الملك أكثر ثوابًا من البشر، ولابد فيه من دليل؟ مع أن المتبادر إلى الفهم هو الذي ذكرناه.
وثانيها: أنهم قالوا: عبادات الملائكة أشق من عبادات البشر، فتكون أكثر ثوابًا من عبادات البشر، وإنما قلنا إنها أشق لوجوه: أحدها: أن ميلهم إلى التمرد أشد فتكون طاعتهم أشق، وإنما قلنا: إن ميلهم إلى التمرد أشد، لأن العبد السليم من الآفات، المستغنى عن طلب الحاجات، يكون أميل إلى النعم والالتذاذ من المغمور في الحاجات، فإنه يكون كالمضطرب في الرجوع إلى عبادة مولاه والالتجاء إليه، ولهذا قال تعالى: {فإذا ركبوا في الفلك دعوا الله مخلصين له الدين فلما نجاهم إلى البر إذا هم يشركون} [العنكبوت: 65] ومعلوم أن الملائكة سكان السموات وهي جنات وبساتين ومواضع التنزه والراحة وهم آمنون من المرض والفقر ثم إنهم مع استكمال أسباب التنعم لهم أبدًا مذ خلقوا مشتغلون بالعبادة خاشعون وجلون مشفقون كأنهم مسجونون لا يلتفتون إلى نعيم الجنان واللذات بل هم مقبلون على الطاعات الشاقة موصوفون بالخوف الشديد والفزع العظيم وكأنه لا يقدر أحد من بني آدم أن يبقى كذلك يومًا واحدًا فضلًا عن تلك الأعصار المتطاولة ويؤكده قصة آدم عليه السلام، فإنه أطلق له في جميع مواضع الجنة بقوله: {وكلا منها رغدًا حيث شئتما} [البقرة: 35] ثم منع من شجرة واحدة فلم يملك نفسه حتى وقع في الشر، وذلك يدل على أن طاعتهم أشق من طاعات البشر، وثانيها: أن انتقال المكلف من نوع عبادة إلى نوع آخر كالانتقال من بستان إلى بستان، أما الإِقامة على نوع واحد فإنها تورث المشقة والملالة ولهذا السبب جعلت التصانيف مقسومة بالأبواب والفصول، وجعل كتاب الله مقسومًا بالسور والأحزاب والأعشار والأخماس، ثم إن الملائكة كل واحد منهم مواظب على عمل واحد لا يعدل عنه إلى غيره على ما قال سبحانه: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20] وقال: {وإنا لنحن الصافون وإنا لنحن المسبحون} [الصافات: 165، 166] وإذا كان كذلك كانت عبادتهم في نهاية المشقة، إذا ثبت ذلك وجب أن تكون عباداتهم أفضل لقوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل الأعمال أحمزها» أي أشقها، وقوله لعائشة رضي الله عنها: «إنما أجرك على قدر نصبك» والقياس أيضًا يقتضي ذلك، فإن العبد كلما كان تحمله المشاق لأجل رضا مولاه أكثر كان أحق بالتعظيم والتقديم.
ولقائل أن يقول على الوجهين: هب أن مشقتهم أكثر فلم قلتم يجب أن يكون ثوابهم أكثر؟ وذلك لأنا نرى بعض الصوفية في زماننا هذا يتحملون في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم ما كان يتحمل بعض ذلك ثم إنا نقطع بأن النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه ومن أمثاله، بل يحكى عن عباد الهند وزهادهم ورهبانهم أنهم يتحملون من المتاعب في التواضع لله تعالى ما لم يحك مثله عن أحد من الأنبياء والأولياء مع أنا نقطع بكفرهم، فعلمنا أن كثرة المشقة في العبادة لا تقتضي زيادة الثواب.
وتحقيقه هو أن كثرة الثواب لا تحصل إلا بناءً على الدواعي والقصود، فلعل الفعل الواحد يأتي به مكلفان على السواء فيما يتعلق بالأفعال الظاهرة ويستحق أحدهما به ثوابًا عظيمًا والآخر لا يستحق به إلا ثوابًا قليلًا، لما أن إخلاص أحدهما أشد وأكثر من إخلاص الثاني، فإذًا كثرة العبادات ومشقتها لا تقتضي التفاوت في الفضل ثم نقول: لا نسلم أن عبادات الملائكة أشق.
أما قوله في الوجه الأول: السموات كالبساتين النزهة قلنا مسلم ولكن لم قلتم بأن الإِتيان بالعبادة في المواضع الطيبة أشق من الإِتيان بها في المواضع الرديئة؟ أكثر ما في الباب أن يقال: إنه قد يهيأ له أسباب التنعيم فامتناعه عنها مع تهيئتها له أشق، ولكنه معارض بما أن أسباب البلاء مجتمعة على البشر ثم إنهم مع اجتماعها عليهم يرضون بقضاء الله ولا تغيرهم تلك المحن والآفات عن الخشوع له والمواظبة على عبوديته، وذلك أدخل في العبودية وذلك أن الخدم والعبيد تطيب قلوبهم بالخدمة حال ما يجدون من النعم والرفاهية ولا يصبر أحد منهم حال المشقة على الخدمة إلا من كان في نهاية الإخلاص فما ذكروه بالعكس أولى، أما قوله: والمواظبة على نوع واحد من العبادة شاق، قلنا: هذا معارض بوجه آخر وهو أنهم لما اعتادوا نوعًا واحدًا من العبادة صاروا كالمجبورين على الشيء الذي لا يقدرون على خلافه على ما قيل: العادة طبيعة خامسة، فيكون ذلك النوع في نهاية السهولة عليهم، ولذلك فإن النبي صلى الله عليه وسلم نهى عن الوصال في الصوم وقال: «أفضل الصوم صوم داود عليه السلام» وهو أن يصوم يومًا ويفطر يومًا.
وثالثها: قالوا: عبادات الملائكة أدوم فكانت أفضل بيان أنها أدوم قوله سبحانه وتعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} [الأنبياء: 20] وعلى هذا لو كانت أعمارهم مساوية لأعمار البشر لكانت طاعاتهم أدوم أكثر فكيف ولا نسبة لعمر كل البشر إلى عمر الملائكة على ما تقدم بيانه في باب صفات الملائكة وعلى هذه الآية سؤال: روي في شعب الإِيمان عن عبد الله بن الحارث بن نوفل قال: قلت لكعب أرأيت قول الله تعالى: {يسبحون الليل والنهار لا يفترون} ثم قال: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] أفلا تكون الرسالة مانعة لهم عن هذا التسبيح؟ وأيضًا قال: {أولئك عليهم لعنة الله والملائكة والناس أجمعين} [البقرة: 161] فكيف يكونون مشتغلين باللعن حال اشتغالهم بالتسبيح؟ أجاب كعب الأحبار فقال: التسبيح لهم كالتنفس لنا فكما أن اشتغالنا بالتنفس لا يمنعنا من الكلام فكذلك اشتغالهم بالتسبيح لا يمنعهم من سائر الأعمال.
وأقول: لقائل أن يقول الاشتغال بالتنفس إنما لم يمنع من الكلام لأن آلة التنفس غير آلة الكلام أما اللعن والتسبيح فهما من جنس الكلام فاجتماعهما في الآية الواحدة محال.
والجواب الأول: أي استبعاد في أن يخلق الله تعالى لهم ألسنة كثيرة يسبحون الله تعالى ببعضها ويلعنون أعداء الله تعالى بالبعض الآخر.
والجواب الثاني: اللعن هو الطرد والتبعيد، والتسبيح هو الخوض في ثناء الله تعالى ولا شك أن ثناء الله يستلزم تبعيد من اعتقد في الله ما لا ينبغي فكان ذلك اللعن من لوازمه.
والجواب الثالث: قوله: {لا يفترون} معناه أنهم لا يفترون عن العزم على أدائه في أوقاته اللائقة به كما يقال إن فلانًا مواظب على الجماعات لا يفتر عنها لا يراد به أنه أبدًا مشتغل بها بل يراد به أنه مواظب على العزم أبدًا على أدائها في أوقاتها وإذا ثبت أن عباداتهم أدوم وجب أن تكون أفضل.
أما أولًا فلأن الأدوم أشق فيكون أفضل على ما سبق تقريره في الحجة الثانية.
وأما ثانيًا: فلقوله عليه السلام: «أفضل العباد من طال عمره وحسن عمله» والملائكة صلوات الله عليهم أطول العباد أعمارًا وأحسنهم أعمالًا فوجب أن يكونوا أفضل العباد ولأنه عليه السلام قال: «الشيخ في قومه كالنبي في أمته» وهذا يقتضي أن يكونوا في البشر كالنبي في الأمة وذلك يوجب فضلهم على البشر.
ولقائل أن يقول إن نوحًا عليه السلام وكذا لقمان وكذا الخضر كانوا أطول عمرًا من محمد صلى الله عليه وسلم فوجب أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وذلك باطل بالاتفاق فبطل ما قالوه وقد نجد في الأمة من هو أطول عمرًا وأشد اجتهادًا من النبي صلى الله عليه وسلم وهو منه أبعد في الدرجة من العرش إلى ما تحت الثرى.
والتحقيق فيه ما بينا أن كثرة الثواب إنما تحصل لأمر يرجع إلى الدواعي والقصود فيجوز أن تكون الطاعة القليلة تقع من الإِنسان على وجه يستحق بها ثوابًا كثيرًا والطاعات الكثيرة تقع على وجه لا يستحق بها إلا ثوابًا قليلًا.
ورابعها: أنهم أسبق السابقين في كل العبادات، لا خصلة من خصال الدين إلا وهم أئمة مقدمون فيها بل هم المنشئون العامرون لطرق الدين والسبق في العبادة جهة تفضيل وتعظيم.
أما أولًا فبالإِجماع.
وأما ثانيًا فلقوله تعالى: {والسابقون السابقون أولئك المقربون} [الواقعة: 10، 11] وأما ثالثًا فلقوله عليه السلام: «من سن سنّة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة» فهذا يقتضي أن يكون قد حصل الملائكة من الثواب كل ما حصل للأنبياء مع زيادة الثواب التي استحقوها بأفعالهم التي أتوا بها قبل خلق البشر.
ولقائل أن يقول؛ فهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم لأنه أول من سن عبادة الله تعالى من البشر وأول من سن دعوة الكفار إلى الله تعالى ولما كان ذلك باطلًا بالإِجماع بطل ما ذكروه والتحقيق فيه ما قدمناه أن كثرة الثواب تكون بأمر يرجع إلى النية فيجوز أن تكون نية المتأخرة أصفى فيستحق من الثواب أكثر ما يستحقه المتقدم، وخامسها: أن الملائكة رسل الأنبياء والرسول أفضل من الأمة فالملائكة أفضل من الأنبياء.
أما أن الملائكة رسل إلى الأنبياء فلقوله تعالى: {علمه شديد القوى} [النجم: 5] وقوله: {نزل به الروح الأمين على قلبك} [الشعراء: 193، 194] وأما أن الرسول أفضل من الأمة فبالقياس على أن الأنبياء من البشر أفضل من أممهم فكذا هاهنا.
فإن قيل: العرف أن السلطان إذا أرسل واحدًا إلى جمع عظيم ليكون حاكمًا فيهم ومتوليًا لأمورهم فذلك الرسول يكون أشرف من ذلك الجمع، أما إذا أرسل واحدًا إلى واحد فقد لا يكون الرسول أشرف من المرسل إليه كما إذا أرسل واحدًا من عبيده إلى وزيره في مهم فإنه لا يلزم أن يكون ذلك العبد أشرف من الوزير.
قلنا، لكن جبريل عليه السلام مبعوث إلى كافة الأنبياء والرسل من البشر فلزم على هذا القانون الذي ذكره السائل أن يكون جبريل عليه السلام أفضل منهم.
واعلم أن هذه الحجة يمكن تقريرها على وجه آخر وهو أن الملائكة رسل لقوله تعالى: {جاعل الملائكة رسلًا} [فاطر: 1] ثم لا يخلو الحال من أحد أمرين إما أن يكون الملك رسولًا إلى ملك آخر أو إلى واحد من الأنبياء الذين هم من البشر وعلى التقديرين فالملك رسول وأمته رسل وأما الرسول البشري فهو رسول لكن أمته ليسوا برسل والرسول الذي كل أمته رسل أفضل من الرسول الذي لا يكون كذلك فثبت فضل الملك على البشر من هذه الجهة ولأن إبراهيم عليه السلام كان رسولًا إلى لوط عليه السلام فكان أفضل منه وموسى عليه السلام كان رسولًا إلى الأنبياء الذين كانوا في عسكره وكان أفضل منهم فكذا هاهنا.
ولقائل أن يقول الملك إذا أرسل رسولًا إلى بعض النواحي قد يكون ذلك لأنه جعل ذلك الرسول حاكمًا عليهم ومتوليًا لأمورهم ومتصرفًا في أحوالهم وقد لا يكون لأنه يبعثه إليهم ليخبرهم عن بعض الأمور مع أنه لا يجعله حاكمًا عليهم ومتوليًا لأمورهم فالرسول في القسم الأول يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه أما في القسم الثاني فظاهر أنه لا يجب أن يكون أفضل من المرسل إليه فالأنبياء المبعوثون إلى أممهم من القسم الأول فلا جرم كانوا أفضل من الأمم فلم قلتم إن بعثة الملائكة إلى الأنبياء من القسم الأول حتى يلزم أن يكونوا أفضل من الأنبياء، وسادسها: أن الملائكة أتقى من البشر فوجب أن يكونوا أفضل من البشر أما أنهم أتقى فلأنهم مبرؤون عن الزلات وعن الميل إليها لأن خوفهم دائم وإشفاقهم دائم لقوله تعالى: {يخافون ربهم من فوقهم} [النحل: 50] وقوله: {وهم من خشيته مشفقون} [الأنبياء: 28] والخوف والإِشفاق ينافيان العزم على المعصية وأما الأنبياء عليهم السلام فهم مع أنهم أفضل البشر ما خلا كل واحد منهم عن نوع زلة وقال عليه الصلاة والسلام: «ما منا من أحد إلا عصى أو هم بمعصية غير يحيى بن زكريا عليهما السلام» فثبت أن تقوى الملائكة أشد فوجب أن يكونوا أفضل من البشر لقوله تعالى: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} [الحجرات: 13] فإن قيل: إن قوله: {إن أكرمكم عند الله أتقاكم} خطاب مع الآدميين فلا يتناول الملائكة وأيضًا فالتقوى مشتق من الوقاية ولا شهوة في حق الملائكة فيستحيل تحقق التقوى في حقهم.
والجواب عن الأول: أن ترتيب الكرامة على التقوى يدل على أن الكرامة معللة بالتقوى فحيث كانت التقوى أكثر كانت الكرامة أكثر.
وعن الثاني: لا نسلم عدم الشهوة في حقهم لكن لا شهوة لهم إلى الأكل والمباشرة ولكن لا يلزم من عدم شهوة معينة عدم مطلق الشهوة بل لهم شهوة التقدم والترفع ولهذا قالوا: {أتجعل فيها من يفسد فيها ويسفك الدماء ونحن نسبح بحمدك ونقدس لك} وقال تعالى: {ومن يقل منهم إني إله من دونه فذلك نجزيه جهنم} [الأنبياء: 29] ولقائل أن يقول الحديث الذي ذكرتم يدل على أن يحيى عليه السلام كان أتقى من سائر الأنبياء فوجب أن يكون أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وذلك باطل بالإِجماع فعلمنا أنه لا يلزم من زيادة التقوى زيادة الفضل وتحقيقه ما قدمنا أن من المحتمل أن يكون إنسان لم تصدر عنه المعصية قط وصدر عنه من الطاعات ما استحق به مائة جزء من الثواب وإنسان آخر صدرت عنه معصية ثم أتى بطاعة استحق بها ألف جزء من الثواب فيقابل مائة جزء من الثواب بمائة جزء من العقاب فيبقى له تسعمائة جزء من الثواب فهذا الإِنسان مع صدور المعصية منه يكون أفضل من الإِنسان الذي لم تصدر المعصية عنه قط وأيضًا فلا نسلم أن تقوى الملائكة أشد وذلك لأن التقوى مشتق من الوقاية والمقتضي للمعصية في حق بني آدم أكثر فكان تقوى المتقين منهم أكثر، قوله: إن الملائكة لهم شهوة الرياسة قلنا: هذا لا يضرنا وذلك لأن هذه الشهوة حاصلة للبشر أيضًا وقد حصلت لهم أنواع أخر من الشهوات وهي شهوة البطن والفرج وإذا كان كذلك كانت الشهوات الصارفة عن الطاعات أكثر في بني آدم فوجب أن تكون تقوى المتقين منهم أشد.
وسابعها: قوله تعالى: {لن يستنكف المسيح أن يكون عبدًا لله ولا الملائكة المقربون} [النساء: 172] وجه الاستدلال أن قوله تعالى: {ولا الملائكة المقربون} خرج مخرج التأكيد للأول ومثل هذا التأكيد إنما يكون بذكر الأفضل يقال هذه الخشبة لا يقدر على حملها العشرة ولا المائة ولا يقال لا يقدر على حملها العشرة ولا الواحد ويقال هذا العالم لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا الملك ولا يقال لا يستنكف عن خدمته الوزير ولا البواب.
ولقائل أن يقول هذه الآية إن دلت فإنما تدل على فضل الملائكة المقربين على المسيح لكن لا يلزم منه فضل الملائكة المقربين على من هو أفضل من المسيح وهو محمد وموسى وإبراهيم عليهم الصلاة والسلام وبالجملة فلو ثبت لهم أن المسيح أفضل من كل الأنبياء كان مقصودهم حاصلًا فأما إذا لم يقيموا الدلالة على ذلك فلا يحصل مقصودهم لاسيما وقد أجمع المسلمون على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من المسيح عليه السلام وما رأينا أحدًا من المسلمين قطع بفضل المسيح على موسى وإبراهيم عليهما السلام ثم نقول قوله: {ولا الملائكة المقربون} ليس فيه إلا واو العطف والواو للجمع المطلق فيدل على أن المسيح لا يستنكف والملائكة لا يستنكفون فأما أن يدل على أن الملائكة أفضل من المسيح فلا، وأما الأمثلة التي ذكروها فنقول المثال لا يكفي في إثبات الدعوى الكلية ثم إن ذلك المثال معارض بأمثلة أخرى وهو قوله: ما أعانني على هذا الأمر زيد ولا عمرو فهذا لا يفيد كون عمرو أفضل من زيد وكذا قوله تعالى: {ولا الهدي ولا القلائد ولا آمين البيت الحرام} [المائدة: 3] ولما اختلفت الأمثلة امتنع التعويل عليها ثم التحقيق أنه إذا قال هذه الخشبة لا يقدر على حملها الواحد ولا العشرة فنحن نعلم بعقولنا أن العشرة أقوى من الواحد فلا جرم عرفنا أن الغرض من ذكر الثاني المبالغة فهذه المبالغة إنما عرفناها بهذا الطريق لا من مجرد اللفظ فههنا في الآية إنما يمكننا أن نعرف أن المراد من قوله: {ولا الملائكة المقربون} بيان المبالغة لو عرفنا قبل ذلك أن الملائكة المقربين أفضل من المسيح وحينئذٍ تتوقف صحة الاستدلال بهذه الآية على ثبوت المطلوب قبل هذا الدليل ويتوقف ثبوت المطلوب على دلالة هذه الآية عليه فيلزم الدور وأنه باطل سلمنا أنه يفيد التفاوت لكنه لا يفيد التفاوت في كل الدرجات بل في بعض دون آخر بيانه أنه إذا قيل هذا العالم لا يستنكف عن خدمته القاضي ولا السلطان.
فهذا لا يفيد إلا أن السلطان أكمل من القاضي في بعض الأمور وهو القدرة والقوة والاستيلاء ولا يدل على كونه أفضل من القاضي في العلم والزهد والخضوع لله تعالى إذا ثبت هذا فنحن نقول بموجبه وذلك لأن الملك أفضل من البشر في القدرة والبطش فإن جبريل عليه السلام قلع مدائن لوط والبشر لا يقدرون على شيء من ذلك فلم قلتم إن الملك أفضل من البشر في كثرة الثواب الحاصل بسبب مزيد الخضوع والعبودية وتمام التحقيق فيه أن الفضل المختلف فيه في هذه المسألة هو كثرة الثواب وكثرة الثواب لا تحصل إلا بالعبودية والعبودية عبارة عن نهاية التواضع والخضوع وكون العبد موصوفًا بنهاية التواضع لله تعالى لا يناسب الاستنكاف عن عبودية الله ولا يلائمها ألبتة بل يناقضها وينافيها وإذا كان هذا الكلام ظاهرًا جليًا كان حمل كلام الله تعالى عليه مخرجًا له عن الفائدة، أما اتصاف الشخص بالقدرة الشديدة والاستيلاء العظيم فإنه مناسب للتمرد وترك العبودية فالنصارى لما شاهدوا من المسيح عليه السلام إحياء الموتى وإبراء الأكمه والأبرص أخرجوه عن العبودية بسبب هذا القدر من القدرة فقال الله تعالى إن عيسى لا يستنكف بسبب هذا القدر من القدرة عن عبوديتي بل ولا الملائكة المقربون الذين هم فوقه في القدرة والقوة والبطش والاستيلاء على عوالم السموات والأرضين وعلى هذا الوجه ينتظم وجه دلالة الآية على أن الملك أفضل من البشر في الشدة والبطش لكنها لا تدل ألبتة على أنه أفضل من البشر في كثرة الثواب أو يقال إنهم إنما ادعوا إلهيته لأنه حصل من غير أب فقيل لهم الملك ما حصل من أب ولا من أم فكانوا أعجب من عيسى في ذلك مع أنهم لا يستنكفون عن العبودية.
فإن قيل في الآية ما يدل على أن المراد وقوع التفاوت بين المسيح والملائكة في العبودية لا في القدرة والقوة والبطش وذلك لأنه تعالى وصفهم بكونهم مقربين والقرب من الله تعالى لا يكون بالمكان والجهة بل بالدرجة والمنزلة فلما وصفهم هاهنا بكونهم مقربين علمنا أن المراد وقوع التفاوت بينهم وبين المسيح في درجات الفضل لا في الشدة والبطش.
قلنا إن كان مقصودك من هذا السؤال أنه تعالى وصف الملائكة بكونهم مقربين فوجب أن لا يكون المسيح كذلك فهذا باطل لأن تخصيص الشيء بالذكر لا يدل على نفسه عما عداه وإن كان مقصودك أنه تعالى لما وصفهم بكونهم مقربين وجب أن يكون التفاوت واقعًا في ذلك فهذا باطل أيضًا لاحتمال أن يكون المسيح والمقربون مع اشتراكهم في صفة القرب في الطاعة يتباينون بأمور أخرى فيكون المراد بيان التفاوت في تلك الأمور.
سؤال آخر:
وهو أنا نقول بموجب الآية فنسلم أن عيسى عليه السلام دون مجموع الملائكة في الفضل فلم قلتم إنه دون كل واحد من الملائكة في الفضل.
سؤال آخر:
لعله تعالى إنما ذكر هذا الخطاب مع أقوام اعتقدوا أن الملك أفضل من البشر فأورد الكلام على حسب معتقدهم كما في فقوله: {وهو أهون عليه} [الروم: 27].
وثامنها قوله تعالى حكاية عن إبليس قوله: {ما نهاكما ربكما عن هذه الشجرة إلا أن تكونا ملكين أو تكونا من الخالدين} [الأعراف: 20] ولو لم يكن متقررًا عند آدم وحواء عليهما السلام أن الملك أفضل من البشر لم يقدر إبليس على أن يغرهما بذلك ولا كان آدم وحواء عليهما السلام يغتران بذلك.
ولقائل أن يقول هذا قول إبليس فلا يكون حجة، ولا يقال إن آدم اعتقد صحة ذلك وإلا لما اغتر، واعتقاد آدم حجة، لأنا نقول: لعل آدم عليه السلام أخطأ في ذلك إما لأن الزلة جائزة على الأنبياء أو لأنه ما كان نبيًا في ذلك الوقت، وأيضًا هب أنه حجة لكن آدم عليه السلام لم يكن قبل الزلة نبيًا فلم يلزم من فضل الملك عليه في ذلك الوقت فضل الملك عليه حال ما صار نبيًا، وأيضًا هب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من البشر في بعض الأمور المرغوبة فلم قلت: إنها تدل على فضل الملك على البشر في باب الثواب؟ وذلك لأنه لا نزاع أن الملك أفضل من البشر في باب القدرة والقوة، وفي باب الحسن والجمال، وفي باب الصفاء والنقاء عن الكدورات الحاصلة بسبب التركيبات فإن الملائكة خلقوا من الأنوار، وآدم مخلوق من التراب فلعل آدم عليه السلام وإن كان أفضل منهم في كثرة الثواب إلا أنه رغب في أن يكون مساويًا لهم في تلك الأمور التي عددناها فكان التغرير حاصلًا من هذا الوجه، وأيضًا فقوله: {إلا أن تكونا ملكين} يحتمل أن يكون المراد إلا أن تنقلبا ملكين فحينئذٍ يصح استدلالكم ويحتمل أن يكون المراد أن النهي مختص بالملائكة والخالدين دونكما، هذا كما يقول أحدنا لغيره ما نهيت أنت عن كذا إلا أن تكون فلانًا ويكون المعنى أن المنهي هو فلان دونك ولم يرد إلا أن ينقلب فيصير فلانًا، ولما كان غرض إبليس إيقاع الشبهة بهما فمن أوكد الشبهة إيهام أنهما لم ينهيا وإنما المنهي غيرهما، وأيضًا فهب أن الآية تدل على أن الملك أفضل من آدم فلم قلت أنها تدل على أن الملك أفضل من محمد؟ وذلك لأن المسلمين أجمعوا على أن محمدًا أفضل من آدم عليهما السلام ولا يلزم من كون الملك أفضل من المفضول كونه أفضل من الأفضل.
وتاسعها: قوله تعالى: {قل لا أقول لكم عندي خزائن الله ولا أعلم الغيب ولا أقول لكم إني ملك} [الأنعام: 50].
ولقائل أن يقول يحتمل أن يكون المراد ولا أقول لكم إني ملك في كثرة العلوم وشدة القدرة والذي يدل على صحة هذا الاحتمال وجوه:
الأول: وهو أن الكفار طالبوه بالأمور العظيمة نحو صعود السماء ونقل الجبال وإحضار الأموال العظيمة وهذه الأمور لا يمكن تحصيلها إلا بالعلوم الكثيرة والقدرة الشديدة.
الثاني: أن قوله: {قل لا أقول لكم عند خزائن الله} هذا يدل على اعترافه بأنه غير قادر على كل المقدروات وقوله: {ولا أعلم الغيب} يدل على اعترافه بأنه غير عالم بكل المعلومات ثم قوله: {ولا أقول لكم إني ملك} معناه والله أعلم وكما لا أدعي القدرة على كل المقدورات والعلم بكل المعلومات فكذلك لا أدعي قدرة مثل قدرة الملك ولا علمًا مثل علومهم الثالث: قوله: {ولا أقول لكم إني ملك} لم يرد به نفي الصورة لأنه لا يفيد الغرض وإنما نفى أن يكون له مثل ما لهم من الصفات وهذا يكفي في صدقه أن لا يكون له مثل ما لهم ولا تكون صفاته مساوية لصفاتهم من كل الوجوه ولا دلالة فيه على وقوع التفاوت في كل الصفات فإن عدم الاستواء في الكل غير، وحصول الاختلاف في الكل غير.
وعاشرها: قوله تعالى: {ما هذا بشرًا إن هذا إلا ملك كريم} [يوسف: 31].
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون المراد وقوع التشبيه في الصورة والجمال.
قلنا: الأولى أن يكون التشبيه واقعًا في السيرة لا في الصورة لأنه قال: {إن هذا إلا ملك كريم} فشبهه بالملك الكريم والملك إنما يكون كريمًا بسيرته المرضية لا بمجرد صورته فثبت أن المراد تشبيهه بالملك في نفي دواعي البشر من الشهوة والحرص على طلب المشتهى وإثبات ضد ذلك وهي حالة الملك وهي غض البصر وقمع النفس عن الميل إلى المحرمات، فدلت هذه الآية على إجماع العقلاء من الرجال والنساء، والمؤمن والكافر، على اختصاص الملائكة بدرجة فائقة على درجات البشر.
ولقائل إن يقول: إن قول المرأة {فذلكن الذي لمتنني فيه} [يوسف: 32] كالصريح في أن مراد النساء بقولهن: {إن هذا إلا ملك كريم} تعظيم حال يوسف في الحسن والجمال لا في السيرة، لأن ظهور عذرها في شدة عشقها، إنما يحصل بسبب فرط يوسف في الجمال لا بسبب فرط زهده وورعه.
فإن ذلك لا يناسب شدة عشقها له.
سلمنا أن المراد تشبيه يوسف عليه السلام بالملك في الإِعراض عن المشتهيات، فلم قلت يجب أن يكون يوسف عليه السلام أقل ثوابًا من الملائكة؟ وذلك لأنه لا نزاع في أن عدم التفات البشر إلى المطاعم والمناكح أقل من عدم التفات الملائكة إلى هذه الأشياء، لكن لم قلتم إن ذلك يوجب بالمزيد في الفضل بمعنى كثرة الثواب؟ فإن تمسكوا بأن كل من كان أقل معصية وجب أن يكون أفضل، فقد سبق الكلام عليه.
الحجة الحادية عشرة: قوله تعالى: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا} [الإسراء: 70] ومخلوقات الله تعالى إما المكلفون أو من عداهم ولا شك أن المكلفين أفضل من غيرهم، أما المكلفون فهم أربعة أنواع الملائكة والإِنس والجن الشياطين.
ولا شك أن الإِنس أفضل من الجن والشياطين، فلو كان أفضل من الملك أيضًا لزم حينئذٍ أن يكون البشر أفضل من كل المخلوقات، وحينئذٍ لا يبقى لقوله تعالى: {وفضلناهم على كثير ممن خلقنا تفضيلًا} [الإِسراء: 70] فائدة: بل كان ينبغي أن يقال وفضلناهم على جميع من خلقنا تفضيلًا، ولما لم يقل ذلك علمنا أن الملك أفضل من البشر، ولقائل أن يقول حاصل هذا الكلام تمسك بدليل الخطاب، لأن التصريح بأنه أفضل من كثير من المخلوقات لا يدل على أنه ليس أفضل من الباقي إلا بواسطة دليل الخطاب، وأيضًا فهب أن جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم ولكن لا يلزم من كون أحد المجموعين أفضل من المجموع الثاني أن يكون كل واحد من أفراد المجموع الأول أفضل من المجموع الثاني، فإنا إذا قدرنا عشرة من العبيد كل واحد منهم يساوي مائة دينار، وعشرة أخرى حصل فيهم عبد يساوي مائتي دينار والتسعة الباقية يساوي كل واحد منهم دينارًا.
فالمجموع الأول أفضل من المجموع الثاني، إلا أنه حصل في المجموع الثاني واحد هو أفضل من كل واحد من آحاد المجموع الأول، فكذا هاهنا وأيضًا فقوله: {وفضلناهم} يجوز أن يكون المراد، وفضلناهم في الكرامة التي ذكرناها في أول الآية وهي قوله: {ولقد كرمنا بني آدم} ويكون المراد من الكرامة حسن الصورة ومزيد الذكاء والقدرة على الأعمال العجيبة والمبالغة في النظافة والطهارة، وإذا كان كذلك فنحن نسلم أن الملك أزيد من البشر في هذه الأمور ولكن لم قلتم أن الملك أكثر ثوابًا من البشر، وأيضًا فقوله: {خلق السموات بغير عمد ترونها} [لقمان: 10] لا يقتضي أن يكون هناك عمد غير مرئي وكذلك قوله تعالى: {ومن يدع مع الله إلهًا آخر لا برهان له به} [المؤمنون: 117] يقتضي أن يكون هناك إله آخر له برهان فكذلك هاهنا، الحجة الثانية عشرة: الأنبياء عليهم السلام ما استغفروا لأحد إلا بدأوا بالاستغفار لأنفسهم ثم بعد ذلك لغيرهم من المؤمنين، قال آدم: {ربنا ظلمنا أنفسنا} [الأعراف: 23] وقال نوح عليه السلام: {رب اغفر لي ولوالدي ولمن دخل بيتي مؤمنًا} [نوح: 28] وقال إبراهيم عليه السلام: {رب اغفر لي ولوالدي} [إبراهيم: 41] وقال: {رب هب لي حكمًا وألحقني بالصالحين} [الشعراء: 83] وقال موسى: {رب اغفر لي ولأخي} [الأعراف: 151] وقال الله تعالى لمحمد صلى الله عليه وسلم: {واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات} [محمد: 19] وقال: {ليغفر لك الله ما تقدم من ذنبك وما تأخر} [الفتح: 2] أما الملائكة فإنهم لم يستغفروا لأنفسهم ولكنهم طلبوا المغفرة للمؤمنين من البشر يدل عليه تعالى حكاية عنهم {فاغفر للذين تابوا واتبعوا سبيلك وقهم عذاب الجحيم} [غافر: 7] وقال: {ويستغفرون للذين آمنوا} لو كانوا محتاجين إلى الاستغفار لبدأوا في ذلك بأنفسهم لأن دفع الضرر عن النفس مقدم على دفع الضرر عن الغير، وقال عليه الصلاة والسلام: «إبدأ بنفسك ثم بمن تعول» وهذا يدل على أن الملك أفضل من البشر.
ولقائل أن يقول: هذا الوجه لا يدل على أن الملائكة لم يصدر عنهم الزلة ألبتة وأن البشر قد صدرت الزلات عنهم، لكنا بينا فيما تقدم أن التفاوت في ذلك لا يوجب التفاوت في الفضيلة، ومن الناس من قال إن استغفارهم للبشر كالعذر عمن طعنوا فيهم بقولهم: {أتجعل فيها من يفسد فيها} [البقرة: 30].
الحجة الثالثة عشرة: قوله تعالى: {وإن عليكم لحافظين كرامًا كاتبين} [الانفطار: 10] وهذا عام في حق جميع المكلفين من بني آدم فدخل فيه الأنبياء وغيرهم وهذا يقتضي كونهم أفضل من البشر لوجهين:
الأول: أنه تعالى جعلهم حفظة لبني آدم والحافظ للمكلف من المعصية لابد وأن يكون أبعد عن الخطأ والزلل من المحفوظ، وذلك يقتضي كونهم أبعد من المعاصي وأقرب إلى الطاعات من البشر وذلك يقتضي مزيد الفضل، والثاني: أنه سبحانه وتعالى جعل كتابتهم حجة للبشر في الطاعات وعليهم في المعاصي، وذلك يقتضي أن يكون قولهم أولى بالقبول من قول البشر ولو كان البشر أعظم حالًا منهم لكان الأمر بالعكس.
ولقائل أن يقول أما قوله: الحافظ يجب أن يكون أكرم من المحفوظ فهذا بعيد فإن الملك قد يوكل بعض عبيده على ولده ولا يلزم أن يكون الحافظ أشرف من المحفوظ هناك، أما قوله: جعل شهادتهم النافذة على البشر فضعيف، لأن الشاهد قد يكون أدون حالًا من المشهود عليه.
الحجة الرابعة عشرة: قوله تعالى: {يوم يقوم الروح والملائكة صفًا لا يتكلمون إلا من أذن له الرحمن وقال صوابًا} [النبأ: 38] والمقصود من ذكر أحوالهم المبالغة في شرح عظمة الله تعالى وجلاله ولو كان في خلق طائفة أخرى قيامهم وتضرعهم أقوى في الأنباء عن عظمة الله وكبريائه من قيامهم لكان ذكرهم أولى في هذا المقام، ثم كما أنه سبحانه بين عظمة ذاته في الآخرة بذكر الملائكة فكذا بين عظمته في الدنيا بذكر الملائكة وهو قوله: {وترى الملائكة حافين من حول العرش يسبحون بحمد ربهم} [الزمر: 75] ولقائل أن يقول: كل ذلك يدل على أنهم أزيد حالًا من البشر في بعض الأمور فلم لا يجوز أن تلك الحالة هي قوتهم وشدتهم وبطشهم، وهذا كما يقال إن السلطان لما جلس وقف حول سريره ملوك أطراف العالم خاضعين خاشعين فإن عظمة السلطان إنما تشرح بذلك ثم إن هذا لا يدل على أنهم أكرم عند السلطان من ولده فكذا هاهنا.
الحجة الخامسة عشرة: قوله تعالى: {والمؤمنون كل آمن بالله وملائكته وكتبه ورسله} [البقرة: 285] فبين تعالى أنه لابدّ في صحة الإِيمان من الإِيمان بهذه الأشياء ثم بدأ بنفسه وثنى بالملائكة وثلث بالكتب وربع بالرسل وكذا في قوله: {شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولوا العلم} [آل عمران: 18] وقال: {إن الله وملائكته يصلون على النبي} [الأحزاب: 56] والتقديم في الذكر يدل على التقديم في الدرجة ويدل عليه أن تقديم الأدون على الأشرف في الذكر قبيح عرفًا، فوجب أن يكون قبيحًا شرعًا، أما أنه قبيح عرفًا فلأن الشاعر قال:
عميرة ودع إن تجهزت غاديا ** كفى الشيب والإِسلام للمرء ناهيا

قال عمر بن الخطاب: لو قدمت السلام لأجزتك، ولأنهم لما كتبوا كتاب الصلح بين رسول الله صلى الله عليه وسلم وبين المشركين وقع التنازع في تقديم الاسم وكذا في كتاب الصلح بين علي ومعاوية، وهذا يدل على أن التقديم في الذكر يدل على مزيد الشرف وإذا ثبت أنه في العرف كذلك وجب أن يكون في الشرع كذلك، لقوله عليه السلام: «ما رآه المسلمون حسنًا فهو عند الله حسن» فثبت أن تقديم الملائكة على الرسل في الذكر يدل على تقديمهم في الفضل ولقائل أن يقول: هذه الحجة ضعيفة لأن الاعتماد إن كان على الواو، فالواو لا تفيد الترتيب، وإن كان على التقديم في الذكر ينتقض بتقديم سورة تبت على سورة قل هو الله أحد.
الحجة السادسة عشرة: قوله تعالى: {إِنَّ الله وملائكته يُصَلُّونَ عَلَى النبى} فجعل صلوات الملائكة كالتشريف للنبي صلى الله عليه وسلم وذلك يدل على كون الملائكة أشرف من النبي صلى الله عليه وسلم.
ولقائل أن يقول هذا ينتقض بقوله: {يا أيها الذين ءامَنُواْ صَلُّواْ عَلَيْهِ} فأمر المؤمنين بالصلاة على النبي ولم يلزم كون المؤمنين أفضل من النبي عليه السلام فكذا في الملائكة.
الحجة السابعة عشرة: أن نتكلم في جبريل ومحمد صلى الله عليه وسلم فنقول: إن جبريل عليه السلام أفضل من محمد والدليل عليه قوله تعالى: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ ذِى قُوَّةٍ عِندَ ذِى العرش مَكِينٍ مطاع ثَمَّ أَمِينٍ وَمَا صاحبكم بِمَجْنُونٍ} [التكوير: 19 22] وصف الله تعالى جبريل عليه السلام بست من صفات الكمال، أحدها: كونه رسولًا لله.
وثانيها: كونه كريمًا على الله تعالى.
وثالثها: كونه ذا قوة عند الله، وقوته عند الله لا تكون إلا قوته على الطاعات بحيث لا يقوى عليها غيره.
ورابعها: كونه مكينًا عند الله.
وخامسها: كونه مطاعًا في عالم السموات.
وسادسها: كونه أمينًا في كل الطاعات مبرءًا عن أنواع الخيانات.
ثم إنه سبحانه وتعالى بعد أن وصف جبريل عليه السلام بهذه الصفات العالية وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم بقوله: {وَمَا صاحبكم بِمَجْنُونٍ} ولو كان محمد مساويًا لجبريل عليه السلام في صفات الفضل أو مقارنًا له لكان وصف محمد بهذه الصفة بعد وصف جبريل بتلك الصفات نقصًا من منصب محمد صلى الله عليه وسلم وتحقيرًا لشأنه وإبطالًا لحقه وذلك غير جائز على الله فدلت هذه الآية على أنه ليس لمحمد صلى الله عليه وسلم عند الله من المنزلة إلا مقدار أن يقال إنه ليس بمجنون، وذلك يدل على أنه لا نسبة بين جبريل وبين محمد عليهما السلام في الفضل والدرجة.
فإن قيل لم لا يجوز أن يكون قوله: {إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ} صفة لمحمد لا لجبريل عليهما السلام.
قلنا لأن قوله: {وَلَقَدْ رَءاهُ بالأفق المبين} يبطل ذلك.
ولقائل أن يقول إنا توافقنا جميعًا على أنه قد كان لمحمد صلى الله عليه وسلم فضائل أخرى سوى كونه ليس بمجنون وأن الله تعالى ما ذكر شيئًا من تلك الفضائل في هذا الموضع فإذن عدم ذكر الله تعالى تلك الفضائل هاهنا لا يدل على عدمها بالإجماع، أو إذا ثبت أن لمحمد عليه السلام فضائل سوى الأمور المذكورة هاهنا فلم لا يجوز أن يقال إن محمدًا عليه السلام بسبب تلك الفضائل التي هي غير مذكورة هاهنا يكون أفضل من جبريل عليه السلام فإنه سبحانه كما وصف جبريل عليه السلام هاهنا بهذه الصفات الست وصف محمدًا صلى الله عليه وسلم أيضًا بصفات ست، وهي قوله: {يا أيها النبي إِنَّا أرسلناك شَاهِدًا وَمُبَشّرًا وَنَذِيرًا وَدَاعِيًا إِلَى الله بِإِذْنِهِ وَسِرَاجًا مُّنِيرًا} [الأحزاب: 45، 46] فالوصف الأول: كونه نبيًا والثاني: كونه رسولًا والثالث: كونه شاهدًا والرابع: كونه مبشرًا والخامس: كونه نذيرًا والسادس: كونه داعيًا إلى الله تعالى بإذنه والسابع: كونه سراجًا والثامن: كونه منيرًا وبالجملة فإفراد أحد الشخصين بالوصف لا يدل ألبتة على انتفاء تلك الأوصاف عن الثاني.
الحجة الثامنة عشرة: الملك أعلم من البشر والأعلم أفضل فالملك أفضل إنما قلنا إن الملك أعلم من البشر لأن جبريل عليه السلام كان معلمًا لمحمد عليه السلام بدليل قوله: {عَلَّمَهُ شَدِيدُ القوى} [النجم: 5] والمعلم لابد وأن يكون أعلم من المتعلم، وأيضًا فالعلوم قسمان: أحدهما: العلوم التي يتوصل إليها بالعقول كالعلم بذات الله تعالى وصفاته؛ فلا يجوز وقوع التقصير فيها لجبريل عليه السلام ولا لمحمد صلى الله عليه وسلم، لأن التقصير في ذلك جهل وهو قادح في معرفة الله تعالى.
وأما العلم بكيفية مخلوقات الله تعالى وما فيها من العجائب والعلم بأحوال العرش والكرسي واللوح والقلم والجنة والنار وطباق السموات وأصناف الملائكة وأنواع الحيوانات في المغاور والجبال والبحار فلا شك أن جبريل عليه السلام أعلم بها، لأنه عليه السلام أطول عمرًا وأكثر مشاهدة لها فكان علمه بها أكثر وأتم.
وثانيها: العلوم التي لا يتوصل إليها إلا بالوحي لا لمحمد صلى الله عليه وسلم ولا لسائر الأنبياء عليهم السلام إلا من جهة جبريل عليه السلام فيستحيل أن يكون لمحمد عليه الصلاة والسلام فضيلة فيها على جبريل عليه السلام، وأما جبريل عليه السلام فهو كان الواسطة بين الله تعالى وبين جميع الأنبياء فكان عالمًا بكل الشرائع الماضية والحاضرة، وهو أيضًا عالم بشرائع الملائكة وتكاليفهم ومحمد عليه الصلاة والسلام، ما كان عالمًا بذلك، فثبت أن جبريل عليه السلام كان أكثر علمًا من محمد عليه الصلاة والسلام، وإذا ثبت هذا وجب أن يكون أفضل منه لقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
ولقائل أن يقول لا نسلم أنهم أعلم من البشر، والدليل عليه أنهم اعترفوا بأن آدم عليه السلام أكثر علمًا منهم بدليل قوله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ} [البقرة: 33] ثم إن سلمنا مزيد علمهم ولكن ذلك لا يقتضي كثرة الثواب، فإنا نرى الرجل المبتدع محيطًا بكثير من دقائق العلم ولا يستحق شيئًا من الثواب فضلًا عن أن يكون ثوابه أكثر وسببه ما نبهنا مرارًا عليه أن كثرة الثواب إنما تحصل بحسب الإخلاص في الأفعال ولم نعلم أن إخلاص الملائكة أكثر.
الحجة التاسعة عشرة: قوله تعالى: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إِنّى إله مّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29] فهذه الآية دالة على أنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى أنهم لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا بادعاء الإلهية لا بشيء آخر من متابعة الشهوات وذلك يدل على نهاية جلالهم.
ولقائل أن يقول لا نزاع في نهاية جلالهم، أما قوله: إنهم بلغوا في الترفع وعلو الدرجة إلى حيث لو خالفوا أمر الله تعالى لما خالفوه إلا في ادعاء الإلهية فهذا مسلم وذلك لأن علومهم كثيرة وقواهم شديدة وهم مبرؤون عن شهوة البطن والفرج ومن كان كذلك فلو خالف أمر الله لم يخالف إلا في هذا المعنى الذي ذكرته لكن لم قلتم إن ذلك يدل على أنهم أكثر ثوابًا من البشر فإن محل الخلاف ليس إلا ذاك.
الحجة العشرون: قوله عليه الصلاة والسلام رواية عن الله تعالى: «وإذا ذكرني عبدي في ملأ ذكرته في ملأ خير من ملائه» وهذا يدل على أن الملأ الأعلى أشرف.
ولقائل أن يقول هذا خير واحد وأيضًا فهذا يدل على أن ملأ الملائكة أفضل من ملأ البشر وملأ البشر عبارة عن العوام لا عن الأنبياء فلا يلزم من كون الملك أفضل من عامة البشر كونهم أفضل من الأنبياء، هذا آخر الكلام في الدلائل النقلية، واعلم أن الفلاسفة اتفقوا على أن الأرواح السماوية المسماة بالملائكة أفضل من الأرواح الناطقة البشرية واعتمدوا في هذا الباب على وجوه عقلية نحن نذكرها إن شاء الله تعالى.
الحجة الأولى: قالوا الملائكة ذواتها بسيطة مبرأة عن الكثرة والبشر مركب من النفس والبدن والنفس مركبة من القوى الكثيرة والبدن مركب من الأجزاء الكثيرة والبسيط خير من المركب لأن أسباب العدم للمركب أكثر منها للبسيط ولذلك فإن فردانية الله تعالى من صفات جلاله ونعوت كبريائه.
الاعتراض عليه: لا نسلم أن البسيط أشرف من المركب وذلك لأن جانب الروحاني أمر واحد وجانب الجسماني أمران روحه وجسمه فهو من حيث الروح من عالم الروحانيات والأنوار ومن حيث الجسد من عالم الأجساد فهو لكونه مستجمعًا للروحاني والجسماني يجب أن يكون أفضل من الروحاني الصرف والجسماني الصرف وهذا هو السر في أن جعل البشر الأول مسجودًا للملائكة ومن وجه آخر وهو أن الأرواح الملكية مجردات مفارقة عن العلائق الجسمانية فكأن استغراقها في مقاماتها النورانية عاقها عن تدبير هذا العالم الجسداني أما النفوس البشرية النبوية فإنها قويت على الجمع بين العالمين فلا دوام ترقيها في معارج المعارف وعوالم القدس يعوقها عن تدبير العالم السفلي ولا التفاتها إلى مناظم عالم الأجسام يمنعها عن الاستكمال في عالم الأرواح فكانت قوتها وافية بتدبير العالمين محيطة بضبط الجنسين فوجب أن تكون أشرف وأعظم.
الحجة الثانية: الجواهر الروحانية مبرأة عن الشهوة التي هي منشأ سفك الدماء والأرواح البشرية مقرونة بها والخالي عن منبع الشر أشرف من المبتلى به.
الاعتراض: لا شك أن المواظبة على الخدمة مع كثرة الموانع والعوائق أدل على الإخلاص من المواظبة عليها من غير شيء من العوائق والموانع، وذلك يدل على أن مقام البشر في المحبة أعلى وأكمل وأيضًا فالروحانيات لما أطاعت خالقها لم تكن طاعتها موجبة قهر الشياطين الذين هم أعداء الله، أما الأرواح البشرية لما أطاعت خالقها لزم من تلك الطاعة قهر القوى الشهوانية والغضبية وهي شياطين الإنس فكانت طاعاتهم أكمل وأيضًا فمن الظاهر أن درجات الروحانيات حين قالت: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} أكمل من درجاتهم حين قالت: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} [البقرة: 30] وما ذاك إلا بسبب الانكسار الحاصل من الزلة وهذا في البشر أكمل ولهذا قال عليه الصلاة والسلام حكاية عن ربه تعالى: «لأنين المذنبين أحب إليّ من زجل المسبحين» الحجة الثالثة: الروحانيات مبرأة عن طبيعة القوة فإن كل ما كان ممكنًا لها بحسب أنواعها التي في أشخاصها فقد خرج إلى الفعل والأنبياء ليسوا كذلك، ولهذا قال عليه الصلاة والسلام: «إني لأستغفر الله في اليوم والليلة مائة مرة وما أدري ما يفعل بي ولا بكم».
{مَا كُنتَ تَدْرِى مَا الكتاب وَلاَ الإيمان} [الشورى: 52] ولا شك أن ما بالفعل التام أشرف مما بالقوة.
الاعتراض: لا نسلم أنها بالفعل التام فلعلها بالقوة في بعض الأمور، ولهذا قيل إن تحريكاتها للأفلاك لأجل استخراج التعقلات من القوة إلى الفعل وهذه التحريكات بالنسبة إليها كالتحريكات العارضة للأرواح الحاملة لقوى الفكر والتخيل عند محاولة استخراج التعقلات التي هي بالقوة إلى الفعل.
الحجة الرابعة: الروحانيات أبدية الوجود مبرأة عن طبيعة التغير والقوة والنفوس الناطقة البشرية ليست كذلك.
الاعتراض: المقدمتان ممنوعتان أليس أن الروحانيات ممكنة الوجود لذواتها واجبة الوجود بمادتها فهي محدثة سلمنا ذلك، فلا نسلم أن الأرواح البشرية حادثة، بل هي عند بعضهم أزلية وهؤلاء قالوا: هذه الأرواح كانت سرمدية موجودة كالأظلال تحت العرش يسبحون بحمد ربهم إلا أن المبدئ الأول أمرها حتى نزلت إلى عالم الأجسام وسكنات المواد، فلما تعلقت بهذه الأجسام عشقتها.
واستحكم إلفها بها فبعث من تلك الأظلال أكملها وأشرفها إلى هذا العالم ليحتال في تخليص تلك الأرواح عن تلك السكنات وهذا هو المراد من باب الحمامة المطوقة المذكورة في كتاب كليلة ودمنة.
الحجة الخامسة: الروحانيات نورانية علوية لطيفة، والجسمانيات ظلمانية سفلية كثيفة وبدائية العقول تشهد بأن النور أشرف من الظلمة، والعلوي خير من السفلي، واللطيف أكمل من الكثيف.
الاعتراض: هذا كله إشارة إلى المادة وعندنا سببب الشرف الانقياد لأمر رب العالمين على ما قال: {قُلِ الروح مِنْ أَمْرِ رَبّي} [الإسراء: 85] وادعاء الشرف بسبب شرف المادة هو حجة اللعين الأول وقد قيل له ما قيل، الحجة السادسة: الروحانيات السماوية فضلت الجسمانيات بقوى العلم والعمل.
أما العلم فلاتفاق الحكماء على إحاطة الروحانيات السماوية بالمغيبات واطلاعها على مستقبل الأمور، وأيضًا فعلومهم فعلية فطرية كلية دائمة.
وعلوم البشر على الضد في كل ذلك، وأما العمل فلأنهم مواظبون على الخدمة دائمًا يسبحون الليل والنهار لا يفترون لا يلحقهم نوم العيون ولا سهو العقول ولا غفلة الأبدان طعامهم التسبيح وشرابهم التقديس والتحميد والتهليل وتنفسهم بذكر الله وفرحتهم بخدمة الله متجردون من العلائق البدنية غير محجوبين بشيء من القوى الشهوانية والغضبية فأين أحد القسمين من الآحر: الاعتراض: لا نزاع في كل ما ذكرتموه إلا أن هاهنا دقيقة وهي أن المواظب على تناول الأغذية اللطيفة لا يلتذ بها كما يلتذ المبتلى بالجوع أيامًا كثيرة فالملائكة بسبب مواظبتهم على تلك الدرجات العالية لا يجدون من اللذة مثل ما يجد البشر الذين يكونون في أكثر الأوقات محجوبين بالعلائق الجسمانية والحجب الظلمانية فهذه المزية من اللذة مما يختص بها البشر ولعل هذا هو المراد من قوله تعالى: {إِنَّا عَرَضْنَا الأمانة عَلَى السموات والأرض والجبال فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإنسان} [الأحزاب: 72] فإن إدراك الملايم بعد الابتلاء بالمنافي ألذ من إدراك الملايم على سبيل الدوام ولذلك قالت الأطباء: إن الحرارة في حمى الدق أشد منها في حمى الغب لكن حرارة الحمى في الدق إذا دامت واستقرت بطل الشعور بها فهذه الحالة لم تحصل للملائة لأن كمالاتها دائمة ولم تحصل لسائر الأجسام لأنها كانت خالية عن القوة المستعدة لإدراك المجردات فلم يبق شيء ممن يقوى على تحمل هذه الأمانة إلا البشر.
الحجة السابعة: الروحانيات لهم قوة على تصريف الأجسام وتقليب الأجرام والقوة التي هي لهم ليست من جنس القوى المزاجية حتى يعرض لها كلال ولغوب، ثم إنك ترى الخامة اللطيفة من الزرع في بدء نموها تفتق الحجر وتشق الصخر وما ذاك إلا لقوة نباتية فاضت عليها من جواهر القوى السماوية فما ظنك بتلك القوى السماوية والروحانيات هي التي تتصرف في الأجسام السفلية تقليبًا وتصريفًا لا يستثقلون حمل الأثقال ولا يستصعبون تحريك الجبال فالرياح تهب بتحريكاتها والسحاب تعرض وتزول بتصريفها وكذا الزلازل تقع في الجبال بسبب من جهتها والشرائع ناطقة بذلك على ما قال تعالى: {فالمقسمات أَمْرًا} [الذاريات: 4] والعقول أيضًا دالة عليه والأرواح السفلية ليست كذلك فأين أحد القسمين من الآخر.
والذي يقال أن الشياطين التي هي الأرواح الخبيثة تقدر على ذلك ممنوع وبتقدير التسليم فلا نزاع في أن قدرة الملائكة على ذلك أشد وأكمل ولأن الأرواح الطيبة الملكية تصرف قواها إلى مناظم هذا العالم السفلي ومصالحها والأرواح الخبيثة تصرف قواها إلى الشرور فأين أحدهما من الآخر.
الاعتراض: لا يبعد أن يتفق في النفوس الناطقة البشرية نفس قوية كاملة مستعلية على الأجرام العنصرية بالتقليب والتصريف فما الدليل على امتناع مثل هذه النفس.
الحجة الثامنة: الروحانيات لها اختيارات فائضة من أنوار جلال الله عز وجل متوجهة إلى الخيرات مقصورة على نظام هذا العالم لا يشوبها ألبتة شائبة الشر والفساد بخلاف اختيارات البشر فإنها مترددة بين جهتي العلو والسفالة وطرفي الخير وميلهم إلى الخيرات إنما يحصل بإعانة الملائكة على ما ورد في الأخبار من أن لكل إنسان ملكًا يسدده ويهديه.
الاعتراض: هذا يدل على أن الملائكة كالمجبورين على طاعاتهم والأنبياء مترددون بين الطرفين والمختار أفضل من المجبور وهذا ضعيف لأن التردد ما دام يبقى استحال صدور الفعل وإذا حصل الترجيح التحق بالموجب فكان للأنبياء خيرات بالقوة وبواسطة الملائكة تصير خيرات بالفعل، أما الملائكة فهم خيرات بالفعل فأين هذا من ذاك الحجة التاسعة: الروحانيات مختصة بالهياكل وهي السيارات السبعة وسائر الثوابت والأفلاك كالأبدان والكواكب كالقلوب والملائكة كالأرواح فنسبة الأرواح إلى الأروح كنسبة الأبدان إلى الأبدان ثم إنا نعلم أن اختلافات أحوال الأفلاك مبادئ لحصول الاختلافات في أحوال هذا العالم فإنه يحصل من حركات الكواكب اتصالات مختلفة من التسديس والتثليث والتربيع والمقابلة والمقاربة وكذا مناطق الأفلاك تارة تصير منطبقة بعضها على البعض وذلك هو الرتق فحينئذٍ يبطل عمارة العالم وأخرى ينفصل بعضها عن البعض فتنتقل العمارة من جانب من هذا العالم العلوي مستولية على هياكل العالم السفلي فكذا أرواح العالم السفلى لاسيما وقد دلت المباحث الحكمية والعلوم الفلسفية على أن أرواح هذا العالم معلولات لأرواح العالم العلوي وكمالات هذه الأرواح معلولات لكمالات تلك الأرواح ونسبة هذه الأرواح إلى تلك الأرواح كالشعلة الصغيرة بالنسبة إلى قرص الشمس وكالقطرة الصغيرة بالنسبة إلى البحر الأعظم فهذه هي الآثار وهناك المبدأ والمعاد فكيف يليق القول بادعاء المساواة فضلًا عن الزيادة.
الاعتراض: كل ما ذكرتموه منازع فيه لكن بتقدير تسليمه فالبحث باقٍ بعد لأنا بينا أن الوصول إلى اللذيذ بعد الحرمان ألذ من الوصول إليه على سبيل الدوام فهذه الحالة غير حاصلة إلا للبشر.
الحجة العاشرة: قالوا الروحانيات الفلكية مبادئ لروحانيات هذا العالم ومعادلها والمبدأ أشرف من ذي المبدأ لأن كل كمال يحصل لذي المبدأ فهو مستفاد من المبدأ والمستفيد أقل حالًا من الواجب وكذلك المعاد يجب أن يكون أشرف فعالم الروحانيات عالم الكمال فالمبدأ منها والمعاد إليها والمصدر عنها والمرجع إليها وأيضًا فإن الأرواح إنما نزلت من عالمها حتى اتصلت بالأبدان فتوسخت بأوضار الأجسام ثم تطهرت عنها بالأخلاق الزكية والأعمال المرضية حتى انفصلت عنها إلى عالمها الأول فالنزول هو النشأة الأولى والصعود هو النشأة الأخرى فعرف أن الروحانيات أشرف من الأشخاص البشرية.
الاعتراض: هذه الكلمات بنيتموها على نفي المعاد ونفي حشر الأجساد ودونهما خرط القتاد.
الحجة الحادية عشرة: أليس أن الأنبياء صلوات الله عليهم اتفقت كلمتهم على أنهم لا ينطقون بشيء من المعارف والعلوم إلا بعد الوحي فهذا اعتراف بأن علومهم مستفادة منهم أليس أنهم اتفقوا على أن الملائكة هم الذين يعينونهم على أعدائهم كما في قلع مدائن قوم لوط وفي يوم بدر وهم الذين يهدونهم إلى مصالحهم كما في قصة نوح في نجر السفينة فإذا اتفقوا على ذلك فمن أين وقع لكم أن فضلتموهم على الملائكة مع تصريحهم فافتقارهم إليهم في كل الأمور.
الحجة الثانية عشرة: التقسيم العقلي قد دل على أن الأحياء إما أن تكون خيرة محضة أو شريرة محضة أو تكون خيرة من وجه شريرة من وجه فالخير المحض هو النوع الملكي والشرير المحض هو النوع الشيطاني والمتوسط بين الأمرين هو النوع البشري وأيضًا فإن الإنسان هو الناطق المائت وعلى جانبيه قسمان آخران: أحدهما: الناطق الذي لا يكون مائتًا وهو الملك: والآخر المائت الذي لا يكون ناطقًا وهم البهائم فقسمة العقل على هذا الوجه قد دلت على كون البشر في الدرجة المتوسطة من الكمال والملك يكون في الطرف الأقصى من الكمال فالقول بأن البشر أفضل قلب للقسمة العقلية ومنازعة في ترتيب الوجود.
الاعتراض: أن المراد من الفضل هو كثرة الثواب فلم قلتم إن الملك أكثر ثوابًا فهذا محصل ما قيل في هذا الباب من الوجوه العقلية وبالله التوفيق.
واحتج من قال بفضل الأنبياء على الملائكة بأمور: أحدهما: أن الله تعالى أمر الملائكة بالسجود لآدم وثبت أن آدم لم يكن كالقبلة بل كانت السجدة في الحقيقة له، وإذا ثبت ذلك وجب أن يكون آدم أفضل منهم لأن السجود نهاية التواضع وتكليف الأشرف بنهاية التواضع للأدون مستقبح في العقول فإنه يقبح أن يؤمر أبو حنيفة بأن يخدم أقل الناس بضاعة في الفقه فدل هذا على أن آدم عليه السلام كان أفضل من الملائكة.
وثانيها: أن الله تعالى جعل آدم عليه السلام خليفة له والمراد منه خلافة الولاية لقوله تعالى: {ياداوود إِنَّا جعلناك خَلِيفَةً في الأرض فاحكم بَيْنَ الناس بالحق} [ص: 26] ومعلوم أن أعلى الناس منصبًا عند الملك من كان قائمًا مقامه في الولاية والتصرف، وكان خليفة له فهذا يدل على أن آدم عليه السلام كان أشرف الخلائق وهذا متأكد بقوله: {وَسَخَّرَ لَكُمْ مَّا في الأرض} [الحج: 65] ثم أكد هذا التعميم بقوله: {خَلَقَ لَكُم مَّا في الأرض جَمِيعًا} [البقرة: 29] فبلغ آدم في منصب الخلافة إلى أعلى الدرجات فالدنيا خلقت متعة لبقائه والآخرة مملكة لجزائه وصارت الشياطين ملعونين بسبب التكبر عليه والجن رعيته والملائكة في طاعته وسجوده والتواضع له ثم صار بعضهم حافظين له ولذريته وبعضهم منزلين لرزقه وبعضهم مستغفرين لزلاته ثم إنه سبحانه وتعالى يقول مع هذه المناصب العالية: {وَلَدَيْنَا مَزِيدٌ} [ق: 35] فإذن لا غاية لهذا الكمال والجلال.
وثالثها: أن آدم عليه السلام كان أعلم والأعلم أفضل، أما إنه أعلم فلأنه تعالى لما طلب منهم علم الأسماء: {قَالُواْ سبحانك لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا إِنَّكَ أَنتَ العليم الحكيم} [البقرة: 32] فعند ذلك قال الله تعالى: {قَالَ يَا آدَمُ أَنبِئْهُم بِأَسْمَائِهِمْ فَلَمَّا أَنبَأَهُم بِأَسْمَائِهِم قَالَ أَلَمْ أَقُل لَّكُمْ} وذلك يدل على أنه عليه السلام كان عالمًا بما لم يكونوا عالمين به وأما أن الأعلم أفضل فلقوله تعالى: {قُلْ هَلْ يَسْتَوِى الذين يَعْلَمُونَ والذين لاَ يَعْلَمُونَ} [الزمر: 9].
ورابعها: قوله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} والعالم عبارة عن كل ما سوى الله تعالى وذلك لأن اشتقاق العالم على ما تقدم من العلم فكل ما كان علمًا على الله ودالًا عليه فهو عالم ولا شك أن كل محدث فهو دليل على الله تعالى فكل محدث فهو عالم فقوله: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} [آل عمران: 33] معناه أن الله تعالى اصطفاهم على كل المخلوقات ولا شك أن الملائكة من المخلوقات فهذه الآية تقتضي أن الله تعالى اصطفى هؤلاء الأنبياء على الملائكة.
فإن قيل: يشكل هذا بقوله تعالى: {يا بنى إسراءيل اذكروا نِعْمَتِى التي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} [البقرة: 47] فإنه لا يلزم أن يكونوا أفضل من الملائكة ومن محمد صلى الله عليه وسلم فكذا هاهنا قال الله تعالى في حق مريم عليها السلام: {إِنَّ الله اصطفاك وَطَهَّرَكِ واصطفاك على نِسَاء العالمين} [آل عمران: 42] ولم يلزم كونها أفضل من فاطمة عليها السلام فكذا هاهنا قلنا؛ الإشكال مدفوع لأن قوله تعالى: {وَأَنّى فَضَّلْتُكُمْ عَلَى العالمين} خطاب مع الأنبياء الذين كانوا أسلاف اليهود وحين ما كانوا موجودين لم يكن محمد موجودًا في ذلك الزمان ولما لم يكن موجودًا لم يكن من العالمين لأن المعدوم لا يكون من العالمين وإذا كان كذلك لم يلزم من اصطفاء الله تعالى إياهم على العالمين في ذلك الوقت أن يكونوا أفضل من محمد صلى الله عليه وسلم وأما جبريل عليه السلام فإنه كان موجودًا حين قال الله تعالى: {إِنَّ الله اصطفى آدَمَ وَنُوحًا وَءالَ إبراهيم وَءالَ عمران عَلَى العالمين} فلزم أن يكون قد اصطفى الله تعالى هؤلاء على جبريل عليه السلام وأيضًا فهب أن تلك الآية قد دخلها التخصيص لقيام الدلالة وههنا فلا دليل يوجب ترك الظاهر فوجب إجراؤه على ظاهره في العموم.
وخامسها: قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] والملائكة من جملة العالمين فكان محمد عليه السلام رحمة لهم فوجب أن يكون محمد أفضل منهم.
وسادسها: أن عبادة البشر أشق فوجب أن يكونوا أفضل وإنما قلنا إنها أشق لوجوه:
الأول: أن الآدمي له شهوة داعية إلى المعصية والملك ليست له هذه الشهوة والفعل مع المعارض القوي أشد منه بدون المعارض فإن قيل الملائكة لهم شهوة تدعوهم إلى المعصية وهي شهوة الرياسة قلنا هب أن الأمر كذلك لكن البشر لهم أنواع كثيرة من الشهوات مثل شهوة البطن والفرج والرياسة والملك ليس له من تلك الشهوات إلا شهوة واحدة وهي شهوة الرياسة والمبتلى بأنواع كثيرة من الشهوات تكون الطاعة عليه أشق من المبتلى بشهوة واحدة.
الثاني: أن الملائكة لا يعملون إلا بالنص لقوله تعالى: {لاَ عِلْمَ لَنَا إِلاَّ مَا عَلَّمْتَنَا} [البقرة: 32] وقال: {لاَ يَسْبِقُونَهُ بالقول وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ} [الأنبياء: 27] والبشر لهم قوة الاستنباط والقياس قال تعالى: {فاعتبروا ياأولى الأبصار} [الحشر: 2] وقال معاذ اجتهدت برأيي فصوبه رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك.
ومعلوم أن العمل بالاستنباط أشق من العمل بالنص.
الثالث: أن الشبهات للبشر أكثر مما للملائكة لأن من جملة الشبهات القوية كون الأفلاك والأنجم السيارة أسبابًا لحوادث هذا العالم فالبشر احتاجوا إلى دفع هذه الشبهة والملائكة لا يحتاجون لأنهم ساكنون في عالم السموات فيشاهدون كيفية افتقارها إلى المدبر الصانع.
الرابع: أن الشيطان لا سبيل له إلى وسوسة الملائكة وهو مسلط على البشر في الوسوسة وذلك تفاوت عظيم إذا ثبت أن طاعتهم أشق فوجب أن يكونوا أكثر ثوابًا بالنص فقوله عليه الصلاة والسلام: «أفضل العبادات أحمزها» أي أشقها وأما القياس فلأنا نعلم أن الشيخ الذي لم يبق له ميل إلى النساء إذا امتنع عن الزنا فليست فضيلته كفضيلة من يمتنع عنهن مع الميل الشديد والشوق العظيم فكذا هاهنا.
وسابعها: أن الله تعالى خلق الملائكة عقولًا بلا شهوة وخلق البهائم شهوات بلا عقل وخلق الآدمي وجمع فيه بين الأمرين فصار الآدمي بسبب العقل فوق البهيمة بدرجات لا حد لها فوجب أن يصير بسبب الشهوة دون الملائكة ثم وجدنا الآدمي إذا غلب هواه عقله حتى صار يعمل بهواه دون عقله فإنه يصير دون البهيمة على ما قال تعالى: {أُوْلَئِكَ كالأنعام بَلْ هُمْ أَضَلُّ} [الأعراف: 179] ولذلك صار مصيرهم إلى النار دون البهائم فيجب أن يقال إذا غلب عقله هواه حتى صار لا يعمل بهوى نفسه شيئًا بل يعمل بهوى عقله أن يكون فوق الملائكة اعتبارًا لأحد الطرفين بالآخر.
وثامنها: أن الملائكة حفظة وبنو آدم محفوظون والمحفوظ أعز وأشرف من الحافظ فيجب أن يكون بنو آدم أكرم وأشرف على الله تعالى من الملائكة.
وتاسعها: ما روى أن جبريل عليه السلام أخذ بركاب محمد صلى الله عليه وسلم حتى أركبه على البراق ليلة المعراج وهذا يدل على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل منه ولما وصل محمد عليه الصلاة والسلام إلى بعض المقامات تخلف عنه جبريل عليه السلام وقال: «لو دنوت أنملة لاحترقت».
وعاشرها: قوله عليه الصلاة والسلام: «إن لي وزيرين في السماء وزيرين في الأرض، أما اللذان في السماء فجبريل وميكائيل، وأما اللذان في الأرض فأبو بكر وعمر» فدل هذا الخبر على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان كالملك وجبريل وميكائيل كانا كالوزيرين له والملك أفضل من الوزير فلزم أن يكون محمدًا أفضل من الملك.
هذا تمام القول في دلائل من فضل البشر على الملك.
أجاب القائلون بتفضيل الملك عن الحجة الأولى فقالوا: قد سبق بيان أن من الناس من قال: المراد من السجود هو التواضع لا وضع الجبهة على الأرض ومنهم من سلم أنه عبارة عن وضع الجبهة على الأرض لكنه قال السجود لله وآدم قبلة السجود وعلى هذين القولين لا إشكال أما إذا سلمنا أن السجود كان لآدم عليه السلام فلم قلتم إن ذلك لا يجوز من الأشرف في حق الشريف وذلك لأن الحكمة قد تقتضي ذلك كثيرًا من حب الأشرف وإظهار النهاية في الانقياد والطاعة فإن للسلطان أن يجلس أقل عبيده في الصدر وأن يأمر الأكابر بخدمته ويكون غرضه من ذلك إظهار كونهم مطيعين له في كل الأمور منقادين له في جميع الأحوال فلم لا يجوز أن يكون الأمر هاهنا كذلك وأيضًا أليس من مذهبنا أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وأن أفعاله غير معللة ولذلك قلنا إنه لا اعتراض عليه في خلق الكفر في الإنسان ثم في تعذيبه عليه أبد الآباد وإذا كان كذلك فكيف يعترض عليه في أن يأمر الأعلى بالسجود للأدنى وأما الحجة الثانية: فجوابها أن آدم عليه السلام إنما جعل خليفة في الأرض وهذا يقتضي أن يكون آدم عليه السلام كان أشرف من كل من في الأرض ولا يدل على كونه أشرف من ملائكة السماء فإن قيل فلم لم يجعل واحدًا من ملائكة السماء خليفة له في الأرض قلنا لوجوه منها أن البشر لا يطيقون رؤية الملائكة ومنها أن الجنس إلى الجنس أميل ومنها أن الملائكة في نهاية الطهارة والعصمة وهذا هو المراد بقوله تعالى: {وَلَوْ جعلناه مَلَكًا لجعلناه رَجُلًا} [الأنعام: 9] وأما الحجة الثالثة: فلا نسلم أن آدم عليه السلام كان أعلم منهم أكثر ما في الباب أن آدم عليه السلام كان عالمًا بتلك اللغات وهم ما علموها لكن لعلهم كانوا عالمين بسائر الأشياء مع أن آدم عليه السلام ما كان عالمًا بها والذي يحقق هذا أنا توافقنا على أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من آدم عليه السلام مع أن محمدًا صلى الله عليه وسلم ما كان عالمًا بهذه اللغات بأسرها وأيضًا فإن إبليس كان عالمًا بأن قرب الشجرة مما يوجب خروج آدم عن الجنة وآدم عليه السلام لم يكن عالمًا ذلك ولم يلزم منه كون إبليس أفضل من آدم عليه السلام والهدهد قال لسليمان أحطت بما لم تحط به ولم يلزم أن يكون الهدهد أفضل من سليمان سلمنا أنه كان أعلم منهم ولكن لم لا يجوز أن يقال إن طاعاتهم أكثر إخلاصًا من طاعة آدم فلا جرم كان ثوابهم أكثر.
أما الحجة الرابعة: فهي أقوى الوجوه المذكورة.
أما الحجة الخامسة: وهي قوله تعالى: {وَمَا أرسلناك إِلاَّ رَحْمَةً للعالمين} [الأنبياء: 107] فلا يلزم من كون محمد صلى الله عليه وسلم رحمة لهم أن يكون أفضل منهم كما في قوله: {فانظر إلى ءاثار رَحْمَةِ الله كَيْفَ يُحْىِ الأرض بَعْدَ مَوْتِهَا} [الروم: 50] ولا يمتنع أن يكون هو عليه الصلاة والسلام رحمة لهم من وجه وهم يكونون رحمة له من وجه آخر.
وأما الحجة السادسة: وهي أن عبادة البشر أشق فهذا ينتقض بما أنا نرى الواحد من الصوفية يتحمل في طريق المجاهدة من المشاق والمتاعب ما يقطع بأنه عليه السلام لم يتحمل مثلها مع أنا نعلم أن محمدًا صلى الله عليه وسلم أفضل من الكل وما ذاك إلا أن كثرة الثواب مبنية على الإخلاص في النية ويجوز أن يكون الفعل أسهل إلا أن إخلاص الآتي به أكثر فكان الثواب عليه أكثر.
أما الحجة السابعة: فهي جمع بين الطرفين من غير جامع.
وأما الحجة الثامنة: وهي أن المحفوظ أشرف من الحافظ فهذا ممنوع على الإطلاق بل قد يكون الحافظ أشرف من المحفوظ كالأمير الكبير الموكل على المتهمين من الجند.
وأما الوجهان الآخران: فهما من باب الآحاد وهما معارضان بما رويناه من شدة تواضع الرسول صلى الله عليه وسلم فهذا آخر المسألة وبالله التوفيق. اهـ.
قوله تعالى: {أبى واستكبر وَكَانَ مِنَ الكافرين}.
قال الفخر:
اعلم أن الله تعالى لما استثنى إبليس من الساجدين فكان يجوز أن يظن أنه كان معذورًا في ترك السجود فبين تعالى أنه لم يسجد مع القدرة وزوال العذر بقوله أبى لأن الأباء هو الامتناع مع الاختيار، أما من لم يكن قادرًا على الفعل لا يقال له إنه أبى ثم قد كان يجوز أن يكون كذلك ولا ينضم إليه الكبر فبين تعالى أن ذلك الإباء كان على وجه الاستكبار بقوله واستكبر ثم كان يجوز أن يوجد الإباء والاستكبار مع عدم الكفر فبين تعالى أنه كفر بقوله: {وَكَانَ مِنَ الكافرين}.
قال القاضي: هذه الآية تدل على بطلان قول أهل الجبر من وجوه:
أحدها: أنهم يزعمون أنه لما لم يسجد لم يقدر على السجود لأن عندهم القدرة على الفعل منتفية ومن لا يقدر على الشيء يقال إنه أباه، وثانيها: أن من لا يقدر على الفعل لا يقال استكبر بأن لم يفعل لأنه إذا لم يقدر على الفعل لا يقال استكبر عن الفعل وإنما يوصف بالاستكبار إذا لم يفعل مع كونه لو أراد الفعل لأمكنه.
وثالثها: قال تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} ولا يجوز أن يكون كافرًا بأن لا يفعل ما لا يقدرعليه.
ورابعها: أن استكباره وامتناعه خلق من الله فيه فهو بأن يكون معذورًا أولى من أن يكون مذمومًا قال ومن اعتقد مذهبًا يقيم العذر لإبليس فهو خاسر الصفقة، والجواب عنه أن هذا القاضي لا يزال يطنب في تكثير هذه الوجوه وحاصلها يرجع إلى الأمر والنهي والثواب والعقاب فنقول له نحن أيضًا: صدور ذلك الفعل عن إبليس عن قصد وداع أو لا عن قصد وداع؟ فإن كان عن قصد وداع فمن أين ذلك القصد؟ أوقع لا عن فاعل أو عن فاعل هو العبد أو عن فاعل هو الله؟ فإن وقع لا عن فاعل كيف يثبت الصانع وإن وقع عن العبد فوقوع ذلك القصد عنه إن كان عن قصد آخر فيلزم التسلسل وإن كان لا عن قصد فقد وقع الفعل لا عن قصد وسنبطله وإن وقع عن فاعل هو الله فحينئذٍ يلزمك كل ما أوردته علينا، أما إن قلت وقع ذلك الفعل عنه لا عن قصد وادع فقد ترجح الممكن من غير مرجح وهو يسد باب إثبات الصانع وأيضًا فإن كان كذلك كان وقوع ذلك الفعل اتفاقيًا والاتفاقي لا يكون في وسعه واختياره فكيف يؤمر به وينهى عنه في أيها القاضي ما الفائدة في التمسك بالأمر والنهي، وتكثير الوجوه التي يرجع حاصلها إلى حرف واحد مع أن مثل هذا البرهان القاطع يقلع خلفك، ويستأصل عروق كلامك ولو أجمع الأولون والآخرون على هذا البرهان لما تخلصوا عنه إلا بالتزام وقوع الممكن لا عن مرجح وحينئذٍ ينسد باب إثبات الصانع أو بالتزام أنه يفعل الله ما يشاء ويحكم ما يريد وهو جوابنا. اهـ.