فصل: قال أبو السعود:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال أبو السعود:

{يَوْمَ} منصوبٌ بعذاب أليمٍ أو بمضمر يدلُّ عليه ذلك أي يعذّبون أو باذكر {يحمى عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ} أي يوم توقد النارُ ذاتُ حَمْيٍ شديدٍ عليها، وأصلُه تُحمى النارُ فجعل الإحماءُ للنار مبالغةً ثم حُذفت النارُ وأسند الفعلُ إلى الجارِّ والمجرور تنبيهًا على المقصود فانتقل من صيغة التأنيثِ إلى التذكير كما تقول: رُفعت القصةُ إلى الأمير فإن طرحْتَ القِصةَ قلت: رُفع إلى الأمير وإنما قيل: عليها والمذكورُ شيآن لأن المرادَ بهما دنانيرُ ودراهمُ كثيرةٌ (كما قال علي رضي الله عنه: أربعةُ آلافٍ وما دونها نفقةٌ، وما فوقها كنزٌ) وكذا الكلام في قوله تعالى: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} وقيل: الضميرُ للأموال والكنوزِ فإن الحُكمِ عامٌّ وتخصيصُهما بالذكر لأنهما قانونُ التموّلِ، أو للفضة وتخصيصُها لقربها ودَلالة حكمِها على أن الذهبَ كذلك بل أولى {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} لأن جمعَهم لها وإمساكَهم كان لطلب الوجاهةِ بالغنى والتنعُّم بالمطاعم الشهيةِ والملابس البهيةِ أو لأنهم ازوَرُّوا عن السائل وأعرضوا عنه وولَّوْه ظهورَهم أو لأنها أشرفُ الأعضاءِ الظاهرةِ فإنها المشتملةُ على الأعضاء الرئيسيةِ التي هي الدماغُ والقلبُ والكبِدُ أو لأنها أصولُ الجهات الأربعةِ التي هي مقاديمُ البدن ومآخِرُه وجنباه {هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول: {لانفُسِكُمْ} لمنفعتها فكان عينَ مَضرَّتها وسببَ تعذيبها {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} أي وبالَ كنزِكم أو ما تكنِزونه وقرئ بضم النون. اهـ.

.قال الألوسي:

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}
قوله تعالى: {يَوْمَ} منصوب بعذاب أليم أو بمضمر يدل عليه ذلك أي يعذبون يوم أو باذكر.
وقيل: التقدير عذاب يوم والمقدر بدل من المذكور فلما حذف المضاف أقيم المضاف إليه مقامه {يحمى عَلَيْهَا في نَارِ جَهَنَّمَ} أي توقد النار ذات حمى وحر شديد عليها، وأصله تحمى بالنار من قولك حميت الميسم وأحميته فجعل الإحماء للنار مبالغة لأن النار في نفسها ذات حمى فإذا وصفت بأنها تحمي دل على شدة توقدها ثم حذفت النار وحول الإسناد إلى الجار والمجرور تنبيهًا على المقصود بأتم وجه فانتقل من صيغة التأنيث إلى التذكير كما تقول: رفعت القصة إلى الأمير فإذا طرحت القصة وأسند الفعل إلى الجار والمجرور قلت رفع إلى الأمير.
وعن ابن عامر أنه قرأ {تحمي} بالتاء الفوقانية بإسناده إلى النار كأصله وإنما قيل {وَجَدْنَا عَلَيْهَا} والمذكور شيئان لأنه ليس المراد بهما مقدارًا معينًا منهما ولا الجنس الصادق بالقليل والكثير بل المراد الكثير من الدنانير والدراهم لأنه الذي يكون كنزًا فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة ولو أتى بضمير التثنية احتمل خلافه، وكذا يقال في قوله سبحانه: {وَلاَ يُنفِقُونَهَا} [التوبة: 34] وقيل: الضمير لكنوز الأموال المفهومة من الكلام فيكون الحكم عامًا ولذا عدل فيه عن الظاهر، وتخصبص الذهب والفضة بالذكر لأنهما الأصل الغالب في الأموال لا للتخصيص أو للفضة، واكتفى بها لأنها أكثر والناس إليها أحوج ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى مع قربها لفظًا {فتكوى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} خصت بالذكر لأن غرض الكانزين من الكنز والجمع أن يكونوا عند الناس ذوي وجاهة ورياسة بسبب الغنى وأن يتنعموا بالمطاعم الشهية والملابس البهية فوجاهتهم كان الكي بجباههم ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها ولما لبسوه على ظهورهم كويت، أو لأنهم إذا رأوا الفقير السائل زووا ما بين أعينهم وازوروا عنه وأعرضوا وطووا كشحًا وولوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، أو لأنها أشرف الأعضاء الظاهرة فإنها المشتملة على الأعضاء الرئيسة التي هي الدماغ والقلب والكبد، وقيل: لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخيره وجنبتاه فيكون ما ذكر كناية عن جميع البدن، ويبقى عليه نكتة الاقتصار على هذه الأربع من بين الجهات الست وتكلف لها بعضهم بأن الكانز وقت الكنز لحذره من أن يطلع عليه أحد يلتفت يمينًا وشمالًا وأمامًا ووراءً ولا يكاد ينظر إلى فوق أو يتخيل أن أحدًا يطلع عليه من تحت؛ فلما كانت تلك الجهات الأربع مطمح نظره ومظنة حذره دون الجهتين الأخريين اقتصر عليها دونهما، وهو مع ابتنائه على اعتبار الدفن في الكنز في حيز المنع كما لا يخفى.
وقيل: إنما خصت هذه المواضع لأن داخلها جوف بخلاف اليد والرجل، وفيه أن البطن كذلك، وفي جمعه مع الظاهر لطافة أيضًا، وقيل: لأن الجبهة محل الوسم لظهورها والجنب محل الألم والظهر محل الحدود لأن الداعي للكانز على الكنز وعدم الإنفاق خوف الفقر الذي هو الموت الأحمر حيث أنه سبب للكد وعرق الجبين والاضطراب يمينًا وشمالًا وعدم استقرار الجنب لتحصيل المعاش مع خلو المتصف به عما يستند إليه ويعول في المهمات عليه فلملاحظة الأمن من الكد وعرق الجبين تكوى جبهته ولملاحظة الأمن من الاضطراب والطمع في استقرار الجنب يكوى جنبه ولملاحظة استناد الظهر والاتكال على ما يزعم أنه الركن الأقوى والوزر الأوقى يكوي ظهره، وقيل غير ذلك وهي أقوال يشبه بعضها بعضًا والله تعالى أعلم بحقيقة الحال.
وأيًا ما كان فليس المراد أنه يوضع دينار على دينار أو درهم على درهم فيكوى بها ولا أنه يكوى بكل بأن يرفع واحد ويوضع بدله آخر حتى يؤتي على آخرها بل أنه يوسع جلد الكانز فيوضع كل دينار ودرهم على حدته كما نطقت بذلك الآثار وتظافرت به الأخبار {هذا مَا كَنَزْتُمْ} على إرادة القول وبه يتعلق الظرف السابق في قول أي يقال له يوم يحمى عليها هذا ما كنزتم {لانفُسِكُمْ} أي لمنفعتها فكان عين مضرتها وسبب تعذيبها، فاللام للتعليل، وأنت في تقدير المضاف في النظم بالخيار، ولم تجعل اللام للملك لعدم جدواه {وَمَا} في قوله سبحانه: {فَذُوقُواْ مَا كُنتُمْ تَكْنِزُونَ} يحتمل أن تكون مصدرية أي وبال كنزكم أو وبال كونكم كانزين ورجح الأول بأن في كون كان الناقصة لها مصدر كلامًا وبأن المقصود الخبر وكان إنما ذكرت لاستحضار الصورة الماضية، ويحتمل أن تكون موصولة أي وبال الذي تكنزونه، وفي الكلام استعارة مكنية وتخييلية أو تبعية.
وقرئ {تَكْنِزُونَ} بضم النون فالماضي كنز كضرب وقعد. اهـ.

.قال القاسمي:

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} أي: يوقد عليها {فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ} أي: ويقال لهم ضمًّا إلى ما هم فيه، هذا ما كنزتم {لأنْفُسِكُمْ} أي: لتتلذذوا به، فكان سبب تعذيبها {فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ} أي: وباله، وهو ألمه وشدته بالكي.
وفي هذه الآية فوائد:
الأولى: قال بعضهم في قوله تعالى: {لَيَأْكُلُونَ} دلالة على تحريم الرشا على الباطل، وقد ورد: «لعن الله الراشي والمرتشي».
وكذا تحريم أخذ العوض على فعل الواجب، وفي جواز الدفع ليتوصل إلى حقه خلاف.
رجح الجواز ليتوصل إلى الحق، كالإستفداء.
قال الحاكم يدخل في تحريم الرشا الأحكام والشهادات والفتاوى وأصول الدين وفروعه، وكل من حرّف شيئًا لغرض الدنيا. انتهى.
الثانية: في الآية- كما قال ابن كثير- تحذير من علماء السوء وعبّاد الضلال، كما قال سفيان بن عيينة: من فسد من علمائنا كان فيه شبه من اليهود، ومن فسد من عبادنا كان فيه شبه من النصارى.
وفي الحديث الصحيح: «لتركبن سَنَن من قبلكم حَذْوّ القذَّة بالقذَّةِ»، قالوا: اليهود والنصارى؟ قال: «فمن؟»، وفي رواية: فارس والروم؟ قال: «ومَن الناس إلا هؤلاء؟». ثم أنشد لابن المبارك:
وهل أَفْسَدَ الدينَ إلا الملو ** كُ، وأحبارُ سوء ورهبانُهَا

الثالثة: قوله تعالى: {وَالَّذِينَ} مبتدأ، والخبر: {يَكْنِزُونَ} أو منصوب تقديره: بشر الذين يكنزون.
والتعريف في الموصول للعهد والمعهود، إما الأحبار والرهبان، وإما المسلمون الكانزون، لجري ذكر الفريقين، وإما ما هو أعم.
والأول رُوِي عن معاوية، والثاني عن السدّي، والثالث عن ابن عباس وأبي ذرّ.
قال الزمخشري: يجوز أن يكون الموصول إشارة إلى الكثير من الأحبار والرهبان، للدلالة على اجتماع خصلتين مذمومتين فيهم: أخذ البراطيل، وكنز الأموال والضن بها عن الإنفاق في سبيل الله.
ويجوز أن يراد المسلمون الكانزون غير المنفقين ويقرن بينهم وبين المرتشين من اليهود والنصارى تغليظًا، ودلالةً على أن من يأخذ منهم السحت، ومن لا يعطي منكم طيب ماله، سواء في استحقاق البشارة بالعذاب الأليم. انتهى.
قال في الأنوار: ويؤيد الثاني أنه لما نزل كبُر على المسلمين، فذكر عمر رضي الله عنه لرسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: «إن الله لم يفرض الزكاة إلا ليطيب بها ما بقي من أموالكم»- رواه أبو داود والحاكم وصححه-.
وقوله صلى الله عليه وسلم: «ما أدي زكاته فليس بكنز»- أخرجه الطبراني والبيهقي- أي: ليس بالكنز المتوعَّد عليه في الآية، فإن الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر الله أن ينفق فيه.
وأما قوله صلى الله عليه وسلم: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها» ونحوه، فالمراد منها: ما لم يؤد حقها، لقوله صلى الله عليه وسلم، فيما أورده الشيخان: البخاري في تاريخه، ومسلم في صحيحه، عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي منها حقها، إلا إذا كان يوم القيامة صفحت له صفائح من نار، فيكوى بها جنبه وجبينه وظهره». انتهى.
وقد اشتهرت محاورة معاوية لأبي ذر في هذه الآية.
روى البخاري عن زيد بن وهب قال: مررت بالربذة، فإذا بأبي ذر، فقلت: ما أنزلك هذا المنزل؟ قال: كنت في الشام، فاختلفت أنا ومعاوية في هذه الآية:
{وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّةَ} فقال معاوية: نزلت في أهل الكتاب، فقلت: نزلت فينا وفيهم، فكان بيني وبينه في ذلك كلام، فكتب إلى عثمان يشكوني، فكتب إليّ عثمان أن أقدم المدينة فقدمتها، فكثر عليّ الناس حتى كأنهم لم يروني قبل ذلك، فذكرت ذلك لعثمان، فقال: إن شئت تنحيت، فكنت قريبًا.
فذاك الذي أنزلني هذا المنزل، ولو أُمِّر عليّ عبد حبشي لسمعت وأطعت.
ولإبن جرير في رواية، بعد قول عثمان له: تَنح قريبًا، قلت: والله لن أدع ما كنت أقول.
وروى أبو يعلى أن أبا ذر كان يحدث ويقول: لا يبيتنّ عند أحدكم دينار ولا درهم، إلا ما ينفقه في سبيل الله، أو يعدّه لغريم.
فكتب معاوية إلى عثمان: إن كان لك بالشام حاجة، فابعث إلى أبي ذرّ، فكتب إليه عثمان أن أقدم عليّ، فقدم.
قال ابن كثير: كان من مذهب أبي ذر رضي الله عنه تحريم ادخار ما زاد على نفقة العيال، وكان يفتي بذلك، ويحثهم عليه، ويأمرهم به، ويغلظ في خلافه، فنهاه معاوية فلم ينته.
فخشي أن يضر بالناس في هذا، فكتب يشكوه إلى أمير المؤمنين عثمان، وأن يأخذه إليه، فاستقدمه عثمان إلى المدينة، ثم أنزله بالربذة: وبها مات رضي الله عنه في خلافة عثمان.
وقد اختبره معاوية رضي الله عنه وهو عنده، هل يوافق عمله قوله، فبعث إليه بألف دينار، ففرقها من يومه، ثم بعث إليه الذي أتاه بها فقال: إن معاوية إنما بعثني إلى غيرك فأخطأت فهات الذهب.
فقال: ويحك! إنها خرجت، ولكن إذا جاء مالي حاسبناك به.