فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الشعراوي:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ}
وساعةَ تسمع {يا أيها الذين آمَنُواْ} فهذا نداء خاص بمن آمن بالله؛ لأن الله لا يكلف من لم يؤمن به شيئًا، ولكنه كلف الذين آمنوا، فلا يوجد حكم من أحكام منهج الله فيه تكليف لكافر أو غير مؤمن. ولكن أحكام المنهج موجهة كلها للمؤمنين. ولذلك ساعةَ تسمع: {يا أيها الذين آمَنُواْ} تعرف أن الله يخاطب أو يأمر من آمن به؛ لأنك أنت الذي آمنت باختيارك، ودخلتَ على الإيمان برغبتك، فالحق سبحانه لم يأخذك إلى الإيمان قهرًا، ولكنك جئت للإيمان اختيارًا، ولذلك يقول سبحانه وتعالى لك: ما دُمْتُ قد آمنت بي إلهًا قادرًا قيُّومًا، له مطلق صفات الكمال، فاسمع مني ما أريده لحركة حياتكَ.
ولا يحسب أحد أنه قادر على أن يدخل في الإيمان ولا ينفذ المنهج، ولا يحسب أحد أنه قادر أن يضر الله شيئًا، وسبق أن ضربنا المثل بالمريض الذي يختار أبرع الأطباء، ولم يجبره أحد على أن يذهب إليه، وأجرى الطبيب الكشف على المريض، وحدد الداء وكتب الدواء، ولكن المريض بعد أن خرج من العيادة أمسك بتذكرة الدواء ومزقها، أو أنه اشترى الدواء ولم يتناوله. أيكون بذلك قد عاقب الطبيب أم عاقب نفسه؟
إن الطبيب لن يتأثر ولن يضره شيء مما فعله هذا المريض، ولكنه هو الذي سيزداد عليه المرض ويقود نفسه إلى الهلاك، وكذلك الإنسان إن لم يتبع منهج الله، فإنه يضيع نفسه ويُغرقها في الشقاء؛ لأن الحق سبحانه قد وضع هذا المنهج وفيه علاج لكل أمراض الإنسان، فإن عمل به الإنسان نجا من بلاء الدنيا، وإذا عمل به مجتمع لن يظهر فيه الشقاء. بل يمتلئ بالرخاء والأمن والطمأنينة، ومن لم يعمل به فلن يضر الله شيئًا، بل يحصل على الشقاء ويهلك نفسه.
وحين يخاطب الحق سبحانه الذين آمنوا يوضح: خذوا مني هذا التكليف ففيه سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة، ولهذا نجد أن الحق سبحانه وتعالى لا يذكر أمرًا من أوامره بأي تكليف أو نهيًا من نواهيه، إلا مسبوقًا بقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ} مثل قوله تعالى: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام...} [البقرة: 183].
وقوله سبحانه: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ القصاص...} [البقرة: 178].
وهذه التكليفات لمَ تأتِ مبنية للمعلوم، فمن الذين يكتب؟ إنه الحق سبحانه، كما أنها صيغة مبنية دائمًا لما لم يُسَمَّ فاعله، أي: أن الكتابة أتت من كثير. ونقول: صحيح أن الله سبحانه وتعالى هو الذي كتب، فلماذا لم يقل: يا أيها الذين آمنوا كتبتُ عليكم. ولماذا يقول: {يا أيها الذين آمَنُواْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصيام}؟. ونقول: لأن الله وإن كان قد كتب، إلا أنه لم يكتبها على كل خلقه، بل كتبها على الذين آمنوا به، وأنت بإيمانك أصبحت ملتزمًا بعناصر التكليف، فكأن الحق سبحانه لم يكتب ثم يلزمك، ولكن التزامك تم في نفس اللحظة التي دخلت فيها باختيارك في الإيمان.
وبذلك تكون كل هذه الأحكام قد كُتِبتْ علينا باختيار كل منا، فمن لم يَخْتَرْ الإيمان ليس مكتوبًا عليه أن ينفذ أحكام الإيمان؛ لأنها لا تُنفذ إلا بالعقد الإيماني بيننا وبين الحق سبحانه؛ وقد احترم سبحانه دخولنا في هذا العقد، فلم ينسبه لذاته العلية فقط، بل شمل أيضًا كل مَنْ دخل في الإيمان.
ولذلك فإن سأل أحد عن حكمة التكليف من الله، نقول له: إن الحكمة تنبع من أنه سبحانه هو الذي كَلَّف. ثم إن معرفة الحكمة لا تكون إلا من المساوي للمساوي، فإن ذهب المريض إلى الطبيب وكتب له الدواء، وظل المريض يناقش الطبيب في الدواء وفوائده؛ فالطبيب يرفض المناقشة، ويقول للمريض: ادخل كلية الطب واقْضِ فيها سبع سنوات، واحصل على الدرجات العلمية، ثم تَعَالَ وناقشني.
إذن: فأنت تربط علة التكليف بأمر المكلف، مع أن المكلف من البشر قد يخطئ. أما إذا جئنا بمجموعة من الأطباء ليكشفوا على مريض احتار الطب فيه، ثم جلسوا بعد الكشف يتناقشون، فكل منهم يقبل مناقشة الآخر؛ لأنه مُسَاوٍ له في الفكر والثقافة والعلم إلى آخره، لكن إنْ أردتَ أن تسأل عن الحكمة في تكليف من الله فلن تجد مساويًا لله سبحانه وتعالى، وبذلك تكون المناقشة مرفوضة.
إذن: فالمكلف لابد أن تكون له منزلة سابقة على التكليف، ومنزلة الحق أنك آمنت به، ولهذا أرى أن البحث عن أسباب التكليف هو أمر مرفوض إيمانيًا، فإذا قيل: إن الله فرض الصوم حتى يشعر الغني بألم الجوع؛ ليعطف على الفقير، نقول: لا، وإلا سقط الصوم عن الفقير؛ لأنه يعرف ألم الجوع جيدًا. وإذا قيل لنا: إن الصوم يعالج أمراض كذا وكذا وكذا. نقول: إن هذا غير صحيح، وإلا لما أسقط الله فريضة الصوم عن المريض في قوله تعالى: {وَمَن كَانَ مَرِيضًا أَوْ على سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِّنْ أَيَّامٍ أُخَرَ...} [البقرة: 185].
فإذا كان الله قد أباح للمريض أن يفطر، فكيف يأتي إنسان ويقول: إن علة فرض الصوم هي شفاء الأمراض؟ كما أن هناك بعض الأمراض لا يُسْمَح معها بالصوم.
إذن: فنحن نصوم لأن الله فرض علينا الصوم، وما دام الله قد قال فسبب التنفيذ هو أن القول صادر من الله سبحانه، ولا شيء غير ذلك، فإذا ظهرت حكمة التكليف فإنها تزيدنا إيمانًا، مثلما ثبت ضرر لحم الخنزير بالنسبة للإنسان؛ لأن لحم الخنزير مليء بالميكروبات والجراثيم التي يأكلها مع القمامة، ونحن لا نمتنع عن أكل لحم الخنزير لهذا السبب، بل نمتنع عن أكله لأن الله قد أمرنا بذلك، ولو أن هذه الحكمة لم يكشف عنها الطب ما قَلَّلَ هذا من اقتناعنا بعدم أكل لحم الخنزير؛ لأننا نأخذ التكليف من الله، وليس من أي مصدر آخر.
ونعود إلى خواطرنا حول الآية الكريمة: {يا أيها الذين آمَنُواْ مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم إِلَى الأرض}، ونجد كلمة: {مَا لَكُمْ} تأتي حين نتعجب من حال لا يتفق مع حال، وكأن حرب المؤمنين للكفار أمر متوقع وتقتضيه الحال؛ لأن المؤمنين حين يقاتلون الكفار إنما يدخلون شيئًا من اليقين على أهل الاستقامة، فأهل الاستقامة إن لم يجدوا من يضرب على أيدي الكافرين فقد ينحرف على أيدي الكفار، فإنه بفعله هذا يربب في المؤمن إيمانه؛ لأنه يرى عدوه وهو يتلقى النكال. كأن تقول للتلميذ: ما لك تهمل في مذاكرتك وقد قَرُبَ الامتحان؟ أي: أن المفروض أنه إذا قرب الامتحان لابد أن يجتهد الطالب في المذاكرة. فإن أهمل التلميذ عمله فنحن نتعجب من سلوكه؛ لأنه لا يتفق مع ما كان يجب أن يحدث. وبذلك نستنكر أن يحدث مثل هذا الإهمال، مثلما نستنكر ونتعجب من مريض يترك الدواء بينما هو يتألم.
ويتعجب الحق سبحانه هنا من تثاقل المؤمنين حين يُدْعَوْنَ إلى القتال؛ لأن قوة الإيمان تدعو دائمًا إلى أن يكون هناك استعداد مستمر للقتال، وهذا الاستعداد يخيف الكفار ويمنع عدوانهم واستهتارهم بالمؤمنين أولًا، كما أنه ثانيًا يجعل المؤمنين قادرين على الرد والردع في أي وقت. ويعطي ثالثًا شيئًا من اليقين للمجتمع المؤمن عندما يرى أن هناك من يضرب على يد الكافرين إذا استهانوا بمجتمع الإيمان وحاولوا أن يستذلوا المؤمنين.
إذن: فَلِكَيْ يبقى المجتمع المؤمن قويًا وآمنًا؛ لابد أن يوجد استعداد دائم للقتال في سبيل الله ورغبة في الشهادة، وهنا يقول الحق: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله} فكأن الاستعداد المستمر للقتال في سبيل الله أمر لابد أن يوجد بالفطرة وبالعقل، فإذا ضَعُفَ هذا الاستعداد أو قَلَّ صار هذا الأمر موطنًا للتعجب؛ لأن المؤمنين يعرفون أن مجتمع الكفر يتربص بهم دائمًا، وعليهم أن يكونوا على استعداد دائم مستمر للمواجهة، ويستنكر الحق أن يتثاقل المؤمنون إذا دُعُوا للقتال في سبيل الله أو أن يتكاسلوا.
وقوله سبحانه: {انفروا} من النفرة وهي الخروج إلى أمر يهيج استقرار الإنسان، فحين يكون الإنسان جالسًا في مكانه، قد يأتي أمر يهيجه فيقوم ليفعل ما يتناسب مع الأمر المهيج، فأنت مثلًا إذا رأيت إنسانًا سيسقط في بئر، فهذا الأمر يهيجك، فتنطلق من مكانك لتجذبه بعيدًا، ومنه النُّفْره التي تحدث بين الأحباب الذين يعيشون في وُدٍّ دائم، وقد يحدث بينهم أمر يُحوِّل هذا الود إلى جَفْوة.
إذن: فكلمة {انفروا} تدل على الخروج إلى أمر مهيج، وهو المنطق الطبيعي الذي يجب أن يكون؛ لأن عمل الكفار يهيج المؤمنين على مواجهتهم.
وقول الحق سبحانه: {انفروا} يدل على الاستفزاز المستمر من الكفار للمؤمنين. ويقول الحق تعالى: {مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انفروا فِي سَبِيلِ الله اثاقلتم}.
والثقل معناه: أن كتلة الشيء تكون زائدة على قدرة من يحمله، فإن قلت: إن هذا الشيء ثقيل فهذا يعني أن وزنه مثلًا أكبر من قوة عضلاتك فلا تستطيع أن تحمله. أما التثاقل فهو عدم موافقة الشيء لطبيعة التكوين. كأن تقول: فلان ثقيل أي أن وزنه ضخم ولا يستطيع أن يقوم من مكانه إلا بصعوبة، ولا أن يتحرك إلا بمشقة.
ولكن التثاقل معناه تكلف المشقة، أي: لك قدرة على الفعل، ولكنك تتصنع أنك غير قادر، كأن يكون هناك- على سبيل المثال- شيء وزنه رطل، ثم تدَّعي أنه ثقيل عليك ولا تستطيع أن تحمله.
إذن: فقوله تعالى: {اثاقلتم إِلَى الأرض} أي: تكلفتم الثقل بدون حقيقة، فأنتم عندكم قدرة على القتال ولكنكم تظاهرتم بأن لا قدرة لكم.
وهكذا نعرف أن الموقف يقتضي النفرة ليواجهوا الكفر؛ لأن المنهج الذي ارتضوه لأنفسهم والتزموا به يحقق السلامة والأمن والاطمئنان لهم ولغيرهم، وكأن التثاقل إلى الأرض له مقابل، فالنفرة تكون في سبيل الله، والمقابل في سبيل الشيطان أو في سبيل شهوات النفس.
لقد تحدث العلماء في المسائل التي تجعل الإنسان يُقبِلُ على المعصية، وهي النفس التي تُحدِّث الإنسان بشيء، فالإنسان يقبل على المعصية بهذين العاملين فقط. فما الفرق بين الاثنين؟ وكيف يتعرف الإنسان على ذلك؟ قال العلماء: إذا كانت النفس تُلحُّ عليك أن تفعل معصية بعينها بحيث إذا صرفتها عنها عادت تُلِحُّ عليك لاقتراف نفس المعصية لتحقق متعة عاجلة، فهذا إلحاح من النفس الأمَّارة بالسوء.
ولكن الشيطان لا يريد منك ذلك، إنه يريدك مخالفًا لمنهج الله على أي لون، فإذا استعصى عليه أن يجذبك إلى المال الحرام، فهو يزين لك شهوة النساء، فإذا فشل جاء من ناحية الخمر. إذن: فهو يريدك عاصيًا بأي معصية، ولكن النفس تريدك عاصيًا بنفس المعصية التي تشتهيها. وهذا هو الفرق.
وهكذا نعرف أن هناك واقعين، واقعًا يدعو المؤمنين إلى قتال الكفار الذين يفسدون منهج الله في الأرض، وواقعًا يدعوهم إلى أن يتثاقلوا عن هذا القتال، وذلك إما بسبب حب الدنيا لتحقيق شهوة النفس أو إغراء الشيطان، ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {أَرَضِيتُمْ بالحياة الدنيا مِنَ الآخرة} والرضا هو حب القلب، فيقال: فلان رَاضٍ لأنه مسرور بالحال الذي هو فيه.
ومعنى تثاقل المؤمنين عن القتال في سبيل الله، أن هناك شيئًا قد غلب شيئًا آخر في داخل نفوسهم، فالرضا بالحياة الدنيا قد تغلَّبَ على حب الآخرة. ولكن المنطق الإيماني يقول: إنه إذا كان هناك أمر آخر غير الدنيا، أو حياة أخرى غير حياتنا الدنيوية، فلابد أن نقارن بين ما تعطيه الدنيا وبين ما تعطيه الآخرة، فإذا رضينا بما تقدمه لنا هذه الحياة المادية، يكون المؤمن بلا طموح وبلا ذكاء؛ لأنه رضي بمتاع قليل زائل وترك متاعًا أبديًا ممتدًا بقدرة الله.