فصل: قال أبو حيان:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية فكان يقع حجهم تارة في وقته وتارة في المحرم وتارة في صفر وتارة في غيره من الشهور فأعلم الله أن عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهرًا على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تبارك وتعالى إن عدة الشهور عند الله يعني في علمه وحكمه اثنا عشر شهرًا {في كتاب الله} يعني في اللوح المحفوظ الذي كتب الله فيه جميع أحوال الخلق وما يأتون وما يذرون.
وقيل: أراد بكتاب الله القرآن لأن فيه آيات تدل على الحساب ومنازل القمر وقيل أراد بكتاب الله الحكم الذي أوجبه وأمر عباده بالأخذ به {يوم خلق السموات والأرض} يعني أن هذا الحكم حكم به وقضاه يوم خلق السموات والأرض أن السنة اثنا عشر شهرًا {منها} يعني من الشهور {أربعة حرم} وهي رجب فرد وذو القعدة وذو الحجة والمحرم ثلاثة متوالية وإنما سميت حرمًا لأن العرب في الجاهلية كانت تعظمها وتحرم فيها القتال حتى لو أن أحدهم لقي قاتل أبيه وابنه وأخيه في هذه الأربعة الأشهر لم يهجه ولما جاء الإسلام لم يزدها إلا حرمة وتعظيمًا ولأن الحسنات والطاعات فيها تتضاعف وكذلك السيئات أيضًا أشد من غيرها فلا يجوز انتها حرمة الأشهر الحرم {ذلك الدين القيم} يعني ذلك الحساب المستقيم والعدد الصحيح المستوي فالدين هنا بمعنى الحساب ومنه قوله صلى الله عليه وسلم: «الكيس من دان نفسه» يعني: حاسب نفسه وعمل لما بعد الموت.
وقيل: أراد بالدين القيم الحكم الذي لا يغير ولا يبدل.
والقيم هنا: بمعنى الدائم الذي لا يزول.
فالواجب على المسلمين الأخذ بهذا الحساب والعدد في صومهم وحجهم وأعيادهم وبياعاتهم وأجل ديونهم وغير ذلك من سائر أحكام المسلمين المرتبة على الشهور (ق) عن أبي بكر أن البني صلى الله عليه وسلم قال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان أي شهر هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه فقال أليس ذا الحجة قلنا بلى قال أي بلد هذا قلنا الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال أليس البلد الحرام؟ قلنا: بلى.
قال: فأي يوم هذا؟ قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه.
قال: أليس يوم النحر.
قلنا: بلى.
قال: فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي كفارًا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعل بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ثم قال: ألا هل بلغت ألا هل بلغت قلنا نعم قال: اللهم اشهد»
.
وقوله تعالى: {فلا تظلموا فيهن أنفسكم} قيل: الكناية في فيهن ترجع إلى جميع الأشهر أي لا تظلموا أنفسكم في جميع أشهر السنة بفعل المعاصي وترك الطاعات لأن المقصود منع الإنسان من الإقدام على المعاصي والفساد مطلقًا في جميع الأوقات إلى الممات.
وقيل: إن الكناية ترجع إلى الأشهر الحرم وهو قول أكثر المفسرين.
وقال قتادة: العمل الصالح أعظم أجرًا في الأشهر الحرم والظلم فيهن أعظم منه فيما سواهن وإن كان الظلم على كل عظيمًا.
وقال ابن عباس: لا تظلموا فيهن أنفسكم يريد استحلال الحرام والغارة فيهن وقال محمد بن إسحاق بن يسار: لا تجعلوا حلالها حرامًا ولا حرامها حلالًا كفعل أهل الشرك وهو النسئ.
وقيل: إن الأنفس مجبولة بطبعها على الظلم والفساد والامتناع عنه على الإطلاق شاق على النفس لا جرم أن الله خص بعض الأوقات بمزيد التعظيم والاحترام ليمتنع الإنسان في تلك الأوقات من فعل الظلم والقبائح والمنكرات فربما تكرها في باقي الأوقات فتصير هذه الأوقات الشريقة والأشهر المحرمة المعظمة سببًا لترك الظلم وفعل المعاصي في غيرها من الأشهر فهذا وجه الحكمة في تخصيص بعض الأشهر دون بعض بمزيد التشريف والتعظيم.
وكذلك الأمكنة أيضا.
وقوله سبحانه وتعالى: {وقاتلوا المشركين كافة كما يقاتلونكم كافة} يعني قاتلوا المشركين بأجمعكم مجتمعين على قتالهم كما أنهم يقاتلونكم على هذه الصفة والمعنى تعاونوا وتناصروا على قتالهم ولا تتخاذلوا ولا تتدابروا ولا تفشلوا ولا تجبنوا عن قتالهم وكونوا عباد الله مجتمعين متوافقين في مقاتلة أعدائكم من المشركين واختلف العلماء في تحريم القتال في الأشهر الحرم فقال قوم كان كبيرًا حرامًا ثم نسخ بقوله: {وقاتلوا المشركين كافة} يعني في الأشهر الحرم وفي غيرهن وهذا قول قتادة وعطاء الخراساني والزهري وسفيان الثوري.
قالوا: لأن النبي صلى الله عليه وسلم غزا هوازن بحنين وثقيفًا بالطائف وحاصرهم في شوال وبعض ذي القعدة.
وقال آخرون: إنه غير منسوخ.
قال ابن جريج: حلف بالله عطاء بن أبي رباح ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرم وما نسخت إلا أن يقاتلوا فيها {واعلموا أن الله مع المتقين} يعني بالنصر والمعونة على أعدائه. اهـ.

.قال أبو حيان:

{إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض}
كانت العرب لا عيش لأكثرها إلا من الغارات وأعمال سلاحها، فكانت إذا توالت عليهم الأربعة الحرم صعب عليها وأملقوا، وكان بنو فقيم من كنانة أهل دين وتمسك بشرع إبراهيم عليه السلام، فانتدب منهم القلمس وهو حذيفة بن عبيد بن فقيم فنسأ الشهور للعرب، ثم خلفه على ذلك ابنه عباد، ثم ابنه قلع، ثم ابنه أمية، ثم ابنه عوف، ثم ابنه جنادة بن عوف، وعليه قام الإسلام.
وكانت العرب إذا فرغت من حجها جاء إليه من شاء منهم مجتمعين فقالوا: أنسئنا شهرًا أي: أخِّر عنا حرمة المحرم فاجعلها في صفر، فيحل لهم المحرم، فيغيرون فيه ويعيشون.
ثم يلزمون حرمة صفر ليوافقوا عدّة الأشهر الأربعة، ويسمون ذلك الصفر المحرم، ويسمون ربيعًا الأول صفرًا، وربيعًا الآخر ربيعًا الأول، وهكذا في سائر الشهور يستقبلون نسيئهم في المحرم الموضع لهم، فيسقط على هذا حكم المحرم الذي حلل لهم، وتجيء السنة من ثلاثة عشر شهرًا أولها المحرم المحلل، ثم المحرم الذي هو في الحقيقة صفر، ثم استقبال السنة كما ذكرنا.
قال مجاهد: ثم كانوا يحجون في كل عام شهرين ولاء، وبعد ذلك يبدلون فيحجون عامين ولاء، ثم كذلك حتى كانت حجة أبي بكر في ذي القعدة حقيقة، وهم يسمونه ذا الحجة ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم سنة عشر في ذي الحجة حقيقة، فذلك قوله: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السماوات والأرض السنة اثنا عشر شهرًا أربعة حرم ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
ومناسبة هذه الآية أنه لما ذكر أنواعًا من قبائح أهل الشرك وأهل الكتاب، ذكر أيضًا نوعًا منه وهو تغيير العرب أحكام الله تعالى، لأنه حكم في وقت بحكم خاص، فإذا غيَّروا ذلك الوقت فقد غيروا حكم الله.
والشهور: جمع كثرة لما كانت أزيد من عشرة، بخلاف قوله: {الحج أشهر معلومات} فجاء بلفظ جمع القلة، والمعنى: شهور السنة القمرية، لأنهم كانوا يؤرخون بالسنة القمرية لا شمسية، توارثوه عن اسماعيل وابراهيم.
ومعنى عند الله: أي، في حكمه وتقديره كما تقول: هذا عند أبي حنيفة.
وقيل: التقدير عدة الشهور التي تسمى سنة واثنا عشر، لأنهم جعلوا أشهر العام ثلاثة عشر.
وقرأ ابن القعقاع وهبيرة عن حفص: بإسكان العين مع إثبات الألف، وهو جمع بين ساكنين على غير حدة، كما روي: التقت حلقتا البطان بإثبات ألف حلقتا.
وقرأ طلحة: بإسكان الشين، وانتصب شهرًا على التمييز المؤكد كقولك: عندي من الرجال عشرون رجلًا.
ومعنى في كتاب الله قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ.
وقيل: في إيجاب الله.
وقيل: في حكمه.
وقيل: في القرآن، لأن السنة المعتبرة في هذه الشريعة هي السنة القمرية، وهذا الحكم في القرآن.
قال تعالى: {والقمر نورًا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} وقال: {يسألونك عن الأهلة قل هي مواقيت للناس والحج} قال ابن عطية: أي فيما كتبه وأثبته في اللوح المحفوظ وغيره، فهي صفة فعل مثل خلقه ورزقه، وليس بمعنى قضائه وتقديره، لأن تلك هي قبل خلق السماوات والأرض انتهى.
وعند الله متعلق بعدة.
وقال الحوفي: في كتاب الله متعلق بعدة، يوم خلق السماوات والأرض متعلق أيضًا بعدّة.
وقال أبو علي: لا يجوز أن يتعلق قوله في كتاب الله بعدة، لأنه يقتضي الفصل بين الصلة والموصول بالخبر الذي هو اثنا عشر شهرًا، ولأنه لا يجوز انتهى.
وهو كلام صحيح.
وقال أبو البقاء: عدة مصدر مثل العدد، وفي كتاب الله صفة لاثنا عشر، ويوم معمول لكتاب على أن يكون مصدرًا لا جثة، ويجوز أن يكون جثة، ويكون العامل في يوم معنى الاستقرار انتهى.
وقيل: انتصب يوم بفعل محذوف أي: كتب ذلك يوم خلق السماوات، ولما كانت أشياء توصف بكونها عند الله ولا يقال فيها أنها مكتوبة في كتاب الله كقوله: {إن الله عنده علم الساعة} جمع هنا بينهما، إذ لا تعارض والضمير في منها عائد على اثنا عشر لأنه أقرب، لا على الشهور وهي في موضع الصفة لاثنا عشر، وفي موضع الحال من ضمير في مستقر.
وأربعة حرم سميت حرمًا لتحريم القتال فيها، أو لتعظيم انتهاك المحارم فيها.
وتسكين الراء لغة.
وذكر ابن قتيبة عن بعضهم أنها الأشهر التي أجل المشركون فيها أن يسيحوا، والصحيح: أنها رجب، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم.
وأولها عند كثير من العلماء رجب، فيكون من سنتين.
وقال قوم: أولها المحرم، فيكون من سنة واحدة.
ذلك الدين القيم أي: القضاء المستقيم، قاله ابن عباس.
وقيل: العدد الصحيح.
وقيل: الشرع القويم، إذ هو دين ابراهيم.
فلا تظلموا فيهن أنفسكم، الضمير في فيهن عائد على الاثنا عشر شهرًا، قاله ابن عباس: والمعنى: لا تجعلوا حلالًا حرامًا، ولا حرامًا حلالًا كفعل النسيء.
ويؤيده كون الظلم منهيًا عنه في كل وقت لا يختص بالأربع الحرم.
وقال قتادة والفراء: هو عائد على الأربعة الحرم، نهى عن المظالم فيها تشريفًا لها وتعظيمًا بالتخصيص بالذكر، وإن كانت المظالم منهيًا عنها في كل زمان.
وقال الزمخشري: فلا تظلموا فيهن أي: في الأشهر الحرم، أي: تجعلوا حرامها حلالًا.
وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم براءة من الله ورسوله.
وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بيانًا لعظم حرمتهن، كما عظم أشهر الحج بقوله تعالى: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج} وإن كان ذلك محرمًا في سائر الشهور انتهى.
ويؤيد عوده على الأربعة الحرم كونها أقرب مذكور، وكون الضمير جاء بلفظ فيهن، ولم يجئ بلفظ فيها كما جاء منها أربعة حرم، لأنه قد تقرر في علم العربية أن الهاء تكون لما زاد على العشرة تعامل في الضمير معاملة الواحدة المؤنثة فتقول: الجذوع انكسرت، وأنّ النون والهاء والنون للعشرة فما دونها إلى الثلاثة تقول: الأجذاع انكسرن، هذا هو الصحيح.
وقد يعكس قليلًا فتقول: الجذوع انكسرن، والاجذاع انكسرت، والظلم بالمعاصي أو بالنسيء في تحليل شهر محرم وتحريم شهر حلال، أو بالبداءة بالقتال، أو بترك المحارم لعددكم أقوال.
وانتصب كافة على الحال من الفاعل أو من المفعول، ومعناه جميعًا.
ولا يثنى، ولا يجمع، ولا تدخله أل، ولا يتصرف فيها بغير الحال.
وتقدم بسط الكلام فيها في قوله: {ادخلوا في السلم كافة} فأغنى عن إعادته.
والمعية بالنصر والتأييد، وفي ضمنه الأمر بالتقوى والحث عليها. اهـ.