فصل: قال صاحب المنار في الآيتين:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فيحللون بعضها ويحرّمون مكانه بقدره من غير الأشهر الحرم، فهذا هو معنى النسيء الذي كانوا يفعلونه.
وقد وقع الخلاف في أوّل من فعل ذلك، فقيل: هو رجل من بني كنانة يقال له حذيفة بن عتيد.
ويلقب القلمس، وإليه يشير الكميت بقوله:
ألسنا الناشئين على معد ** شهور الحلّ نجعلها حراما

وفيه يقول قائلهم:
ومنا ناسيء الشهر القلمس

وقيل: هو عمرو بن لحيّ، وقيل: هو نعيم بن ثعلبة من بني كنانة، وسمى الله سبحانه النسيء زيادة في الكفر؛ لأنه نوع من أنواع كفرهم، ومعصية من معاصيهم المنضمة إلى كفرهم بالله وكتبه ورسله واليوم الآخر.
قوله: {يُضَلُّ بِهِ الذين كَفَرُواْ} قرأ أهل الحرمين وأبو عمرو وابن عامر {يضلّ} على البناء للمعلوم.
وقرأ الكوفيون على البناء للمجهول.
ومعنى القراءة الأولى: أن الكفار يضلون بما يفعلونه من النسيء، ومعنى القراءة الثانية، أن الذي سنّ لهم ذلك يجعلهم ضالين بهذه السنة السيئة، وقد اختار القراءة الأولى أبو حاتم، واختار القراءة الثانية أبو عبيد، وقرأ الحسن وأبو رجاء ويعقوب {يضل} بضم الياء وكسر الضاد على أن فاعله الموصول، ومفعوله محذوف.
ويجوز أن يكون فاعله هو الله سبحانه، ومفعوله الموصول.
وقرئ بفتح الياء والضاد من ضلّ يضلّ.
وقرئ {نضلّ} بالنون.
قوله: {يُحِلُّونَهُ عَامًا وَيُحَرّمُونَهُ عَامًا} الضمير راجع إلى النسيء: أي يحلون النسيء عامًا ويحرّمونه عامًا، أو إلى الشهر الذي يؤخرونه ويقاتلون فيه، أي يحلونه عامًا بإبداله بشهر آخر من شهور الحل، ويحرّمون عامًا، أي يحافظون عليه فلا يحلون فيه القتال، بل يبقونه على حرمته.
قوله: {لّيُوَاطِئُواْ عِدَّةَ مَا حَرَّمَ الله} أي: لكي يواطئوا، والمواطأة: الموافقة، يقال: تواطأ القوم على كذا: أي توافقوا عليه واجتمعوا.
والمعنى: إنهم لم يحلوا شهرًا إلا حرّموا شهرًا لتبقى الأشهر الحرم أربعة، قال قطرب: معناه عمدوا إلى صفر فزادوه في الأشهر الحرم، وقرنوه بالمحرّم في التحريم.
وكذا قال الطبري.
قوله: {فَيُحِلُّواْ مَا حَرَّمَ الله} أي: من الأشهر الحرم التي أبدلوها بغيرها {زُيّنَ لَهُمْ سُوء أعمالهم} أي: زين لهم الشيطان الأعمال السيئة التي يعملونها، ومن جملتها النسيء.
وقرئ على البناء للفاعل.
{والله لاَ يَهْدِي القوم الكافرين} أي: المصرّين على كفرهم المستمرين عليه فلا يهديهم هداية توصلهم إلى المطلوب، وأما الهداية بمعنى الدلالة على الحق والإرشاد اليه فقد نصبها الله سبحانه لجميع عباده.
وقد أخرج البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث أبي بكر أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب في حجته فقال: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض، السنة اثنا عشر شهرًا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، وذو الحجة، والمحرم، ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وأخرج نحوه ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، من حديث ابن عمر.
وأخرج نحوه ابن المنذر، وأبو الشيخ، وابن مردويه، من حديث ابن عباس.
وأخرج نحوه أيضًا البزار، وابن جرير، وابن مردويه، من حديث أبي هريرة.
وأخرجه أحمد، وابن مردويه، من حديث أبي حرة الرقاشي عن عمه مرفوعًا مطوّلًا.
وأخرج سعيد بن منصور، وابن مردويه، عن ابن عباس {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ} قال: المحرّم، ورجب، وذو القعدة، وذو الحجة.
وأخرج أبو الشيخ، عن الضحاك قال: إنما سمين حرمًا لئلا يكون فيهنّ حرب.
وأخرج ابن المنذر، وابن أبي حاتم، والبيهقي في الشعب، عن ابن عباس في قوله: {إِنَّ عِدَّةَ الشهور عِندَ الله اثنا عَشَرَ شَهْرًا فِي كتاب الله} ثم اختصّ من ذلك أربعة أشهر فجعلهنّ حرمًا، وعظم حرماتهنّ، وجعل الدين فيهنّ أعظم، والعمل الصالح والأجر أعظم {فَلاَ تَظْلِمُواْ فِيهِنَّ أَنفُسَكُمْ} قال: في كلهنّ {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} يقول جميعًا.
وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن مقاتل، في قوله: {وَقَاتِلُواْ المشركين كَافَّةً} قال: نسخت هذه الآية كل آية فيها رخصة.
وأخرج الطبراني، وأبو الشيخ، وابن مردويه، عن عمرو بن شعيب، عن أبيه، عن جدّه، قال: كانت العرب يحلون عامًا شهرًا وعامًا شهرين، ولا يصيبون الحج إلا في كل سنة، وعشرين سنة مرة، وهي النسيء الذي ذكره الله في كتابه، فلما كان عام حجّ أبو بكر بالناس، وافق ذلك العام، فسماه الله الحجّ الأكبر، ثم حج رسول الله صلى الله عليه وسلم من العام المقبل، واستقبل الناس الأهلة، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض» وأخرج ابن أبي حاتم، وأبو الشيخ، عن ابن عمر، قال: وقف رسول الله صلى الله عليه وسلم بالعقبة فقال: «إِنَّمَا النَّسِيءُ من الشيطان زيادة في الكفر، يضلّ به الذين كفروا يحلونه عامًا ويحرّمونه عامًا، فكانوا يحرّمون المحرّم عامًا ويستحلون صفر، ويحرّمون صفر عامًا ويستحلون المحرّم، وهي: النسيء» وأخرج ابن جرير، وابن المنذر، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، عن ابن عباس، قال: كان جنادة بن عوف الكناني يوافي الموسم كل عام، وكان يكنى أبا ثمامة، فينادي ألا إن أبا ثمامة لا يخاب ولا يعاب، ألا وإن صفر الأوّل العام حلال، فيحله للناس، فيحرّم صفر عامًا، ويحرّم المحرّم عامًا.
فذلك قوله تعالى: {إِنَّمَا النسىء زِيَادَةٌ في الكفر} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم، عنه، في الآية قال: المحرّم كانوا يسمونه صفر، وصفر يقولون: صفران الأوّل والآخر، يحلّ لهم مرّة الأوّل، ومرّة الآخر.
وأخرج ابن مردويه، عنه، قال: كانت النساءة حي من بني مالك من كنانة من بني فقيم، فكان آخرهم رجلًا يقال له: القلمس، وهو الذي أنسأ المحرم. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيتين:

{إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ}
هَاتَانِ الْآيَتَانِ عَوْدٌ إِلَى الْكَلَامِ فِي أَحْوَالِ الْمُشْرِكِينَ، وَمَا يُشْرَعُ مِنْ مُعَامَلَتِهِمْ بَعْدَ الْفَتْحِ، وَسُقُوطِ عَصَبِيَّةِ الشِّرْكِ، وَكَانَ الْكَلَامُ فِي قِتَالِ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَمَا يَجِبُ أَنْ يَنْتَهِيَ بِهِ مِنْ إِعْطَاءِ الْجِزْيَةِ مِنْ قَبِيلِ الِاسْتِطْرَادِ، اقْتَضَاهُ مَا ذُكِرَ قَبْلَهُ مِنْ أَحْكَامِ قِتَالِ الْمُشْرِكِينَ وَمُعَامَلَتِهِمْ. وَقَدْ خُتِمَ الْكَلَامُ فِي أَهْلِ الْكِتَابِ بِبَيَانِ حَالِ كَثِيرٍ مِنْ رِجَالِ الدِّينِ الَّذِينَ أَفْسَدَتْ عَلَيْهِمْ دِينَهُمُ الْمَطَامِعُ الْمَالِيَّةُ، الَّتِي هِيَ وَسِيلَةُ الْعَظَمَةِ الدُّنْيَوِيَّةِ، وَالشَّهَوَاتِ الْحَيَوَانِيَّةِ، وَإِنْذَارِ مَنْ كَانَتْ هَذِهِ حَالُهُمْ بِالْعَذَابِ الشَّدِيدِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وَجُعِلَ هَذَا الْإِنْذَارُ مُوَجَّهًا إِلَيْنَا وَإِلَيْهِمْ جَمِيعًا. وَمِنْ ثَمَّ كَانَ التَّنَاسُبُ بَيْنَ الْكَلَامِ فِيمَا يَشْتَرِكُ فِيهِ الْمُسْلِمُونَ مَعَ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنَ الْوَعِيدِ عَلَى أَكْلِ أَمْوَالِ النَّاسِ بِالْبَاطِلِ وَكَنْزِ النَّقْدَيْنِ، إِلَى مَا يَجِبُ أَنْ يُخَالِفُوا فِيهِ الْمُشْرِكِينَ مِنْ إِبْطَالِ النَّسِيءِ، وَمِنْ أَحْكَامِ الْقِتَالِ- تَنَاسُبًا ظَاهِرًا قَوِيًّا، وَهُنَالِكَ مُنَاسَبَةٌ دَقِيقَةٌ بَيْنَ حِسَابِ الشُّهُورِ الْقَمَرِيَّةِ عِنْدَ الْعَرَبِ، وَحِسَابِ الشُّهُورِ الشَّمْسِيَّةِ عِنْدَ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَإِنْ لَمْ يُصَرِّحْ فِيهِ بِمُخَالَفَتِهِمْ فِي حِسَابِهِمْ، قال تعالى: {إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ}.
الْمُرَادُ الشُّهُورُ الَّتِي تَتَأَلَّفُ مِنْهَا السَّنَةُ الْقَمَرِيَّةُ وَوَاحِدُهَا شَهْرٌ، وَهُوَ اسْمٌ لِلْهِلَالِ أَوِ الْقَمَرِ مِنْ مَادَّةِ الشُّهْرَةِ، ثُمَّ سُمِّيَتْ بِهِ الْأَيَّامُ مِنْ أَوَّلِ ظُهُورِ الْهِلَالِ إِلَى سِرَارِهِ، وَمَبْلَغُ عِدَّتِهَا اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِيمَا كَتَبَهُ اللهُ، وَأَثْبَتَهُ مِنْ نِظَامِ سَيْرِ الْقَمَرِ وَتَقْدِيرِهِ مَنَازِلَ، يَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ عَلَى هَذَا الْوَضْعِ الْمَعْرُوفِ لَنَا مِنْ لَيْلٍ وَنَهَارٍ إِلَى الْآنِ، وَالْمُرَادُ بِيَوْمَ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ: الْوَقْتُ الَّذِي خَلَقَهُمَا فِيهِ بِاعْتِبَارِهِ تَمَامَهُ وَنِهَايَتَهُ فِي جُمْلَتِهِ، وَهُوَ سِتَّةُ أَيَّامٍ مِنْ أَيَّامِ التَّكْوِينِ بِاعْتِبَارِ تَفْصِيلِهِ وَخَلْقِ كُلٍّ مِنْهُمَا وَمَا فِيهِمَا.
فَالْكِتَابُ يُطْلَقُ عَلَى نِظَامِ الْخَلْقِ وَالتَّقْدِيرِ وَالسُّنَنِ الْإِلَهِيَّةِ فِيهِ؛ لِأَنَّهُ ثَابِتٌ كَالشَّيْءِ الْمَكْتُوبِ الْمَحْفُوظِ الَّذِي لَا يُنْسَى، أَوْ لِأَنَّهُ تَعَالَى كَتَبَ كُلَّ نِظَامٍ عَنْ خَلْقِهِ فِي كِتَابٍ عِنْدَهُ فِي عَالَمِ الْغَيْبِ يُسَمَّى اللَّوْحُ الْمَحْفُوظُ، وَقَدْ فُسِّرَ بِهِ الْكِتَابُ هُنَا. قَالَ تَعَالَى حِكَايَةً عَنْ مُوسَى فِي جَوَابِهِ لِفِرْعَوْنَ عَلَى سُؤَالِهِ عَنِ الْقُرُونِ الْخَالِيَةِ: {قَالَ عِلْمُهَا عِنْدَ رَبِّي فِي كِتَابٍ لَا يَضِلُّ رَبِّي وَلَا يَنْسَى} [20: 52] وَقَالَ: {لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ} [13: 38] وَقَالَ: {كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمَانَ} [58: 22] وَقَالَ: {وَلَوْلَا أَنْ كَتَبَ اللهُ عَلَيْهِمُ الْجَلَاءَ} [59: 3] وَهَذَا كُلُّهُ بِمَعْنَى النِّظَامِ الْإِلَهِيِّ الْقَدَرِيِّ. وَتَقَدَّمَ بَحْثُ كِتَابَةِ الْمَقَادِيرِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ. وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِكِتَابِ اللهِ هُنَا حُكْمُهُ التَّشْرِيعِيُّ لَا نِظَامُهُ التَّقْدِيرِيُّ، وَمِنْهُ حُرْمَةُ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، وَكَوْنُ الْحَجِّ أَشْهُرًا مَعْلُومَاتٍ، وَمِنْ أَحْكَامِ كِتَابِ اللهِ التَّشْرِيعِيَّةِ أَنَّ كُلَّ مَا يَتَعَلَّقُ بِحِسَابِ الشُّهُورِ وَالسِّنِينَ كَالصِّيَامِ وَالْحَجِّ وَعِدَّةِ الْمُطَلَّقَاتِ وَالرَّضَّاعِ فَالْمُعْتَبَرُ فِيهِ الْأَشْهُرُ الْقَمَرِيَّةُ.
وَحِكْمَتُهُ الْعَامَّةُ أَنَّهَا يُمْكِنُ الْعِلْمُ بِهَا بِالرُّؤْيَةِ الْبَصَرِيَّةِ لِلْأُمِّيِّينَ، وَالْمُتَعَلِّمِينَ فِي الْبَدْوِ وَالْحَضَرِ عَلَى سَوَاءٍ، فَلَا تَتَوَقَّفُ عَلَى وُجُودِ الرِّيَاسَاتِ الدِّينِيَّةِ، وَلَا الدُّنْيَوِيَّةِ، وَلَا تَحَكُّمِ الرُّؤَسَاءِ. وَمِنْ حِكْمَةِ شَهْرِ الصِّيَامِ، وَأَشْهُرِ الْحَجِّ أَنَّهَا تَدُورُ فِي جَمِيعِ الْفُصُولِ، فَتُؤَدَّى الْعِبَادَةُ بِهَذَا الدَّوَرَانِ فِي كُلِّ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، فَمَنْ صَامَ رَمَضَانَ فِي ثَلَاثِينَ سَنَةً يَكُونُ قَدْ صَامَ فِي كُلِّ أَجْزَاءِ السَّنَةِ، وَمِنْهَا مَا يَشُقُّ الصِّيَامُ فِيهِ وَمَا يَسْهُلُ، وَكَذَلِكَ تَكْرَارُ الْحَجِّ، وَفِيهِ حِكْمَةٌ أُخْرَى فِي شَأْنِ الَّذِينَ يُسَافِرُونَ لَهُ فِي جَمِيعِ أَقْطَارِ الْأَرْضِ الَّتِي تَخْتَلِفُ فُصُولُهَا، وَأَيَّامُ الْحَرِّ، وَالْبَرْدِ فِيهَا، وَإِطْلَاقُ الْكِتَابِ بِهَذَا الْمَعْنَى مَعْرُوفٌ. وَمِنْهُ قَوْلُهُ- تَعَالَى- بَعْدَ سَرْدِ مُحَرَّمَاتِ النِّكَاحِ: {كِتَابَ اللهِ عَلَيْكُمْ} [4: 24]، وَلَكِنْ ذِكْرُ خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَشَدُّ مُنَاسَبَةً لِلْأَوَّلِ، وَيُنَاسِبُ الثَّانِيَ قَوْلُهُ: {مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ}؛ وَاحِدُهَا حَرَامٌ، (كَسُحُبٍ جَمْعُ سَحَابٍ)، وَهُوَ مِنَ الْحُرْمَةِ؛ فَإِنَّ اللهَ- تَعَالَى- كَتَبَ وَفَرَضَ احْتِرَامَ هَذِهِ الْأَشْهُرِ وَتَعْظِيمَهَا، وَحَرَّمَ الْقِتَالَ فِيهَا عَلَى لِسَانِ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ عَلَيْهِمَا السَّلَامُ، وَنَقَلَتِ الْعَرَب ذَلِكَ عَنْهُمَا بِالتَّوَاتُرِ الْقَوْلِيِّ وَالْعَمَلِيِّ، وَلَكِنَّهَا أَخَلَّتْ بِالْعَمَلِ اتِّبَاعًا لِأَهْوَائِهَا كَمَا يَأْتِي بَيَانُهُ فِي الْكَلَامِ عَلَى النَّسِيءِ فِي الْآيَةِ التَّالِيَةِ، وَهُوَ الْغَايَةُ لِمَا فِي هَذِهِ الْآيَةِ. وَهَذِهِ الْأَشْهَرُ ثَلَاثَةٌ مِنْهَا سَرْدٌ؛ وَهِيَ ذِي الْقَعْدَةِ، وَذِي الْحِجَّةِ وَالْمُحَرَّمُ، وَوَاحِدٌ فَرْدٌ، وَهُوَ رَجَبُ، وَحِكْمَةُ تَحْرِيمِ الْقِتَالِ فِيهَا وَتَعْظِيمِهَا سَتَأْتِي. ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ، الْإِشَارَةُ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ} لِعِدَّةِ الشُّهُورِ، وَتَقْسِيمِهَا إِلَى حُرُمٍ وَغَيْرِهَا، وَعَدَدُ الْحُرُمِ مِنْهَا، وَقِيلَ: لِمَا تَضَمَّنَهُ مِنْ تَحْرِيمِهَا، والدِّينُ الْقَيِّمُ هُوَ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي لَا عِوَجَ فِيهِ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ ذَلِكَ هُوَ الْحَقُّ الَّذِي يُدَانُ اللهُ- تَعَالَى- بِهِ دُونَ النَّسِيءِ، وَفَسَّرَ الْبَغَوِيُّ الدِّينَ الْقَيِّمَ هُنَا بِالْحِسَابِ الْمُسْتَقِيمِ، وَقَالَ الْجُمْهُورُ: مَعْنَاهُ ذَلِكَ الشَّرْعُ الصَّحِيحُ الْمُسْتَقِيمُ الَّذِي كَانَ عَلَيْهِ إِبْرَاهِيمُ وَإِسْمَاعِيلُ فِي الْحَجِّ وَغَيْرِهِ، مِمَّا يَتَعَلَّقُ بِالْأَشْهُرِ مِنَ الْأَحْكَامِ. فَلَا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ، الضَّمِيرُ فِي فِيهِنَّ لِلْأَرْبَعَةِ الْحُرُمِ عِنْدَ الْجُمْهُورِ، وَقِيلَ: لِجَمِيعِ الشُّهُورِ، وَظُلْمُ النَّفْسِ يَشْمَلُ كُلَّ مَحْظُورٍ، وَيَدْخُلُ فِيهِ هَتْكُ حُرْمَةِ الشَّهْرِ الْحَرَامِ دُخُولًا أَوَّلِيًّا، فَإِنَّ اللهَ- تَعَالَى- اخْتَصَّ بَعْضَ الْأَزْمِنَةِ، وَبَعْضَ الْأَمْكِنَةِ بِأَحْكَامٍ مِنَ الْعِبَادَاتِ تَسْتَلْزِمُ تَرْكَ الْمُحَرَّمَاتِ فِيهَا، وَالْمَكْرُوهَاتِ بِالْأَوْلَى، لِأَجْلِ تَنْشِيطِ الْأَنْفُسِ عَلَى زِيَادَةِ الْعِنَايَةِ بِمَا يُزَكِّيهَا، وَيَرْفَعُ شَأْنَهَا، فَإِنَّ مِنْ طَبْعِ الْبَشَرِ الْمَلَلُ، وَالسَّآمَةُ مِنْ الِاسْتِمْرَارِ عَلَى حَالَةٍ وَاحِدَةٍ تَشُقُّ عَلَيْهَا، فَجَعَلَ اللهُ الْعِبَادَاتِ الدَّائِمَةَ خَفِيفَةً لَا مَشَقَّةَ فِي أَدَائِهَا كَالصَّلَوَاتِ الْخَمْسِ، فَإِنَّ أَدْنَى مَا تَصِحُّ بِهِ صَلَاةُ الْفَرِيضَةِ لَا يَتَجَاوَزُ خَمْسَ دَقَائِقَ لِلرُّبَاعِيَّةِ مِنْهَا وَهِيَ أَطْوَلُهَا، وَمَا زَادَ فَهُوَ كَمَالٌ، وَخُصَّ يَوْمُ الْجُمُعَةِ فِي الْأُسْبُوعِ بِوُجُوبِ الِاجْتِمَاعِ الْعَامِّ لِصَلَاةِ رَكْعَتَيْنِ، وَسَمَاعِ خُطْبَتَيْنِ فِي التَّذْكِيرِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الَّتِي تُقَوِّي فِي الْمُؤْمِنِينَ حُبَّ الْحَقِّ وَالْخَيْرِ، وَكُرْهَ الْبَاطِلِ وَالشَّرِّ، وَالتَّعَاوُنَ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَإِقَامَةَ مَصَالِحِ الْمِلَّةِ وَالدَّوْلَةِ، وَخُصَّ شَهْرُ رَمَضَانَ بِوُجُوبِ صِيَامِهِ فِي كُلِّ سَنَةٍ، وَأَيَّامًا مَعْدُودَاتٍ مَنْ شَهْرِ ذِي الْحِجَّةِ بِأَدَاءِ مَنَاسِكِ الْحَجِّ، وَجَعْلِ مَا قَبْلَهَا مِنْ أَوَّلِ ذِي الْقَعْدَةِ، وَمَا بَعْدَهَا إِلَى آخَرِ الْمُحَرَّمِ مِنَ الْأَيَّامِ الَّتِي يُحَرَّمُ فِيهَا الْقِتَالُ؛ لِأَنَّ السَّفَرَ إِلَى شَعَائِرِ الْحَجِّ فِي الْحِجَازِ، وَالْعَوْدَةَ مِنْهَا تَكُونُ فِي هَذِهِ الْأَشْهُرِ الثَّلَاثَةِ، كَمَا حَرَّمَ مَكَّةَ وَمَا حَوْلَهَا فِي جَمِيعِ السَّنَةِ، لِتَأْمِينِ الْحَجِّ وَالْعُمْرَةِ الَّتِي تُؤَدَّى فِي كُلِّ وَقْتٍ، وَاحْتِرَامِ الْبَيْتِ الَّذِي أَضَافَهُ إِلَى نَفْسِهِ، وَشَرَعَ فِيهِ مِنَ الْعِبَادَةِ مَا لَا يَصِحُّ فِي غَيْرِهِ، فَكَانَ الرَّجُلُ يَلْقَى قَاتِلَ أَبِيهِ فِي أَرْضِ الْحَرَمِ، وَفِي غَيْرِهَا مِنَ الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ، فَلَا يَعْرِضُ لَهُ بِسُوءٍ عَلَى شِدَّتِهِمْ فِي الثَّأْرِ، وَضَرَاوَتِهِمْ بِسَفْكِ الدِّمَاءِ، وَحُرِّمَ شَهْرُ رَجَبَ فِي وَسَطِ السَّنَةِ لِتَقْلِيلِ شُرُورِ الْقِتَالِ، وَتَخْفِيفِ أَوْزَارِهِ، وَلِتَسْهِيلِ السَّفَرِ لِأَدَاءِ الْعُمْرَةِ فِيهِ، وَلَوْلَا اخْتِصَاصُهُ- تَعَالَى- لِمَا شَاءَ مِنْ زَمَانٍ وَمَكَانٍ بِالْعِبَادَةِ فِيهِ، لَمَا كَانَ لِلْأَزْمِنَةِ وَالْأَمْكِنَةِ فِي نَفْسِهَا مَزِيَّةٌ فِي ذَلِكَ، وَأَهْوَاءُ النَّاسِ لَا تَتَّفِقُ عَلَى زَمَنٍ، وَلَا مَكَانٍ فَيُوَكَّلُ ذَلِكَ إِلَيْهِمْ، فَلَمْ يَبْقَ إِلَّا أَنْ يَجْعَلَ اللهُ الِاخْتِصَاصَ أَمْرًا تَعَبُّدِيًّا خَالِصًا يُفْعَلُ لِمُجَرَّدِ الِامْتِثَالِ وَالْقُرْبَةِ، كَمَا وَرَدَ فِي تَقْبِيلِ الْحَجَرِ الْأَسْوَدِ مِنْ قَوْلِ عُمَرَ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-: إِنِّي أَعْلَمُ أَنَّكَ حَجَرٌ لَا تَنْفَعُ وَلَا تَضُرُّ، وَلَوْلَا أَنَّنِي رَأَيْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُقَبِّلُكَ مَا قَبَّلْتُكَ. وَقَاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ كَافَّةً؛ أَيْ قَاتِلُوهُمْ جَمِيعًا كَمَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا، بِأَنْ تَكُونُوا فِي قِتَالِهِمْ إِلْبًا وَاحِدًا لَا يَخْتَلِفُ فِيهِ وَلَا يَتَخَلَّفُ عَنْهُ أَحَدٌ، كَمَا هُوَ شَأْنُهُمْ فِي قِتَالِكُمْ، وَذَلِكَ أَنَّهُمْ يُقَاتِلُونَكُمْ لِدِينِكُمْ لَا انْتِقَامًا وَلَا عَصَبِيَّةً، وَلَا لِلْكَسْبِ كَدَأْبِهِمْ فِي قِتَالِ قَوِيِّهِمْ لِضَعِيفِهِمْ، فَأَنْتُمْ أَوْلَى بِأَنْ تُقَاتِلُوهُمْ لِشِرْكِهِمْ وَهُمْ بَدَءُوكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ، وَهَذَا لَا يَقْتَضِي فَرْضِيَّةَ الْقِتَالِ عَلَى كُلِّ فَرْدٍ مِنَ الْأَفْرَادِ إِلَّا فِي حَالِ إِعْلَانِ الْإِمَامِ لِلنَّفِيرِ الْعَامِّ، وَسَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: وَمَا كَانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً، وَتَقَدَّمَ الْكَلَامُ فِي حُكْمِ الْقِتَالِ فِي الْأَشْهُرِ الْحُرُمِ فِي تَفْسِيرِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ.