فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



رَوَى الْإِمَامُ أَحْمَدُ عَنْ عَدِيِّ بْنِ حَاتِمٍ رضي الله عنه قَالَ: دَخَلْتُ عَلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: «يَا عَدِيُّ أَسْلِمْ تَسْلَمْ، قُلْتُ: إِنِّي مِنْ أَهْلِ دِينٍ. قَالَ: أَنَا أَعْلَمُ بِدِينِكَ مِنْكَ، فَقُلْتُ: أَنْتَ أَعْلَمُ بِدِينِي مِنِّي؟ قَالَ: نَعَمْ أَلَسْتَ مِنَ الرَّكُوسِيَّةِ، وَأَنْتَ تَأْكُلُ مِرْبَاعَ قَوْمِكَ؟ قُلْتُ: بَلَى. قَالَ؛ فَإِنَّ هَذَا لَا يَحِلُّ لَكَ فِي دِينِكَ». قَالَ: فَلَمْ يَعْدُ أَنْ قَالَهَا فَتَوَاضَعْتُ لَهَا. قَالَ: «أَمَا إِنِّي أَعْلَمُ مَا الَّذِي يَمْنَعُكَ مِنَ الْإِسْلَامِ. تَقُولُ: إِنَّمَا اتَّبَعَهُ ضَعَفَةُ النَّاسِ، وَمَنْ لَا قُوَّةَ لَهُ، وَقَدْ رَمَتْهُمُ الْعَرَبُ، أَتَعْرِفُ الْحِيرَةَ؟ قُلْتُ: لَمْ أَرَهَا، وَلَكِنْ سَمِعْتُ بِهَا. قَالَ: فَوَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَيُتِمَّنَّ اللهُ هَذَا الْأَمْرَ حَتَّى تَخْرُجَ الظَّعِينَةُ مِنَ الْحِيرَةِ حَتَّى تَطُوفَ بِالْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَتُفْتَحَنَّ كُنُوزُ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ. قُلْتُ؛ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ؟ قَالَ: نَعَمْ كِسْرَى بْنُ هُرْمُزَ، وَلَيُبْذَلَنَّ الْمَالُ حَتَّى لَا يَقْبَلَهُ أَحَدٌ». قَالَ عَدِيٌّ: فَهَذِهِ الظَّعِينَةُ تَخْرُجُ مِنَ الْحِيرَةِ فَتَطُوفُ بِالْبَيْتِ مِنْ غَيْرِ جِوَارِ أَحَدٍ، وَلَقَدْ كُنْتُ فِيمَنْ فَتَحَ كُنُوزَ كِسْرَى بْنِ هُرْمُزَ. وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لِتَكُونَنَّ الثَّالِثَةُ؛ لِأَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَهَا، انْتَهَى مِنْ تَفْسِيرِ الْعِمَادِ بْنِ كَثِيرٍ.
وَمِنَ الْعُلَمَاءِ مَنْ يَقُولُ: إِنَّ بَعْضَ هَذِهِ الْبِشَارَاتِ لَا يَتِمُّ إِلَّا فِي آخِرِ الزَّمَانِ عِنْدَ ظُهُورِ الْمَهْدِيِّ، وَمَا يَتْلُوهُ مِنْ نُزُولِ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ عَلَيْهِ السَّلَامُ مِنَ السَّمَاءِ وَإِقَامَتِهِ لِدِينِ الْإِسْلَامِ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صلى الله عليه وسلم وَإِظْهَارِهِ بِالْحُكْمِ وَالْعَمَلِ بِهِ، خِلَافًا لِمَا يَتَوَقَّعُهُ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى عَلَى اخْتِلَافِهِمَا فِي صِفَتِهِ، وَقَدْ كَانَ شُيُوعُ هَذَا بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ مِنْ أَسْبَابِ تَقَاعُدِهِمْ عَمَّا أَوْجَبَهُ اللهُ تَعَالَى فِي كُلِّ وَقْتٍ مِنْ إِعْلَاءِ دِينِهِ، وَإِقَامَةِ حُجَّتِهِ وَحِمَايَةِ دَعْوَتِهِ، وَتَنْفِيذِ شَرِيعَتِهِ وَتَعْزِيزِ سُلْطَتِهِ اتِّكَالًا عَلَى أُمُورٍ غَيْبِيَّةٍ مُسْتَقْبَلَةٍ لَا تُسْقِطُ عَنْهُمْ فَرِيضَةً حَاضِرَةً، وَقَدْ تَقَدَّمَ فِي الْكَلَامِ عَلَى أَشْرَاطِ السَّاعَةِ مِنْ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَعْرَافِ أَنَّ أَحَادِيثَ الْمَهْدِيِّ لَا يَصِحُّ مِنْهَا شَيْءٌ يُحْتَجُّ بِهِ، وَأَنَّهَا مَعَ ذَلِكَ مُتَعَارِضَةٌ مُتَدَافِعَةٌ، وَأَنَّ مَصْدَرَهَا نَزْعَةٌ سِيَاسِيَّةٌ شِيعِيَّةٌ مَعْرُوفَةٌ، وَلِلشِّيعَةِ فِيهَا خُرَافَاتٌ مُخَالِفَةٌ لِأُصُولِ الدِّينِ لَا نَسْتَحْسِنُ نَشْرَهَا فِي هَذَا التَّفْسِيرِ. وَأَمَّا أَحَادِيثُ نُزُولِ عِيسَى فَبَعْضُ أَسَانِيدِهَا صَحِيحَةٌ، وَهِيَ عَلَى تَعَارُضِهَا وَارِدَةٌ فِي أَمْرٍ غَيْبِيٍّ مُتَعَلِّقٍ بِأَحَادِيثِ الدَّجَّالِ الْمُتَعَارِضَةِ مِثْلِهَا كَمَا تَقَدَّمَ بَيَانُهُ أَيْضًا فِي ذَلِكَ الْبَحْثِ فَيَنْبَغِي أَنْ يُفَوَّضَ أَمْرُهَا إِلَى اللهِ تَعَالَى، وَأَلَّا تَكُونَ سَبَبًا لِلتَّقْصِيرِ فِي إِقَامَةِ الدِّينِ وَالدُّنْيَا بِمَا شَرَعَهُ اللهُ تَعَالَى فِيهِمَا.
وَقَدْ كَانَ الْيَهُودُ يَتَّكِلُونَ فِي إِعَادَةِ مُلْكِهِمْ فِي فِلَسْطِينَ وَمَا جَاوَرَهَا عَلَى مَا فِي كُتُبِ أَنْبِيَائِهِمْ مِنَ الْبَشَائِرِ بِظُهُورِ الْمَسِيحِ (مِسْيَا) الَّذِي يُعِيدُهُ لَهُمْ بِخَوَارِقِ الْعَادَاتِ فَلَمَّا طَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ، وَمَرَّتْ أُلُوفُ السِّنِينَ، وَلَمْ يَقَعْ ذَلِكَ هَبُّوا إِلَى إِعَادَتِهِ بِالْأَسْبَابِ الْكَسْبِيَّةِ حَتَّى إِنَّهُمْ سَخَّرُوا الدَّوْلَةَ الْإِنْكِلِيزِيَّةَ لِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَيْهِ، وَمُعَادَاةِ الْعَرَبِ وَسَائِرِ الْمُسْلِمِينَ فِي سَبِيلِهِ، أَفَلَسْنَا أَحَقَّ بِحِفْظِ مَا بَقِيَ مِنْ مُلْكِنَا، وَاسْتِعَادَةِ مَا فَقَدْنَا مِنْهُ بِكَسْبِنَا وَاجْتِهَادِنَا، مِنْ هَؤُلَاءِ الْيَهُودِ عَلَى قِلَّتِهِمْ وَكَثْرَتِنَا؟ بَلَى وَاللهِ، وَإِنَّ مِنَ الْجَهْلِ بِالدِّينِ وَسُنَنِ اللهِ فِي الْخَلْقِ أَنْ نُقَصِّرَ فِي ذَلِكَ اتِّكَالًا عَلَى الْمُسْتَقْبَلِ الَّذِي لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ عَزَّ وَجَلَّ، وَمَتَى جَاءَ وَكُنَّا مُقِيمِينَ لِدِينِنَا كُنَّا أَجْدَرَ بِالِانْتِفَاعِ بِهِ، بَلْ لَا يُعْقَلُ أَنْ يَعْتَدَّ الْمَهْدِيُّ وَالْمَسِيحُ بِدِينِ أَحَدٍ لَا يَفْعَلُ مَا يَسْتَطِيعُ فِي إِقَامَةِ فَرَائِضِ اللهِ وَحُدُودِهِ وَسَبَقَ لِي أَنْ أَطَلْتُ فِي بَيَانِ هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ فِي كِتَابِي (الْحِكْمَةُ الشَّرْعِيَّةُ) الَّذِي أَلَّفْتُهُ فِي عَهْدِ طَلَبِي لِلْعِلْمِ فِي طَرَابُلُسِ الشَّامِ، وَقَدْ بَيَّنْتُ فِي هَذَا السِّيَاقِ مَا نَرْجُوهُ وَنَتَوَقَّعُهُ مِنْ ظُهُورِ الْإِسْلَامِ فِي الْمُسْتَقْبَلِ الْقَرِيبِ، وَبِذَلِكَ تَتِمُّ هَذِهِ الْبِشَارَاتُ عَلَى أَكْمَلِ وَجْهٍ، وَكَذَا مَا فِي مَعْنَاهَا كَقوله تعالى: {وَعَدَ اللهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ} [24: 55] الْآيَةَ.
وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ ذَلِكَ الْإِظْهَارَ، وَفِيهِ مَا تَقَدَّمَ فِي مِثْلِهِ مِنَ الْآيَةِ السَّابِقَةِ وَالشِّرْكُ أَخَصُّ مِنَ الْكُفْرِ، وَفِي الْجُمْلَتَيْنِ إِخْبَارٌ بِأَنَّ إِتْمَامَ اللهِ لِدِينِهِ، وَإِظْهَارَهُ عَلَى جَمِيعِ الْأَدْيَانِ سَيَكُونُ بِالرَّغْمِ مِنْ أُنُوفِ جَمِيعِ الْكُفَّارِ وَالْمُشْرِكِينَ مِنْهُمْ بِاللهِ تَعَالَى وَغَيْرِ الْمُشْرِكِينَ {لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَمِنْ بَعْدُ وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ وَعْدَ اللهِ لَا يُخْلِفُ اللهُ وَعْدَهُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لَا يَعْلَمُونَ يَعْلَمُونَ ظَاهِرًا مِنَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَهُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غَافِلُونَ} [30: 4- 7]. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
أخرج أحمد ومسلم والحاكم وابن مردويه عن عائشة رضي الله عنها أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «لا يذهب الليل والنهار حتى تعبد اللات والعزى». فقالت عائشة رضي الله عنها: يا رسول الله إني كنت أظن حين أنزل الله: {ليظهره على الدين كله} أن ذلك سيكون تامًا؟ فقال: إنه سيكون من ذلك ما شاء الله، ثم يبعث الله ريحًا طيبة فيتوفى من كان في قلبه مثقال حبة من خردل من خير، فيبقى من لا خير فيه يرجعون إلى دين آبائهم.
وأخرج أبو الشيخ عن السدي رضي الله عنه {هو الذي أرسل رسوله بالهدى} يعني بالتوحيد والقرآن والإِسلام.
وأخرج ابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنه في قوله: {ليظهره على الدين كله ولو كره المشركون} قال: يظهر الله نبيه صلى الله عليه وسلم على أمر الدين كله، فيعطيه إياه كله ولا يخفى عليه شيء منه، وكان المشركون واليهود يكرهون ذلك.
وأخرج ابن أبي حاتم وابن مردويه والبيهقي في سننه عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: بعث الله محمد صلى الله عليه وسلم ليظهره على الدين كله، فديننا فوق الملل ورجالنا فوق نسائهم، ولا يكونون رجالهم فوق نسائنا.
وأخرج سعيد بن منصور وابن المنذر والبيهقي في سننه عن جابر رضي الله عنه في قوله: {ليظهره على الدين كله} قال: لا يكون ذلك حتى لا يبقى يهودي ولا نصراني صاحب ملة إلا الإِسلام، حتى تأمن الشاة الذئب والبقرة الأسد والإِنسان الحية، وحتى لا تقرض فأرة جرابًا، وحتى توضع الجزية، ويكسر الصليب، ويقتل الخنزير، وذلك إذا نزل عيسى ابن مريم عليه السلام.
وأخرج عبد بن حميد وابن المنذر عن قتادة رضي الله في قوله: {ليظهره على الدين كله} قال: الأديان ستة. الذين آمنوا، والذين هادوا، والصابئين، والنصارى، والمجوس، والذين أشركوا، فالأديان كلها تدخل في دين الإِسلام، والإِسلام لا يدخل في شيء منها، فإن الله قضى فيما حكم، وأنزل أن يظهر دينه على الدين كله ولو كره المشركون.
وأخرج عبد بن حميد وأبو الشيخ عن أبي هريرة رضي الله عنه في قوله: {ليظهره على الدين كله} قال: خروج عيسى بن مريم عليه الصلاة والسلام. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
قوله تعالى: {ويأبى الله}: {إِلاَّ أَن يُتِمَّ} مفعول به، وإنما دَخَلَ الاستثناء المفرغ في الموجَب لأنه في معنى النفي، فقال الأخفش الصغير: معنى يَأْبَى يمنع.
وقال الفراء: دَخَلَتْ إلا لأنَّ في الكلام طَرَفًا من الجحد.
وقال الزمخشري: أجرى أبى مُجرى لم يُرِدْ، ألا ترى كيف قُوبل {يُرِيدُونَ أَن يُطْفِئُواْ} بقوله: {ويأبى الله}، و[كيف] أوقع موقع: ولا يريد الله إلا أن يُتِمَّ نوره.
وقال الزجاج: إن المستثنى منه محذوف تقديره: ويأبى أي ويكره كُلَّ شيء إلا أن يتم نوره.
وقد جمع أبو البقاء بين مذهب الزجاج ومذهبِ غيره، فجعلهما مذهبًا واحدًا فقال: يأبى بمعنى يَكْره، ويكره بمعنى يمنع، فلذلك استثنى، لِما فيه من معنى النفي، والتقدير: يأبى كلَّ شيء إلا إتمام نوره. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدَى وَدِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33)}
أزاحَ العِلَل بما ألاح من الحُجَج، وأزال الشُّبَهَ بما أفصح من النهج؛ فشموسُ الحقِّ طالِعةٌ، وأدلة الشرع لامعة، كما قالوا:
هي الشمسُ إلا للشمس غيبةً ** وهذا الذي نعنيه ليس يَغيب

. اهـ.

.تفسير الآية رقم (34):

قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلَا يُنْفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ (34)}

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما حقر أمرهم بتقسيم اعتمادهم على رؤسائهم، وحالهم معروف في أنه لا نفع عندهم ولا ضر، وأعلى أمر أهل الله باجتماعهم عليه وهو القادر على كل شيء، وكان الإقبال على الدنيا أعظم أمارة على الخذلان ولو أنه بحق فكيف إذا بالباطل! أقبل سبحانه وعز شأنه على أهل وده مستعطفًا متلطفًا مناديًا باسم الإيمان الذي بنى أمره في أول هذا الكتاب على الإنفاق لا على التحصيل ولو كان بحق، فكيف إذا كان بباطل، ويؤتون الزكاة ومما رزقناهم ينفقون، منبهًا على سفه من ترك من لا يسأله على بذل الهدى والدعوة إلى دين الحق أجرًا وهو سفير محض لا ينطق عن الهوى، ولم يعتقده رسولًا واتخذ مربوبًا مثله وهو يأخذ ماله بالباطل ربوًا، وذلك مقتض لتحقيرهم لا لمطلق تعظيمهم فضلًا عن الرتبة التي أنزلوهم بها وأهلوهم لها مع الترفع عليهم لقصد أكل أموالهم بالباطل فقال: {يا أيها الذين آمنوا} أي أقروا بإيمان داعيهم من التكذيب ومما يؤول إليه {إن كثيرًا من الأحبار} أي من علماء اليهود {والرهبان} أي من زهاد النصارى {ليأكلون} أي يتناولون، ولكنه عبر به لأنه معظم المراد من المال، وإشارة إلى تحقير الأحبار والرهبان بأنهم يفعلون ما ينافي مقامهم الذي أقاموا أنفسهم فيه {أموال الناس بالباطل} أي بأخذها بالرشى وأنواع التصيد بإظهار الزهد والمبالغة في التدين المستجلب لها بالنذور ونحوها فيكنزونها ولا ينفقونها في سبيل الله من أتاهم بها بالإقبال بقلوب عباده إليهم.
ولما أخبر عن إقبالهم على الدنيا، أتبعه الإخبار عن إعراضهم عن الآخرة فقال: {ويصدون} أي يحتالون في صرف من يأتيهم بتلك الأموال وغيرهم {عن سبيل الله} أي دين الملك الذي له الأمر كله بإبعادهم عنه بإخفاء الآيات الدالة عليه عنهم خوفًا على انقطاع دنياهم بزوال رئاستهم لو أقبل أولئك على الحق.
ولما كان أكثرهم يكنزون تلك الأموال، شرع سبحانه على مطلق الكنز، ففهم من باب الأولى الصد الذي هو سبب الجمع الذي هو سبب الكنز فقال: {والذين} أي يفعلون ذلك والحال أنهم يعلمون أن الذين {يكنزون} أي يجمعون تحت الأرض أو فوقها من قولهم للمجتمع اللحم: مكتنز {الذهب والفضة} أي منهم ومن غيرهم من غير تزكية.
ولما كان من المعلوم أنهما أجل ما الناس، وكان الكنز دالًا على المكاثرة فيهما، أعاد الضمير عليهما بما يدل على الأنواع الكثيرة فقال: {ولا ينفقونها} أي ينفقون ما وجب عليهم من هذه الأموال التي جمعوها من هذين النوعين مجتمعين أو منفردين، ولو ثنى لأوهم أن اجتماعها شرط للترهيب، وإنما أعاد الضمير عليها من غير ذكر من- وهي مرادة- لمزيد الترغيب في الإنفاق والترهيب من تركه، ويجوز أن يعود الضمير إلى الفضة لأن الذم على كنزها، والحاجة إليها لكثرتها أقل، فالذم على كنز الذهب من باب الأولى لأنه أعلى منها وأعز بخلاف الذم على كنز الذهب؛ وقال الحرالي في آل عمران: فأوقع الإنفاق عليهما ولم يخصه من حيث لم يكن، ولا ينفقون منها كما قال في المواشي: {خذ من أموالهم} لأن هذين الجوهرين خواتم ينال بها أهل الدنيا منافعهم وقد صرف عنهم الانتفاع بهما فلم يكن لوجودهما فائدة إلا بإنفاقهما لأنهما صنما هذه الأمة، فكان كسرهما بإذهابهما. انتهى.
{في سبيل الله} أي الوجه الذي أمر الملك الأعلى بإنفاقها فيه {فبشرهم} أي نقول فيهم بسبب ذلك تهكمًا بهم: بشرهم {بعذاب أليم} عوضًا عما أرادوا من السرور بإنجاح المقاصد. اهـ.