فصل: قال سيد قطب في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



قال ابن عباس: هو اللوح المحفوظ. وقيل: القرآن.
{منها أربعة حرم} ثلاثة سرد أي مسرودة ذو القعدة وذو الحجة والمحرم وواحد فرد وهو وجب {ذلك الدين القيم} يعني أن تحريم الأشهر الحرم الدين المستقيم الذي كان عليه إبراهيم وإسماعيل وقد توارثته العرب منهما، وكانوا يعظمونها ويحرّمون القتال فيها حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه أو أخيه تركه {فلا تظلموا فيهن} أي في الأشهر الأربعة {أنفسكم} بأن تجعلوا حرامها حلالًا. عن عطاء قال: تالله ما يحل للناس أن يغزو في الحرم ولا في الأشهر الحرام إلا أن يقاتلوا وما نسخت. وعن الحسن مثله لأنه فسر الدين القيم بأنه الثابت الدائم الذي لا يزول. وعن عطاء الخراساني: أحلت القتال في الأشهر الحرم {براءة من الله ورسوله} وقيل: معناه لا تأثموا فيهن بيانًا لعظم حرمتهن كما عظم أشهر الحج بقوله: {فمن فرض فيهن الحج فلا رفث ولا فسوق} [البقرة: 197] والسبب فيه أن لبعض الأوقات أثرًا في زيادة الثواب أو العقاب كالأمكنة، وكانت الحكماء يختارون لإجابة الدعاء أوقاتًا مخصوصة. وفيه فائدة أخرى هي أن الإنسان جبل مطبوعًا على الظلم والفساد، ومنعه من ذلك على الإطلاق شاق عليه فخص بعض الأزمنة والأمكنة بطاعة ليسهل عليه الإتيان بها فيهما ولا يمتنع عن ذلك. ثم لو اقتصر على ذلك فهو أمر مطلوب في نفسه وإن جره ذلك إلى الاستدامة والاستقامة بحسب الإلفة والاعتياد أو لاعتقاده أن الإقدام على ضد ذلك يبطل مساعيه السالفة فذلك هو المطلوب الكلي. ولا ريب أن تخصيص ذلك من الشارع أقرب إلى اتحاد الآراء وتطابق الكلمة. وقيل: الضمير في قوله: {فيهن} عائد إلى {اثنا عشر} والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مدة عمره، أو المراد المنع من النسيء على ما يجيء.
قال الفراء: الأولى رجوع الضمير إلى الأربعة لقربها ولما ذكرنا أن لهذه الأشهر مزيد شرف، فناسب أن تخص بالمنع من الظلم، ولأن العرب تختار فيما بين الثلاثة إلى العشرة ضميرًا الجماعة، وفيما جاوز العشرة وهو جمع الكثرة تختار ضمير الوحدة.
قال حسان:
لنا الجفنات الغر يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

ويقال: لثلاث خلون من شهر كذا ولإحدى عشرة ليلة خلت. ثم قال عز من قائل: {وقاتلوا المشركين} وظاهر الآية يدل على إباحة القتال في جميع الأشهر لأن الأمر الوارد عقيب الحرمة يدل على الإباحة. ومعنى {كافة} جميعًا لأنهم إذا اجتمعوا تزاحموا فكف بعضهم بعضًا. ونصبه على المصدر عند بعضهم لأنه مثل العاقبة والعافية. وقال الزجاج: نصبه على الحال. ولا يجوز أن يثنى ويجمع ويعرف باللام كقولك: قاموا معًا وقاموا جميعًا. وفي وجه التشبيه في قوله: {كما يقاتلونكم كافة} قولان: فعن ابن عباس: قاتلوهم بكليتهم ولا تحابوا بعضهم بترك القتال كما أنهم يستحلون قتال جميعكم. وقيل: قاتلوهم بأجمعكم غير متفرقين في مقاتلة الأعداء ومقابلتهم. فعلى الأول يكون {كافة} حالًا من المفعول وعلى الثاني يكون حالًا من الفاعل وفي قوله: {واعلموا أن الله مع المتقين} حث لهم على التقوى وعلى الجهاد بضمان النصر والمعونة. ثم فسر الظلم المنهى عنه في الآية المتقدمة وأكد النهي عنه بقوله: {إنما النسيء} وهو مصدر نسأ إذا أخر كالنذير والنكير. وقال قطرب: أصله الزيادة من قوله: نسأت المرأة إذا حبلت لزيادة الولد فيها. وردّ بأنه يقال لها ذلك فيؤول لتأخر حيضها. وقيل: هو معنى منسوء كقتيل بمعنى مقتول. واعترض بأن المؤخر هو الشهر المعنى إلى أن الشهر زيادة في الكفر وهذا الحمل غير صحيح. ويمكن أن يجاب بأن المراد أن العمل الذي بسببه يصير الشهر الحرام مؤخرًا زيادة في الكفر.
احتج الجبائي هاهنا بأن الكفر يقبل الزيادة فكذا الإيمان. وأيضًا أطلق الكفر على هذا العمل فتركه يكون إيمانًا فلا يكون الإيمان مجرد الاعتقاد والإقرار. وأجيب بأن الزيادة راجعة إلى الكمال وإنما سمي هذا العمل كفرًا لأنه يؤول إلى اعتقاد تحليل ما هو حرام وبالعكس. وفي قوله: {يضل به الذين كفروا} بحث مشهور بين المعتزلة وغيرهم أن إسناد الإضلال إلى الله تعالى بالمجاز أو بالحقيقة وقد مر مرارًا. قوله: {يحلونه عامًا} الضمير فيه عائد إلى النسيء.
قال الواحدي: أي يحلون التأخير عامًا وهو العام الذي يريدون أن يقاتلوا فيه في الشهر الحرام. ويحرّمون التأخير عامًا آخر وهو الذي يتركون فيه الشهر الحرام على تحريمه.
قال المفسرون: إنهم كانوا أصحاب حروب وغارات وكان يشق عليهم مكث ثلاثة أشهر متوالية من غير قتل وغارة، فإذا اتفق لهم في شهر منها أو في المحرم حرب وغارة أخروا تحريم ذلك الشهر إلى شهر آخر.
قال الواحدي وأكثر العلماء: على أن هذا التأخير كان من المحرم إلى صفر. ويروى أنه حدث ذلك في كنانة لأنهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، وكان جنادة بن عوف الكناني مطاعًا في قومه وكان يقوم على جمل في الموسم فيقول بأعلى صوته: إن آلهتكم قد أحلت لكم المحرم فأحلوه. ثم يقوم في القابل فقول: إن آلهتكم قد حرمت عليكم المحرم فحرّموه. والأكثرون على أنهم كانوا يحرمون من جملة شهور العام أربعة أشهر وذلك قوله: {ليواطئوا عدّة ما حرم الله} أي ليوافقوا العدة التي هي الأربعة ولا يخالفوا ولم يعلموا أنهم خالفوا ترك القتال ووجوب التخصيص وذلك قوله تعالى: {فيحلوا ما حرم الله} أي من القتال وترك الاختصاص.
قال أهل اللغة: يقال تواطأ القوم على كذا إذا اجتمعوا عليه كأن واحد منهم يطأ حيث يطأ صاحبه. والإيطاء في الشعر من هذا وهو أن يأتي في القصيدة بقافيتين لفظهما ومعناهما واحد.
قال ابن عباس: إنهم ما أحلوا شهرًا من الأشهر الحرم إلا حرموا مكانه شهرًا آخر من الحلال، ولم يحرموا شهرًا من الحلال إلا أحلوا مكانه شهرًا آخر من الحرام لأجل أن تكون عدة الحرم أربعة مطابقة لما ذكره الله تعالى فهذا هو المراد بالمواطأة. وللآية تفسيرًا آخر وهو أن يكون المراد بالنسيء كبس بعض السنين القمرية بشهر حتى يلتحق بالسنة الشمسية، وذلك أن السنة القمرية أعني اثني عشر شهرًا قمريًا هي ثلثمائة وأربعة وخمسون يومًا وخمس وسدس من يوم على ما عرف من علم النجوم وعمل الزيجات، والسنة الشمسية وهي عبارة عن عود الشمس من آية نقطة تفرض من الفلك إليها بحركتها الخاصة ثلثمائة وخمسة وستون يومًا وربع يوم إلا كسرًا قليلًا، فالسنة القمرية أقل من السنة الشمسية بعشرة أيام وإحدى وعشرين ساعة وخمس ساعة تقريبًا، وبسبب هذا النقصان تنتقل الشهور القمرية من فصل إلى فصل فيكون الحج واقعًا في الشتاء مرة وفي الصيف أخرى، وكذا في الربيع والخريف، فكان يشق الأمر عليهم إذ ربما كان وقت الحج غير موافق لحضور التجار من الأطراف فكان يختل أسباب تجاراتهم ومعايشهم فلهذا السبب أقدموا على عمل الكبيسة بحيث يقع الحج دائمًا عند اعتدال الهواء، وإدراك الثمار والغلات وذلك بقرب حلول الشمس نقطة الاعتدال الخريفي، فكبسوا تسع عشر سنة قمرية بسبعة أشهر قمرية حتى صارت تسع عشرة سنة شمسية فزادوا في السنة الثانية شهرًا ثم في الخامسة ثم في السابعة ثم في العاشرة ثم في الثالثة عشرة ثم في السادسة عشرة ثم في الثامنة عشرة، وذلك ترتيب بهر يحوج عند المنجمين، وقد تعلموا هذه الصفة من اليهود والنصارى فأنهم يفعلون هكذا لأجل أعيادهم، فالشهر الزائد هو الكبس وسمي بالنسيء لأنه المؤخر والزائد مؤخر عن مكانه، وهذا التفسير يطابق ما روي أنه صلى الله عليه وسلم خطب في حجة الوداع وكان في جملة ما خطب به:
«ألا إن الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» والمعنى رجعت الأشهر إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية. وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة لزم العتب عليهم في هذا التفسير لأنهم إذا حكموا على بعض السنين بأنها ثلاثة عشر شهرًا كان مخالفًا لحكم الله بأن عدّة الشهور اثنا عشر شهرًا أي لا أزيد ولا أنقص وإليه الإشارة بقوله: {ذلك الدين القيم} على هذا التفسير. ويلزمهم أيضًا ما لزمهم في التفسير الأول من تغيير الأشهر الحرم عن أماكنها، فيجوز أن تكون الإشارة إلى المجموع. ومعنى قوله: {يحلونه عامًا} أي يحلون النسيء في عام الكبس ويحرمونه عامًا أي في غير سنة الكبس. ومعنى قوله: {ليواطؤوا عدّة ما حرم الله} ما روي أنه كان يقوم في الموسم منهم خطيب ويقول: أنا أنسئ لكم في هذه السنة شهرًا وكذا أفعل في كل سنين أقبلت حتى يأتي حجكم وقت الإدراك فينسئ المحرم ويجعله كبيسًا. ثم إنه متى انتهت النوبة إلى الشهر الحرام فتكرر حرم عليهم واحدًا برأيه وعلى وفق مصلحتهم، وأحل الآخر وباقي في الآية قد مر في تفسير مثله مرارًا والله تعالى أعلم. اهـ.

.قال سيد قطب في الآيات السابقة:

{قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ (29)}
هذا المقطع الثاني في سياق السورة؛ يستهدف تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب؛ كما استهدف المقطع الأول منها تقرير الأحكام النهائية في العلاقات بين هذا المجتمع والمشركين في الجزيرة.
وإذا كانت نصوص المقطع الأول في منطوقها تواجه الواقع في الجزيرة يومئذ؛ وتتحدث عن المشركين فيها؛ وتحدد صفات ووقائع وأحداثًا تنطبق عليهم انطباقًا مباشرًا. فإن النصوص في المقطع الثاني- الخاصة بأهل الكتاب- عامة في لفظها ومدلولها؛ وهي تعني كل أهل الكتاب. سواء منهم من كان في الجزيرة ومن كان خارجها كذلك.
هذه الأَحكام النهائية التي يتضمنها هذا المقطع تحتوي تعديلات أساسية في القواعد التي كانت تقوم عليها العلاقات من قبل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب- وبخاصة النصارى منهم- فلقد كانت وقعت المواقع قبل ذلك مع اليهود؛ ولكن حتى هذا الوقت لم يكن قد وقع منها شيء مع النصارى.
والتعديل البارز في هذه الأحكام الجديدة هو الأمر بقتال أهل الكتاب المنحرفين عن دين الله حتى يعطوا الجزية عن يد وهم صاغرون فلم تعد تقبل منهم عهود موادعة ومهادنة إلى على هذا الأساس أساس إعطاء الجزية وفي هذه الحالة تتقرر لهم حقوق الذمي المعاهد؛ ويقوم السلام بينهم وبين المسلمين. فأما إذا هم اقتنعوا بالإسلام عقيدة فاعتنقوه فهم من المسلمين..
إنهم لا يُكرَهون على اعتناق الإسلام عقيدة. فالقاعدة الإسلامية المحكمة هي: {لا إكراه في الدين} ولكنهم لا يتركون على دينهم إلا إذا أعطوا الجزية، وقام بينهم وبين المجتمع المسلم عهد على هذا الأساس.
وهذا التعديل الأخير في قواعد التعامل بين المجتمع المسلم وأهل الكتاب لا يفهم على طبيعته إلى بالفقه المستنير لطبيعة العلاقات الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية من ناحية. ثم لطبيعة المنهج الحركي الإسلامي، ومراحله المتعددة، ووسائله المتجددة المكافئة للواقع البشري المتغير من الناحية الأخرى.
وطبيعة العلاقة الحتمية بين منهج الله ومناهج الجاهلية هي عدم إمكان التعايش إلا في ظل أوضاع خاصة وشروط خاصة؛ قاعدتها ألا تقوم في وجه الإعلان العام الذي يتضمنه الإسلام لتحرير الإنسان بعبادة الله وحده والخروج من عبادة البشر للبشر، أية عقبات مادية من قوة الدولة، ومن نظام الحكم، ومن أوضاع المجتمع على ظهر الأرض! ذلك أن منهج الله يريد أن يسيطر، ليخرج الناس من عبادة العباد إلى عبادة الله وحده- كما هو الإعلان العام للإسلام- ومناهج الجاهلية تريد- دفاعًا عن وجودها- أن تسحق الحركة المنطلقة بمنهج الله في الأرض، وأن تقضي عليها..
وطبيعة المنهج الحركي الإسلامي أن يقابل هذا الواقع البشري بحركة مكافئة له ومتفوقة عليه، في مراحل متعددة ذات وسائل متجددة.
والأحكام المرحلية والأحكام النهائية في العلاقات بين المجتمع المسلم والمجتمعات الجاهلية تمثل هذه الوسائل في تلك المراحل.
ومن أجل أن يحدد السياق القرآني في هذا المقطع من السورة طبيعة هذه العلاقات، حدد حقيقة ما عليه أهل الكتاب؛ ونص على أنه شرك وكفر وباطل وقدم الوقائع التي يقوم عليها هذا الحكم، سواء من واقع معتقدات أهل الكتاب والتوافق والتضاهي بينها وبين معتقدات {الذين كفروا من قبل}. أو من سلوكهم وتصرفهم الواقعي كذلك.
والنصوص الحاضرة تقرر:
أولًا: أنهم لا يؤمنون بالله ولا باليوم الآخر.
ثانيًا: أنهم لا يحرمون ما حرم الله ورسوله.