فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال الأحنف بن قيس: قدمت المدينة فبينا أنا في حلقة فيها ملأ من قريش، إذ جاء رجل أخشن الثياب، أخشن الجسد، أخشن الوجه، فقام عليهم فقال: بشر الكانزين قال: فـ يحمى عليه في نار جهنم، ثم يوضع على حلمة ثدي أحدهم حتى يخرج من نُغْضِ كتفه، ويوضع على نُغْضِ كتفه حتى يخرج من حلمة ثديه، يتزلزل.
قال: فوضع القوم رءوسهم، فما رأيت أحدًا منهم رجع إليه شيئًا. قال: وأدبر واتبعتُه حتى جلس إلى معاوية فقلت: ما رأيت هؤلاء إلا كرهوا ما قلت لهم، فقال: إن هؤلاء لا يعلمون شيئًا، إنما يجمعون الدنيا- رواه مسلم، وللبخاري نحوه-.
وفي الصحيح أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال لأبي ذر: «ما يسرني أن عندي مثل أحد ذهبًا، يمر عليّ ثلاثة أيام، وعندي منه شيء، إلا دينار أرصده لدين».
قال ابن كثير: فهذا- والله أعلم- هو الذي حدا أبا ذر على القول بهذا.
أي: وما أخرجه الشيخان أيضًا عنه، قال: انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة، فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة!» قال: فجئت حتى جلست، فلم أتقارّ حتى قمت فقلت: يا رسول الله! فداك أبي وأمي، من هم؟ قال: «هم الأكثرون أموالًا، إلا من قال هكذا وهكذا وهكذا، من بين يديه من خلفه، وعن يمينه وعن شماله، وقليل ما هم».
وروى الإمام أحمد عن عبد الله بن الصامت رضي الله عنه، أنه كان مع أبي ذر، فخرج عطاؤه ومعه جارية، فجعلت تقضي حوائجه، ففضلت معها سبعة، فأمرها أن تشتري به فلوسًا.
قال: قلت: لو ادخرته لحاجة يومك، وللضيف ينزل بك قال: إن خليلي عهد إليّ أن أيّما ذهب أو فضة أوكئ عليه، فهو جمر على صاحبه، حتى يفرغه في سبيل الله عزّ وجلّ إفراغًا.
قال ابن عبد البر: وردت عن أبي ذر آثار كثيرة، تدل على أنه كان يذهب إلى أن كل مال مجموع يفضل عن القوت، وسداد العيش، فهو كنز يذم فاعله، وأن آية الوعيد نزلت في ذلك، وخالفه جمهور الصحابة ومن بعدهم، وحملوا الوعيد على مانعي الزكاة، وأصح ما تمسكوا به حديث طلحة وغيره في قصة الأعرابي، حيث قال: هل عليّ غيرها قال: «لا، إلا أن تَطَوَّعَ». انتهى.
وبالجملة، فالجمهور على أن الكنز المذموم ما لم تؤدّ زكاته. وقد ترجم لذلك البخاري في صحيحه فقال: باب ما أدِّي زكاته فليس بكنز.
ويشهد له حديث أبي هريرة مرفوعًا: «إذا أديت زكاة مالك فقد قضيت ما عليك».
حسنه الترمذي وصححه الحاكم-.
وعن ابن عمر: كلّ ما أديت زكاته، وإن كان تحت سبع أرضين، فليس بكنز وكلّ ما لا تؤدي زكاته فهو كنز، وإن كان ظاهرًا على وجه الأرض.
أورده البيهقي مرفوعًا، ثم قال: المشهور وقفه، كحديث جابر: «إذا أديت زكاة مالك، فقد أذهبت عنك شره». أخرجه الحاكم، والمرجح وقفه.
هذا وذهب ابن عمر رضي الله عنهما ومن وافقه إلى أن الزكاة نسخت وعيد الكنز.
روى البخاري في صحيحه أن أعرابيًا قال لابن عمر: أخبرني عن قول الله تعالى: {وَالَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَالْفِضَّة} الآية، قال ابن عمر: من كنزها فلم يؤد زكاتها، فويل له.
إنما كان هذا قبل أن تنزل الزكاة، فلما أنزلت جعلها الله طهرًا للأموال.
زاد ابن ماجة: ثم قال ابن عمر: ما كنت أبالي لو كان لي مثل أحد ذهبًا، أعلم عدده، أزكيه وأعمل فيه بطاعة الله تعالى.
ورواه أبو داود في كتاب الناسخ والمنسوخ، فهذا يشعر بأن الوعيد على الإكتناز. وهو حبس ما فضل عن الحاجة عن المواساة به، كان في أول الإسلام، ثم نسخ ذلك بفرض الزكاة، لما فتح الله الفتوح، وقّدرت نصب الزكاة.
ويشعر أيضًا بأن فرض الزكاة كان في السنة التاسعة من الهجرة، وجزم به ابن الأثير في تاريخه، وقواه بعضهم بما وقع في قصة ثعلبة بن حاطب المطولة، ففيها لما أنزلت آية الصدقة بعث النبيّ صلى الله عليه وسلم عاملًا فقال: «ما هذه إلا جزية أو أخت الجزية». وأقول: إنما وجبت في التاسعة.
وأقول: هذا الحديث ضعفوه، والأقوى منه كون هذه السورة التي فيها هذه الآية نزلت في السنة التاسعة كما قدمنا، فإذا نسخت بالزكاة كانت الزكاة في تلك السنة أو بعدها قطعًا.
قال ابن حجر في الفتح: والظاهر أن ذلك كان في أول الأمر كما تقدم عن ابن عمر، واستدل له ابن بطال بقوله تعالى: {وَيَسْأَلونَكَ مَاذَا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ}، أي: ما فضل عن الكفاية، فكان ذلك واجبًا في أول الأمر، ثم نسخ- والله أعلم-.
وفي المسند من طريق يعلى بن شَدَّاد بن أوس عن أبيه قال: كان أبو ذر يسمع الحديث من رسول الله صلى الله عليه وسلم فيه الشدة، ثم يخرج إلى قومه، ثم يرخص فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم فلا يسمع للرخصة، ويتعلق بالأمر الأول.
وما سقناه من مذهب أبي ذر، هو ما ساقه المفسرون وشراح الحديث.
وزعم بعضهم أن الذي حدا أبا ذر لذلك ما رآه من استئثار معاوية بالفيء حيث قال: الذي صح أن الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا يعتبرون الفيء لكافة المسلمين، يستوي فيه المقاتلون وغيرهم، ولعله باعتبار أن القتال فريضة على كل المسلمين فكلهم داخل تحت ذلك الحكم.
قال: والذي يؤيد أنه لكافة المسلمين، أن أبا ذر رضي الله عنه لما كان بالشام، والوالي عليها، من قِبَل الخليفة عثمان، معاوية رضي الله عنهما، ورأى من معاوية ما يشعر بحرصه على ادخار المال في بيت المال، لصرفه في وجوه المصالح التي يراها للمسلمين، وكان أبو ذر مشهورًا بالورع شديد الحرص على حقوق المسلمين، يقول الحق ولو على نفسه.
أخذ يتكلم بهذا الأمير بين الناس، واتخذ له حزبًا من أهل الشام يساعده على مطالبة معاوية برد المال للمسلمين، وبيان عدم الرضا بكنزه في بيت المال، لأي حال من الأحوال، إلا لتوزيعه على كافة المسلمين لاشتراكهم بما أفاء الله عليهم أجمعين وتابعه على قوله جماعة كثيرون كانوا يجتمعون لهذا القصد سرًّا وجهرًا، حتى كادت تكون فتنة، فشكاه معاوية إلى الخليفة عثمان رضي الله عنهم أجمعين، فنفاه إلى الربذة خوفًا من حدوث ما لا تحمد عقب. اهـ. انتهى.
ونقل ما يقرب منه ابن حجر في الفتح حيث قال: والصحيح أن إنكار أبي ذر كان على السلاطين الذين يأخذون المال لأنفسهم ولا ينفقونه في وجهه.
الرابعة: إنما قيل: {وَلا يُنْفِقُونَهَا} بضمير المؤنث، مع أن الظاهر التثنية، إذ المذكور شيئان لأن المراد بهما دنانير ودراهم كثيرة، وذلك لأن الكثير منهما هو الذي يكون كنزًا، فأتى بضمير الجمع للدلالة على الكثرة، ولو ثنّى احتمل خلافه. وقيل: الضمير عائد على الكنوز أو الأموال المفهومة من الكلام، فيكون الحكم عاما، ولذا عدل فيه عن الظاهر. وتخصيصهما بالذكر، لأنهما الأصل الغالب في الأموال للتخصيص.
وقيل: الضمير للفضة، واكتفى بها، لأنها أكثر، والناس إليها أحوج، ولأن الذهب يعلم منها بالطريق الأولى، مع قربها لفظًا.
الخامسة: في قوله تعالى: {فَبَشِّرْهُمْ} تهكم بهم، كما في قوله:
تَحِيَّةُ بَيْنِهِمْ ضَرْبٌ وَجِيعُ

وقيل: البشارة هي الخبر الذي يتغير له لون البشرة، لتأثيره في القلب، سواء كان من الفرح أو من الغم.
السادسة: قيل في تخصيص هذا الأعضاء الثلاثة بالكيّ دون غيرها، بأن جمع ذويها وإمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية، والملابس البهية، فَلِوَجاهتهم ورئاستهم المعروفة بوجوههم، كان الكيّ بجباههم، ولامتلاء جنوبهم بالطعام كووا عليها، ولما لبسوه على ظهورهم كويت.
وقيل: لأنهم إذا سألهم فقير تبدو منهم آثار الكراهة والمنع، فتكلح وجوههم، وتقطب. ثم إذا كرر الطلب ازورّوا عنه وتركوه جانبًا، ثم إذا ألحّ ولَّوه ظهورهم واستقبلوا جهة أخرى، وهي النهاية في الرد، والغاية في المنع، الدال على كراهية الإعطاء والبذل.
وهذا دأب مانعي البر والإحسان، وعادة البخلاء، فكان ذلك سببًا لكيّ هذه الأعضاء. وقيل: لأن هذه الأعضاء أشرف الأعضاء الظاهرة، إذ هي المشتملة على الأعضاء الرئيسية التي هي الدماغ والقلب والكبد، أو لأنها أصول الجهات الأربع التي هي مقاديم البدن ومآخره وجنباه، فيكون كناية عن جميع البدن.
وقال القاشاني: جمع المال وكنزه مع عدم الإنفاق لا يكون إلا لاستحكام رذيلة الشح، وحب المال، وكل رذيلة لها كيّة يعذب بها صاحبها في الآخرة ويخزى بها في الدنيا. ولما كانت مادة رسوخ تلك الرذيلة واستحكامها هي ذلك المال، وكان هو الذي يحمى عليه في نار جحيم الطبيعة، وهاوية الهوى، فيكوى به.
وإنما خصت هذه الأعضاء، لأن الشحّ مركوز في النفس، والنفس تغلب القلب من هذه الجهات، لا من جهة العلوّ التي هي جهة استيلاء الروح، وممرّ الحقائق والأنوار، ولا من جهة السفل التي هي من جهة الطبيعة الجسمانية، لعدم تمكن الطبيعة من ذلك، فبقيت سائر الجهات، فيؤذى بها من الجهات الأربع ويعذب، كما تراه يعاب بها في الدنيا، ويجزى من هذه الجهات أيضًا، إما بأن يواجه بها جهرًا فيفضح، أو يسارّ بها في جنبه، أو يغتاب بها من وراء ظهره. انتهى.
السابعة: قال أبو البقاء: {يَوْمَ} من قوله تعالى: {يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا} ظرف على المعنى، أي: يعذبهم في ذلك اليوم.
وقيل: تقديره عذاب يوم، وعذاب بدل من الأول، فلما حذف المضاف أقام اليوم مقامه. وقيل: التقدير اذكروا، وعليها في موضع رفع لقيامه مقام الفاعل.
وقيل: القائم مقام الفاعل مضمر، أي: يحمى الوقود أو الجمر، وبها أي: بالكنوز. وقيل هي بمعنى فيها، أي: في جهنم وقيل: يوم ظرف لمحذوف تقديره: يوم يحمى عليها يقال لهم هذا ما كنزتم. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}
انتصب {يوم يحمى} على الظرفية لـ {عذاب} [التوبة: 34]، لما في لفظ عَذاب من معنى يُعذّبون.
وضمير {عليها} عائد إلى {الذهب والفضة} [التوبة: 34] بتأويلهما بالدنانير والدراهم، أو عائد إلى {أمْوالَ الناس} [التوبة: 34] و{الذهبَ والفضةَ} [التوبة: 34]، إن كان الضمير في قوله: {فبشرهم} [التوبة: 34] عائدًا إلى {الأحبار والرهبان} {والذين يكنزون} [التوبة: 34].
والحَمْيُ شدّة الحرارة.
يقال: حَمِيَ الشيء إذا اشتدّ حرّه.
والضمير المجرور بعلَى عائد إلى {الذهب والفضة} [التوبة: 34] باعتبار أنّها دنانير أو دراهم، وهي متعدّدة وبني الفعل للمجهول لعدم تعلّق الغرض بالفاعل، فكأنّه قيل: يوم يحمي الحَامون عليها، وأسند الفعل المبني للمجهول إلى المجرور لعدم تعلّق الغرض بذكر المفعول المحمي لظهوره: إذ هو النار التي تُحمى، ولذلك لم يقرن بعلامة التأنيث، عُدّي بعلَى الدالّة على الاستعلاء المجازي لإفادة أنّ الحَمْي تمكّن من الأموال بحيث تكتسب حرارة المحمي كلها، ثم أكّد معنى التمكّن بمعنى الظرفية التي في قوله: {في نار جهنم} فصارت الأموال محمية عليها النارُ وموضوعة في النار.
وبإضافة النار إلى جهنّم علم أنّ المحمي هو نار جهنّم التي هي أشدّ نار في الحرارة فجاء تركيبًا بديعًا من البلاغة والمبالغةِ في إيجاز.
والكَيُّ: أن يوضع على الجلد جمرٌ أو شيء مشتعل.
والجِباه: جمع جَبْهَة وهي أعلى الوجه ممّا يلي الرأس.
والجنُوب: جمع جَنْب وهو جانب الجسد من اليمين واليسار.
والظُّهور: جمع ظَهْر وهو ما بين العنفقة إلى منتهى فقار العظم.
والمعنى: تعميم جهات الأجساد بالكَي فإنّ تلك الجهات متفاوتة ومختلفة في الإحساس بألَم الكي، فيحصل مع تعميم الكي إذاقة لأصناففٍ من الآلام.
وسُلك في التعبير عن التعميم مسلكُ الإطناب بالتعداد لاستحضار حالة ذلك العقاب الأليم، تهويلًا لشأنه، فلذلك لم يقل: فتكوى بها أجسادهم.
وكيفيةُ إحضار تلك الدراهم والدنانير لتُحمى من شئون الآخرة الخارقة للعادات المألوفة فبقدرة الله تحضر تلك الدنانير والدراهم أو أمثالها كما ورد في حديث مانع الزكاة في الموطأ والصحيحين أنّه يمثّل له ماله شُجاعًا أقرَع يأخذ بلهزمتيه يقول: «أنا مالك أنا كنزلك» وبقدرة الله يكوى الممتنعون من إنفاقها في سبيل الله، وإن كانت قد تداول أعيانَها خلقٌ كثير في الدنيا بانتقالها من يد إلى يد، ومن بلد إلى بلد، ومن عصَر إلى عصر.
وجملة {هذا ما كنزتم لأنفسكم} مقول قول محذوف، وحَذْف القول في مثله كثير في القرآن، والإشارة إلى المحمي، وزيادة قوله: {لأنفسكم} للتنديم والتغليظ ولام التعليل مؤذنة بقصد الانتفاع لأنّ الفعل الذي علّل بها هو من فعل المخاطب، وهو لا يفعل شيئًا لأجل نفسه إلاّ لأنّه يريد به راحتها ونفعها، فلمّا آل بهم الكنز إلى العذاب الأليم كانوا قد خابوا وخسروا فيما انتفعوا به من الذهب والفضة، بما كان أضعافًا مضاعفة من ألم العذاب وجملة {فذوقوا ما كنتم تكنزون} توبيخ وتنديم.
والفاء في {فذوقوا} لتفريع مضمون جملة التوبيخ على جملة التنديم الأولى.
والذوْق مجاز في الحسّ بعلاقة الإطلاق، وتقدم عند قوله تعالى: {ليذوق وبال أمره} في سورة العقود (95).
{وما كنتم تكنزون} مفعول لفعل الذوق على تقدير مضاف يعلم من المقام: أي ذوقوا عذابَ ما كنتم تكنزون.
وعُبِّر بالموصولية في قوله: {ما كنتم تكنزون} للتنبيه على غلطهم فيما كنزوا لقصد التنديم. اهـ.