فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{إِنَّمَا النَّسِيءُ زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}
{إِنَّمَا النسىء} هو مصدر نسأه إذا أخره وجاء النسي كالنهي والنسء كالبدء والنساء كالنداء وثلاثتها مصادر نسأه كالنسئ، وقيل: هو وصف كقتيل وجريح، واختير الأول لأنه لا يحتاج معه إلى تقدير بخلاف ما إذا كان صفة فإنه لا يخبر عنه بزيادة إلا بتأويل ذو زيادة أو إنساء النسيء زيادة، وقد قرئ بجميع ذلك.
وقرأ نافع {النسي} بإبدال الهمزة ياء وإدغامها في الياء، والمراد به تأخير حرمة شهر إلى آخر، وذلك أن العرب كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرموا مكانه شهرًا آخر فيستحلون المحرم ويحرمون صفرًا فإن احتاجوا أيضًا أحلوه وحرموا ربيعًا الأول وهكذا كانوا يفعلون حتى استدال التحريم على شهور السنة كلها، وكانوا يعتبرون في التحريم مجرد العدد لا خصوصية الأشهر المعلومة، وربما زادوا في عدد الشهور بأن يجعلوها ثلاثة عشر أو أربعة عشر ليتسع لهم الوقت ويجعلوا أربعة أشهر من السنة حرامًا أيضًا، ولذلك نص على العدد المعين في الكتاب والسنة، وكان يختلف وقت حجهم لذلك، وكان في السنة التاسعة من الهجرة التي حج بها أبو بكر رضي الله تعالى عنه بالناس في ذي القعدة وفي حجة الوداع في ذي الحجة وهو الذي كان على عهد إبراهيم عليه السلام ومن قبله من الأنبياء عليهم السلام.
ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «ألا إن الزمان قد استدار» الحديث، وفي رواية أنهم كانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي الحجة عامين وفي المحرم عامين وهكذا، ووافقت حجة الصديق في ذي القعدة من سنتهم الثانية، وكانت حجة رسول الله صلى الله عليه وسلم في الوقت الذي كان من قبل ولذا قال ما قال، أي إنما ذلك التأخير {النسىء زِيَادَةٌ في الكفر} الذي هم عليه لأنه تحريم ما أحل الله تعالى وقد استحلوه واتخذوه شريعة وذلك كفر ضموه إلى كفرهم.
وقيل: إنه معصية ضمت إلى الكفر وكما يزداد الإيمان بالطاعة يزداد الكفر بالمعصية.
وأورد عليه بأن المعصية ليست من الكفر بخلاف الطاعة فإنها من الإيمان على رأي.
وأجيب عنه بما لا يصفو عن الكدر {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} إضلالًا على إضلالهم القديم، وقرئ {يُضِلَّ} على البناء للفاعل من الأفعال على أن الفاعل هو الله تعالى، أي يخلق فيهم الضلال عند مباشرتهم لمباديه وأسبابه وهو المعنى على قراءة الأولى أيضًا، وقيل الفاعل في القراءتين الشيطان، وجوز على القراءة الثانية أن يكون الموصول فاعلًا والمفعول محذوف أي أتباعهم، وقيل: الفاعل الرؤساء والمفعول الموصول.
وقرئ {يُضِلَّ} بفتح الياء والضاد من ضلل يضلل، و{نضل} بنون العظمة {كَفَرُواْ يُحِلُّونَهُ} أي الشهر المؤخر، وقيل: الضمير للنسيء على أنه فعيل بمعنى مفعول {عَامًا} من الأعوام ويحرمون مكانه شهرًا آخر مما ليس بحرام {وَيُحَرّمُونَهُ} أي يحافظون على حرمته كما كانت، والتعبير عن ذلك بالتحريم باعتبار إحلالهم في العام الماضي أو لإسنادهم له إلى آلهتهم كما سيجيء إن شاء الله تعالى: {عَامًا} آخر إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، قال الكلبي: أول من فعل ذلك رجل من كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة وكان إذا هم الناس بالصدور من الموسم يقوم فيخطب ويقول لا مردّ لما قضيت أنا الذي لا أعاب ولا أخاب فيقول له المشركون: لبيك ثم يسألونه أن ينسئهم شهرًا يغزون فيه فيقول: إن صفر العام حرام فإذا قال ذلك حلوا الأوتار ونزعوا الأسنة والأزجة وإن قال حلال عقدوا الأوتار وركبوا الأزجة وأغاروا.
وعن الضحاك أنه جنادة بن عوف الكناني وكان مطاعًا في الجاهلية وكان يقوم على جمل في الموسم فينادي بأعلى صوته إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه ثم يقوم في العام القابل فيقول: إن آلهتكم قد حرمت: عليكم المحرم فحرموه، وأخرج ابن مردويه عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: كانت النساءة حي من بني مالك بن كنانة وكان آخرهم رجلًا يقال له القلمس وهو الذي أنسأ المحرم وكان ملكًا في قومه وأنشد شاعرهم:
ومنا ناسئ الشهر القلمس

وقال الكميت:
ونحن الناسئون على معد ** شهور الحل نجعلها حرامًا

وفي رواية أخرى عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أن أول من سن النسيء عمرو بن حلي بن قمعة بن خندف.
والجملتان تفسير للضلال فلا محل لهما من الإعراب، وجوز أن تكونا في محل نصب على أنهما حال من الموصول والعامل عامله {لّيُوَاطِئُواْ} أي ليوافقوا، وقرأ الزهري {ليوطئوا} بالتشديد {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} من الأشهر الأربعة، واللام متعلقة بيحرمونه أي يحرمونه لأجل موافقة ذلك أو بما دل عليه مجموع الفعلين أي فعلوا ما فعلوا لأجل الموافقة، وجعله بعضهم من التنازع {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} بخصوصه من الأشهر المعينة، والحاصل أنه كان الواجب عليهم العدة والتخصيص فحيث تركوا التخصيص فقد استحلوا ما حرم الله تعالى: {زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} وقرئ على البناء للفاعل وهو الله تعالى أي جعل أعمالهم مشتهاة للطبع محبوبة للنفس، وقيل: خذلهم حتى رأوا حسنًا ما ليس بالحسن، وقيل: المزين هو الشيطان وذلك بالوسوسة والإغواء بالمقدمات الشعرية {والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} هداية موصلة للمطلوب البتة وإنما يهديهم إلى ما يوصل إليه عند سلوكه وهم قد صدوا عنه بسوء اختيارهم فتاهوا في تيه الضلال، والمراد من الكافرين إما المتقدمون ففيه وضع الظاهر موضع الضمير أو الأعم ويدخلون فيه دخولًا أوليًا. اهـ.

.قال القاسمي:

{إِنَّمَا النَّسِيءُ} أي: تأخير حرمة شهر إلى شهر آخر مصدر نسأه إذا أخره {زِيَادَةٌ فِي الْكُفْرِ}، لأنه تحليل ما حرمه الله، وتحريم ما حلله، فهو كفر آخر مضموم إلى كفرهم {يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا} أي: بالله عن أحكامه إذا يجمعون بين الحلّ والحرمة في شهر واحد {يُحِلُّونَهُ عَامًا} أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم سنة، ويحرمون مكانه شهرًا آخر.
{وَيُحَرِّمُونَهُ عَامًا} أي: يتركونه على حرمته القديمة، ويحافظون عليها سنة أخرى، إذا لم يتعلق بتغييره غرض من أغراضهم، والتعبير عن ذلك بالتحريم، باعتبار إحلالهم له في العام الماضي، والجملتان تفسير للضلال، أو حال.
قال الزمخشري: النسيء تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، وذلك أنهم كانوا أصحاب حروب وغارات، فإذا جاء الشهر الحرام، وهم محاربون، شق عليهم ترك المحاربة، فيحلونه ويحرمون مكانه شهرًا آخر، حتى رفضوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم، فكانوا يحرمون من أشق شهور العام أربعة أشهر، وذلك قوله تعالى: {لِيُوَاطِئُوا عِدَّةَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ} أي: ليوافقوا العدة التي هي الأربعة، ولا يخالفوها، وقد خالفوا التخصيص الذي هو أحد الواجبين، وربا زادوا في عدد الشهور، فيجعلونا ثلاثة عشر، أو أربعة عشر، ليتسع لهم الوقت.
ولذلك قال عز وعلا: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا} يعني من غير زيادة زادوها {فَيُحِلُّوا مَا حَرَّمَ اللَّهُ} بتركهم التخصيص للأشهر بعينها {زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمَالِهِمْ} فاعتقدوا قبيحها حسنًا: {وَاللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ}.
اعلم أن في هاتين الآيتين مسائل:
الأولى: أن الأحكام تعلق بالأشهر العربية، وهي شهور الأهلة، دون الشهور الشمسية.
قيل: جعلُ أول الشهور الهلالية المحرم، حَدَثَ في عهد عمر رضي الله عنه، وكان قبل ذلك يؤرخ بعام الفيل، ثم أرخ في صدر الإسلام بربيع الأول.
وقد نقل ابن كثير هنا عن السخاوي وجوه تسمية الأشهر بما سميت به، ونحن نورد ذلك مأثورًا عن أمهات اللغة المعول عليها فنقول:
1- المحرم: على أنه اسم المفعول، هو أول الشهور العربية، أدخلوا عليه الألف واللام لمْحًا للصفة في الأصل، وجعلوها علمًا بهما، مثل النجم والدبران ونحوهما، ولا يجوز دخولهما على غيره من الشهور عند قوم، وعند قوم يجوز على صفر وشوال.
وجمعُ المحرم محرمات، والمحرم شهر الله، سمته العرب بهذا الاسم، لأنهم كانوا لا يستحلون فيه القتال، وأضيف إلى الله تعالى إعظامًا له، كما قيل للكعبة بيت الله. وقيل: سمي بذلك، لأنه من الأشهر الحرم. قال ابن سيده: وهذا ليس بقوي.
2- صفر: الشهر الذي بعد المحرم. قال بعضهم: إنما سمي لأنهم كانوا يمتارون الطعام فيه من المواضع. وقيل: لإصفار مكة من أهلها إذا سافروا. وروي عن رؤبة أنه قال: سموا الشهر صفرًا، لأنهم كانوا يغزون فيه القبائل، فيتركون من لقوا صِفْرًا من المتاع، وذلك أن صفرًا بعد المحرم، فقالوا: صفر الناس منا صفرًا. قال ثعلب: الناس كلهم يصرفون صفرًا إلا أبا عبيدة، فمنعه للعلمية والتأنيث، بإرادة الساعة، يعني أن الأزمنة كلها ساعات، وإذا جمعوه مع المحرم قالوا: صفران، ومنه قول أبي ذُؤَيب:
أَقامتْ بِه كمقَام الحني فـ ** شَهْرَيْ جُمَادَى وشَهْرَيْ صَفَرْ

استشهد به في اللسان في مادة: ص ف ر، وليس في ديوان الهذليين.
قال ابن دريد: الصفران من السنة شهران، سمي أحدهما في الإسلام المحرم؛ وجمعه أصفار، مثل سبب وأسباب، وربما قيل: صفرات.
3و 4 بعضهم: ع شهران بعد صفر، سميا بذلك لأنهما حُدَّا في هذا الزمن، فلزمهما في غيره قالوا: لا يقال فيهما إلا شهر ربيع الأول وشهر ربيع الآخر، بزيادة شهر وتنوين ربيع، وجعل الأول والآخر وصفًا تابعًا في الإعراب، ويجوز فيه الإضافة، وهو من باب إضافة الشيء إلى نفسه عند بعضهم، لاختلاف اللفظين، نحو: {وَحَبَّ الْحَصِيدِ} {وَلَدَارُ الْآخِرَةِ}، و: {حَقُّ الْيَقِينِ}، ومسجد الجامع. قال بعضهم: إنما التزمت العرب لفظ شهر قبل ربيع، لأن لفظ ربيع مشترك بين الشهر والفصل، فالتزموا لفظ شهر في الشهر، وحذفوه في الفصل للفصل.
قال الأزهري أيضًا: والعرب تذكر الشهور كلها مجردة من لفظ شهر إلا شهري ربيع ورمضان.
ويثنّى الشهر ويجمع، فيقال شهرا ربيع، وأشهر ربيع، وشهور ربيع.
5و 6- جمادى الأولى والآخرة، كحُبارى، الشهران التاليان لشهري ربيع. وجمادى معرفة مؤنثة. قال ابن الأنباري: أسماء الشهور كلها مذكرة، إلا جماديين، فهما مؤنثان. تقول مضت جمادى بما فيها، قال الشاعر:
إذا جُمادى مَنَعَتْ قَطْرَها ** زان جِنَاني عَطَنٌ مُغْضِفُ

ثم قال: فإن جاء تذكير جمادى في شعر، فهو ذهاب إلى معنى الشهر. كما قالوا: هذه ألف درهم، على معنى هذه الدراهم.
والجمع على لفظها جماديات، والأولى والآخرة صفة لها، فالآخرة بمعنى المتأخرة.
قالوا: ولا يقال جمادى الأخرى، لأن الأخرى بمعنى الواحدة فتتناول المتقدمة والمتأخرة، فيحصل اللبس. فقيل الآخرة لتختص بالمتأخرة، وإنما سميت بذلك لجمود الماء فيها، عند تسمية الشهور، من البرد. قال:
في ليلةٍ من جُمَادى ذاتِ أنديةٍ ** لا يُبْصِرُ الكلب من ظلمائها الطُّنُبا

لا ينبح الكلبُ فيها غير واحدة ** حتى يَلُفَّ على خُرْطُومِهِ الذَّنَبَا

7- رجب: سمي به لتعظيمهم إياه في الجاهلية عن القتال فيه يقال: رَجَبَ فلانًا، هابه وعظمه. كرجّبه. منصرف وله جموع: أرجاب وأرجبة وأرجُب، ورجاب ورجوب وأراجب، وأراجيب ورجبانات.
وإذا ضموا له شعبان قالوا رجبان للتغليب.
وفي الحديث: «رجب مضر الذي بين جمادى وشعبان»، وقوله: «بين جمادى وشعبان» تأكيد للشأن وإيضاح، لأنهم كانوا يؤخرونه من شهر إلى شهر، فيتحول عن موضعه الذي يختصّ به، فبيّن لهم أنه الشهر الذي بين جمادى وشعبان، لا ما كانوا يسمونه على حساب النسيء، وإنما قيل: رجب مضر وأضافَهُ إليهم، لأنهم كانوا أشد تعظيمًا له من غيرهم، وكأنهم اختصوا به، وذكر له بعضهم سبعة عشر اسمًا.