فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَمِنْ أَخْبَارِهِ مَا رَوَاهُ الْبُخَارِيُّ وَمُسْلِمٌ عَنِ الْأَحْنَفِ بْنِ قَيْسٍ قَالَ: جَلَسْتُ إِلَى مَلَأٍ مِنْ قُرَيْشٍ، فَجَاءَ رَجُلٌ خَشِنُ الشَّعْرِ وَالثِّيَابِ وَالْهَيْئَةِ، حَتَّى قَامَ عَلَيْهِمْ فَسَلَّمَ ثُمَّ قَالَ: بَشِّرِ الْكَافِرِينَ بِرَضْفٍ يُحْمَى عَلَيْهِمْ فِي نَارِ جَهَنَّمَ، ثُمَّ يُوضَعُ عَلَى حَلَمَةِ ثَدْيِ أَحَدِهِمْ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ نُغْضِ كَتِفِهِ، وَيُوضَعَ عَلَى نُغْضِ كَتِفِهِ حَتَّى يَخْرُجَ مِنْ حَلَمَةِ ثَدْيِهِ يَتَزَلْزَلُ، ثُمَّ وَلَّى فَتَبِعْتُهُ وَجَلَسْتُ إِلَيْهِ وَأَنَا لَا أَدْرِي مَنْ هُوَ، فَقُلْتُ: لَا أَرَى الْقَوْمَ إِلَّا قَدْ كَرِهُوا الَّذِي قُلْتَ. قَالَ: إِنَّهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا: قَالَ لِي خَلِيلِي- قَالَ قُلْتُ: وَمَنْ خَلِيلُكَ؟ قَالَ: النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَا أَبَا ذَرٍّ أَتُبْصِرُ أَحَدًا»؟ قَالَ: فَنَظَرْتُ إِلَى الشَّمْسِ مَا بَقِيَ مِنَ النَّهَارِ وَأَنَا أَرَى أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُرْسِلُنِي فِي حَاجَةٍ لَهُ قُلْتُ- نَعَمْ، قَالَ: «مَا أُحِبُّ أَنَّ لِي مِثْلَ أَحَدٍ ذَهَبًا أُنْفِقُهُ كُلُّهُ إِلَّا ثَلَاثَةَ دَنَانِيرَ» وَإِنَّ هَؤُلَاءِ لَا يَعْقِلُونَ إِنَّمَا يَجْمَعُونَ الدُّنْيَا، وَلَا وَاللهِ مَا أَسْأَلُهُمْ دُنْيَا وَلَا أَسْتَفْتِيهِمْ عَنْ دِينٍ حَتَّى أَلْقَى الله عَزَّ وَجَلَّ. اهـ.
أَقُولُ: إِنَّ هَذَا الْحَدِيثَ لَا يَدُلُّ عَلَى وُجُوبِ إِنْفَاقِ كُلِّ مَا زَادَ عَلَى الْحَاجَةِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الزُّهْدِ فِي الْمَالِ- وَإِنَّمَا الزُّهْدُ مِنْ صِفَاتِ النَّفْسِ. وَتَفْضِيلِ إِنْفَاقِهِ فِي وُجُوهِ الْبِرِّ عَلَى إِمْسَاكِ مَا فَضَلَ عَنِ الْحَاجَةِ وَهُوَ عَزِيمَةِ الْخَوَاصِّ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ عِيَالٌ لَا الْمَشْرُوعُ لِكُلِّ النَّاسِ، فَإِنَّ نُصُوصَ الْكِتَابِ وَالسُّنَّةِ تُنَافِي إِنْفَاقَ كُلِّ مَا يَمْلِكُ الْمَرْءَ كَمَا تَقَدَّمَ، وَتَأْمُرُ بِالْقَصْدِ وَالِاعْتِدَالِ، فَمِنَ الْآيَاتِ قوله تعالى: {وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا} [25: 67] و{وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُومًا مَحْسُورًا} [17: 29]، وَمِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ الْمَشْهُورَةِ حَدِيثُ نَهْيِهِ صلى الله عليه وسلم لِسَعْدِ بْنِ أَبِي وَقَّاصٍ رضي الله عنه عَنِ التَّصَدُّقِ بِجَمِيعِ مَالِهِ وَإِجَازَتِهِ بِالثُّلُثِ مَعَ قَوْلِهِ: «وَالثُّلُثُ كَثِيرٌ».
وَقَدْ أَخْرَجَ أَحْمَدُ وَالطَّبَرَانِيُّ عَنْ شَدَّادِ بْنِ أَوْسٍ قَالَ: كَانَ أَبُو ذَرٍّ رضي الله عنه يَسْمَعُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْأَمْرَ فِيهِ الشِّدَّةُ، ثُمَّ يَخْرُجُ إِلَى بَادِيَتِهِ، ثُمَّ يُرَخِّصُ فِيهِ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ ذَلِكَ، فَيُحْفَظُ مِنْ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي ذَلِكَ الْأَمْرِ الرُّخْصَةَ، فَلَا يَسْمَعُهَا أَبُو ذَرٍّ، فَيَأْخُذُ أَبُو ذَرٍّ بِالْأَمْرِ الْأَوَّلِ الَّذِي سَمِعَ قَبْلَ ذَلِكَ. اهـ.
وَالسَّبَبُ الْحَقِيقِيُّ لِتَشَدُّدِهِ اسْتِعْدَادُهُ الْفِطْرِيُّ لِلْأَخْذِ بِالْعَزَائِمِ، وَاحْتِمَالِ الشَّدَائِدِ، وَاحْتِقَارِ التَّنَعُّمِ، وَالسَّعَةِ فِي الدُّنْيَا، وَعُرِفَ هَذَا التَّشَدُّدُ عَنْ أَفْرَادٍ مِنَ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَنَهَاهُمْ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم وَقَدِ اخْتَبَرَهُ مُعَاوِيَةُ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ مَالًا كَثِيرًا، فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ تَصَدَّقَ بِهِ، وَأَرْسَلَ إِلَيْهِ صُهَيْبُ بْنُ سَلَمَةَ، وَهُوَ أَمِيرٌ بِالشَّامِ ثَلَاثَمِائَةِ دِينَارٍ، وَقَالَ: اسْتَعِنْ بِهَا عَلَى حَاجَتِكَ، فَرَدَّهَا، وَقَالَ لِرَسُولِهِ: ارْجِعْ بِهَا إِلَيْهِ، أَمَا وَجَدَ أَحَدًا أَغَرَّ بِاللهِ مِنَّا؟ مَا لَنَا إِلَّا الظِّلُّ نَتَوَارَى بِهِ، وَثَلَاثَةٌ مِنْ غَنَمٍ تَرُوحُ عَلَيْنَا، وَمَوْلَاةٌ لَنَا تَصَّدَّقُ عَلَيْنَا بِخِدْمَتِهَا، ثُمَّ إِنِّي لَأَنَا أَتَخَوَّفُ الْفَضْلَ. قَوْلُهُ: تَصَّدَّقُ عَلَيْنَا أَصْلُهُ تَتَصَدَّقُ، فَحُذِفَتْ إِحْدَى التَّاءَيْنِ لِلتَّخْفِيفِ، وَقَدْ أَطَلْتُ فِي هَذِهِ الْمَسْأَلَةِ لِمَا فِيهَا مِنَ الْعِبْرَةِ فِي هَذِا الْمَقَامِ، وَالْفَصْلِ بَيْنَ اعْتِدَالِ الشَّرِيعَةِ، وَغُلُوِّ بَعْضِ الزُّهَّادِ، وَالتَّذْكِيرِ بِأَنَّهُ قَدْ قَلَّ فِي الْمُسْلِمِينَ الزُّهَّادُ وَالْمُقْتَصِدُونَ، وَكَثُرَ فِيهِمُ الْبُخَلَاءُ وَالْمُسْرِفُونَ، الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِمَالِهِمْ، وَلَا يُصْلِحُونَ.
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ}: الظَّرْفُ هُنَا يَتَعَلَّقُ بِقَوْلِهِ- تَعَالَى- قَبْلَهُ: {بِعَذَابٍ أَلِيمٍ}، وَقَدْ بَيَّنَّا مِنْ قَبْلُ أَنَّ الْأَصْلَ فِي الْبِشَارَةِ الْخَبَرُ الْمُؤَثِّرُ يَظْهَرُ تَأْثِيرُهُ فِي بَشْرَةِ الْوَجْهِ بِالسُّرُورِ، أَوِ الْكَآبَةِ وَلَكِنْ غَلَبَ فِي الْأَوَّلِ، وَلِذَلِكَ يُحْمَلُ فِي مِثْلِ هَذَا الْمَقَامِ عَلَى آلِهَتِكُمْ، وَالْمُرَادُ بِهِ الْإِنْذَارُ، أَيْ أَخْبِرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ يُصِيبُهُمْ فِي ذَلِكَ الْيَوْمِ الَّذِي يُحْمَى فِيهِ عَلَى تِلْكَ الْأَمْوَالِ الْمَكْنُوزَةِ فِي نَارِ جَهَنَّمَ أَيْ دَارِ الْعَذَابِ، بِأَنْ تُوضَعَ وَتُضْرَمَ عَلَيْهَا النَّارُ الْحَامِيَةُ حَتَّى تَصِيرَ مِثْلَهَا؛ فَهُوَ كَقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ} [13: 17] وَهُوَ أَبْلَغُ مِنْ يَوْمَ تُحْمَى فَتَكُونُ مِنَ الْإِحْمَاءِ عَلَيْهَا كَالْمَيْسَمِ، وَظَاهِرُ الْعِبَارَةِ أَنَّهُ يُحْمَى عَلَيْهَا بِأَعْيَانِهَا وَاللهُ قَادِرٌ عَلَى إِعَادَتِهَا، وَإِنْ كَانَ الْمَعْنَى الْمُرَادُ مِنَ الْإِنْذَارِ يَحْصُلُ بِالْإِحْمَاءِ عَلَيْهَا، وَعَلَى مِثْلِهَا، وَلَيْسَ فِي أَعْيَانِهَا مِنَ الْمَعْنَى وَلَا الْحِكْمَةِ مَا فِي إِعَادَةِ الْأَجْسَادِ، وَأُمُورِ الْآخِرَةِ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ فَلَا نُدْرِكُ كُنْهَهَا وَصِفَاتِهَا مِنَ الْأَلْفَاظِ الْمُعَبِّرَةِ عَنْهَا، فَمَذْهَبُ السَّلَفِ الْحَقِّ: الْإِيمَانُ بِالنُّصُوصِ مَعَ تَفْوِيضِ أَمْرِ الْكُنْهِ، وَالصِّفَةِ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ سُبْحَانَهُ، وَالْوَاجِبُ عَلَيْنَا- مَعَ الْإِيمَانِ بِالنَّصِّ- الْعِبْرَةُ الْمُرَادَةُ مِنْهُ فِي إِصْلَاحِ النَّفْسِ.
وَيُرَدُّ عَلَيْهِ أَنَّ هَذِهِ الْأَمْوَالَ تَفْنَى بِخَرَابِ الدُّنْيَا، وَصَيْرُورَةِ الْأَرْضِ بِقِيَامِ السَّاعَةِ هَبَاءً مُنْبَثًا، وَيُجَابُ عَنْهُ بِمَا أُجِيبَ عَنِ الْقَوْلِ بِإِعَادَةِ الْأَجْسَادِ بِأَعْيَانِهَا مِنْ قُدْرَةِ اللهِ- تَعَالَى- عَلَى ذَلِكَ، وَأَهْوَنُ مِنْهُ إِيرَادُ كَوْنِ الدِّرْهَمِ أَوِ الدِّينَارِ الْوَاحِدِ قَدْ يَكْنِزُهُ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ بِالتَّدَاوُلِ، وَقَدْ يُقَالُ إِنَّهُمْ جَسَدًا لِكَثِيرٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْحِيتَانِ وَالْوُحُوشِ وَالْأَنْعَامِ، وَتَقَدَّمَ تَفْصِيلُ هَذَا فِي الْكَلَامِ عَلَى بَعْثِ الْأَجْسَادِ مِنْ سُورَةِ الْأَعْرَافِ. وَفِي بَعْضِ الْآثَارِ أَنَّ الدَّنَانِيرَ وَالدَّرَاهِمَ الْمَكْنُوزَةَ تُحْمَى كُلُّهَا وَإِنْ كَثُرَتْ وَيَتَّسِعُ جَسَدُهُ لَهَا كُلِّهَا حَتَّى لَا يُوضَعَ دِينَارٌ مَكَانَ دِينَارٍ، وَلَمْ يَصِحَّ هَذَا مَرْفُوعًا، وَإِنَّمَا صَحَّ عِنْدَ مُسْلِمٍ مِنْ حَدِيثِ أَبِي هُرَيْرَةَ مَرْفُوعًا: «مَا مِنْ رَجُلٍ لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ إِلَّا جُعِلَ لَهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ صَفَائِحُ مِنْ نَارٍ فَيُكْوَى بِهَا جَنْبُهُ وَجَبْهَتُهُ وَظَهْرُهُ» الْحَدِيثَ.
وَالصَّفائِحُ غَيْرُ الدَّرَاهِمِ وَالدَّنَانِيرِ، وَهِيَ بِالرَّفْعِ نَائِبُ الْفَاعِلِ لِجُعِلَ فَيَجُوزُ أَنْ تَكُونَ مِمَّا يَخْلُقُهُ اللهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَرِوَايَةُ الرَّفْعِ هِيَ الْمَشْهُورَةُ. قَالَ الشُّرَّاحُ وَفِي رِوَايَةٍ بِالنَّصْبِ، وَفِي الْبُخَارِيِّ وَالنَّسَائِيِّ عَنْهُ مَرْفُوعًا أَيْضًا: «مَنْ آتَاهُ اللهُ مَالًا فَلَمْ يُؤَدِّ زَكَاتَهُ مُثِّلَ شُجَاعٌ أَقْرَعُ لَهُ زَبِيبَتَانِ يُطَوَّقُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةَ فَيَأْخُذُ بِلَهْزَمَتَيْهِ، يَقُولُ: أَنَا مَالُكَ أَنَا كَنْزُكَ» ثُمَّ تَلَا صلى الله عليه وسلم آيَةَ: {سَيُطَوَّقُونَ مَا بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ}، وَفِي رِوَايَةٍ لِلنَّسَائِيِّ: «إِنَّ الَّذِي لَا يُؤَدِّي زَكَاةَ مَالِهِ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مَالُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ شُجَاعًا أَقْرَعَ لَهُ زَبِيبَتَانِ، فَيَلْزَمُهُ أَوْ يُطَوِّقُهُ، يَقُولُ: أَنَا كَنْزُكَ أَنَا كَنْزُكَ» فَهَذَا نَصٌّ صَحِيحٌ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّ ذَلِكَ التَّعْذِيبَ بِجَعْلِ الْمَالِ صَفَائِحَ يُكْوَى بِهَا مَانِعُ الزَّكَاةِ أَوْ شُجَاعًا (وَهُوَ ذَكَرُ الْحَيَّاتِ) يُطَوِّقُهُ إِنَّمَا هُوَ ضَرْبٌ مِنَ التَّمْثِيلِ، أَوِ التَّخْيِيلِ، لَا نَفْسُ الْمَالِ الَّذِي كَانَ يَكْنِزُهُ فِي الدُّنْيَا، وَبِهِ يَبْطُلُ كُلُّ إِيرَادٍ وَيَزُولُ كُلُّ إِشْكَالٍ، وَالتَّعْذِيبُ حَقِيقِيٌّ عَلَى كُلِّ حَالٍ.
{فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ}، الَّتِي كَانُوا يَسْتَقْبِلُونَ بِهَا النَّاسَ مُنْبَسِطَةً أَسَارِيرُهَا مِنَ الِاغْتِبَاطِ بِعَظَمَةِ الثَّرْوَةِ- وَيَسْتَقْبِلُونَ بِهَا الْفُقَرَاءَ مُنْقَبِضَةً مُتَغَضِّنَةً مِنَ الْعُبُوسِ وَالتَّقْطِيبِ فِي وُجُوهِهِمْ؛ لِيُنَفُرُوا وَيُحْجِمُوا عَنِ السُّؤَالِ، {وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ} الَّتِي كَانُوا يَتَقَلَّبُونَ بِهَا عَلَى سُرُرِ النِّعْمَةِ اضْطِجَاعًا وَاسْتِلْقَاءً، وَيُعْرِضُونَ بِهَا عَنْ لِقَاءِ الْمَسَاكِينِ، وَطُلَّابِ الْحَاجَاتِ ازْوِرَارًا وَإِدْبَارًا، فَلَا يَكُونُ لَهُمْ فِي جَهَنَّمَ ارْتِفَاقٌ وَلَا اسْتِرَاحَةٌ فِيمَا سِوَى الْوُقُوفِ إِلَّا بِالِانْكِبَابِ عَلَى وُجُوهِهِمْ كَمَا قَالَ: {يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلَى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ} [54: 48]، وَكَذَلِكَ قَالَ هُنَا: {هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ}، أَيْ تَقُولُ لَهُمْ مَلَائِكَةُ الْعَذَابِ الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَ كَيَّهُمْ: هَذَا الْعَذَابُ الْأَلِيمُ الْوَاقِعُ بِكُمْ هُوَ جَزَاءُ مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ فِي الدُّنْيَا، أَوْ هَذَا الْمِيسَمُ الَّذِي تُكْوَوْنَ بِهِ هُوَ الْمَالُ الَّذِي كَنَزْتُمُوهُ لِأَنْفُسِكُمْ لِتَتَفَرَّدُوا بِالتَّمَتُّعِ بِهِ.
فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أَيْ: ذُوقُوا وَبَالَهُ وَنَكَالَهُ، أَوْ وَبَالَ كَنْزِكُمْ لَهُ وَإِمْسَاكِكُمْ إِيَّاهُ عَنِ النَّفَقَةِ فِي سَبِيلِ اللهِ. وَحَاصِلُ الْمَعْنَى أَنَّ مَا كُنْتُمْ تَظُنُّونَ مِنْ مَنْفَعَةِ كَنْزِهِ لِأَنْفُسِكُمْ خَاصَّةً بِهَا لَا يُشَارِكُكُمْ فِيهَا أَحَدٌ قَدْ كَانَ لَكُمْ خَلَفًا، وَعَلَيْكُمْ ضِدًّا، فَإِنَّهُ صَارَ فِي الدُّنْيَا لِغَيْرِكُمْ، وَكَانَ عَذَابُهُ فِي الْآخِرَةِ هُوَ الْخَاصُّ بِكُمْ، كَدَأْبِ جَمِيعِ أَهْلِ الْبَاطِلِ، فِيمَا زَيَّنَ لَهُمْ مِنَ الرَّذَائِلِ، يَرَى الْبُخَلَاءُ أَنَّ الْبُخْلَ حَزْمٌ، كَمَا يَرَى الْجُبَنَاءُ أَنَّ الْجُبْنَ حَزْمٌ، وَتِلْكَ خَدِيعَةُ الطَّبْعِ اللَّئِيمِ، وَاجْتِهَادُ الرَّأْيِ الْأَفِينِ، فَالْأَوَّلُونَ مِنْ خَوْفِ الْفَقْرِ فِي فَقْرٍ، وَالْآخَرُونَ يُعَرِّضُونَ أَنْفُسَهُمْ لِلْأَذَى أَوِ الْمَوْتِ بِهَرَبِهِمْ مِنَ الْمَوْتِ، فَإِنَّ جُبْنَهُمْ هُوَ الَّذِي يُغْرِي الْمُعْتَدِينَ بِإِيذَائِهِمْ، وَيُمَكِّنُ الْقَائِلِينَ مِنَ الْفَتْكِ بِهِمْ.
وَإِنَّ أَكْبَرَ أَسْبَابِ ضَعْفِ الْمُسْلِمِينَ فِي هَذَا الْعَصْرِ، وَتَمْكِينِ أَعْدَائِهِمْ مِنْ سَلْبِ مُلْكِهِمْ، وَمُحَاوَلَةِ تَحْوِيلِهِمْ عَنْ دِينِهِمْ، هُوَ بُخْلُ أَغْنِيَائِهِمْ، وَجُبْنُ مُلُوكِهِمْ وَأُمَرَائِهِمْ، وَقُوَّادِهِمْ وَزُعَمَائِهِمْ، الَّذِي جَعَلَهُمْ أَعْوَانًا لِسَالِبِي مُلْكِهِمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ. وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُ هَذَا الْمَعْنَى فِي تَفْسِيرِ قوله تعالى: {وَأَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللهِ وَلَا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ} [2: 195] فَلَوْ أَسَّسَ الْأَغْنِيَاءُ مَدَارِسَ لِلْجَمْعِ بَيْنَ تَعْلِيمِ الْعُلُومِ الدِّينِيَّةِ وَالدُّنْيَوِيَّةِ، لَاسْتَغْنَوْا بِهَا عَنْ مَدَارِسِ دُعَاةِ النَّصْرَانِيَّةِ، وَلَأَمْكَنَ لِلْمُصْلِحِينَ مِنْهُمْ إِذَا تَوَلَّوْا إِدَارَتَهَا أَنْ يُخْرِجُوا لَهُمْ فِيهَا رِجَالًا يَحْفَظُونَ لِلْأُمَّةِ دِينَهَا وَمُلْكَهَا، وَيُعِيدُونَ إِلَيْهَا مَجْدَهَا، وَيَجْذِبُونَ أَقْوَامَ أُولَئِكَ الْمُعْتَدِينَ عَلَيْهَا إِلَى الْإِسْلَامِ فَيَدْخُلُونَ فِيهِ أَفْوَاجًا، وَيَعُودُ الْأَمْرُ كَمَا بَدَأَ. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{يَوْمَ يُحْمَى عَلَيْهَا فِي نَارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوَى بِهَا جِبَاهُهُمْ وَجُنُوبُهُمْ وَظُهُورُهُمْ هَذَا مَا كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا مَا كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)}
أخرج البخاري ومسلم وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ما من صاحب ذهب ولا فضة لا يؤدي حقها إلا جعلت له يوم القيامة صفائح، ثم أحمي عليها في نار جهنم، ثم يكوى بها جبينه وجبهته وظهره في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة حتى يقضي بين الناس، فيرى سبيله إما إلى الجنة أو إلى النار».
وأخرج أبو يعلى وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «لا يوضع الدينار على الدينار ولا الدرهم على الدرهم، ولكن يوسع الله جلده {فتكوى بها جباههم وجنوبهم وظهورهم هذا ما كنزتم لأنفسكم فذوقوا ما كنتم تكنزون}».
وأخرج ابن أبي حاتم والطبراني وأبو الشيخ عن ابن مسعود رضي الله عنه في قوله: {يوم يحمى عليها في نار جهنم} قال: لا يعذب رجل بكنز يكنزه فيمس درهم درهمًا ولا دينار دينارًا، ولكن يوسع جلده حتى يوضع كل دينار ودرهم على حدته، ولا يمس درهم درهمًا ولا دينار دينارًا.
وأخرج ابن المنذر عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {فتكوى بها...} الآية. قال: يوسع بها جلده.
وأخرج أبو الشيخ رضي الله عنه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {يوم يحمى عليها} الآية. قال: حية تنطوي على جنبيه وجبهته فتقول: أنا مالك الذي بخلت بي.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ثوبان رضي الله قال: ما من رجل يموت وعنده أحمر وأبيض إلا جعل الله له بكل قيراط صفحة من نار تكوى بها قدمه إلى ذقنه مغفورًا له بعد أو معذبًا.
وأخرج ابن أبي شيبة عن ثوبان رضي الله عنه مرفوعًا. نحوه.
وأخرج عبد الرزاق في المصنف عن أبي ذر رضي الله عنه قال: بشر أصحاب الكنوز بكي في الجب. اهـ. وفي الجنوب وفي الظهور.
وأخرج ابن سعد وابن أبي شيبة والبخاري وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه عن زيد بن وهب رضي الله عنه قال: مررت على أبي ذر رضي الله عنه بالربذة فقلت: ما أنزلك بهذه الأرض؟ قال: كتابًا لشام فقرأت {والذين يكنزون الذهب والفضة ولا ينفقونها في سبيل الله فبشرهم بعذاب أليم} فقال معاوية: ما هذا فينا، هذه في أهل الكتاب...! قلت أنا: إنها لفينا وفيهم.
وأخرج مسلم وابن مردويه عن الأحنف بن قيس رضي الله عنه قال: جاء أبو ذر رضي الله عنه فقال: بَشِّر الكانزين بكيٍّ من قبل ظهورهم يخرج من جنوبهم، وكَي من جباهم يخرج من أقفائهم.
فقلت: ماذا...؟ قال: ما قلت إلا ما سمعت من نبيهم صلى الله عليه وسلم.
وأخرج ابن سعد وأحمد عن أبي ذر رضي الله عنه قال: «إن خليلي عهد إليَّ أن أي مال ذهب أو فضة أوكئ عليه فهو جمر على صاحبه حتى يفرغه في سبيل الله، وكان إذا أخذ عطاءه دعا خادمه فسأله عما يكفيه لسنة فاشتراه، ثم اشترى فلوسًا بما بقي».
وأخرج ابن أبي شيبة وابن مردويه عن أبي ذر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «في الابل صدقتها، وفي البقر صدقتها، وفي الغنم صدقتها، وفي البز صدقته، فمن رفع دينار أو درهمًا أو تبرًا أو فضة لا يعده لغريمه ولا ينفقه في سبيل الله فهو كنز يكوى به يوم القيامة».
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه مرفوعًا. مثله.
وأخرج ابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم. إنه قال: «الدينار كنز، والدرهم كنز، والقيراط كنز».
وأخرج أحمد والترمذي والنسائي وابن ماجة وابن حبان والحاكم وابن مردويه عن ثوبان رضي الله عنه قال: كان نصل سيف أبي هريرة رضي الله عنه من فضة فقال له أبو ذر رضي الله عنه: أما سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من رجل ترك صفراء ولا بيضاء إلا كوي بها».
وأخرج الطبراني وابن مردويه عن أبي أمامة رضي الله عنه قال: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: «ما من أحد يموت فيترك صفراء أو بيضاء إلا كوي بها يوم القيامة، مغفورًا له بعد أو معذبًا».
وأخرج ابن مردويه عن جابر رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما من ذي كنز لا يؤدي حقه إلا جيء به يوم القيامة يكوى به جبينه وجبهته، وقيل له: هذا كنزك الذي بخلت به».