فصل: قال صاحب المنار في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فالطغيان يمنع من وصول العبد إلى مقام رضوان الرحمن ويوقع في الخذلان والخسران ومنها أنه تعالى أوجب الزكاة وذلك سعي في تنقيص المال ولو كان تكثيره فضيلة لما سعى الشرع في تنقيصه.
فإن قيل: قال عليه الصلاة والسلام: «اليد العليا خير من اليد السفلى» أجيب: بأنّ اليد العليا إنما إفادته صفة الخيرية لأنه لما أعطى ذلك القليل تسبب أنه حصل في ماله ذلك النقصان القليل فحصل له الخيرية وبسبب أنه حصل للفقير بذلك الزيادة القليلة حصلت له المرجوحية.
فإن قيل: إنه تعالى ذكر شيئين وهما الذهب والفضة ثم قال: {ولا ينفقونها} فلم أفرد الضمير؟
أجيب: بأنّ الضمير راجع إلى المعنى دون اللفظ لأنّ كل واحد منهما جملة وافية وعدّة كثيرة ودنانير ودراهم فهو كقوله تعالى: {وإن طائفتان من المؤمنين اقتتلوا}.
وقيل: ذهب به إلى المكنوز، وقيل: إلى الأموال، وقيل: التقدير ولا ينفقون الفضة وحذف الذهب لأنه داخل في الفضة من حيث أنهما معًا يشتركان في ثمنية الأشياء أو أن ذكر أحدهما يغنى عن الآخر كقوله تعالى: {وإذا رأوا تجارة أو لهوًا انفضوا إليها} جعل الضمير للتجارة وقيل: التقدير والذهب كذلك كما أنّ قول القائل: فإني وقيار بها لغريب أي: وقيار كذلك.
فإن قيل: ما السبب في كونه خصهما بالذكر من سائر الأموال؟
أجيب: بأنهما خصا من دون سائر الأموال لأنهما أشرف الأموال وهما اللذان يقصدان بالكنز ومن كنزا عنده لم يعدم سائر أجناس المال فكان ذكر كنزهما دليلًا على ما سواهما ثم إنه تعالى لما ذكر من يكنز الذهب والفضة قال تعالى: {فبشرهم} أي: أخبرهم {بعذاب أليم} أي: مؤلم وعبر بالبشارة على سبيل التهكم.
{يوم يحمى عليها} أي: الكنوز بأن تدخل {في نار جهنم} فيوقد عليها {فتكوى} أي: تحرق {بها} أي: بهذه الأموال {جباههم وجنوبهم وظهورهم} قال ابن مسعود رضي الله عنه لا يوضع دينار على دينار ولا درهم على درهم ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم في موضع على حدته، وسئل أبو بكر الورّاق لم خصت الجباه والجنوب والظهور بالكي قال: لأنّ الغنيّ صاحب الكنز إذا رأى الفقير قبض جبهته وإذا جلس الفقير بجنبه تباعد عنه وولى عليه ظهره، وقيل: المعنى أنهم يكوون على الجهات الأربع أما من مقدمه فعلى الجبهة وأمّا من خلفه فعلى الظهر وأمّا من يمينه ويساره فعلى الجنبين، وقيل: لأنّ جمعهم وإمساكهم المال كان لطلب الوجاهة بالغنى والتنعم بالمطاعم الشهية والملابس البهية وعن أبي هريرة رضي الله عنه أنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدّي منها حقها إلا إذا كان يوم القيامة صفحة له صفائح من نار فأحمي عليها في نار جهنم فتكوى بها جبهته وجنبه وظهره كلما بردت عليه أعيدت له في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضى بين العباد فيرى سبيله إمّا إلى الجنة وإمّا إلى النار» وقوله تعالى: {هذا ما كنزتم} على إرادة القول أي: يقال لهم هذا ما كنزتم {لأنفسكم} أي: لمنفعتها وكان عين مضرتها وسبب تعذبيها {فذوقوا ما كنتم تكنزون} أي: تمنعون حقوق الله تعالى في أموالكم، وعن أبي ذر رضي الله عنه قال: انتهيت إلى النبيّ صلى الله عليه وسلم وهو جالس في ظل الكعبة فلما رآني قال: «هم الأخسرون ورب الكعبة» فقلت يا رسول الله فداك أبي وأمّي من هم قال: «هم؟ الأكثرون أموالًا إلا من قال هكذا وهكذا من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله وقليل ما هم». اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيتين:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ}
هَاتَانِ الْآيَتَانِ مُتَّصِلَتَانِ بِسِيَاقِ الْكَلَامِ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ مُتَمِّمَتَانِ لَهُ، وَمُقَرِّرَتَانِ لِمَوْعِظَةٍ عَامَّةٍ تَقْتَضِيهَا الْمُنَاسَبَةُ؛ ذَلِكَ بِأَنَّهُ تَقَدَّمَ فِي هَذَا السِّيَاقِ أَنَّ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى اتَّخَذُوا أَحْبَارَهُمْ وَرُهْبَانَهُمْ أَرْبَابًا مَنْ دُونِ اللهِ، وَأَنَّهُمْ مَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا إِلَهًا وَاحِدًا فَعَبَدُوا غَيْرَهُ مِنْ دُونِهِ، وَإِنَّهُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِئُوا نُورَ اللهِ الَّذِي أَفَاضَهُ عَلَى عِبَادِهِ بِرِسَالَةِ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم وَأَنَّ اللهَ لَا يُرِيدُ إِطْفَاءَهُ بَلْ يُرِيدُ إِتْمَامَهُ وَقَدْ فَعَلَ- فَنَاسَبَ أَنَّ يُبَيِّنَ مَعَ هَذَا شَيْئًا مِنْ سِيرَةِ جُمْهُورِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ الدِّينِيِّينَ الْعَمَلِيَّةِ؛ لِيَعْرِفَ الْمُسْلِمُونَ حَقِيقَةَ حَالِهِمْ، وَالْأَسْبَابَ الَّتِي تَحْمِلُهُمْ عَلَى مُحَاوَلَةِ إِطْفَاءِ نُورِ اللهِ تَعَالَى، وَأَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَعْبُدُونَ أَهْوَاءَهُمْ وَشَهَوَاتِهِمْ، وَذَلِكَ قَوْلُهُ عَزَّ وَجَلَّ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيرًا مِنَ الْأَحْبَارِ وَالرُّهْبَانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَيَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللهِ} اسْتَعْمَلَ أَكْلَ الْأَمْوَالِ بِمَعْنَى أَخْذِهَا، وَالتَّصَرُّفِ فِيهَا بِوُجُوهِ الِانْتِفَاعِ، الَّتِي يُعَدُّ مَا يُبْتَاعُ بِهَا لِلْأَكْلِ أَعَمَّ أَنْوَاعِ الِاسْتِعْمَالِ وَالتَّصَرُّفَاتِ، وَقَدْ تَقَدَّمَ مِثْلُ هَذَا التَّعْبِيرِ فِي قوله تعالى: {وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [2: 188] وَقوله تعالى: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ} [4: 29].
وَإِسْنَادُ هَذِهِ الْجَرِيمَةِ الْمُزْرِيَةِ إِلَى الْكَثِيرِينَ مِنْهُمْ دُونَ جَمِيعِهِمْ مِنْ دَقَائِقِ تَحَرِّي الْحَقِّ فِي عِبَارَاتِ الْكِتَابِ الْعَزِيزِ، فَهُوَ لَا يَحْكُمُ عَلَى الْأُمَّةِ الْكَبِيرَةِ بِفَسَادِ جَمِيعِ أَفْرَادِهَا أَوْ فِسْقِهِمْ أَوْ ظُلْمِهِمْ، بَلْ يُسْنِدُ ذَلِكَ إِلَى الْكَثِيرِ أَوِ الْأَكْثَرِ، أَوْ يُطْلِقُ اللَّفْظَ الْعَامَّ ثُمَّ يَسْتَثْنِي مِنْهُ، فَمِنَ الْأَوَّلِ: قَوْلُهُ تَعَالَى فِي الْيَهُودِ: {وَتَرَى كَثِيرًا مِنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ لَوْلَا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ} [5: 62- 63] وَمِنَ الثَّانِي: قَوْلُهُ تَعَالَى قَبْلَ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ فِيهِمْ: {قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللهِ وَمَا أُنْزِلَ إِلَيْنَا وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَأَنَّ أَكْثَرَكُمْ فَاسِقُونَ} [5: 59] وَمِنَ الثَّالِثِ: قَوْلُهُ فِي الْمُحَرِّفِينَ لِلْكَلِمِ الطَّاعِنِينَ فِي الْإِسْلَامِ مِنْهُمْ: {وَلَكِنْ لَعَنَهُمُ اللهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا} [4: 46] وَقَدْ نَبَّهْنَا فِي تَفْسِيرِ هَذِهِ الْآيَاتِ وَأَمْثَالِهَا عَلَى هَذَا الْعَدْلِ الدَّقِيقِ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ عَلَى الْبَشَرِ، وَإِنَّمَا نُكَرِّرُهُ لِعَظِيمِ شَأْنِهِ، وَذَكَرْنَا مِنْهُ هُنَا بَعْضَ مَا نَزَلَ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ، مِنْ قَبِيلِ تَفْسِيرِ الْقُرْآنِ بِالْقُرْآنِ.
وَالْمَعْنَى الْعَامُّ لِأَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ هُوَ أَخْذُهَا بِغَيْرِ وَجْهٍ شَرْعِيٍّ مِنَ الْوُجُوهِ الَّتِي يَبْذُلُ النَّاسُ فِيهَا هَذِهِ الْأَمْوَالَ بِحَقٍّ يَرْضَاهُ اللهُ عَزَّ وَجَلَّ وَهُوَ أَنْوَاعٌ: (مِنْهَا) مَا يَبْذُلُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ لِمَنْ يَعْتَقِدُونَ أَنَّهُ عَابِدٌ قَانِتٌ لِلَّهِ زَاهِدٌ فِي الدُّنْيَا؛ لِيَدْعُوَ لَهُمْ وَيَشْفَعَ لَهُمْ عِنْدَ اللهِ فِي قَضَاءِ حَاجَاتِهِمْ وَشِفَاءِ مَرْضَاهُمْ؛ لِاعْتِقَادِهِمْ أَنَّ اللهَ يَسْتَجِيبُ دُعَاءَهُ وَلَا يَرُدُّ شَفَاعَتَهُ- وَالدُّعَاءُ مَشْرُوعٌ دُونَ أَخْذِ الْمَالِ بِهِ أَوْ عَلَيْهِ، وَالرَّجَاءُ بِاسْتِجَابَتِهِ حَسَنٌ، وَاعْتِقَادُهُمْ بِالْجَزْمِ جَهْلٌ، أَوْ لِظَنِّهِمْ أَنَّ اللهَ تَعَالَى أَعْطَاهُ سُلْطَانًا وَتَصَرُّفًا فِي الْكَوْنِ فَهُوَ يَقْضِي الْحَاجَاتِ مِنْ دَفْعِ الضُّرِّ عَمَّنْ شَاءَ، وَجَلْبِ الْخَيْرِ لِمَنْ شَاءَ مَتَى شَاءَ، كَمَا هُوَ الْمَعْهُودُ مِنَ الْوَثَنِيِّينَ فِي الْأَصْلِ، وَمِمَّنْ طَرَأَتْ عَلَيْهِمُ الْعَقَائِدُ الْوَثَنِيَّةُ مِنْ أَتْبَاعِ الْأَنْبِيَاءِ عَلَيْهِمُ السَّلَامُ، وَتَأَوَّلَهَا لَهُمُ الرُّؤَسَاءُ الدِّينِيُّونَ الْمُضِلُّونَ بِأَنَّهَا لَا تُنَافِي التَّوْحِيدَ الَّذِي جَاءَ بِهِ الرُّسُلُ، وَقَدْ بَيَّنَّا فَسَادَ هَذِهِ النَّزَعَاتِ الشِّرْكِيَّةِ فِي مَوَاضِعَ كَثِيرَةٍ مِنْ هَذَا التَّفْسِيرِ، وَمِنْهُ أَنَّ غَيْرَ أَتْبَاعِ الرُّسُلِ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يَقُولُونَ بِمِثْلِ هَذِهِ الْأَقْوَالِ.
(وَمِنْهَا) مَا يَأْخُذُهُ سَدَنَةُ قُبُورِ الْأَنْبِيَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَالْمَعَابِدِ الَّتِي بُنِيَتْ بِأَسْمَائِهِمْ مِنَ الْهَدَايَا وَالنُّذُورِ، الَّتِي يَحْمِلُهَا إِلَى تِلْكَ الْمَوَاضِعِ أَمْثَالُ مَنْ ذَكَرْنَا مِمَّنْ لَا يَعْقِلُونَ مَعْنَى التَّوْحِيدِ الْمُجَرَّدِ وَالنَّصَارَى يَبْنُونَ الْكَنَائِسَ وَالْأَدْيَارَ بِأَسْمَاءِ الْقِدِّيسِينَ وَالْقِدِّيسَاتِ، فَتُحْبَسُ عَلَيْهَا الْأَرَاضِي وَالْعَقَارَاتُ، وَتُقَدَّمُ لَهَا النُّذُورُ وَالْهَدَايَا تَقَرُّبًا إِلَى تِلْكَ الْأَسْمَاءِ أَوِ الْمُسَمَّيَاتِ، وَهَذَا وَمَا قَبْلَهُ مِمَّا اتَّبَعَ الْمُسْلِمُونَ فِيهِ سَنَنَهُمْ شِبْرًا بِشِبْرٍ وَذِرَاعًا بِذِرَاعٍ، مِصْدَاقًا لِلْحَدِيثِ النَّبَوِيِّ الصَّحِيحِ، وَالْوَقْفُ عَلَى الدِّيرِ أَوِ الْكَنِيسَةِ عِنْدَهُمْ كَالْوَقْفِ عَلَى الْمَسْجِدِ عِنْدَنَا قُرْبَةٌ حَقِيقِيَّةٌ، فَأَخْذُ الْمَالِ وَإِعْطَاؤُهُ فِي بِنَاءِ الْمَعَابِدِ حَقٌّ فِي أَصْلِ كُلِّ دِينٍ سَمَاوِيٍّ، وَإِنَّمَا الْبِدَعُ الْوَثَنِيَّةُ فِي الْمَعَابِدِ هِيَ الْمُتَعَلِّقَةُ بِعِبَادَةِ مَنْ يُنْسَبُ إِلَيْهِ الْمَعْبَدُ، وَيُوضَعُ لَهُ فِيهِ قَبْرٌ أَوْ صُورَةٌ أَوْ تِمْثَالٌ فَيُدْعَى فِيهِ مَعَ اللهِ تَارَةً، وَمِنْ دُونِهِ تَارَةً، وَيُنْذَرُ لَهُ وَحْدَهُ آوِنَةً، وَمَعَ اللهِ آوِنَةً، فَهَذِهِ بِدَعٌ تَتَبَرَّأُ مِنْهَا أَدْيَانُ الْأَنْبِيَاءِ الْمُوحَاةُ إِلَيْهِمْ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ، وَالنَّفَقَةُ فِيهَا كُلُّهَا مِنَ الْبَاطِلِ، وَآكِلُوهَا مِنْ رُؤَسَاءِ الدِّينِ، وَسَدَنَةِ الْمَعَابِدِ مِنَ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ.
(وَمِنْهَا) مَا هُوَ خَاصٌّ بِالنَّصَارَى بَلْ بِبَعْضِ فِرَقِهِمْ كَالْأَرْثُوذُكْسِ وَالْكَاثُولِيكِ، وَهُوَ مَا يَأْخُذُونَهُ جُعْلًا عَلَى مَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ أَوْ ثَمَنًا لَهَا، وَيَتَوَسَّلُونَ إِلَيْهَا بِمَا يُسَمُّونَهُ سِرَّ الِاعْتِرَافِ، وَهُوَ أَنْ يَأْتِيَ الرَّجُلُ أَوِ الْمَرْأَةُ الْقِسِّيسَ أَوِ الرَّاهِبَ الْمَأْذُونَ لَهُ مِنَ الرَّئِيسِ الْأَكْبَرِ بِسَمَاعِ أَسْرَارِ الِاعْتِرَافِ، وَمَغْفِرَةِ الذُّنُوبِ فَيَخْلُو بِهِ أَوْ بِهَا؛ فَيَقُصُّ عَلَيْهِ الْخَاطِئُ مَا عَمِلَ مِنَ الْفَوَاحِشِ وَالْمُنْكَرَاتِ بِأَنْوَاعِهَا؛ لِأَجْلِ أَنْ يَغْفِرَهَا لَهُ؛ لِأَنَّ مِنْ عَقَائِدِ الْكَنِيسَةِ أَنَّ مَا يَغْفِرُهُ هَؤُلَاءِ يَغْفِرُهُ اللهُ تَعَالَى، وَقَدْ كَانَ لِبَيْعِ البَّابَوَاتِ لِلْغُفْرَانِ نِظَامٌ مُتَّبَعٌ فِي الْقُرُونِ الْوُسْطَى لِلنَّصْرَانِيَّةِ (أَعْنِي الْوُسْطَى فِي الزَّمَنِ لَا فِي الِاعْتِدَالِ) وَكَانَ الثَّمَنُ يَتَفَاوَتُ بِقَدْرِ ثَرْوَةِ الْمُشْتَرِينَ مِنَ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ وَالنُّبَلَاءِ وَكِبَارِ الْأَغْنِيَاءِ فَمَنْ دُونَهُمْ، وَكَانُوا يُعْطُونَ بِالْمَغْفِرَةِ صُكُوكًا يَحْمِلُونَهَا؛ لِيَلْقَوُا اللهَ تَعَالَى بِهَا، وَكَانَ هَذَا الْخَطْبُ الْكَبِيرُ مِنْ غُلُوِّ الْكَاثُولِيكِ فِي اسْتِغْلَالِ سُلْطَتِهِمُ الدِّينِيَّةِ أَعْظَمَ أَسْبَابِ الْخُرُوجِ عَلَيْهِمْ، وَالِانْقِلَابِ الْكَبِيرِ الَّذِي يُسَمُّونَهُ الْإِصْلَاحَ (الْبُرُوتِسْتَانْتَ) إِذْ تَرَتَّبَ عَلَيْهِ فَسَادٌ كَبِيرٌ فِي اسْتِبَاحَةِ الْفَوَاحِشِ وَكَبَائِرِ الْمَعَاصِي. وَالِاعْتِرَافُ فِي الْأَصْلِ لَمْ يُوضَعْ لَهُ ثَمَنٌ، وَلَكِنَّ سُوءَ اسْتِعْمَالِ بَعْضِ رِجَالِ الدِّينِ لَهُ أَغْرَاهُمْ بِجَعْلِهِ وَسِيلَةً لِسَلْبِ الْمَالِ، وَفِي الْقَوَانِينِ السِّرِّيَّةِ لِبَعْضِ الرَّهْبَنَاتِ الْكَاثُولِيكِيَّةِ مَوَادُّ صَرِيحَةٌ فِي ذَلِكَ.
(وَمِنْهَا) مَا يُؤْخَذُ عَلَى فَتَاوَى تَحْلِيلِ الْحَرَامِ وَتَحْرِيمِ الْحَلَالِ، فَأُولُو الْمَطَامِعِ وَالْأَهْوَاءِ يُفْتُونَ الْمُلُوكَ وَالْأُمَرَاءَ وَكِبَارَ الْأَغْنِيَاءِ بِمَا يُسَاعِدُهُمْ عَلَى إِرْضَاءِ شَهَوَاتِهِمْ، وَالِانْتِقَامِ مِنْ أَعْدَائِهِمْ، أَوْ ظُلْمِ رَعَايَاهُمْ وَمُعَامِلِيهِمْ، بِضُرُوبٍ مِنَ الْحِيَلِ وَالتَّأْوِيلِ يُصَوِّرُونَ بِهِ النَّوَازِلَ بِغَيْرِ صُوَرِهَا، وَيُلْبِسُونَ بِهِ الْمَسَائِلَ أَثْوَابًا مِنَ الزُّورِ تَلْتَبِسُ بِحَقِيقَتِهَا، وَفِي الْمَادَّةِ الثَّانِيَةِ مِنَ الْفَصْلِ الثَّانِي مِنَ التَّعَالِيمِ السِّرِّيَّةِ لِلرَّهْبَنَةِ الْمُشَارِ إِلَيْهَا آنِفًا وُجُوبُ التَّسَاهُلِ مَعَ الْمُلُوكِ وَعَشَائِرِهِمْ فِي الزَّوَاجِ غَيْرِ الشَّرْعِيِّ، وَغُفْرَانِ أَمْثَالِ هَذِهِ الْخَطِيئَةِ وَغَيْرِهَا لَهُمْ، وَاسْتِخْرَاجِ بَرَاءَةٍ مِنَ الْبَابَا لَهُمْ بِالْمَغْفِرَةِ. بَلْ فِي تِلْكَ الْمَادَّةِ نَصٌّ فِي وُجُوبِ التَّسَاهُلِ فِي الِاعْتِرَافِ وَالْمَغْفِرَةِ حَتَّى لِخَدَمِ الْمُلُوكِ وَالْأُمَرَاءِ.
وَمِنْ هَذَا النَّوْعِ مَا خَاطَبَ اللهُ تَعَالَى بِهِ أَحْبَارَ الْيَهُودِ خِطَابَ الِاحْتِجَاجِ وَالتَّوْبِيخِ بِقوله تعالى: {قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ} [6: 91].
(وَمِنْهَا): مَا يَتَيَسَّرُ لَهُمْ سَلْبُهُ مِنْ أَمْوَالِ الْمُخَالِفِينَ لَهُمْ فِي جِنْسِهِمْ أَوْ دِينِهِمْ مِنْ خِيَانَةٍ وَسَرِقَةٍ وَغَيْرِهَا كَمَا قَالَ- تَعَالَى-: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَمِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينَارٍ لَا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلَّا مَا دُمْتَ عَلَيْهِ قَائِمًا ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَالُوا لَيْسَ عَلَيْنَا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَيَقُولُونَ عَلَى اللهِ الْكَذِبَ وَهُمْ يَعْلَمُونَ} [3: 75] يَعْنُونَ أَنَّ اللهَ حَرَّمَ عَلَيْهِمْ أَكْلَ أَمْوَالِ إِخْوَانِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ بِالْبَاطِلِ دُونَ الْأُمِّيِّينَ وُهُمُ الْعَرَبُ وَكَذَا سَائِرُ الطَّوَائِفِ، وَقَدْ سَبَقَ تَفْسِيرُهُ مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ، وَفِي هَؤُلَاءِ يَقُولُ الْبُوصِيرِيُّ فِي سَرْدِ مَا خَالَفَ الْيَهُودُ فِيهِ الْحَقَّ وَادَّعَوْا أَنَّهُ مَشْرُوعٌ لَهُمْ: وَبِأَنَّ أَمْوَالَ الطَّوَائِفِ حُلِّلَتْ لَهُمُ رِبًا وَخِيَانَةً وَغُلُولَا. (وَمِنْهَا) الرِّشْوَةُ وَهُوَ مَا يَأْخُذُهُ صَاحِبُ السُّلْطَةِ الدِّينِيَّةِ أَوِ الْمَدَنِيَّةِ رَسْمِيَّةً أَوْ غَيْرَ رَسْمِيَّةٍ مِنَ الْمَالِ وَغَيْرِهِ؛ لِأَجْلِ الْحُكْمِ أَوِ الْمُسَاعَدَةِ عَلَى إِبْطَالِ حَقٍّ، أَوْ إِحْقَاقِ بَاطِلٍ هُوَ فِي مَعْنَى الْأَخْذِ عَلَى الْفَتْوَى، وَهُمَا مِمَّا اتَّبَعَ فِيهِ بَعْضُ فُقُهَاءِ الْمُسْلِمِينَ وَحُكَّامُهُمْ سُنَنَ أَهْلِ الْكِتَابِ أَيْضًا. (وَمِنْهَا) الرِّبَا حَتَّى الْفَاحِشُ مِنْهُ، وَهُوَ فَاشٍ عِنْدَ الْيَهُودِ وَالنَّصَارَى، وَلَكِنَّهُ مِنْهُ مَا يُحِلُّهُ لَهُمْ رِجَالُ الدِّينِ، وَمِنْهُ مَا يُحَرِّمُونَهُ فِي الْفَتْوَى وَكُتُبِ الشَّرْعِ، وَالْيَهُودُ أَسَاتِذَةُ الْمُرَابِينَ فِي الْعَالَمِ كُلِّهِ، وَأَحْبَارُهُمْ يُفْتُونَهُمْ بِأَكْلِ الرِّبَا مِنْ غَيْرِ إِخْوَانِهِمُ الْإِسْرَائِيلِيِّينَ، وَيَأْكُلُونَهُ مَعَهُمْ مُسْتَحِلِّينَ لَهُ بِنَصٍّ فِي تَوْرَاتِهِمُ الْمَحَرَّفَةِ بَدَلًا مِنْ نَهْيِهِمْ عَنْهُ. وَقَدْ تَكَرَّرَ فِي التَّوْرَاةِ النَّهْيُ عَنْ أَخْذِ الرِّبَا وَالْمُرَابَحَةِ وَإِقْرَاضِ النَّقْدِ وَالطَّعَامِ بِالرِّبَا مُطْلَقًا، وَذِكْرُ الْأَخِ فِي نُصُوصِ النَّهْيِ سَبَبُهُ أَنَّهُ نَصٌّ فِي الْمُعَامَلَةِ مَعَ الْخَاضِعِينَ لِشَرِيعَتِهِمْ وَهُمْ لَا يَكُونُونَ إِلَّا مِنْهُمْ؛ لِأَنَّهَا خَاصَّةٌ بِهِمْ. وَفِي سِفْرِ تَثْنِيَةِ الِاشْتِرَاعِ (23: 19: لَا تُقْرِضْ أَخَاكَ بِرِبَا فِضَّةٍ أَوْ رِبَا طَعَامٍ أَوْ رِبَا شَيْءٍ مِمَّا يُقْرَضُ بِرِبًا 20 لِلْأَجْنَبِيِّ تُقْرِضُ بِرَبًا وَلَكِنْ لِأَخِيكَ لَا تُقْرِضْ بِرِبًا لِكَيْ يُبَارِكَكَ الرَّبُّ إِلَهُكَ فِي كُلِّ مَا تَمْتَدُّ إِلَيْهِ يَدُكَ فِي الْأَرْضِ الَّتِي أَنْتَ دَاخِلٌ إِلَيْهَا لِتَمْتَلِكَهَا) فَالْمُرَادُ بِالْأَجْنَبِيِّ هُنَا إِنْ كَانَ مِنَ الْأَصْلِ هُوَ الْعَدُوُّ الْحَرْبِيُّ الَّذِي كَانُوا مَأْذُونِينَ فِي شَرِيعَتِهِمْ بِقِتَالِهِ لِامْتِلَاكِ بِلَادِهِ، وَهَذَا قَدْ مَضَى وَلَا يَصْدُقُ عَلَى كُلِّ مَنْ كَانَ غَيْرَ إِسْرَائِيلِيٍّ فِي أَيِّ بَلَدٍ مِنْ بِلَادِ اللهِ- تَعَالَى- خِلَافًا لِمَا يَجْرُونَ عَلَيْهِ إِلَى الْيَوْمِ، وَالظَّاهِرُ أَنَّهُمْ يُعِدُّونَ عَرَبَ فِلَسْطِينَ الْمَالِكِينَ لِمُعْظَمِ أَرْضِهَا أَعْدَاءً حَرْبِيِّينَ كَالَّذِينَ كَانُوا فِيهَا عِنْدَ مُقَاتَلَةِ يُوشَعَ لَهُمْ، وَيَسْتَحِلُّونَ سَلْبَ أَمْوَالِهِمْ وَسَفْكَ دِمَائِهِمْ إِنِ اسْتَطَاعُوا؛ لِأَنَّهُمْ يَزْعُمُونَ أَنَّ أَنْبِيَاءَهُمْ وَعَدُوهُمْ بِأَنَّ هَذِهِ الْبَلَادَ كُلَّهَا وَمَا فِيهَا مِنْ مَوْضِعِ هَيْكَلِ سُلَيْمَانَ سَتَعُودُ إِلَيْهِمْ، كَمَا وَعَدَ الرَّبُّ أَجْدَادَهُمْ مِنْ قَبْلُ بِجَعْلِهَا لَهُمْ، وَلَكِنْ وَعْدُ أَنْبِيَائِهِمْ مُقَيَّدٌ بِإِتْيَانِ الْمَسِيحِ، وَقَدْ أَتَى وَكَذَّبَهُ أَكْثَرُهُمْ، فَإِنْ كَانُوا يَنْتَظِرُونَ غَيْرَهُ، فَلْيَصْبِرُوا إِلَى أَنْ يَأْتِيَ وَيُصَدِّقَ بِشَارَاتِ الْأَنْبِيَاءِ، وَأَمَّا التَّعَدِّي عَلَى أَهْلِ الْبِلَادِ وَمُحَاوَلَةُ سَلْبِ أَرْضِهِمْ وَعَقَارِهِمْ مِنْهُمْ بِتْسَخِيرِ بَعْضِ الدُّوَلِ الَّتِي تَعْبُدُ الْمَالَ بِمَالِهِمْ لِمُسَاعَدَتِهِمْ عَلَى هَذَا الظُّلْمِ، فَلَيْسَ لَهُ شُبْهَةٌ فِي تِلْكَ الْبِشَارَاتِ. وَلَكِنْ عِنْدَ الْمُسْلِمِينَ بِشَارَةٌ أَصَحُّ وَأَصْرَحُ مِنْ بِشَارَاتِهِمْ، وَإِخْبَارِهِ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ بِأَنَّ الْيَهُودَ يُقَاتِلُونَهُمْ فَيُظْهِرُهُمُ اللهُ- تَعَالَى- عَلَيْهِمْ.. {وَانْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ} [11: 122]. عَلَى أَنَّ الْيَهُودَ لَمْ يَقِفُوا فِي الرِّبَا عِنْدَ حَدٍّ، فَقَدْ صَارُوا يَأْكُلُونَ الرِّبَا مِنْ إِخْوَانِهِمُ الْفُقَرَاءِ وَهُمْ مَنْهِيُّونَ فِي التَّوْرَاةِ عَنْهُ بِلَفْظِ شَعْبِي الْفَقِيرُ؛ كَمَا يُرَى فِي سِفْرِ الْخُرُوجِ [22: 25]، وَقَدْ وَبَّخَهُمْ عَلَى ذَلِكَ نِحِمْيَا الَّذِي كَانَ صَاحِبَ السَّعْيِ الْأَوَّلِ لِإِطْلَاقِهِمْ مِنَ السَّبْيِ، وَالْمُعِيدَ لِبِنَاءِ أُورْشَلِيمَ بَعْدَ خَرَابِهَا، وَالْحَاكِمَ فِيهَا وَالْمُقِيمَ لِلسَّبْتِ، وَسَائِرِ الشَّرَائِعِ الَّتِي كَتَبَهَا لَهُمْ رَفِيقُهُ الْعُزَيْزُ (عِزْرَا) كَمَا تَقَدَّمَ فِي تَفْسِيرِ {وَقَالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللهِ} [30] مِنْ أَوَّلِ هَذَا السِّيَاقِ، فَرَاجِعِ الْفَصْلَ الْخَامِسَ مِنْ سِفْرِ نِحِمْيَا، وَفِي نُبُوَّةِ حِزْقِيَالَ نَهْيٌ لَهُمْ عَنِ الرِّبَا تَارَةً بِالْإِطْلَاقِ، وَتَارَةً بِتَخْصِيصِ الْفَقِيرِ، كَمَا تَرَى فِي الْإِصْحَاحِ 18 مِنْهُ، وَكَذَلِكَ دَاوُدُ عَلَيْهِ السَّلَامُ أَطْلَقَ الْقَوْلَ فِي ذَمِّ الرِّبَا وَالرِّشْوَةِ فِي آخِرِ الْمَزْمُورِ الْخَامِسَ عَشَرَ. وَأَمَّا النَّصَارَى: فَقَدْ وَضَعَ لَهُمُ الْأَسَاقِفَةُ أَحْكَامًا لِلرِّبَا، وَالْقُرُوضِ فِيمَا يُسَمُّونَهُ اللَّاهُوتَ، وَلَيْسَ مِنْ مَوْضُوعِنَا بَيَانُ هَذَا بِالتَّفْصِيلِ، وَإِنَّمَا مَوْضُوعُنَا أَنَّ الرِّبَا الْمُحَرَّمَ عِنْدَ اللهِ- تَعَالَى- عَلَى أَلْسِنَةِ أَنْبِيَائِهِ لِضَرَرِهِ، مِمَّا يَأْكُلُهُ رُهْبَانُهُمْ أَفْرَادًا وَجَمَاعَاتٍ، وَأَنَّ لِبَعْضِ رُهْبَانَاتِهِمْ جَمْعِيَّاتٍ غَنِيَّةً مُعْظَمُ ثَرْوَتِهَا مِنَ الرِّبَا مِنْهَا جَمْعِيَّةٌ كَانَتْ قَدْ أَسَّسَتْ بِأَرْضِ فَرَنْسَةَ مَصْرِفًا مَالِيًّا (بَنْكًا) جَمَعُوا فِيهِ مِنَ الْأَمَانَاتِ أُلُوفَ الْأُلُوفِ، ثُمَّ ادَّعَوْا إِفْلَاسَهُ فَضَاعَتْ تِلْكَ الْأَمَانَاتُ الْكَثِيرَةُ عَلَى مُودِعِيهَا فِي مَصْرِفِهِمْ، فَهَاجَ عَلَيْهِمُ النَّاسُ هَيْجَةً شُؤْمَى فَكَانُوا يَهْجِمُونَ عَلَيْهِمْ فِي أَدْيَارِهِمْ، وَيُقَتِّلُونَهُمْ تَقْتِيلًا، ثُمَّ طَرَدَتْهُمْ فَرَنْسَةُ مِنْ بِلَادِهَا، وَإِنَّمَا تُسَاعِدُهُمْ فِي مُسْتَعْمَرَاتِهَا وَغَيْرِهَا مِنْ بِلَادِ الشَّرْقِ لِتَرْوِيجِهِمْ لِسِيَاسَتِهَا. وَقَدِ اطَّلَعْتُ عَلَى نِظَامٍ فِي الطُّرُقِ الْخَفِيَّةِ الَّتِي يَجْمَعُونَ بِهَا الْأَمْوَالَ مِنْ أَهْلِ دِينِهِمْ وَمَذْهَبِهِمْ وَمِنْ أَهَمِّهَا حَمْلُ الْأَغْنِيَاءِ وَلاسيما الْمُثْرِيَاتُ مِنَ النِّسَاءِ عَلَى الْوَصِيَّةِ لِجَمْعِيَّتِهِمْ أَوْ بَعْضِ أَدْيَارِهِمْ وَكَنَائِسِهِمْ، أَوِ الْوَقْفِ عَلَيْهَا مِمَّا لَا حَاجَةَ فِي هَذَا التَّفْسِيرِ إِلَى تَفْصِيلِهِ. وَحَسْبُنَا مَا ذَكَرْنَاهُ فِي بَيَانِ صِدْقِ كِتَابِ اللهِ- تَعَالَى- وَهُوَ مَا حَضَرَ فِي الذِّهْنِ وَخَطَرَ فِي الْبَالِ عِنْدَ الْكِتَابَةِ مِمَّا عَلِمْنَاهُ مِنَ التَّارِيخِ، وَكُلُّهُ حَقٌّ وَإِنْ فَاتَ أَكْثَرُهُ جَمِيعَ مَنْ عَرَفْنَا كُتُبَهُمْ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ؛ لِأَنَّهُمْ لَا يَسْتَمِدُّونَ مِثْلَ هَذَا إِلَّا مِنَ الرِّوَايَاتِ وَالْإِسْرَائِيلِّيَّاتِ، فَعَلَى الْقَارِئِ أَنْ يَعْتَبِرَ بِهِ، وَيَعْجَبَ مِنْ وَقَاحِةِ أَمْثَالِ هَؤُلَاءِ الرُّؤَسَاءِ، كَيْفَ لَا يَخْجَلُونَ مِنْ بَثِّ الدُّعَاةِ فِي الْبِلَادِ الْإِسْلَامِيَّةِ لِدَعْوَةِ الْمُسْلِمِينَ إِلَى دِينِهِمْ، وَمَنْ أَرَادَ التَّفْصِيلَ فِي الرَّدِّ عَلَيْهِمْ فَلْيَرْجِعْ إِلَى كُتُبِ أَحْرَارِ أُورُبَّةَ وَالْكُتُبِ الَّتِي يَرُدُّ بِهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ، وَكُلُّ هَذَا الْفَسَادِ الَّذِي طَرَأَ عَلَى دِينِ الْمَسِيحِ الْحَقِّ فَهُوَ مِنْ غُلُوِّ أَهْلِ أُورُبَّةَ فِي الدِّينِ، ثُمَّ فِي الْكُفْرِ وَالتَّعْطِيلِ، فَهُمْ غُلَاةٌ مُسْرِفُونَ فِي كُلِّ شَيْءٍ، وَصَاحِبُ هَذَا الْخُلُقِ يُتْقِنُ كُلَّ مَا يَأْخُذُ بِهِ مِنْ خَيْرٍ وَشَرٍّ؛ لِأَنَّهُ لَا يَرْضَى مِنْهُ بِمَا دُوْنَ غَايَتِهِ، وَمِنْ ثَمَّ أَتْقَنَتْ رَهْبَنَاتُهُمْ جَمْعَ الْمَالِ ثُمَّ أَتْقَنَتِ الِانْتِفَاعَ بِهِ فِي دِينِهَا التَّقْلِيدِيِّ وَدُنْيَاهَا، وَأَخَذَتْ رَهْبَنَاتُ الشَّرْقِ النِّظَامَ عَنْهَا، وَمَاذَا فَعَلَ الْمُسْلِمُونَ فِي أَوْقَافِهِمْ وَخِدْمَةِ دِينِهِمْ؟؟.