فصل: قال ابن الجوزي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن الجوزي:

قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} أي: على الأموال.
قال ابن مسعود: والله ما من رجل يُكوى بكنز، فيوضعُ دينار على دينار ولا درهم على درهم، ولكن يوسَّع جلده، فيوضع كل دينار ودرهم على حدته.
وقال ابن عباس: هي حيَّة تنطوي على جنبيه وجبهته، فتقول: أنا مالك الذي بخلت به.
قوله تعالى: {هذا ما كنزتم} فيه محذوف تقديره: ويقال لهم هذا ما كنزتم لأنفسكم {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي: عذاب ذلك.
فإن قيل: لم خصَّ الجباه والجنوب والظهور من بقية البدن؟
فالجواب: أن هذه المواضع مجوَّفة، فيصل الحر إلى أجوافها، بخلاف اليد والرجل.
وكان أبو ذرٍّ يقول: بشر الكنَّازين بكيّ في الجباه وكيّ في الجنوب وكيٍّ في الظهور، حتى يلتقي الحرُّ في أجوافهم.
وجواب آخر: وهو أن الغنيَّ إذا رأى الفقير، انقبض؛ وإذا ضمه وإياه مجلس، ازورّ عنه ووِّلاه ظهره، قاله أبو بكر الوراق. اهـ.

.قال القرطبي:

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
فيه أربع مسائل:
الأُولى قوله تعالى: {يَوْمَ يحمى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ} {يوم} ظرف، والتقدير يعذبون يوم يُحْمَى.
ولا يصح أن يكون على تقدير: فبشّرهم يوم يحمى عليها؛ لأن البشارة لا تكون حينئذ.
يقال: أحميت الحديدة في النار؛ أي أوقدت عليها.
ويقال: أحميته؛ ولا يقال: أحميت عليه.
وهاهنا قال عليها؛ لأنه جعل على من صلة معنى الإحماء، ومعنى الإحماء الإيقاد.
أي يوقد عليها فتكوى.
الكيّ: إلصاق الحارّ من الحديد والنار بالعضو حتى يحترق الجلد.
والجباه جمع الجبهة، وهو مستوى ما بين الحاجب إلى الناصية.
وجبَهت فلانًا بكذا؛ أي استقبلته به وضربت جبهته.
والجنُوب جمع الجنب.
والكيّ في الوجه أشهر وأشنع، وفي الجنب والظهر آلم وأوجع؛ فلذلك خصها بالذكر من بين سائر الأعضاء.
وقال علماء الصوفية: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طوَوْا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كُوِيت جنوبهم، ولما أسندوا ظهورهم إلى أموالهم ثقةً بها واعتمادًا عليها كُوِيت ظهورهم.
وقال علماء الظاهر: إنما خصّ هذه الأعضاء لأن الغنيّ إذا رأى الفقير زوى ما بين عينيه وقبض وجهه.
كما قال:
يَزِيد يَغُضّ الطرف عني كأنما ** زوى بين عينيه عليّ المحاجِمُ

فلا ينبسطْ من بين عينيك ما انْزَوى ** ولا تَلْقَني إلا وأنفُكَ راغِمُ

وإذا سأله طوَى كشحه، وإذا زاده في السؤال وأكثر عليه ولاّه ظهره.
فرتّب الله العقوبة على حال المعصية.
الثانية واختلفت الآثار في كيفية الكيّ بذلك؛ ففي صحيح مسلم من حديث أبي ذرّ ما ذكرنا من ذكر الرَّضْف.
وفيه من حديث أبي هريرة قال؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهبٍ ولا فِضة لا يؤدّي منها حقّها إلا إذا كان يومُ القيامة صُفّحت له صفائح من نارٍ فأُحمى عليها في نار جهنم فيُكْوَى بها جنبه وجبينه وظهره كلما بَرَدَت أُعيدت له في يومٍ كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يُقْضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» الحديث.
وفي البخاريّ: أنه يُمثّل له كنزه شجاعًا أقرع.
وقد تقدّم في غير الصحيح عن عبد الله بن مسعود أنه قال: من كان له مال فلم يؤدّ زكاته طُوِّقه يوم القيامة شجاعًا أقرع ينقُر رأسه.
قلت: ولعلّ هذا يكون في مواطن: موطن يمثَّل المال فيه ثعبانًا، وموطن يكون صفائح، وموطن يكون رَضْفًا.
فتتغيّر الصفات والجسمية واحدة؛ فالشجاع جسم والمال جسم.
وهذا التمثيل حقيقة؛ بخلاف قوله: «يؤتى بالموت كأنه كبش أملح» فإن تلك طريقة أُخرى، ولله سبحانه وتعالى أن يفعل ما يشاء.
وخُصّ الشجاع بالذكر لأنه العدوّ الثاني للخلق.
والشجاع من الحيات هو الحية الذكر الذي يواثِب الفارس والراجل، ويقوم على ذنبَه وربما بلغ الفارس، ويكون في الصّحارى.
وقيل: هو الثعبان.
قال اللّحيانيّ: يقال للحية شجاع، وثلاثة أشجعة، ثم شجعان.
والأقرع من الحيات هو الذي تمعّط رأسه وابيض من السمّ.
في المَوطأ: له زبيبتان؛ أي نقطتان منتفختان في شِدْقيه كالرّغوتين.
ويكون ذلك في شِدقي الإنسان إذا غضب وأكثر من الكلام.
قالت أُمّ غَيْلان بنت جرير ربّما أنشدت أبي حتى يتزبّب شدقاي.
ضُرب مثلًا للشجاع الذي كثر سمّه فيُمَثّل المالُ بهذا الحيوان فيلقى صاحبه غضبان.
وقال ابن دُريد: نقطتان سَوْداوان فوق عينيه.
في رواية: مُثّل له شجاع يتبعه فيضطره فيُعطيه يده فيقضمها كما يقضم الفحل.
وقال ابن مسعود: واللَّهِ لا يعذّب الله أحدًا بكنز فيمسّ درهم درهمًا ولا دينار دينارًا، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل درهم ودينار على حدته.
وهذا إنما يصح في الكافر كما ورد في الحديث لا في المؤمن.
والله أعلم.
الثالثة أسند الطبريّ إلى أبي أمامة الباهِليّ قال: مات رجل من أهل الصُّفّة فوُجد في بردته دينار.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كَيّة».
ثم مات آخر فوجد له ديناران.
فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «كيّتان».
وهذا إمّا لأنهما كانا يعيشان من الصدقة وعندهما التِّبر، وإمّا لأن هذا كان في صدر الإسلام، ثم قرر الشرع ضبط المال وأداء حقه.
ولو كان ضبط المال ممنوعًا لكان حقه أن يُخرج كلّه، وليس في الأُمة من يلزم هذا.
وحسبك حال الصحابة وأموالُهم رضوان الله عليهم.
وأما ما ذكر عن أبي ذَرّ فهو مذهب له؛ رضي الله عنه.
وقد روى موسى بن عُبيدة عن عمران بن أبي أنس عن مالك بن أوس بن الحدَثان عن أبي ذرّ عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «من جمع دينارًا أو درهمًا أو تِبرا أو فضة ولا يُعدّه لغريم ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يُكْوَى به يوم القيامة».
قلت: هذا الذي يليق بأبي ذرّ رضي الله عنه أن يقول به، وأن ما فضل عن الحاجة فليس بكنز إذا كان معدًّا لسبيل الله.
وقال أبو أمامة: من خلّف بِيضًا أو صُفرًا كُوِي بها مغفورًا له أو غير مغفور له؛ ألاَ إن حلية السيف من ذلك.
وروى ثَوْبان أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من رجل يموت وعنده أحمرُ أو أبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفيحة يكوَى بها من فرْقه إلى قدمه مغفورًا له بعد ذلك أو معذّبًا».
قلت: وهذا محمول على ما لم تؤدّ زكاته بدليل ما ذكرنا في الآية قبل هذا.
فيكون التقدير: وعنده أحمر أو أبيض لم يؤدّ زكاته.
وكذلك ما رُوي عن أبي هريرة رضي الله عنه: من ترك عشرة آلاف جُعلت صفائح يعذّب بها صاحبها يوم القيامة.
أي إن لم يؤد زكاتها، لئلا تتناقض الأحاديث.
والله أعلم.
الرابعة قوله تعالى: {هذا مَا كَنَزْتُمْ لأَنْفُسِكُمْ} أي يقال لهم هذا ما كنزتم؛ فحذف.
{فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي عذاب ما كنتم تكنزون. اهـ.

.قال الخازن:

قوله تعالى: {يوم يحمى عليها} يعني الكنوز فتدخل النار فيوقد عليها حتى تبيض من شدة الحرارة {في نار جهنم فتكوى بها جباههم} يعني الكنوز جباه كانزيها {وجنوبهم وظهورهم} قال ابن عباس: لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته.
قال بعض العلماء: إنما خص هذه الأعضاء، بالكي من بين سائر الأعضاء لأن الغني صاحب المال إذا أتاه السائل فطلب منه شيئًا تبدو منه آثار الكراهة والمنع فعند ذلك يقطب وجهه ويكلح وتجتمع أسارير وجهه فيتجعد جبينه ثم إن كرر السائل الطلب نأى بجانبه عنه ومال عن جهته وتركه جانبًا ثم إن كرر الطلب وألح في السؤال ولاه ظهره وأعرض عنه واستقبل جهة أخرى وهي النهاية في الرد والغاية في المنع الدال على كراهية الإعطاء والبذل وهذا دأب ما نعى البر والإحسان.
وعادة البخلاء فلذلك خص هذه الأعضاء الثلاثة بالكي يوم القيامة.
وقوله سبحانه وتعالى: {هذا ما كنزتم لأنفسكم} أي يقال لهم ذلك يوم القيامة {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي فذوقوا عذاب ما كنزتم في الدنيا من الأموال ومنعتم حق الله منها (ق) عن الأحنف بن قيس قال: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش إذ جاء رجل خشن الثياب خشن الجسد خشن الوجه فقام عليهم فقال بشر الكانزين برضف يحمى عليه في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نغض كتفيه ويوضع على نغض كتفيه حتى يخرج من حلمة ثدييه يتزلزل قال فوضع القوم رءوسهم فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا قال فأدبر فاتبعته حتى جلس إلى سارية فقلت ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم فقال: إن هؤلاء لا يعقلون شيئًا هذا لفظ مسلم وفيه زيادة لم أذكرها.
وزاد البخاري قلت: (1) من هذا؟ قالوا: أبا ذر.
قال: فقمت إليه فقلت ما شيء سمعتك تقول قبيل فقال ما قلت إلا شيئًا سمعته من نبيهم صلى الله عليه وسلم. اهـ.

.قال أبو حيان:

{يوم يحمى عليها في نار جهنم}
يقال: حميت الحديدة في النار أي أوقدت عليها لتحمى، وتقول: أحميتها أدخلتها لكي تحمي أيضًا فحميت.
وقرأ الجمهور: {يوم يحمى عليها} بالياء، أصله يحمى النار عليها، فلما حذف المفعول الذي لم يسم فاعله، وأسند الفعل إلى الجملة والمجرور، لم تلحق التاء كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير.
وإذا حذفت القصة وقام الجار والمجرور مقامها قلت: رفع إلى الأمير، ويدل على أنّ ذلك في الأصل مسند إلى النار، قراءة الحسن وابن عامر في رواية تحمى بالتاء.
وقيل: من قرأ بالياء، فالمعنى: يحمى الوقود.
ومن قرأ بالتاء فالمعنى: تحمى النار.
والناصب ليوم أليم أو مضمر يفسره عذاب أي: يعذبون يوم يحمى.
وقرأ أبو حيوة: فيكوى بالياء، لما كان ما أسند إليه تأنيثه حقيقيًا، ووقع الفصل أيضًا ذكر، وأدغم قوم جباههم وهي مروية عن أبي عمر وذلك في الإدغام الكبير، كما أدغم مناسككم وما سلككم، وخصت هذه المواضع بالكي.
قيل: لأنه في الجهة أشنع، وفي الجنب والظهر أوجع.
وقيل: لأنها مجوفة فيصل إلى أجوافها الحر، بخلاف اليد والرجل.
وقيل: معناه يكوون على الجهات الثلاثة مقاديمهم ومآخرهم وجنوبهم.
وقيل: لما طلبوا المال والجاه شان الله وجوههم، ولما طووا كشحا عن الفقير إذا جالسهم كويت ظهورهم.
وقال الزمخشري: لأنهم لم يطلبوا بأموالهم حيث لم ينفقوها في سبيل الله تعالى إلا الأغراض الدنيوية من وجاهة عند الناس وتقدّم، وأن يكون ماء وجوههم مصونًا عندهم يتلقون بالجميل، ويحيون بالإكرام، ويحتشمون، ومن أكل طيبات يتضلعون منها، وينفخون جنوبهم، ومن لبس ناعمة من الثياب يطرحونها على ظهورهم كما ترى أغنياء زمانك هذه أغراضهم وطلباتهم من أموالهم.
لا يخطرون ببالهم قول رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ذهب أهل الدثور بالأجور» وقيل: لأنهم كانوا إذا أبصروا الفقير عبسوا، وإذا ضمهم وإياه مجلس ازوروا عنه، وتولوا بأركانهم، وولوا ظهورهم.
وأضمر القول في هذا ما كنزتم أي: يقال لهم وقت الكي والإشارة بهذا إلى المال المكنوز، أو إشارة إلى الكي على حذف مضاف من ما كنزتم، أي: هذا الكي نتيجة ما كنزتم، أو ثمرة ما كنزتم.
ومعنى لأنفسكم: لتنتفع به أنفسكم وتلتذ، فصار عذابًا لكم، وهذا القول توبيخ لهم.
فذوقوا ما كنتم أي: وبال المال الذي كنتم تكنزون.
ويجوز أن تكون ما مصدرية أي: وبال كونكم كانزين.
وقرئ يكنزون بضم النون.
وفي حديث أبي ذر: «بشر الكانزين برصد يحمى عليها في نار جهنم فيوضع على حلمة ثدييه وتزلزله وتكوى الجباه والجنوب والظهور حتى يلتقي الحر في أجوافهم» وفي صحيح البخاري وصحيح مسلم: «الوعيد الشديد لمانع الزكاة». اهـ.