فصل: قال الماوردي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



واختلف العلماء في معنى الكنز: فروى نافع عن ابن عمر قال: كل مال آتى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وكل مال لم يؤدّ زكاته فهو كنز وإن كان فوق الأرض.
ومثله قال ابن عباس والضحاك والسدّي، ويدلّ عليه ماروي عن ابن الزبير أنه سمع جابر بن عبد الله يقول: إذا أخرجت الصدقة من مالك فقد أذهبت شره وليس بكنز.
وقال سعيد بن المسيب: سأل عمر رجلًا عن أرض باعها فقال: [أحسن موضع هذا المال؟ فقال: أين أضعه؟] قال: أُحفر تحت فراش امرأتك. فقال: يا أمير المؤمنين أليس بكنز، قال: ما أدّى زكاته فليس بكنز.
وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: كل مازاد على أربعة آلاف درهم فهو كنز، أدّيت منه الزكاة أم لم تؤدِّ، ومادونها نفقة.
وقال عن الوليد بن زيد: كل ما فضل من المال عن حاجة صاحبه إليه فهو كنز.
منصور عن عمر بن مرة عن سالم بن أبي الجعد عن ثوبان قال لما نزلت هذه الآية: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة} قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبًّا للذهب وتبًّا للفضة». يقولها ثلاثًا: فشقّ ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال المهاجرون: فأي المال نتّخذ؟ فقال عمر: فإنّي أسال النبي صلى الله عليه وسلم عن ذلك، قال: فأدركته فقلت: يا رسول الله إن المهاجرين قالوا: أي المال نتّخذ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة مؤمنة تعين أحدكم على دينه».
وأخبرنا عبد الله بن حامد الوزان أخبر طليحة بن عبدان، حدّثنا محمد بن يحيى، حدّثنا محمد بن عبدل، حدّثنا الأعمش عن (المعرور) بن سويد عن أبي ذر قال: أتيت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو في قبال الكعبة فلمّا رآني قد أقبلت قال: هم الأخسرون وربّ الكعبة، هم الأخسرون وربّ الكعبة، هم الأخسرون وربّ الكعبة.
قال: فدخلني غمّ وما أقدر أن أتنفس قلت: هذا شيء حدث فيَّ، قلت: مَن هم فداك أبي وأمي؟ قال: المكثرون إلا من مال بالمال في عباد الله هكذا وهكذا عن يمينه وعن شماله ومن فوقه وبين يديه وعن [...] كل صفراء وبيضاء أولى عليها صاحبها فهو كنز [...] من ترك خير الشيء فهي له يوم القيامة.
وروى طلحة بن عبد الله بن كريز الخزاعي عن أبي الضيف عن أبي هريرة قال: من ترك عشرة آلاف درهم جعل صفائح يعذّب بها صاحبها يوم القيامة قبل القضاء، وعن سلمان بن ثروان قال: سمعت عمار بن ياسر يقول: إن أهل المائدة سألوا المائدة ثم نزلت فكفروا بها، وإن قوم صالح سألوا الناقة فلمّا أعطوها كفروا بها، وانكم قد نهيتم عن كنز الذهب والفضة فستكنزونها، فقال رجل نكنزها (وقد سمعنا) قوله؟ قال: نعم، ويقتل عليه بعضكم بعضًا، وقال شعبة: كان فصّ سيف أبي هريرة من فضة فنهاه عنها أبو ذر، وقال: إنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من ترك صفراء وبيضاء كوي بها».
وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي امامة صديّ بن عجلان قال: إن رجلا توفي من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كيّة» ثم توفي رجل آخر فوجد في مئزره ديناران فقال عليه السلام: «كيّتان».
وأولى الأقاويل بالصواب القول الأول لأن الوعيد وارد في منع الزكاة لا في جمع المال الحلال. يدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: «من أدى زكاة ماله فقد أدى الحق الذي عليه، ومن زاد فهو خير له».
وقال صلى الله عليه وسلم: «نعم المال الصالح للرجل الصالح».
وقال ابن عمر وسئل عن هذه الآية فقال: من كنزها ولم يؤدّ زكاتها فويل له. ثم قال: لا أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا أعلم عدده أزّكيه وأعمل بطاعة الله عز وجل.
أما أصل الكنز في كلام العرب: كل شيء مجموع بعضه على بعض، على ظهر الأرض كان أو في بطنها. يدلّ على ذلك قول الشاعر:
لا درّي إن أطعمت نازلهم ** [قرف الحتي] وعندي التبر مكنوز

أراد: مجموع بعضه إلى بعض والحتي: مذر المقل، وكذلك يقول العرب للشيء المجتمع: مكتنز لانضمام بعضه إلى بعض.
قرأ يحيى بن عمر يكنزون بضم النون، وقراءة العامة بالكسر، وهما لغتان مثل يعكُفون ويعكِفون، ويعرُشون ويعرِشون {وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} ولم يقل فينفقونهما، اختلف النحاة فيه، قال قطرب: أراد الزكاة أو الكنوز أو الذهب والفضة، وقال الفرّاء: استغنى بالخبر عن أحدهما في عائد الذكر عن الآخر لدلالة الكلام على أن الخبر على الآخر مثل الخبر عنه، وذلك موجود في كلام العرب وأخبارهم، قال الشاعر:
نحن بما عندنا وأنت بما ** عندك راض والرأي مختلف

وقال ابن الانباري: قصد الأغلب والأعم لأن الفضة أعم والذهب أخص مثل قوله: {واستعينوا بالصبر والصلاة وَإِنَّهَا لَكَبِيرَةٌ} [البقرة: 45] ردّ الكناية إلى الصلاة لأنّها أعم، وقوله: {رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفضوا إِلَيْهَا} [الجمعة: 11] ردّ الكناية إلى التجارة لأنها أعم وأفضل.
{فَبَشِّرْهُمْ} فأخبرهم وأنذرهم {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}. اهـ.

.قال الماوردي:

قوله عز وجل: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الأَحبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُون أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ} الآية:
فيها قولان:
أحدهما: أنه أخذ الرشا في الحكم، قاله الحسن.
والثاني: أنه على العموم من أخذه بكل وجه محرم.
وإنما عبر عن الأخذ بالأكل لأن ما يأخذونه من هذه الأموال هي أثمان ما يأكلون، وقد يطلق على أثمان المأكول اسم الأكل، كما قال الشاعر:
ذر الآكلين الماء فما أرى ** ينالون خيرًا بعد أكلهم الماء

أي ثمن الماء.
{وَيَصُدُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ} يحتمل وجهين:
أحدهما: أنه منعهم من الحق في الحكم بقبول الرشا.
والثاني: أنه منعهم أهل دينهم من الدخول في الإسلام بإدخال الشبهة عليهم.
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُم بِعَذَابٍ أَلِيمٍ} وفي هذا الكنز المستحق عليه هذا الوعيد ثلاثة أقاويل:
أحدها: أن الكنز كل مال وجبت فيه الزكاة فلم تؤدَّ زكاته، سواء كان مدفونًا أو غير مدفون، قاله ابن عمر والسدي والشافعي والطبري.
والثاني: أن الكنز ما زاد على أربعة آلاف درهم، أديت منه الزكاة أم لم تؤد، قاله عليّ بن أبي طالب رضي الله عنه فقد قال: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة، وما فوقها كنز.
والثالث: أن الكنز ما فضل من المال عن الحاجة إليه، روى عمرو بن مرة عن سالم بن أبي الجعد قال: لما نزل قوله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ...} الآية. قال النبي صلى الله عليه وسلم: «تبًّا لِلذَهَبِ وَالْفِضَّةِ» قال: فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال عمر ابن الخطاب: أنا أعلم لكم ذلك، فقال: يا رسول الله إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: «لِسَانًا ذَاكِرًا وَقَلْبًا شَاكِرًا وَزَوْجَةً مُؤْمِنَةً تُعِينُ أَحَدَكُمْ عَلَى دِينِه».
وروى قتادة عن شهر بن حوشب عن أبي أمامة صدي بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفّة فوجد في مئزرة دينار، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَيَّةٌ» ثم مات آخر فوجد في مئزره ديناران فقال النبي صلى الله عليه وسلم: «كَيَّتَانِ» والكنز في اللغة هو كل شيء مجموع بعضه إلى بعض سواء كان ظاهرًا على الأرض أو مدفونًا فيها، ومنه كنز البُرّ، قال الشاعر:
لا دَرَّ دري إن أطعمت نازلهم ** قِرف الحتى وعندي البُرّ مكنوز

الحتى: سَويق المقل. يعني وعندي البُرّ مجموع.
فإن قيل: فقد قال الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فذكر جنسين ثم قال: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} والهاء كناية ترجع إلى جنس واحد، ولم يقل: وَلاَ يُنفِقُونَهَما لترجع الكناية إليهما.
فعن ذلك جوابان:
أحدهما: أن الكناية راجعة إلى الكنوز، وتقديره: ولا ينفقون الكنوز في سبيل الله.
والثاني: أنه قال ذلك اكتفاء بذكر أحدهما عن الآخر لدلالة الكلام على اشتراكهما فيه، كما قال تعالى: {وَإِذَا رَأَوْاْ تِجَارَةً أَوْ لَهْوًا انفَضُّواْ إِلَيْهَا وَتَرَكُوكَ قَائِمًا} [الجمعة: 11] ولم يقل إليهما، وكقول الشاعر:
إن شرخ الشباب والشعر ** الأسود ما لم يُعاص كان جنونًا

ولم يقل يعاصيا. اهـ.

.قال ابن عطية:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
المراد بهذه الآية بيان نقائص المذكورين، ونهي المؤمنين عن تلك النقائص مترتب ضمن ذلك، واللام في {ليأكلون} لام التأكيد، وصورة هذا الأكل هي بأنهم يأخذون من أموال أتباعهم ضرائب وفروضًا باسم الكنائس والبيع وغير ذلك مما يوهمونهم أي النفقة فيه من الشرع والتزلف إلى الله، وهم خلال ذلك يحتجنون تلك الأموال كالذي ذكره سلمان في كتاب السير عن الراهب الذي استخرج كنزه، وقيل كانوا يأخذون منهم من غلاتهم وأموالهم ضرائب باسم حماية الدين والقيام بالشرع، وقيل كانوا يرتشون في الأحكام، ونحو ذلك.
قال القاضي أبو محمد: وقوله تعالى: {بالباطل}، يعم هذا كله، وقوله: {يصدون}، الأشبه هنا أن يكون معدى أي يصدون غيرهم وهذا الترجيح إنما هو لنباهة منازلهم في قومهم وصد يستعمل واقفًا ومتجاوزًا، ومنه قول الشاعر [عمرو بن كلثوم]: [الوافر]
صددت الكأس عنا أم عمرو ** وكان الكأس مجراها اليمينا

و{سبيل الله} الإسلام وشريعة محمد عليه السلام، ويحتمل أن يريد ويصدون عن سبيل الله في أكلهم الأموال بالباطل، والأول أرجح، وقوله: {والذين} ابتداء وخبره {فبشرهم}، ويجوز أن يكون {والذين} معطوفًا عل الضمير في قوله: {يأكلون} على نظر في ذلك، لأن الضمير لم يؤكد، وأسند أبو حاتم إلى علباء بن أحمد أنه قال: لما أمر عثمان بكتب المصحف أراد أن ينقص الواو في قوله: {والذين يكنزون} فأبى ذلك أبي بن كعب وقال لتلحقنها أو لأضعن سيفي على عاتقي فألحقها.
قال القاضي أبو محمد: وعلى إرادة عثمان يجري قول معاوية، إن الآية في أهل الكتاب وخالفه أبو ذر فقال: بل هي فينا، فشكاه إلى عثمان فاستدعاه من الشام ثم خرج إلى الربذة، والذي يظهر من الألفاظ أنه لما ذكر نقص الأحبار والرهبان الآكلين المال بالباطل ذكر بعد ذلك بقول عامر نقص الكافرين المانعين حق المال، وقرأ طلحة بن مصرف {الذين يكنزون} بغير واو، و{يكنزون} معناه يجمعون ويحفظون في الأوعية، ومنه قول المنخل الهذلي: [البسيط]
لا در دري إن أطعمت نازلهم ** قرْف الحتيِّ وعندي البر مكنوز

أي محفوظ في أوعيته، وليس من شروط الكنز الدفن لكن كثر في حفظه المال أن يدفنوه حتى تورق في المدفون اسم الكنز، ومن اللفظة قولهم رجل مكتنز الخلق أي مجتمع، ومنه قول الراجز: [الرجز]
على شديد لحمه كناز ** بات ينزيني على أوفاز

والتوعد في الكنز إنما وقع على منع الحقوق منه، ولذلك قال كثير من العلماء: الكنز هو المال الذي لا تؤدى زكاته وإن كان على وجه الأرض، وأما المدفون إذا خرجت زكاته فليس بكنز كما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كل ما أديت زكاته فليس بكنز». وهذه الألفاظ مشهورة عن ابن عمر وروي هذا القول عن عكرمة والشعبي والسدي ومالك وجمهور أهل العلم، وقال علي بن أبي طالب رضي الله عنه: أربعة آلاف درهم فما دونها نفقة وما زاد عليها فهو كنز وإن أديت زكاته، وقال أبو ذر وجماعة معه: ما فضل من مال الرجل عن حاجة نفسه فهو كنز، وهذان القولان يقتضيان أن الذم في حبس المال لا في منع زكاته فقط، ولكن قال عمر بن عبد العزيز: هي منسوخة بقوله: {خذ من أموالهم صدقة} [التوبة: 103] فأتى فرض الزكاة على هذا كله.
قال القاضي أبو محمد: كان مضمن الآية لا تجمعوا مالًا فتعذبوا فنسخه التقرير الذي في قوله: {خذ من أموالهم} [التوبة: 103] والضمير في قوله: {ينفقونها} يجوز أن يعود على الأموال والكنوز التي يتضمنها المعنى، ويجوز أن يعود على الذهب والفضة هما أنواع، وقيل عاد على الفضة واكتفي بضمير الواحد عن الضمير الآخر إذا فهمه المعنى وهذا نحو قول الشاعر [قيس بن الخطيم]: [المنسرح]
نحن بما عندنا وأنت بما عن ** دك راضٍ والرأي مختلفُ

ونحن قول حسان: [الخفيف]
إنّ شرَخ الشباب والشّعَر الأس ** ود ما لم يعاص كان جنونا

وسيبويه يكره هذا في الكلام، وقد شبه كثير من المفسرين هذه الآية بقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها} [الجمعة: 11] وهي لا تشبهها، لأن أو قد فصلت التجارة عن اللهو وحسنت عود الضمير على أحدهما دون الآخر، والذهب تؤنث وتذكر والتأنيث أشهر، وروي أن أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم قالوا قد ذم الله كسب الذهب والفضة، فلو علمنا أي المال خير حتى نكسبه، فقال عمر: أنا أسأل لكم رسول الله صلى الله عليه وسلم عن ذلك فسأله، فقال: «لسان ذاكر وقلب شاكر وزوجة تعين المؤمن على دينه». وروي أن النبي صلى الله عليه وسلم قال لما نزلت الآية: «تبًا للذهب تبًا للفضة»، فحينئذ أشفق أصحابه وقالوا ما تقدم، والفاء في قوله: {فبشرهم}، جواب كما في قوله: {والذين} من معنى الشرط، وجاءت البشارة مع العذاب لما وقع التصريح بالعذاب وذلك أن البشارة تقيد بالخير والشر فإذا أطلقت لم تحمل إلا على الخير فقط، وقيل بل هي أبدًا للخير فمتى قيدت بشر فإنما المعنى أقم لهم مقام البشارة عذابًا أليمًا، وهذا نحو قول الشاعر [عمرو بن معدي كرب]: [الوافر]
وخيل قد دلفت لها بخيلٍ ** تحيةَ بيْنِهمْ ضرْبٌ وجيعُ

. اهـ.