فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ}
استئناف ابتدائي لتنبيه المسلمين على نقائص أهل الكتاب، تحقيرًا لهم في نفوسهم، ليكونوا أشدّاء عليهم في معاملتهم، فبعد أن ذكر تأليه عامتهم لأفاضل من أحبارهم ورهبانهم المتقدّمين: مثللِ عُزير، بين للمسلمين أنّ كثيرًا من الأحبار والرهبان المتأخّرين ليسوا على حال كمال، ولا يستحقّون المقام الديني الذي ينتحلونه، والمقصود من هذا التنبيه أن يعلم المسلمون تمالئ الخاصّة والعامّة من أهل الكتاب، على الضلال وعلى مناواة الإسلام، وأنّ غرضهم من ذلك حبّ الخاصة الاستيثار بالسيادة، وحبّ العامّة الاستيثار بالمزية بين العرب.
وافتتاح الجملة بالنداء واقترَانها بحرفي التأكيد، للاهتمام بمضمونها ورفع احتمال المبالغة فيه لغرابته.
وتقدّم ذكر الأحبار والرهبان آنفًا.
وأسند الحكم إلى كثير منهم دون جميعهم لأنّهم لم يخلوا من وجود الصالحين فيهم مثل عبد الله بن سلاَم ومُخَيْرِيق.
والباطل ضدّ الحقّ، أي يأكلون أموال الناس أكلًا ملابسًا للباطل، أي أكلًا لا مبرّر له، وإطلاق الأكل على أخذ مال الغير إطلاق شائع قال تعالى: {وتأكلون التراث أكلا لما} [الفجر: 19] وقال: {ولا تأكلوا أموالكم بينكم بالباطل وتدلوا بها إلى الحكام لتأكلوا فريقًا من أموال الناس بالإثم وأنتم تعلمون} في سورة البقرة (188) وقد تقدّم، وكذلك الباطل تقدّم هنالك.
والباطل يشمل وجوها كثيرة، منها تغيير الأحكام الدينية لموافقة أهواء الناس، ومنها القضاء بين الناس بغير إعطاء صاحببِ الحقّ حقّه المعين له في الشريعة، ومنها جحد الأمانات عن أربابها أو عن ورثتهم، ومنها أكل أموال اليتامى، وأموال الأوقاف والصدقات.
وسبيل الله طريقهُ استعير لدينه الموصّل إليه، أي إلى رضاه، والصدّ عن سبيل الله الإعراض عن متابعة الدين الحقّ في خاصّة النفس، وإغراءُ الناس بالإعراض عن ذلك.
فيكون هذا بالنسبة لأحكام دينهم إذ يغيرون العمل بها، ويضلّلون العامّة في حقيقتها حتّى يعملوا بخلافها، وهم يحسبون أنّهم متّبعون لدينهم، ويكون ذلك أيضًا بالنسبة إلى دين الإسلام إذ ينكرون نبوءة محمد ويعلِّمون أتباع ملّتهم أنّ الإسلام ليس بدين الحقّ.
والأجل ما في الصدّ من معنى صدّ الفاعل نفسَه أتت صيغة مضارعهِ بضمّ العين: اعتبارًا بأنّه مضاعف متعدّ، ولذلك لم يجئ في القرآن إلاّ مضموم الصاد ولو في المواضع التي لا يراد فيها أنّه يصدّ غيره، وتقدّم ذكر شيء من هذا عند قوله تعالى: {الذين يصدون عن سبيل الله ويبغونها عوجًا} في سورة الأعراف (45).
جملة معطوفة على جملة {يا أيها الذين آمنوا إن كثيرًا} والمناسبة بين الجمْلتين: أنّ كلتيهما تنبيه على مساوي أقوام يضَعُهم الناس في مقامات الرفعة والسؤدد وليسوا أهلًا لذلك، فمضمون الجملة الأولى بيان مساوي أقوام رفع الناس أقدارهم لعلمهم ودينهم، وكانوا منطوين على خبائث خفيّة، ومضمون الجملة الثانية بيان مساوي أقوام رفعهم الناس لأجل أموالهم، فبين الله أنّ تلك الأموال إذا لم تنفق في سبيل الله لا تغني عنهم شيئًا من العذاب.
وأمّا وجه مناسبة نزول هذه الآية في هذه السورة: فذلك أنّ هذه السورة نزلت إثر غزوة تبوك، وكانت غزوة تبوك في وقت عُسرة، وكانت الحاجة إلى العُدّةِ والظهر كثيرة، كما أشارت إليه آية: {ولا على الذين إذا ما أتوك لتحملهم قلت لا أجد ما أحملكم عليه تولوا وأعينهم تفيض من الدمع حزنا أن لا يجدوا ما ينفقون} [التوبة: 92] وقد ورد في السيرة أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم حض أهل الغنى على النفقة والحُمْلان في سبيل الله، وقد أنفق عثمان بن عفان ألفَ دينار ذهبًا على جيش غزوة تبوك وحَمَل كثيرٌ من أهل الغنى فالذين انكمشوا عن النفقة هم الذين عنتهم الآية بـ {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله} ولا شكّ أنّهم من المنافقين.
والكَنز بفتح الكاف مصدر كنز إذا ادّخر مالًا، ويطلق على المال من الذهب والفضة الذي يُخزن، من إطلاق المصدر على المفعول كالخَلْق بِمعنى المخلوق.
و{سبيل الله} هو الجهاد الإسلامي وهو المراد هنا.
فالموصول مراد به قوم معهودون يَعرِفون أنّهم المراد من الوعيد، ويعرفهم المسلمون فلذلك لم يثبت أنّ النبي صلى الله عليه وسلم أنبَ قومًا بأعيانهم.
ومعنى {ولا ينفقونها في سبيل الله} انتفاء الإنفاق الواجب، وهو الصدقات الواجبة والنفقاتُ الواجبة: إمّا وجوبًا مستمرًّا كالزكاة، وإمّا وجوبًا عارضًا كالنفقة في الحجّ الواجببِ، والنفقة في نوائب المسلمين ممّا يدعو الناسَ إليه وُلاَةُ العدل.
والضمير المؤنّث في قوله: {ينفقونها} عائد إلى الذهب والفضة.
والوعيد منوط بالكَنز وعدممِ الإنفاق، فليس الكنز وحْده بمتوعد عليه، وليست الآية في معرض أحكام ادّخار المال، وفي معرض إيجاب الإنفاق، ولا هي في تعيين سبل البرّ والمعروف التي يجب الإخراج لأجلها من المال، ولا داعي إلى تأويل الكنز بالمال الذي لم تُؤدّ زكاته حين وجوبها، ولا إلى تأويل الإنفاق بأداء الزكاة الواجبة، ولا إلى تأويل {سبيل الله} بالصدقات الواجبة، لأنّه ليس المراد باسم الموصول العموم بل أريد به العهد، فلا حاجة إلى ادّعاء أنّها نسختها آية وجوب الزكاة، فإن وجوب الزكاة سابق على وقت نزول هذه الآية.
ووقع في الموطأ أنّ عبد الله بن عُمر سئل عن الكنز، أي المذموم المتوعّد عليه في آية: {والذين يكنزون الذهب والفضة} الآيةِ ما هو؟ فقال: هو المال الذي لا تؤدَّى منه الزكاة.
وفي الحديث الصحيح عن أبي هريرة أنّ النبي صلى الله عليه وسلم قال: «من كان عنده مال لم يؤدّ زكاته مُثِّل له يوم القيامة شجاعًا أقرع له زَبيبَتَان يُطَوَّقه ثم يأخذ بلَهْزَمَتَيْهِ يعني شِدْقيه ثم يقول: أنا مالك أنا كَنزُك».
فتأويله أن ذلك بعض ماله وبعض كنزه، أي فهو الكنز المذموم في الكتاب والسنّة وليس كلّ كنز مذمومًا.
وشذّ أبو ذرّ فحمل الآية على عموم الكانزين في جميع أحوال الكنز، وعلى عموم الإنفاق، وحَمَل سبيل الله على وجوه البرّ، فقال بتحريم كَنز المال، وكأنّه تأول {ولا ينفقونها} على معنى ما يسمّى عطف التفسير، أي على معنى العطف لمجرّد القرن بين اللفظين، فكان أبو ذرّ بالشام ينهى الناس على الكنز ويقول: بشّر الكانزين بمكاو من نار تكْوَى بها جباههم وجُنوبهم وظهورهم، فقال له معاوية: وهو أمير الشام، في خلافة عثمان: إنّما نزلت الآية في أهل الكتاب، فقال أبو ذرّ: نزلت فيهم وفينا، واشتدّ قول أبي ذرّ على الناس ورأوه قولًا لم يقله أحد في زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم وصاحبيه فشكاه معاويةُ إلى عثمان، فاستجلبه من الشام وخشي أبو ذَر الفتنةَ في المدينة فاعتزلها وسكن الربذة وثبت على رأيه وقوله.
والفاء في قوله: {فبشرهم} داخلة على خبر الموصول، لتنزيل الموصول منزلة الشرط، لما فيه من الإيماء إلى تعليل الصلة في الخبر، فضمير الجمع عائد إلى {الذين} ويجوز كون الضمير عائدًا إلى الأحبار والرهبان والذين يكنزون.
والفاء للفصيحة بأن يكون بعد أنْ ذَكَر آكلي الأموال الصادّين عن سبيل الله وذكَر الكانزين، أمر رسوله بأن يُنذر جميعهم بالعذاب، فدلّت الفاء على شرط محذوف تقديره: إذا علمتَ أحوالهم هذه فبشّرهم، والتبشير مستعار للوعيد على طَريقة التهكّم. اهـ.

.قال الشنقيطي:

قوله تعالى: {والذين يَكْنِزُونَ الذهب والفضة وَلاَ يُنفِقُونَهَا فِي سَبِيلِ الله} الآية.
أظهر الأقوال وأقربها للصواب في معنى {يَكْنِزُونَ} في هذه الآية الكريمة، أن المراد بكنزهم الذهب والفضة وعدم إنفاقهم لها في سبيل الله، أنهم لا يؤدون زكاتهما.
قال ابن كثير في تفسير هذه الآية: وأمَّا الكنز؟ فقال مالك: عن عبد الله بن دينار. عن ابن عمر. هو المال الذي لا تؤدى زكاته.
وروى الثوري، وغيره، عن عبيد الله، عن نافع، عن ابن عمر، قال: ما أدى زكاته فليس بكنز وإن كان تحت سبع أرضين، وما كان ظاهرًا لا تؤدى زكاته فهو كنز، وقد روي هذا عن ابن عباس، وجابر، وأبي هريرة، موقوفًا ومرفوعًا.
وقال عمر بن الخطاب نحوه: أيما مال أديت زكاته فليس بكنز وإن كان مدفونًا في الأرض، وأيما مال لم تؤد زكاته فهو كنز يكوى به صاحبه، وإن كان على وجه الأرض. اهـ.
وممن روى عنه هذا القول عكرمة، والسدي، ولا شك أن هذا القول أصوب الأقوال، لأن من أدى الحق الواجب في المال الذي هو الزكاة لا يكوى بالباقي إذا أمسكه، لأن الزكاة تطهره كما قال تعالى: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَ} [التوبة: 103] ولأن المواريث ما جعلت إلا في أموال تبقى بعد مالكيها.
ومن أصرح الأدلة في ذلك، حديث طلحة بن عبيد الله وغيره في قصة الأعرابي أخي بني سعد، من هوازن، وهو ضمام بن ثعلبة لما أخبره النَّبي صلى الله عليه وسلم: بأن الله فرض عليه الزكاة، وقال: هل على غيرها، فإن النَّبي قال له: لا، إلا أن تطوع: وقوله تعالى: {وَيَسْأَلُونَكَ مَاذَا يُنفِقُونَ قُلِ العفو} [البقرة: 219] وقد قدمنا في البقرة تحقيق أنه ما زاد على الحاجة التي لابد منها، وقوله: «ليس فيما دون خمسة أوسق» الحديث، لأن صدقة نكرة في سياق النفي فهي تعم نفي كل صدقة.
وفي الآية أقوال أخر: منها: أنها منسوخة بآيات الزكاة كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُم} [التوبة: 103] الآية.
وذكر البخاري هذا القول بالنسخ عن ابن عمر أيضًا. وبه قال عمر بن عبد العزيز وعراك بن مالك. اهـ.
وعن علي أنه قال: أربعة آلاف فما دونها نفقة وما كان أكثر من ذلك فهو كنز، ومذهب أبي ذر رضي الله عنه في هذه الآية معروف، وهو أنه يحرم على الإنسان أن يدخر شيئًا فاضلًا عن نفقة عياله. اه ولا يخفى أن ادخار ما أديت حقوقه الواجبة لا بأس به، وهو كالضروري عند عامة المسلمين.
فإن قيل: ما الجواب عما رواه الإمام أحمد، عن علي رضي الله عنه، قال: مات رجل من أهل الصفة، وترك دينارين أو درهمين فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيتان صلوا على صاحبكم». اهـ.
وما رواه قتادة عن شهر بن حوشب، عن أبي أمامة. صدى بن عجلان قال: مات رجل من أهل الصفة فوجد في مئزره دينار فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كية» ثم توفي آخر فوجد في مئزره ديناران فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيتان» وما روى عبد الرزاق وغيره عن علي رضي الله عنه، أن النَّبي صلى الله عليه وسلم قال: «تبًا للذهب تبًا للفضة». يقولها ثلاثًا فشق ذلك على أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم وقالوا: فأي مال نتخذ؟ فقال عمر رضي الله عنه: أنا أعلم لكم ذلك من رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله: إن أصحابك قد شق عليهم وقالوا: فأي المال نتخذ؟ فقال: «لسانًا ذاكرًا وقلبًا شاكرًا وزوجة تعين أحدكم على دينه». ونحو ذلك من الأحاديث.
فالجواب- والله تعالى أعلم- أن هذا التغليظ كان أولًا ثم نسخ بفرض الزكاة كما ذكره البخاري عن ابن عمر رضي الله عنهما.
وقال ابن حجر في (فتح الباري): قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت وسداد العيش. فهو كنز يذم فاعله. وأن آية الوعيد نزلت في ذلك.
وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانع الزكاة، إلى أن قال: فكان ذلك واجبًا في أول الأمر، ثم نسخ، ثم ذكر عن شداد بن أوس أنه قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة ثم يخرج إلى قومه ثم يرخص فيه النَّبي صلى الله عليه وسلم فلا يسمع الرخصة، ويتعلق بالأمر الأول. اهـ.
وقال بعض العلماء: هي في خصوص أهل الكتاب، بدليل إقترانها مع قوله: {إِنَّ كَثِيرًا مِّنَ الأحبار والرهبان} [التوبة: 34] الآية.
فإذا علمت أن التحقيق أن الآية عامة، وأنها في من لا يؤدي الزكاة، فاعلم أن المراد بها هو المشار إليه في آيات الزكاة. وقد قدمنا في ترجمة هذا الكتاب المبارك، أن البيان بالقرآن إذا كان غير واف بالمقصود نتمم البيان من السنة، من حيث إنها بيان للقرآن المبين به، وآيات الزكاة كقوله: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَة} [التوبة: 103] الآية، وقوله: {أَنْفِقُواْ مِن طَيِّبَاتِ مَا كَسَبْتُمْ وَمِمَّا أَخْرَجْنَا لَكُم مِّنَ الأرض} [البقرة: 267] لا تفي بالبيان فتبينه بالسنة، وقد قال ابن خويز منداد المالكي، تضمنت هذه الآية: زكاة العين، وهي تجب بأربعة شروط، حرية، وإسلام، وحول، ونصاب سليم من الدين. اهـ. وفي بعض هذه الشروط خلاف.