فصل: من فوائد ابن عرفة في الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.من فوائد ابن عرفة في الآية:

قال رحمه الله:
قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلاَئِكَةِ اسجدوا لآدَمَ}.
قال: اختلفوا هل المراد السجود حقيقة أو الإيماء إليه أو الخضوع؟ وسبب الخلاف أن الخضوع بكون بأمور، ففسره بأقصاها وهو السجود لاستلزامه الخضوع فعبّر عن الخضوع بلوازمه وهذا يشبه ما قالوه في تعارض الحقيقة المرجوحة والمجاز، لأن القاعدة الثابتة المقررة في أن السجود حقيقة إنما هو بوضع الجبهة في الأرض فإطلاقه هنا على الخضوع مجاز راجح استصحابا لتلك القاعدة، وكون المراد به حقيقة هو نسبة المشبه، لكن إِنْ نظرنا إلى أنّ هذه الأمور جعلية شرعية فنقول: إنّ الله تبارك وتعالى أمر بالسّجود لآدم فنأخذ الأمر على حقيقته والمعتزلة على قاعدة التحسين والتقبيح يقولون: إن السجود ليس حقيقة بل هو بمعنى الخضوع.
ومنهم من جعله تكرمة وجعل آدم كالقبلة فكما أن الصلاة للقبلة تكرمة لها فكذلك هذا، واحتج بعضهم بهذا أن الأنبياء أفضل من الملائكة.
قال ابن عرفة: إنما يؤخذ منه تشريف آدم وتكرمته، لا أنه أفضل وإنما يلزم ذلك لو كان السجود له لذاته.
ونقل ابن عطية: أن الأكثرين على الملائكة أفضل من بني آدم وعكس الفخر الخطيب.
قوله تعالى: {فَسَجَدُواْ إِلاَّ إِبْلِيسَ}.
حكى الآمدي في شرح الجزولية قولا: بأن الاستثناء من الإثبات ليس بنفي.
قال الرازي في المعالم: اتفق الناس على أن الاستثناء من الإثبات نفي واختلفوا في العكس.
قلت: وحصل بعضهم فيه ثلاثة أقوال: قيل: الاستثناء من النفي إثبات ومن الإثبات، نفي وقيل: ليس بإثبات وليس بنفي، وقيل: من الإثبات نفي ومن النفي ليس بإثبات.
قال القرافي في شرح المحصول: ذهب بعض الأدباء إلى أن الاستثناء من الإثبات اثبات واحتج بقوله تعالى: {فَسَجَدَ الملائكة كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ إِلاَّ إِبْلِيسَ} أي فلو كان نفيا لما احتيج إلى قوله: {أَبَى}.
وكان الشيخ ابن عبد السلام يرده بأنها أفادت أن امتناعه من السجود لم يكن لعجز بعذر ولا لأنه أكره عليه بل استكبارا وعنادا لعنه الله.
وقال الآمدي: قيل أنه إثبات في الوجهين، وقيل: نفي في الوجهين، وقيل: من الإثبات نفي، ومن النفي ليس بإثبات.
وقال الطيبي: إن الترتيب هنا معنوي وفي قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ} باعتبار اللفظ والأمر الحسّي الوجودي.
قال ابن عطية: قال جمهور المتأولين: كان من الكافرين في علم الله تعالى.
قال ابن عرفة: إن أرادوا أنّه إذ ذاك كفر بهذا الفعل وكان قبل ذلك مؤمنا بالحسّ وكان كافرا في علم الله تعالى وقيل: إنه كان كافرا بالحس، وشؤم كفره أوجب متناعه من السجود.
واختلف هل كفره عناد أم لا؟ فمنهم من قال: يستحيل صدور المعصية من العالم حالة كونه عالما لأن العلم يقتضي ترجيح طرق السلامة على طريق الهلاك فأبطل الكفر عنادا وهي قاعدة الفخر وغيره.
ومنهم من قال: إنّ كفره كان عنادا.
قيل لابن عرفة: ويمكن تقرير هذا بما قالوا: من أنّ ارتباط الدليل بالمدلول هل هو عقلي أو عادي فقد يعلم الدليل ولا ينتج له العلم بالمدلول؟
فقال: نعم ولكن ما ذكروا هنا إلا الأول.
قال ابن عطية: روى ابن القاسم عن الإمام مالك رضي الله عنه إن أول معصية كاتت الحسد والكبر والشح، حسد إبليس آدم وتكبر عليه وشح آدم في أكله من شجرة قد نهى على قربها.
قلت: وهذا بعينه من كتاب الجامع الأول من العتبية.
وقال فيه ابن رشد: الحسد من الذنوب العظام وهو أن يكره أن يرى النعمة على غيره، ويتمنى انتقالها عنه إليه، والغبطة أن يتمنى مثلها فقط مع بقائها عند صاحبها فالغبطة مباحة والحسد محظور قال صلى الله عليه وسلم: «لا حسد إلا في اثنين رجل أتاه الله القرآن فهو يقوم به آناء الليل وأطراف النهار، ورجل آتاه الله مالا فهو ينفق منه آناء اللّيل وأطراف النهار». انتهي.
والاستثناء في الآية منقطع.
ومنهم من يرى الحسد على وجهين:
- محظور إن كان فيه بغي.
وهو أن يريد الإضرار بالمحسود بزوال النعمة عنه.
- وجائز إن لم يكن معه بغي كالحسد في الخير فإنه مرغب فيه إذ لا بغي فيه والحسد في المال إن لم يكن معه بغي جاز: والشح قسمان: فالشح بالواجبات حرام، وبالمندوبات مكروه.
قال: وقوله في آدم فَشَحّ أي فَشح أن يأكل من ثمار الجنة التي أباح الله له الأكل منها فلم يأكل منها إبقاء عليها وشحّا بها. اهـ.

.من فوائد القرطبي في الآية:

قال رحمه الله:
{وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلَائِكَةِ اسْجُدُوا لِآَدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ أَبَى وَاسْتَكْبَرَ وَكَانَ مِنَ الْكَافِرِينَ (34)}.
فيه عشر مسائل:
الأولى: قوله تعالى: {وَإِذْ قُلْنَا} أي واذكر.
وأما قول أبي عبيدة: إنّ {إذْ} زائدة فليس بجائز؛ لأن إذ ظرف وقد تقدّم.
وقال: {قلنا} ولم يقل قلت لأن الجبار العظيم يخبر عن نفسه بفعل الجماعة تفخيمًا وإشادةً بذكره.
والملائكة جمع مَلَك؛ وقد تقدّم.
وتقدّم القول أيضًا في آدم واشتقاقه فلا معنى لإعادته؛ وروي عن أبي جعفر بن القَعْقاع أنه ضمّ تاء التأنيث من الملائكة إتباعًا لضم الجيم في {اسجدوا}.
ونظيره الحمد لله.
الثانية: قوله تعالى: {اسجدوا} السجود معناه في كلام العرب التذلل والخضوع؛ قال الشاعر:
بِجَمْع تَضِلّ البُلْقُ في حَجَراته ** ترى الأَكُمَ فيها سُجّدًا لِلحوافِرِ

الأُكْمُ: الجبال الصغار.
جعلها سُجَّدًا للحوافر لِقهر الحوافر إياها وأنها لا تمتنع عليها.
وعَيْنٌ ساجدة؛ أي فاترة عن النظر، وغايته وضع الوجه بالأرض.
قال ابن فارس: سَجد إذ تطامن، وكلُّ ما سجد فقد ذّلّ.
والإسجاد: إدامة النّظر.
قال أبو عمرو: وأسجد إذا طأطأ رأسه؛ قال:
فُضُولَ أزِمّتِها أسجدتْ ** سجودَ النصارى لأحبارها

قال أبو عبيدة: وأنشدني أعرابي من بني أسد:
وقلنَ له اسجد لِلْيلَى فأسجدَا

يعني البعير إذا طأطأ رأسه ودراهمُ الإسجاد: دراهم كانت عليها صُور كانوا يسجدون لها؛ قال:
وافىَ بها كدراهم الإسجاد

الثالثة: استدل مَن فضّل آدم وبَنِيه بقوله تعالى للملائكة: {اسجدوا لآدَمَ}.
قالوا: وذلك يدلّ على أنه كان أفضلَ منهم.
والجواب أن معنى {اسجدوا لآدَمَ} اسجدوا لي مستقبلين وَجْه آدم.
وهو كقوله تعالى: {أَقِمِ الصلاة لِدُلُوكِ الشمس} [الإسراء: 78] أي عند دلوك الشمس؛ وكقوله: {وَنَفَخْتُ فِيهِ مِن رُّوحِي فَقَعُواْ لَهُ سَاجِدِينَ} [ص: 72] أي فقعوا لي عند إتمام خلقه ومواجهتكم إياه ساجدين.
وقد بيّنا أن المسجود له لا يكون أفضلَ من الساجد بدليل القِبْلة.
فإن قيل: فإذا لم يكن أفضلَ منهم فما الحكمة في الأمر بالسجود له؟ قيل له: إن الملائكة لما استعظموا بتسبيحهم وتقديسهم أمَرَهم بالسجود لغيره ليريهم استغناءه عنهم وعن عبادتهم.
وقال بعضهم: عيّروا آدم واستصغروه ولم يعرفوا خصائص الصُّنع به فأمِروا بالسجود له تكريمًا.
ويحتمل أن يكون الله تعالى أمرهم بالسجود له معاقبةً لهم على قولهم: {أَتَجْعَلُ فِيهَا مَن يُفْسِدُ فِيهَا} لمّا قال لهم: {إِنِّي جَاعِلٌ فِي الأرض خَلِيفَةً} وكان علم منهم أنه إن خاطبهم أنهم قائلون هذا، فقال لهم: {إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِّن طِينٍ} [ص: 71] وجاعله خليفةً، فإذا نفخْتُ فيه من روحي فَقَعُوا له ساجدين.
والمعنى: ليكون ذلك عقوبةً لكم في ذلك الوقت على ما أنتم قائلون لي الآن.
فإن قيل: فقد استدل ابن عباس على فضل البشر بأن الله تعالى أقسم بحياة رسوله صلى الله عليه وسلم فقال: {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الحجر: 72].
وأمّنه من العذاب بقوله: {لِّيَغْفِرَ لَكَ الله مَا تَقَدَّمَ مِن ذَنبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ} [الفتح: 2].
وقال للملائكة: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ فذلك نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ} [الأنبياء: 29].
قيل له: إنما لم يُقسم بحياة الملائكة كما لم يُقسم بحياة نفسه سبحانه؛ فلم يقل: لَعَمْرِي.
وأقسم بالسماء والأرض؛ ولم يدلّ على أنهما أرفع قدرًا من العرش والجِنان السّبع.
وأقسم بالتين والزيتون.
وأمّا قوله سبحانه: {وَمَن يَقُلْ مِنْهُمْ إني إله مِّن دُونِهِ} فهو نظير قوله لنبيّه عليه السلام: {لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الخاسرين} [الزمر: 65] فليس فيه إذًا دلالة، والله أعلم.
الرابعة: واختلف الناس في كيفية سجود الملائكة لآدم بعد اتفاقهم على أنه لم يكن سجود عبَادةٍ؛ فقال الجمهور: كان هذا أمرًا للملائكة بوضع الجِباه على الأرض، كالسجود المعتاد في الصلاة؛ لأنه الظاهر من السجود في العُرف والشرع؛ وعلى هذا قيل: كان ذلك السجود تكريمًا لآدم وإظهارًا لفضله، وطاعةً لله تعالى، وكان آدم كالقِبْلة لنا.
ومعنى {لآدم} إلى آدم؛ كما يقال صلّى للقبْلة؛ أي إلى القبلة.
وقال قوم: لم يكن هذا السجود المعتاد اليوم الذي هو وضع الجبهة على الأرض ولكنه مُبقًى على أصل اللّغة؛ فهو من التذلّل والانقياد، أي اخضعوا لآدم وأقرّوا له بالفضل.
{فَسَجَدُواْ} أي امتثلوا ما أمروا به.
واختلف أيضًا هل كان ذلك السجود خاصًّا بآدم عليه السلام فلا يجوز السجود لغيره من جميع العالم إلا لله تعالى، أم كان جائزًا بعده إلى زمان يعقوب عليه السلام؛ لقوله تعالى: {وَرَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى العرش وَخَرُّواْ لَهُ سُجَّدًا} [يوسف: 100] فكان آخر ما أبيح من السجود للمخلوقين؟ والذي عليه الأكثر أنه كان مباحًا إلى عصر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن أصحابه قالوا له حين سجدت له الشجرة والجمل: نحن أوْلَى بالسجود لك من الشجرة والجمل الشارد؛ فقال لهم: «لا ينبغي أن يُسجد لأحد إلا لله ربّ العالمين» روى ابن ماجه في سُننه والبُسْتِيّ في صحيحه عن عبد اللَّه بن أبي أوفى قال: لما قدم معاذ بن جبل من الشام سجد لرسول الله صلى الله عليه وسلم؛ فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «ما هذا» فقال: يا رسول الله، قدمتُ الشام فرأيتهم يسجدون لبطارقتهم وأساقفتهم، فأردت أن أفعل ذلك بك؛ قال: «فلا تفعل فإني لو أَمَرتُ شيئًا أن يسجد لشيء لأمرتُ المرأة أن تسجد لزوجها لا تؤدّي المرأةُ حقَّ ربّها حتى تؤدّي حقَّ زوجها حتى لو سألها نفسَها وهي على قَتَب لم تمنعه» لفظ البُسْتي.
ومعنى القتب أن العرب يَعِزّ عندهم وجود كرسي للولادة فيحملون نساءهم على القَتَب عند الولادة.
وفي بعض طرق معاذ: ونَهَى عن السجود للبشر، وأمر بالمصافحة.
قلت: وهذا السجود المنهيُّ عنه قد اتخذه جُهّال المتصوّفة عادةً في سماعهم وعند دخولهم على مشايخهم واستغفارهم؛ فيرى الواحد منهم إذا أخذه الحال بزعمه يسجد للأقدام لجهله سواء أكان للقبلة أم غيرها جهالة منه؛ ضلّ سَعْيُهم وخاب عملهم.
الخامسة: قوله: {إِلاَّ إِبْلِيسَ} نصب على الاستثناء المتصل؛ لأنه كان من الملائكة على قول الجمهور: ابن عباس وابن مسعود وابن جُريج وابن المسيّب وقَتادة وغيرهم؛ وهو اختيار الشيخ أبي الحسن، ورجّحه الطبري؛ وهو ظاهر الآية.
قال ابن عباس: وكان اسمه عزازيل وكان من أشراف الملائكة وكان من الأجنحة الأربعة ثم أُبْلِس بعد.
روى سِمَاك بن حرب عن عكرمة عن ابن عباس قال: كان إبليس من الملائكة فلما عصى الله غضب عليه فلعنه فصار شيطانًا.
وحكى الماوَرْدِيّ عن قتادة: أنه كان من أفضل صنف من الملائكة يقال لهم الجِنة.
وقال سعيد بن جُبير: إن الجنّ سِبْط من الملائكة خُلقوا من نار وإبليس منهم، وخلق سائر الملائكة من نور.
وقال ابن زيد والحسن وقتادة أيضًا: إبليس أبو الجن كما أن آدم أبو البشر ولم يكن مَلَكا؛ وروي نحوه عن ابن عباس وقال: اسمه الحارث.
وقال شَهْر بن حَوْشَب وبعض الأصوليين: كان من الجنّ الذين كانوا في الأرض وقاتلتهم الملائكة فسبَوْه صغيرًا وتعبّد مع الملائكة وخُوطب؛ وحكاه الطبري عن ابن مسعود.
والاستثناء على هذا منقطع، مثل قوله تعالى: {مَا لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتباع الظن} [النساء: 157]، وقوله: {إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ} [المائدة: 3] في أحد القولين؛ وقال الشاعر:
ليس عليك عطشٌ ولا جوعْ ** إلا الرّقادَ والرقادُ ممنوعْ

واحتج بعض أصحاب هذا القول بأن الله جل وعز وصف الملائكة فقال: {لاَّ يَعْصُونَ الله مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ} [التحريم: 66]، وقوله تعالى: {إِلاَّ إِبْلِيسَ كَانَ مِنَ الجن} [الكهف: 50] والجنّ غير الملائكة.
أجاب أهل المقالة الأولى بأنه لا يمتنع أن يخرج إبليس من جملة الملائكة لما سبق في علم الله بشقائه عدلًا منه، لا يُسْأَل عما يَفعل، وليس في خلقه من نار ولا في تركيب الشهوة حين غضب عليه ما يدفع أنه من الملائكة.
وقول من قال: إنه كان من جنّ الأرض فسُبِيَ، فقد رُوي في مقابلته أن إبليس هو الذي قاتل الجنّ في الأرض مع جُند من الملائِكة؛ حكاه المهدَوِيّ وغيره.
وحكي الثّعلبي عن ابن عباس: أن إبليس كان من حيّ من أحياء الملائكة يقال لهم الجنّ خُلقوا من نار السموم، وخُلقت الملائكة من نور، وكان اسمه بالسريانية عزازيل، وبالعربية الحارث، وكان من خُزّان الجنة وكان رئيسَ ملائكة السماء الدنيا وكان له سلطانها وسلطان الأرض، وكان من أشدّ الملائكة اجتهادا وأكثرهم علمًا، وكان يسوس ما بين السماء والأرض؛ فرأى لنفسه بذلك شرفًا وعظمة، فذلك الذي دعاه إلى الكفر فعصى الله فمسخه شيطانًا رجيمًا.
فإذا كانت خطيئة الرجل في كِبْر فلا تَرْجُه، وإن كانت خطيئته في معصية فارجه؛ وكانت خطيئة آدم عليه السلام معصية، وخطيئة إبليس كِبْرًا.
والملائكة قد تُسَمَّى جِنًّا لاستتارها؛ وفي التنزيل: {وَجَعَلُواْ بَيْنَهُ وَبَيْنَ الجنة نَسَبًا} [الصافات: 158]؛ وقال الشاعر في ذكر سليمان عليه السلام:
وسَخّرَ مِن جِنّ الملائِكِ تِسعةً ** قيامًا لَدَيْهِ يعملون بلا أَجْرِ

وأيضًا لما كان من خُزّان الجنة نُسب إليها فاشتق اسمه من اسمها، والله أعلم.
وإبليس وزنه إفعيل، مشتقّ من الإبلاس وهو اليأس من رحمة الله تعالى.
ولم ينصرف؛ لأنه معرفة ولا نظير له في الأسماء فشبّه بالأعجمية؛ قاله أبو عبيدة وغيره.
وقيل: هو أعجمي لا اشتقاق له فلم ينصرف للعُجْمة والتعريف؛ قاله الزجاج وغيره.
السادسة: قوله تعالى: {أبى} معناه امتنع من فعل ما أُمِر به؛ ومنه الحديث الصحيح عن أبي هريرة عن النبيّ صلى الله عليه وسلم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فَسَجد اعتزل الشيطان يبكي يقول يا وَيْله وفي رواية: يا وَيْلي أُمِر ابن آدم بالسجود فَسَجد فله الجنة وأمِرتُ بالسجود فأبَيْتُ فَلِي النار» خّرجه مسلم.
يقال: أَبَى يأبَى إباءً، وهو حرف نادر جاء على فَعَل يَفْعَل ليس فيه حرف من حروف الحَلْق؛ وقد قيل: إن الألف مضارِعة لحروف الحلْق.
قال الزجاج: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: القول عندي أن الألف مضارِعة لحروف الحلق.
قال النحاس: ولا أعلم أن أبا إسحاق روى عن إسماعيل نحوًا غير هذا الحرف.
السابعة: قوله تعالى: {واستكبر} الاستكبار: الاستعظام؛ فكأنه كره السجود في حقه واستعظمه في حق آدم؛ فكان ترك السجود لآدم تسفيهًا لأمر الله وحكمته.
وعن هذا الكِبر عبّر عليه السلام بقوله: «لا يدخل الجنة مَن كان في قلبه مثقالُ حبة من خَرْدَل من كِبر» في رواية فقال رجل: إن الرجل يحب أن يكون ثوبه حسَنًا ونعله حسنة.
قال: «إن الله جميل يحب الجمال الكِبْرُ بَطَرُ الحق وغَمْطُ الناس» أخرجه مسلم.
ومعنى بطر الحق: تسفيهه وإبطاله.
وغمط الناس: الاحتقار لهم والازدراء بهم.
ويروى: «وغمص» بالصاد المهملة، والمعنى واحد؛ يقال: غَمِصه يَغْمِصه غَمْصًا واغتمصه؛ أي استصغره ولم يره شيئًا.
وغَمَص فلان النعمة إذا لم يشكرها.
وغَمَصتُ عليه قولًا قاله، أي عبته عليه.
وقد صرّح اللّعين بهذا المعنى فقال: {أَنَاْ خَيْرٌ مِّنْهُ خَلَقْتَنِي مِن نَّارٍ وَخَلَقْتَهُ مِن طِينٍ} [الأعراف: 12].
{أَأَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِينًا} [الإسراء: 61].
{قَالَ لَمْ أَكُن لأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِن صَلْصَالٍ مِّنْ حَمَإٍ مَّسْنُونٍ} [الحجر: 33] فكفّره الله بذلك.
فكلّ من سَفّه شيئًا من أوامر الله تعالى أو أمر رسوله عليه السلام كان حُكْمُه حُكْمَه، وهذا ما لا خلاف فيه.
وروى ابن القاسم عن مالك أنه قال: بلغني أن أوّل معصية كانت الحسد والكبر، حسَدَ إبليسُ آدم، وشح آدم في أكله من الشجرة.
وقال قتادة: حَسَدَ إبليسُ آدم، على ما أعطاه الله من الكرامة فقال: أنا ناريّ وهذا طِيني.
وكان بدء الذنوب الكِبْر، ثم الحرص حتى أكل آدم من الشجرة، ثم الحسد إذ حسد ابن آدم أخاه.
الثامنة: قوله تعالى: {وَكَانَ مِنَ الكافرين} قيل: كان هنا بمعنى صار؛ ومنه قوله تعالى: {فَكَانَ مِنَ المغرقين} [هود: 43] وقال الشاعر:
بتَيْهاءَ قَفْرٍ والمَطِيُّ كأنها ** قطا الحَزْن قد كانت فِراخًا بُيوضُها

أي صارت.
وقال ابن فُورَك: كان هنا بمعنى صار خطأ تردّه الأصول.
وقال جمهور المتأوّلين: المعنى أي كان في علم الله تعالى أنه سيكفر؛ لأن الكافر حقيقةً والمؤمنَ حقيقةً هو الذي قد علم الله منه الموافاة.
قلت: وهذا صحيح؛ لقوله صلى الله عليه وسلم في صحيح البخاري: «وإنما الأعمال بالخواتيم» وقيل: إن إبليس عبد اللَّه تعالى ثمانين ألف سنة، وأُعْطي الرياسة والخِزانة في الجنة على الاستدراج؛ كما أعْطى المنافقون شهادة أن لا إله إلا الله على أطراف ألسنتهم، وكما أُعْطي بَلْعَام الاسم الأعظم على طرف لسانه؛ فكان في رياسته والكبر في نفسه متمكن.
قال ابن عباس: كان يرى لنفسه أن له فضيلة على الملائكة بما عنده؛ فلذلك قال: أنا خير منه؛ ولذلك قال الله عز وجل: {مَا مَنَعَكَ أَن تَسْجُدَ لِمَا خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنتَ مِنَ العالين} [ص: 75] أي استكبرت ولا كِبْر لك، ولم أتكبّر أنا حين خلقتُه بيديّ والكبر لي! فلذلك قال: {وَكَانَ مِنَ الكافرين}.
وكان أصل خلقته من نار العِزّة؛ ولذلك حَلف بالعِزّة فقال: {فَبِعِزَّتِكَ لأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ} [ص: 82] فالعِزّة أوْرثته الكِبْر حتى رأى الفضل له على آدم عليه السلام.
وعن أبي صالح قال: خُلقت الملائكة من نُور العِزّة وخُلق إبليس من نار العِزّة.
التاسعة: قال علماؤنا رحمة الله عليهم: ومَن أظهر الله تعالى على يديه ممن ليس بنبيّ كرامات وخوارق للعادات فليس ذلك دالًا على ولايته؛ خلافًا لبعض الصُّوفية والرافضة حيث قالوا: إن ذلك يدل على أنه وَلِيّ، إذ لو لم يكن وَلِيًّا ما أظهر الله على يديه ما أظهر.
ودليلنا أن العلم بأن الواحد منّا وليّ لله تعالى لا يصح إلا بعد العلم بأنه يموت مؤمنًا، وإذا لم يعلم أنه يموت مؤمنًا لم يمكنا أن نقطع على أنه وليّ لله تعالى؛ لأن الوليّ لله تعالى مَن علم الله تعالى أنه لا يوافى إلا بالإيمان.
ولما اتفقنا على أننا لا يمكننا أن نقطع على أن ذلك الرجل يوافي بالإيمان، ولا الرجل نفسه يقطع على أنه يوافي بالإيمان، علم أن ذلك ليس يدلّ على ولايته لله.
قالوا: ولا نمنع أن يطلع الله بعض أوليائه على حسن عاقبته وخاتمة عمله وغيره معه؛ قاله الشيخ أبو الحسن الأشْعَرِيّ وغيره.
وذهب الطَّبَرِي إلى أن الله تعالى أراد بقصة إبليس تقريع أشباهه من بني آدم، وهم اليهود الذي كفروا بمحمد عليه السلام مع علمهم بنبوته، ومع قِدَم نعم الله عليهم وعلى أسلافهم.
العاشرة: واختلف هل كان قبل إبليس كافر أولا؟ فقيل: لا، وإن إبليس أوّل من كفر.
وقيل: كان قبله قوم كفار وهم الجن وهم الذين كانوا في الأرض.
واختلف أيضًا هل كفر إبليس جهلًا أو عنادًا على قولين بين أهل السُّنة، ولا خلاف أنه كان عالمًا بالله تعالى قبل كفره.
فمن قال إنه كفر جهلًا قال: إنه سُلب العلم عند كفره.
ومن قال كفر عنادا قال: كفر ومعه علمه.
قال ابن عطية: والكفر عنادًا مع بقاء العلم مستبعد، إلا أنه عندي جائز لا يستحيل مع خذل الله لمن يشاء. اهـ.