فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



إننا لا نعطي أحدًا هذه الصلاحية إلا إذا تأكدنا بالتجربة أنه عليم بهذه المسألة، وأنه حكيم في تصرفه.
وإن سألك أحد من الناس: لماذا تتصرف في ضوء ما يقوله لك فلان؟ فتقول: إنه حكيم وخبير في هذه المسائل، وهذا دليل منك على أنك واثق في علمه، وواثق في صدقه، وواثق في حكمته.
والمثال الحي المتجدد أمامنا هو سيدنا أبو بكر رضي الله عنه عندما قيل له: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أعلن أنه نبي الله، قال أبو بكر رضي الله عنه: إن كان قد قال فقد صدق. قال أبو بكر رضي الله عنه هذا القول؛ لأنه عرف ولمس أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكذب قط في كل الأحداث السابقة، فإذا كان عليه الصلاة والسلام لا يكذب على أهل الأرض أيكذب على السماء؟ طبعًا هذا غير معقول.
وأنت لا تسلم زمام أمرك للمساوي لك إذا كانت هناك مقدمات أثبتت أنه أعلى منك في ناحية معينة، صحيح أنه مساويك في الفردية وفي الذاتية، ولكنه أعلى منك علمًا في المجال الذي يتفوق فيه.
فما يقوله تنفذه بلا نقاش لأنك وثقت في علمه. وأنت إذا مرضت- لا قدر الله- وكان هناك طبيب تثق في علمه وقال لك: خذ هذا الدواء؛ أتناقشه أو تجادله؟ طبعًا لا، بل تفعل ما يأمرك به بلا نقاش.
فإذا سألك أحدهم: لماذا تتناول هذا الدواء؟ تقول: لقد كتبه لي الطبيب الذي أثق فيه. وهذا يكفي كحيثية للتنفيذ.
فإذا جئنا إلى الله سبحانه الذي أعدَّ لنا هذا الكون وأنزل إلينا منهجًا وطالبنا أن نُسلِمَ له وجوهنا، وأن نفعل ما يأمرنا به في كل أمور الحياة، فإن احتجنا إلى حكمة فهو الحكيم وحده، وإن احتجنا إلى قدرة فهو القادر دائمًا، وإذا احتجنا إلى قهر فهو القاهر فوق عباده، وإن احتجنا إلى رزق فهو الرازق، وعنده كنوز السماوات والأرض. أيوجد من هو أحق من الحق سبحانه لنُسْلمَ زمامنا له ونفعل ما يأمرنا به؟ طبعًا لا يوجد، وإذا سألنا أحد: لماذا نتبع هذا المنهج؟ نقول: إنه سبحانه قد أمرنا باتباعه. وهذا هو الإسلام الحقيقي؛ أن تسلم اختيارك في الحياة لمرادات الخالق الأعلى، فالدين معناه الالتزام والانقياد لله، ولذلك يقول سبحانه: {ذلك الدين القيم} أي قَيِّم على كل أمور حياتنا، والدليل على ذلك قائم فيما تحدثنا عنه، فما دام الله سبحانه وتعالى قد قال، فنحن نفعل. إذن: فالدين قَيِّم علينا. والدين قَيِّم أيضًا على غيره من الرسالات السماوية، أي مُهَيْمِنٌ عليها، وفي هذا يقول الحق: {وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الكتاب بالحق مُصَدِّقًا لِّمَا بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الكتاب وَمُهَيْمِنًا عَلَيْهِ...} [المائدة: 48].
حددت الآية- التي نحن بصدد خواطرنا عنه- أشهرًا حُرمًا يحرم فيها القتال وحذرت من الظلم بالحرب أو غيرها، وقد يقال: إن معنى هذا أن تضعف حمية الحرب عند من يريد الحرب ضد الباطل، فنرى الباطل أمامنا خلال الأشهر الحرم ولا نحارب.
نقول: إن هذا غير صحيح، ففترة السلام هذه تكون شَحْذًا لِهمَمِ المقاتلين ضد الكفر والظلم؛ لأنك قد ترى الباطل أمامك لكنك تمتثل لأمر الله في وقف القتال، فإن ذلك يزيد الانفعال الذي يحدثه الباطل في تحديه للنفس المؤمنة، فإذا انتهت الأشهر الحرم كنت أكثر حماسة. تمامًا كالإنسان الحليم الذي يرى إنسانًا يضايقه باستمرار فيصبر عليه شهرًا واثنين وثلاثة، فإذا نفذ صبره كان غضبه قويًا شديدًا، وقتاله شرسًا، ولذلك قيل: اتقوا غضب الحليم؛ لأن غضبه أقوى من غضب أي إنسان آخر. وكذلك يكون حِلْم المؤمن على الكافر في الأشهر الحرم؛ شحذًا لهمته إذا استمر الباطل في التحدي، وفي هذا تحذير للمسلمين من أن تضعف في نفوسهم فكرة القتال وعزيمتهم فيه، ولذلك يقول الحق سبحانه: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً}
وكلمة {كَآفَّةً} هنا سبقها أمران: {وَقَاتِلُواْ} فإلي أي طرف ترجع {كَآفَّةً} هنا؟ هل تُرجعها إلى المؤمنين المقاتلين، أم إلى المقاتلين من الكفار؟ وهذا إثراء في الأداء القرآني في إيجاد اللفظ الذي يمكن أن نضعه هنا ونضعه هناك فيعطيك المعنى.
ولكن هل يريدنا الحق أن نقاتل المشركين حالة كوننا- نحن المؤمنين- كافة؟ أم نقاتل المشركين حالة كونهم كافة؟. إن {كَآفَّةً} كما نعرف لفظ لا يُجمَعُ ولا يُثنَّى، فالرجل كافة، والرجلان كافة، والقوم كافة، وهي مأخوذة من الكف. وتطلق أيضًا على حافة الشيء لأنها منعت امتداده إلى حيز غيره. وفي لغة من يقومون بحياكة الملابس يقال: كافة الثوب حين يكون الثوب حين يكون الثوب قد تنسل، فيقول الحائك بمنع التنسيل بتكفيف الثوب.
والحق سبحانه هنا يقول: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً} أي: يا أيها المؤمنون كونوا جميعًا في قتال المشركين. وهي تصلح للفرد، أي: للمقاتل الواحد، وللمقاتليْن، ولجماعة المقاتلين.
وقوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَآفَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَآفَّةً} ذلك أن الباطل يتجمع مع الباطل دائمًا، والمثال الواضح في السيرة أن يهود المدينة تحالفوا مع الكفار ضد المسلمين، فكما أن الباطل يجتمع مع بعضه البعض فاجمعوا أنتم أيها المؤمنون وأصحاب الحق قوتكم لتواجهوا باطل الكفر والشرك.
ويقول الإمام علي كرم الله وجهه: أعجب كل العجب من تضافر الناس على باطلهم وفشلكم عن حقكم ويتعجب الإمام علي رضي الله عنه من أن أهل الحق يفرطون في حقهم رغم اجتماع أهل الباطل على باطلهم. ويعطينا القرآن صورة من تجمُّع أهل الباطل في قول اليهود لكفار مكة: {هؤلاء أهدى مِنَ الذين آمَنُواْ سَبِيلًا...} [النساء: 51].
أي أن اليهود قالوا: إن عبدة الأصنام أهدى من رسول الله صلى الله عليه وسلم وأتباعه، قالوا ذلك رغم أن كتبهم قد ذكرت لهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سيأتي بالدين الخاتم حتى إنهم كانوا يقولون لأهل المدينة من المشركين: لقد أطل زمان نبي سنتبعه ونقتلكم به قتل عاد وإرم. كذلك في كتب أهل الكتاب نبأ رسول الله وأوصافه وزمانه. وعندما تحقق ما في كتبهم كفروا به واجتمعوا مع أهل الباطل.
وهنا يوضح لنا الحق: ما دام الباطل قد اجتمع عليكم وأنتم على الحق فلابد أن تجتمعوا على دحض الباطل وإزهاقه؛ ولذلك يقول سبحانه وتعالى: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} إذن: فالله يأمر المؤمنين بأن يجتمعوا على قتال الكافرين، ولأن الله مع الذين آمنوا؛ لذلك فهو ينصر المؤمنين، وإذا وُجدَ الله مع قوم ولم يوجد مع آخرين، فأيُّ الكفتين أرجح؟ لابد من رجحان كفة المؤمنين.
{واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين}
والعلم- كما قلنا- حكم يقين عليه دليل، أي لا يحتاج إلى دليل؛ لأن العلم هو أن تأتي بقضية غير معلومة، ثم تقيم الدليل عليها لتصبح يقينًا.
وإذا قال الله سبحانه وتعالى: {واعلموا} فالعلم هنا ينتقل من علم يقين إلى عين يقين. والعلم- كما نعرف- قضية معلومة في النفس يؤيدها الواقع وتستطيع أن تقيم عليها الدليل. فإذا علمت بشيء أخبرت به، ويقينك بما علمت يكون على قدر ثقتك بمن أخبرك.
والمثال: حين قيل لأبي بكر رضي الله عنه: إن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «إنه أُسْرِيَ به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى وعُرِجَ به إلى السماء السابعة، هنا قال الصدِّيق: إن كان قد قال فقد صدق»، وكانت هذه هي ثقته في القائل، وهو يستمد منها الثقة فيما قال وروي.
وحينما أخبر رسول الله صلى الله عليه وسلم سيدتنا خديجة رضي الله عنها بخبر الوحي وأبدى خوفه مما يرى، قالت: «كلا والله ما يخزيك الله أبدًا، إنك لتصِلُ الرحم، وتحمل الكَلَّ، وتَكْسِبُ المعدوم، وتقري الضيف، وتعين على نوائب الحق»، وهي بذلك قد أخذت من المقدمات حيثيات الحكم وكانت أول مجتهدة في الإسلام عملت بالقياس. فقد قاست الحاضر بالماضي.
وعندما يقول الحق: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} فيكفينا أن يكون هذا كلام الله سبحانه ليكون يقينًا في نفوسنا، وهناك علم يقين يأتيك ممن تثق في علمه وصدقه، وأنت إن رأيت الشيء الذي أخبرت به وشاهدته يصبح عين يقين، فإذا اختبرته وعِشْت فيه يصبح حقَّ يقين.
وحين قال الحق: {واعلموا أَنَّ الله مَعَ المتقين} وجدنا بعض المؤمنين قد أخذوها على أنها علم عين يقين، أو حق يقين؛ لأنهم شاهدوا ذلك في المعارك حين كانوا قلة، فمن أخذ كلام الله دون مناقشة عقلية- لأن الله هو القائل- أخذه علم يقين. والذي أخذ الكلام على أنه يصل إلى درجة المشاهدة أخذه على أنه حق يقين، والذي أخذ الكلام كأنه عايشه فهذا عين يقين، ولكي نعرف هذه المنازل نقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أَلْهَاكُمُ التكاثر حتى زُرْتُمُ المقابر كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ اليقين} [التكاثر: 1-5].
وهذه أولى الدرجات: علم يقين؛ لأنه صادر عن الحق سبحانه وتعالى: {لَتَرَوُنَّ الجحيم ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ اليقين} [التكاثر: 6-7].
أي: أنكم في الآخرة سوف ترونها بأعينكم بعد أن كنتم مؤمنين بها كعلم يقين، أما الآن فقد أصبحت عين يقين أي مشاهدة بالعين. وفي هذه السورة أعطانا الحق مرحلتين من مراحل اليقين هما: علم اليقين وعين اليقين، ففي الآخرة سوف يُضرب الصراط على جهنم، ويرى الناس- كل الناس، المؤمن منهم والكافر- نار جهنم، وهم يمرون فوق الصراط، ويرونها مشتعلة متأججة، وحين يمر المؤمن فوق الصراط ويرى جهنم وهولها، يعرف كيف نجاه الإيمان من هذا العذاب الرهيب فيفرح؛ فإذا دخل الجنة ورأى نعيمها يزداد فرحة؛ فله فرحة بأنه نجا من العذاب، وفرحة بالنعم وبالمنعم، ويقول المؤمن: الحمد لله الذي أنقذني من النار.
وهذه نعمة كبيرة وفوز عظيم، ولذلك يقول الحق: {فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النار وَأُدْخِلَ الجنة فَقَدْ فَازَ...} [آل عمران: 185].
فالنجاة من النار وحدها فضل كبير، ودخول الجنة فضل أكبر، والحق هو القائل: {وَإِن مِّنكُمْ إِلاَّ وَارِدُهَا كَانَ على رَبِّكَ حَتْمًا مَّقْضِيًّا} [مريم: 71].
ويَرِدُ الشيء أي يصل إليه دون أن يدخل فيه، ويقال: ورد الماء أي وصل إلى مكانه دون أن يشرب منه. إذن فكل منا سوف يرى جهنم، ويعرف المؤمن نعمة الله عليه؛ لأنه أنجاه منها، ويندم الكافر؛ لأنه يُعذب فيها.
وقد ضربت من قبل مثلًا- ولله المثل الأعلى- بالقراءة عن مدينة نيويورك في الولايات المتحدة الأمريكية، ويعرف القارئ أنه مبنية على عدة جزر، وفيها ناطحات سحاب وأنها مزدحمة بالسكان، وهذه القراءة هي علم يقين، فإذا ركب الإنسان الطائرة ورآها من الجو يكون ذلك عين يقين، فإذا ما نزل وعاش على أرضها بين ناطحاتها وعايش ازدحامها بالسكان يكون ذلك حق اليقين.
وفي سورة التكاثر جاء الله سبحانه وتعالى بمرحلتين فقط من مراحل اليقين، وجاء بالمرحلة الثالثة في سورة الواقعة، فقال: {فَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المقربين فَرَوْحٌ وَرَيْحَانٌ وَجَنَّتُ نَعِيمٍ وَأَمَّا إِن كَانَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين فَسَلاَمٌ لَّكَ مِنْ أَصْحَابِ اليمين وَأَمَّا إِن كَانَ مِنَ المكذبين الضآلين فَنُزُلٌ مِّنْ حَمِيمٍ وَتَصْلِيَةُ جَحِيمٍ إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ اليقين} [الواقعة: 88-95].
وحقُّ اليقين هو آخر مراحل العلم، والإنسان قد يكابر في حقيقة ما حين يقرؤها، وقد يجادل في حقيقة يشاهدها، ولكنه لا يستطيع أن يكابر في واقع يعيشه، وقد حدث ذلك وحملته لنا سطور الكتب عن سيدنا عمر وقد قال عن أحد المعارك: وحينما شهرت سيفي لأقصف رأس فلان؛ وجدت شيئًا سبقني إليه وقصف رأسه أي: هناك من شاهد ذلك بنفسه. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ}
أخرج أحمد والبخاري ومسلم وأبو داود وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ وابن مردويه والبيهقي في شعب الإِيمان عن أبي بكرة أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا: منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو العقدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان».
وأخرج البزار وابن جرير وابن مردويه عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات، ورجب مضر بين جمادى وشعبان».
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عمر رضي الله عنهما قال: خطب رسول الله صلى الله عليه وسلم في حجة الوداع بمنى في أوسط أيام التشريق فقال: «أيها الناس إن الزمان قد استدار فهو اليوم كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، وإن عدة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، أولهن رجب مضر بين جمادى وشعبان، وذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم».