فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا}
استئناف ابتدائي لإقامة نظام التوقيت للأمّة على الوجه الحق الصالح لجميع البشر، والمناسب لما وضع الله عليه نظام العالم الأرضي، وما يتّصل به من نظام العوالم السماوية، بوجه محكم لا مدخل لتحكّمات الناس فيه، وليوضّح تعيين الأشهر الحُرم من قوله: {فإذا انسلخ الأشهر الحرم} [التوبة: 5] بعدما عَقِبَ ذلك من التفاضيل في أحكام الأمن والحرب مع فرق الكفار من المشركين وغيرهم.
والمقصود: ضبط الأشهر الحرم وإبطال مَا أدخله المشركون فيها من النسيء الذي أفسدَ أوقاتها، وأفضى إلى اختلاطها، وأزال حُرمة مالَهُ حرمة منها، وأكسب حرمة لما لا حرمة له منها.
وإن ضبط التوقيت من أصول إقامة نظام الأمة ودفع الفوضى عن أحوالها.
وافتتاح الكلام بحرف التوكيد للاهتمام بمضمونه لتتوجّه أسماع الناس وألبابهم إلى وعْيِهِ.
والمراد بالشهور: الشهور القمرية بقرينة المقام، لأنّها المعروفة عند العرب وعند أغلب الأمم، وهي أقدم أشهر التوقيت في البشر وأضبطها لأنّ اختلاف أحوال القمر مساعد على اتّخاذ تلك الأحوال مواقيت للمواعيد والآجال، وتاريخخِ الحوادث الماضية، بمجرّد المشاهدة، فإنّ القمر كرة تابعة لنظام الأرض.
قال تعالى: {لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5] ولأنّ الاستناد إلى الأحوال السماوية أضبط وأبعد عن الخطأ، لأنّها لا تتناولها أيدي الناس بالتغيير والتبديل، وما حدثت الأشهر الشمسية وسَنتها إلاّ بعد ظهور علم الفلك والميقات، فانتفع الناس بنظام سير الشمس في ضبط الفصول الأربعة، وجعلوها حسابًا لتوقيت الأعمال التي لا يصلح لها إلاّ بعض الفصول، مثل الحرث والحصاد وأحوال الماشية، وقد كان الحساب الشمسي معروفًا عند القبط والكلدانيين، وجاءت التوراة بتعيين الأوقات القمرية للأشهر، وتعيين الشمسية للأعياد، ومعلوم أنّ الأعياد في الدرجة الثانية من أحوال البشر لأنّها راجعة إلى التحسين، فأمّا ضبط الأشهر فيرجع إلى الحاجي.
فألْهم الله البشر، فيما ألهمهم من تأسيس أصول حضارتهم، أن اتّخذوا نظامًا لتوقيت أعمالهم المحتاجة للتوقيت، وأن جعلوه مستندًا إلى مشاهَدات بيّنة واضحة لسائر الناس، لا تنحجب عنهم إلا قليلًا في قليل، ثمّ لا تلبث أن تلوح لهم واضحة باهرة، وألهمهم أن اهتدوا إلى ظواهر ممّا خلق الله له نظامًا مطردًا.
وذلك كواكب السماء ومنازلها، كما قال في بيان حكمة ذلك {هو الذي جعل الشمس ضياءً والقمر نورًا وقدّره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب ما خلق الله ذلك إلاّ بالحق} [يونس: 5]، وإن جعلوا توقيتهم اليومي مستندًا إلى ظهور نور الشمس ومغيبه عنهم، لأنّهم وجدوه على نظام لا يتغيّر، ولاشتراك الناس في مشاهدة ذلك، وبذلك تنظم اليومُ والليلة، وجعلوا توقيتهم الشهري بابتداء ظهور أول أجزاء القمر وهو المسمّى هلالًا إلى انتهاء محاقه فإذا عاد إلى مثل الظهور الأول فذلك ابتداء شَهْر آخر، وجعلوا مراتب أعداد أجزاء المدّة المسمّاةِ بالشهر مرتّبة بتزايد ضوء النصف المضيء من القمر كلّ ليلة، وبإعانة منازل ظهور القمر كلّ ليلة حذوَ شكل من النجوم سَمَّوه بالمنازل.
وقد وجدوا ذلك على نظام مطّرد، ثم ألهمهم فرقبوا المدّة التي عاد فيها الثمَر أو الكلأ الذي ابتدأوا في مثله العَدّ وهي أوقات الفصول الأربعة، فوجدوها قد احتوت على اثني عشر شهرًا فسمّوا تلك المدّة عامًا، فكانت الأشهر لذلك اثني عشر شهرًا، لأنّ ما زاد على ذلك يعود إلى مثل الوقت الذي ابتدأوا فيه الحساب أوّل مرّة، ودعوها بأسماء لتمييز بعضها عن بعض دفعًا للغلط، وجعلوا لابتداء السنين بالحوادث على حسب اشتهارها عندهم، إن أرادوا ذلك وذلك واسع عليهم، فلمّا أراد الله أن يجعل للناس عبادات ومواسم وأعيادًا دورية تكون مرّة في كلّ سنة، أمرهم أن يجعلوا العبادة في الوقت المماثل لوقت أختها ففرض على إبراهيم وبَنِيه حجّ البيت كلّ سنة في الشهر الثاني عشر، وجعل لهم زمنًا محترمًا بينهم يأمنون فيه على نفوسهم وأموالهم ويستطيعون فيه السفر البعيد وهي الأشهر الحرم، فلمّا حصل ذلك كله بمجموع تكوين الله تعالى للكواكب، وإيداعه الإلهام بالتفطّن لحكمتها، والتمكّن من ضبط مطرد أحوالها، وتعيينه ما عين من العبادات والأعمال بمواقيتها، كان ذلك كلّه مرادًا عنده فلذلك قال: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض}.
فمعنى قوله: {إن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا}: أنّها كذلك في النظام الذي وضَع عليه هذه الأرض التي جعلها مقرَّ البشر باعتبار تمايز كلّ واحد فيها عن الآخر، فإذا تجاوزت الاثني عشر صار ما زاد على الاثني عشر مماثلًا لنظير له في وقت حلوله فاعتبر شيئًا مكرّرًا.
و{عند الله} معناه في حكمه وتقديره، فالعندية مجاز في الاعتبار والاعتداد، وهو ظرف معمول لـ {عدّة} أو حال من {عدّة} و{في كتاب الله} صفة لـ {اثنا عشر شهرًا}.
ومعنى {في كتاب الله} في تقديره، وهو التقدير الذي به وُجدت المقدورات، أعني تعلقّ القدرة بها تعلّقًا تنجيزيًا كقوله: {كتابا مؤجلا} [آل عمران: 145] أي قدرا محدّدًا، فكتاب هنا مصدر.
بيان ذلك أنّه لمّا خلق القمر على ذلك النظام أراد من حكمته أن يكون طريقًا لحساب الزمان كما قال: {وقدره منازل لتعلموا عدد السنين والحساب} [يونس: 5] ولذلك قال هنا {يوم خلق السماوات والأرض} فـ {يومَ} ظرف لـ {كتاب الله} بمعنى التقدير الخاصّ، فإنّه لما خلق السماوات والأرض كان ممّا خلَق هذا النظامُ المنتسب بين القمر والأرض.
ولهذا الوجه ذُكرت الأرض مع السماوات دون الاقتصار على السماوات، لأنّ تلك الظواهر التي للقمر، وكان بها القمر مجزَّءًا أجزاء، منذُ كونِه هلالًا، إلى رُبعه الأول، إلى البدر، إلى الربُع الثالث، إلى المحاق، وهي مقادير الأسابيع، إنّما هي مظاهر بحسب سمته من الأرض وانطباع ضوء الشمس على المقدار البادي منه للأرض.
ولأنّ المنازل التي يحلّ فيها بعدد ليالي الشهر هي منازل فرضية بمرأى العين على حسب مسامتته الأرض من ناحية إحدى تلك الكُتل من الكواكب، التي تبدو للعين مجتمعة، وهي في نفس الأمر لها أبعاد متفاوتة لا تآلف بينها ولا اجتماع، ولأنّ طلوع الهلال في مثل الوقت الذي طلع فيه قبلَ أحد عشر طلوعًا من أي وقت ابتُدئ منه العد من أوقات الفصول، إنّما هو باعتبار أحوال أرضية.
فلا جرم كان نظام الأشهر القمرية وسنَتُها حاصلًا من مجموع نظام خلق الأرض وخلق السماوات، أي الأجرام السماوية وأحوالها في أفلاكها، ولذلك ذكرت الأرض والسماوات معًا.
وهذه الأشهر معلومة بأسمائها عند العرب، وقد اصطلحوا على أن جعلوا ابتداء حسابها بعد موسم الحجّ، فمبدأ السنة عندهم هو ظهور الهلال الذي بعد انتهاء الحجّ وذلك هلال المحرّم، فلذلك كان أول السنة العربية شهر المحرم بلا شكّ، ألا ترى قول لبيد:
حتى إذا سَلَخَا جمادَى سِتةً ** جَزْءا فطَال صيامُه وصِيامها

أراد جمادى الثانية فوصفه بستّة لأنّه الشهر السادس من السنة العربية.
وقرأ الجمهور {اثنا عشر} بفتح شين {عشر} وقرأه أبو جعفر {اثنا عْشَرَ} بسكون عين {عشر} مع مدّ ألف اثنا مُشْبَعًا.
والأربعة الحرم هي المعروفة عندهم: ثلاثة منها متوالية لا اختلاف فيها بين العرب وهي ذو القعدة وذو الحجة والمحرّم، والرابع فرد وهو رجب عند جمهور العرب، إلاّ ربيعة فهم يجعلون الرابع رمضان ويسمّونه رَجَبًا، وأحسب أنّهم يصفونه بالثاني مثل ربيع وجمادى، ولا اعتداد بهؤلاء لأنّهم شذّوا كما لم يعتدّ بالقبيلة التي كانت تُحلّ أشهر السنة كلَّها، وهي قضاعة.
وقد بيّن إجمال هذه الآية النبي صلى الله عليه وسلم في خطبة حجّة الوداع بقوله: {منها أربعة حرم} «ذو القعدة وذو الحجّة والمحرم ورجب مُضر الذي بين جمادى وشعبان».
وتحريم هذه الأشهر الأربعة ممّا شرعه الله لإبراهيم عليه السلام لمصلحة الناس، وإقامة الحجّ، كما قال تعالى: {جعل الله الكعبة البيت الحرام قيامًا للناس والشهر الحرام} [المائدة: 97].
واعلم أنّ تفضيل الأوقات والبقاع يشبه تفضيل الناس، فتفضيل الناس بما يصدر عنهم من الأعمال الصالحة، والأخلاق الكريمة، وتفضيل غيرهم ممّا لا إرادة له بما يقارنه من الفضائل، الواقعة فيه، أو المقارِنة له.
فتفضيل الأوقات والبقاع إنّما يكون بجعل الله تعالى بخبر منه، أو بإطْلاع على مراده، لأنّ الله إذا فضلها جعلها مظانّ لتطلّب رضاه، مثل كونها مظانّ إجابة الدعوات، أو مضاعفةِ الحسنات، كما قال تعالى: {ليلة القدر خير من ألف شهر} [القدر: 3] أي من عبادة ألف شهر لمَنْ قبلَنا من الأمم، وقال النبي صلى الله عليه وسلم: «صَلاة في مسجدي هذا خير من ألف صلاة فيما سواه إلاّ المسجدَ الحَرام» والله العليم بالحكمة التي لأجلها فُضّل زمنٌ على زمَن، وفُضّل مكانٌ على مكان والأمور المجعولة من الله تعالى هي شئون وأحوال أرادها الله، فقدَّرها، فأشبهت الأمور الكونيه، فلا يُبطلها إلاّ إبطال من الله تعالى، كما أبطل تقديسَ السبت بالجمعة، وليس للناس أن يجعلوا تفضيلًا في أوقات دينية: لأنّ الأمور التي يجعلها الناس تشبه المصنوعات اليدوية، ولا يكون لها اعتبار إلاّ إذا أريدت بها مقاصد صالحة فليس للناس أن يغيّروا ما جعله الله تعالى من الفضل لأزمنةٍ أو أمكنةٍ أو ناس.
{ذلك الدين القيم}.
الإشارة بقوله: {ذلك} إلى المذكور: من عدّةِ الشهور الاثني عشر، وعدّة الأشهر الحرم.
أي ذلك التقسيم هو الدين الكامل، وما عداه لا يخلو من أن اعتراه التبديل أو التحكّمُ فيه لاختصاص بعض الناس بمعرفته على تفاوتهم في صحّة المعرفة.
والدين: النظام المنسوب إلى الخالق الذي يُدان الناس به، أي يعامَلون بقوانينه.
وتقدّم عند قوله تعالى: {إن الدين عند الله الإسلام} في سورة آل عمران (19)، كما وصف بذلك في قوله تعالى: {فأقم وجهك للدين حنيفًا فطرة الله التي فطر الناس عليها لا تبديل لخلق الله ذلك الدين القيم} [الروم: 30].
فكون عدّة الشهور اثني عشر تحقّق بأصل الخلقة لقوله عقبه {في كتاب الله يوم خلق السماوات والأرض}.
وكون أربعةٍ من تلك الأشهر أشهرًا حُرُما تحقّق بالجعل التشريعي للإشارة عقبه بقوله: {ذلك الدين القيم}، فحصل من مجموع ذلك أنّ كون الشهور اثني عشر وأنّ منها أربعة حرمًا اعتبر من دين الإسلام وبذلك نسخ ما كان في شريعة التوراة من ضبط مواقيت الأعياد الدينية بالتاريخ الشمسي، وأبطل ما كان عليه أهل الجاهلية.