فصل: قال ابن العربي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فإذا قالوا: إن ذلك الخوف إنما حصل بمقتضى البشرية، وإنما ذكر الله تعالى ذلك في قوله: {لاَ تَخَفْ} ليفيد الأمن، وفراغ القلب.
قلنا لهم في هذه المسألة كذلك.
فإن قالوا: أليس إنه تعالى قال: {والله يَعْصِمُكَ مِنَ الناس} [المائدة: 67] فكيف خاف مع سماع هذه الآية؟ فنقول: هذه الآية إنما نزلت في المدينة، وهذه الواقعة سابقة على نزولها، وأيضًا فهب أنه كان آمنًا على عدم القتل، ولكنه ما كان آمنًا من الضرب، والجرح والإيلام الشديد والعجب منهم، فإنا لو قدرنا أن أبا بكر ما كان خائفًا، لقالوا إنه فرح بسبب وقوع الرسول في البلاء، ولما خاف وبكى قالوا: هذا السؤال الركيك، وذلك يدل على أنهم لا يطلبون الحق، وإنما مقصودهم محض الطعن!
والجواب عن الثاني: أن الذي قالوه أخس من شبهات السوفسطائية، فإن أبا بكر لو كان قاصدًا له، لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، وقال لهم نحن ههنا، ولقال ابنه وابنته عبد الرحمن وأسماء للكفار نحن نعرف مكان محمد فندلكم عليه، فنسأل الله العصمة من عصبية تحمل الإنسان على مثل هذا الكلام الركيك.
والجواب عن الثالث من وجوه: الأول: أنا لا ننكر أن اضطجاع علي بن أبي طالب في تلك الليلة المظلمة على فراش رسول الله طاعة عظيمة ومنصب رفيع، إلا أنا ندعي أن أبا بكر بمصاحبته كان حاضرًا في خدمة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلي كان غائبًا، والحاضر أعلى حالًا من الغائب.
الثاني: أن عليًا ما تحمل المحنة إلا في تلك الليلة، أما بعدها لما عرفوا أن محمدًا غاب تركوه، ولم يتعرضوا له.
أما أبو بكر، فإنه بسبب كونه مع محمد عليه الصلاة والسلام ثلاثة أيام في الغار كان في أشد أسباب المحنة، فكان بلاؤه أشد.
الثالث: أن أبا بكر رضي الله عنه كان مشهورًا فيما بين الناس بأنه يرغب الناس في دين محمد عليه الصلاة والسلام ويدعوهم إليه، وشاهدوا منه أنه دعا جمعًا من أكابر الصحابة رضي الله عنهم إلى ذلك الدين، وأنهم إنما قبلوا ذلك الدين بسبب دعوته، وكان يخاصم الكفار بقدر الإمكان، وكان يذب عن الرسول صلى الله عليه وسلم بالنفس والمال وأما علي بن أبي طالب رضي الله عنه، فإنه كان في ذلك الوقت صغير السن، وما ظهر منه دعوة لا بالدليل والحجة، ولا جهاد بالسيف والسنان، لأن محاربته مع الكفار إنما ظهرت بعد انتقالهم إلى المدينة بمدة مديدة، فحال الهجرة ما ظهر منه شيء من هذه الأحوال، وإذا كان كذلك كان غضب الكفار على أبي بكر لا محالة أشد من غضبهم على علي، ولهذا السبب، فإنهم لما عرفوا أن المضطجع على ذلك الفراش هو علي لم يتعرضوا له ألبتة، ولم يقصدوه بضرب ولا ألم، فعلمنا أن خوف أبي بكر على نفسه في خدمة محمد صلى الله عليه وسلم أشد من خوف علي كرم الله وجهه، فكانت تلك الدرجة أفضل وأكمل.
هذا ما نقوله في هذا الباب على سبيل الاختصار.
أما قوله تعالى: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} فاعلم أن تقدير الآية أن يقال: {إِلاَّ تَنصُرُوهُ} فلابد له ذلك بدليل صورتين.
الصورة الأولى: أنه قد نصره في واقعة الهجرة {إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا في الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا فَأَنزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}.
والصورة الثانية: واقعة بدر، وهي المراد من قوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} لأنه تعالى أنزل الملائكة يوم بدر، وأيد رسوله صلى الله عليه وسلم بهم، فقوله: {وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا} معطوف على قوله: {فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ}.
ثم قال تعالى: {وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِي العليا} والمعنى أنه تعالى جعل يوم بدر كلمة الشرك سافلة دنيئة حقيرة، وكلمة الله هي العليا، وهي قوله لا إله إلا الله.
قال الواحدي: والاختيار في قوله: {وَكَلِمَةُ الله} الرفع، وهي قراءة العامة على الاستئناف، قال الفراء، ويجوز {كَلِمَةَ الله} بالنصب، ولا أحب هذه القراءة لأنه لو نصبها لكان الأجود أن يقال: وكلمة الله العليا، ألا ترى أنك تقول أعتق أبوك غلامك، ولا تقول أعتق غلامه أبوك.
ثم قال: {والله عَزِيزٌ حَكُيمٌ} أي قاهر غالب لا يفعل إلا الصواب. اهـ.

.قال ابن العربي:

{إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
فِيهَا سِتُّ مَسَائِلَ:

.المسألة الْأُولَى: [في تفسير معنى النصر]:

النَّصْرُ: هُوَ الْمَعُونَةُ، وَقَدْ تَقَدَّمَ بَيَانُهُ.

.المسألة الثَّانِيَةُ: قَوْلُهُ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ}:

وَلِلْعَرَبِ فِي ذَلِكَ لُغَتَانِ: تَقُولُ ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَثَالِثُ ثَلَاثَةٍ، وَرَابِعُ أَرْبَعَةٍ، بِمَعْنَى أَحَدُهُمَا، مُشْتَقَّةٌ مِنْ الْمُضَافِ إلَيْهِ.
وَتَقُولُ أَيْضًا: خَامِسُ أَرْبَعَةٍ، أَيْ الَّذِي صَيَّرَهُمْ خَمْسَةً.

.المسألة الثَّالِثَةُ: قَوْلُهُ: {إلَّا تَنْصُرُوهُ}:

يَعْنِي يُعِينُوهُ بِالنَّفِيرِ مَعَهُ فِي غَزْوَةِ تَبُوكَ، فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ أَبِي بَكْرٍ، وَأَيَّدَهُ بِجُنُودِ الْمَلَائِكَةِ.
رَوَى أَصْبَغُ، وَأَبُو زَيْدٍ عَنْ ابْنِ الْقَاسِمِ عَنْ مَالِكٍ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ إذْ هُمَا فِي الْغَارِ إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا} هُوَ أَبُو بَكْرٍ الصِّدِّيقُ.
قَالَ: فَرَأَيْت مَالِكًا يَرْفَعُ بِأَبِي بَكْرٍ جِدًّا لِهَذِهِ الْآيَةِ.
قَالَ: وَكَانُوا فِي الْهِجْرَةِ أَرْبَعَةً، مِنْهُمْ عَامِرُ بْنُ فُهَيْرَةَ، وَرُقَيْطُ الدَّلِيلُ.
قَالَ غَيْرُ مَالِكٍ: يُقَالُ أُرَيْقِطُ قَالَ الْقَاضِي رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ: فَحَقٌّ أَنْ يَرْفَعَ مَالِكٌ أَبَا بَكْرٍ بِهَذِهِ الْآيَةِ، فَفِيهَا عِدَّةُ فَضَائِلَ مُخْتَصَّةٍ لَمْ تَكُنْ لِغَيْرِهِ، مِنْهَا قَوْلُهُ: {إذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ}، فَحَقَّقَ لَهُ تَعَالَى قَوْلَهُ لَهُ بِكَلَامِهِ، وَوَصَفَ الصُّحْبَةَ فِي كِتَابِهِ مَتْلُوًّا إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
وَفِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لِأَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ: «يَا أَبَا بَكْرٍ، مَا ظَنُّك بِاثْنَيْنِ اللَّهُ ثَالِثُهَا؟» وَهَذِهِ مَرْتَبَةٌ عُظْمَى، وَفَضِيلَةٌ شَمَّاءُ، لَمْ يَكُنْ لِبَشَرٍ أَنْ يُخْبِرَ عَنْ اللَّهِ سُبْحَانَهُ أَنَّهُ ثَالِثُ اثْنَيْنِ، أَحَدُهُمَا أَبُو بَكْرٍ، كَمَا أَنَّهُ قَالَ مُخْبِرًا عَنْ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَبِي بَكْرٍ ثَانِيَ اثْنَيْنِ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
وَقَالَ مُخْبِرًا عَنْ مُوسَى وَبَنِي إسْرَائِيلَ: {كَلًّا إنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ}.
قَالَ لَنَا أَبُو الْفَضَائِلِ الْمُعَدِّلُ: قَالَ لَنَا جَمَالُ الْإِسْلَامِ أَبُو الْقَاسِمِ قَالَ مُوسَى: {كَلًّا إنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ} وَقَالَ فِي مُحَمَّدٍ وَصَاحِبِهِ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}.
لَا جَرَمَ لَمَّا كَانَ اللَّهُ مَعَ مُوسَى وَحْدَهُ ارْتَدَّ أَصْحَابُهُ بَعْدَهُ، فَرَجَعَ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِ، وَوَجَدَهُمْ يَعْبُدُونَ الْعِجْلَ.
وَلَمَّا قَالَ فِي مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: إنَّ اللَّهَ مَعَنَا، بَقِيَ أَبُو بَكْرٍ مُهْتَدِيًا مُوَحِّدًا، عَالِمًا عَازِمًا، قَائِمًا بِالْأَمْرِ لَمْ يَتَطَرَّقْ إلَيْهِ اخْتِلَالٌ.
وَمِنْهَا قَوْلُهُ: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ}: فِيهِ قَوْلَانِ: أَحَدُهُمَا: عَلَى النَّبِيِّ.
الثَّانِي: عَلَى أَبِي بَكْرٍ.
قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَهُوَ الْأَقْوَى؛ لِأَنَّ الصِّدِّيقَ خَافَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنْ الْقَوْمِ، فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ؛ لِيَأْمَنَ عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَسَكَنَ جَأْشُهُ، وَذَهَبَ رَوْعُهُ، وَحَصَلَ لَهُ الْأَمْنُ، وَأَنْبَتَ اللَّهُ شَجَرَ ثُمَامِهِ، وَأَلْهَمَ الْوَكْرَ هُنَالِكَ حَمَامَهُ، وَأَرْسَلَ الْعَنْكَبُوتَ فَنَسَجَتْ عَلَيْهِ بَيْتًا، فَمَا أَضْعَفَ هَذِهِ الْجُنُودِ فِي ظَاهِرِ الْحِسِّ؛ وَمَا أَقْوَاهَا فِي بَاطِنِ الْمَعْنَى.
وَلِهَذَا الْمَعْنَى قَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي الْحَدِيثِ الصَّحِيحِ لِعُمَرَ حِينَ تَغَامَرَ مَعَ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ: «هَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِ، إنَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ قَالُوا كَذَبْت، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقْت».
وَمِنْهَا: أَنَّهُ جَعَلَ أَبَا بَكْرٍ فِي مُقَابَلَةِ الصَّحَابَةِ أَجْمَعَ، فَقَالَ: إلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ بِصَاحِبِهِ فِي الْغَارِ، بِتَأْنِيسِهِ لَهُ، وَحَمْلِهِ عَلَى عُنُقِهِ وَوَفَائِهِ لَهُ بِوِقَايَتِهِ لَهُ بِنَفْسِهِ، وَبِمُوَاسَاتِهِ بِمَالِهِ، وَكَذَلِكَ رُوِيَ أَنَّ مِيزَانًا نَزَلَ مِنْ السَّمَاءِ، فَوُزِنَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِالْخَلْقِ فَرَجَحَهُمْ؛ وَبِهَذِهِ الْفَضَائِلِ اسْتَحَقَّ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: لَوْ كُنْت مُتَّخِذًا خَلِيلًا لَاِتَّخَذْتُ أَبَا بَكْرٍ خَلِيلًا.
وَسَبَقَتْ لَهُ بِذَلِكَ كُلِّهِ الْفَضِيلَةُ عَلَى النَّاسِ.
رَوَى الْبُخَارِيُّ وَغَيْرُهُ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ قَالَ: كُنَّا نُخَيِّرُ بَيْنَ النَّاسِ فِي زَمَنِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ فَنُخَيِّرُ أَبَا بَكْرٍ ثُمَّ عُمَرَ ثُمَّ عُثْمَانَ.
وَرُوِيَ عَنْ مَالِكٍ أَنَّهُ قَالَ: خَيْرُ النَّاسِ بَعْدَ نَبِيِّهِمْ أَبُو بَكْرٍ.
وَسَيَأْتِي فِي سُورَةِ النُّورِ بَيَانُ ذَلِكَ مُسْتَوْفًى إنْ شَاءَ اللَّهُ.

.المسألة الرَّابِعَةُ: [قَوْله تعالى: {إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}]:

وَهِيَ عُظْمَى فِي الْفِقْهِ مِنْ قَوْله تعالى: {إذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا}: وَهُوَ خَرَجَ بِنَفْسِهِ، فَارًّا عَنْ الْكَافِرِينَ بِإِلْجَائِهِمْ لَهُ إلَى ذَلِكَ حَتَّى فَعَلَهُ؛ فَنُسِبَ الْفِعْلُ إلَيْهِمْ، وَرُتِّبَ الْحُكْمُ فِيهِ عَلَيْهِمْ، وَذَمَّهُمْ عَلَيْهِ، وَتَوَعَّدَهُمْ؛ فَلِهَذَا يُقْتَلُ الْمُكْرَهُ عَلَى الْقَتْلِ، وَيَضْمَنُ الْمَالَ الْمُكْرِهُ عَلَى إتْلَافِ الْمَالِ؛ لِإِلْجَائِهِ الْقَاتِلَ وَالْمُتْلِفَ إلَى الْقَتْلِ وَالْإِتْلَافِ، وَكَذَلِكَ شُهُودُ الزِّنَا الْمُزَوِّرُونَ بِاتِّفَاقٍ مِنْ الْمَذْهَبِ، وَشُهُودُ الْقِصَاصِ إذَا شَهِدُوا بِالْقَتْلِ بَاطِلًا بِاخْتِلَافٍ بَيْنَ عُلَمَائِنَا؛ وَالْمَسْأَلَةُ عَسِيرَةُ الْمَأْخَذِ، وَقَدْ حَقَّقْنَاهَا فِي مَسَائِلِ الْخِلَافِ.
وَجُمْلَةُ الْأَمْرِ أَنَّ نِسْبَةَ الْفِعْلِ إلَى الْمُكْرَهِ لَا خِلَافَ فِيهِ، وَكَذَلِكَ تَعَلُّقُ الْإِثْمِ بِهِ مَعَ الْقَصْدِ إلَيْهِ لَا خِلَافَ فِيهِ.
فَأَمَّا مَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ حُكْمٍ فَإِنَّ ذَلِكَ يَخْتَلِفُ بِحَسَبِ اخْتِلَافِ الْمَحَالِّ وَالْأَسْبَابِ، حَسْبَمَا تَقْتَضِيهِ الْأَدِلَّةُ؛ فَلْيُنْظَرْ هُنَالِكَ.

.المسألة الْخَامِسَةُ: [في جَوَازِ الْفِرَارِ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ]:

وَفِي هَذِهِ الْآيَةِ دَلِيلٌ عَلَى جَوَازِ الْفِرَارِ مِنْ خَوْفِ الْعَدُوِّ، وَتَرْكِ الصَّبْرِ عَلَى مَا يَنْزِلُ مِنْ بَلَاءِ اللَّهِ، وَعَدَمِ الِاسْتِسْلَامِ الْمُؤَدِّي إلَى الْآلَامِ وَالْهُمُومِ، وَأَلَّا يُلْقِيَ بِيَدِهِ إلَى الْعَدُوِّ، تَوَكُّلًا عَلَى اللَّهِ، وَلَوْ شَاءَ رَبُّكُمْ لَعَصَمَهُ مَعَ كَوْنِهِ مَعَهُمْ، وَلَكِنَّهَا سُنَّةُ الْأَنْبِيَاءِ وَسِيرَةُ الْأُمَمِ، حَكَمَ اللَّهُ بِهَا لِتَكُونَ قُدْرَةً لِلْخَلْقِ، وَأُنْمُوذَجًا فِي الرِّفْقِ، وَعَمَلًا بِالْأَسْبَابِ.

.المسألة السَّادِسَةُ: [في طعن الإمامية في أبي بكر رضي الله عنه]:

قَالَتْ الْإِمَامِيَّةُ قَبَّحَهَا اللَّهُ: حُزْنُ أَبِي بَكْرٍ فِي الْغَارِ مَعَ كَوْنِهِ مَعَ النَّبِيِّ دَلِيلٌ عَلَى جَهْلِهِ وَنَقْصِهِ وَضَعْفِ قَلْبِهِ وَحَيْرَتِهِ.
أَجَابَ عَلَى ذَلِكَ عُلَمَاؤُنَا بِثَلَاثَةِ أَجْوِبَةٍ: الْأَوَّلُ: أَنَّ قَوْلَهُ: {لَا تَحْزَنْ}، لَيْسَ بِمُوجِبٍ بِظَاهِرِهِ وُجُودَ الْحُزْنِ، إنَّمَا يَقْتَضِي مَنْعَهُ مِنْهُ فِي الْمُسْتَقْبَلِ، فَلَعَلَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ لَهُ ذَلِكَ زِيَادَةً فِي طُمَأْنِينَةِ قَلْبِهِ؛ فَإِنَّ الصِّدِّيقَ قَالَ لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: لَوْ أَنَّ أَحَدَهُمْ نَظَرَ تَحْتَ قَدَمَيْهِ لَأَبْصَرَنَا.
فَقَالَ لَهُ: {لَا تَحْزَنْ إنَّ اللَّهَ مَعَنَا}؛ لِتَطْمَئِنَّ نَفْسُهُ.
الثَّانِي: أَنَّ الصِّدِّيقَ لَا يَنْقُصُهُ إضَافَةُ الْحُزْنِ إلَيْهِ، كَمَا لَمْ تَنْقُصْ إبْرَاهِيمَ حِينَ قِيلَ عَنْهُ: {نَكِرَهُمْ وَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً}.
وَلَمْ يَنْقُصْ مُوسَى قَوْلُهُ عَنْهُ: {فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسَى}.
وَهَذَانِ الْعَظِيمَانِ قَدْ وُجِدَتْ عِنْدَهُمْ التَّقِيَّةُ نَصًّا، وَإِنَّمَا هِيَ عِنْدَ الصِّدِّيقِ هَاهُنَا بِاحْتِمَالٍ.
الثَّالِثُ: أَنَّ حُزْنَ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ لَمْ يَكُنْ لِشَكٍّ وَحَيْرَةٍ، وَإِنَّمَا كَانَ خَوْفًا عَلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَصِلَ إلَيْهِ ضَرَرٌ، وَلَمْ يَكُنْ النَّبِيُّ فِي ذَلِكَ الْوَقْتِ مَعْصُومًا مِنْ الضَّرَرِ، فَكَيْفَ يَكُونُ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ ضَعِيفَ الْقَلْبِ، وَهُوَ لَمْ يَسْتَخْفِ حِينَ مَاتَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ بَلْ ظَهَرَ وَقَامَ الْمَقَامَ الْمَحْمُودَ الَّذِي تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا لَهُ بِقُوَّةِ يَقِينٍ، وَوُفُورِ عِلْمٍ، وَثُبُوتِ جَأْشٍ، وَفَصْلٍ لِلْخُطْبَةِ الَّتِي تُعْيِي الْمُحْتَالِينَ. اهـ.

.قال السمرقندي:

{إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}
{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله}، يعني: إن لم تنصروه وتخرجوا معه إلى غزوة تبوك، فالله ينصره كما نصره.
{إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ}، يعني: كفار مكة من مكة.
{ثَانِيَ اثنين}، يعني: كان واحدًا من اثنين، يعني: رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر رضي الله عنه ولم يكن معهما غيرهما، فنصرهما الله تعالى.
{إِذْ هُمَا في الغار}؛ وذلك حين أراد أهل مكة قتله، فهاجر النبي صلى الله عليه وسلم من مكة إلى المدينة؛ فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بيت أبي بكر فلم يجده، فجلس إلى أن جاء أبو بكر، فقبَّل رأس النبي صلى الله عليه وسلم فقال: ما لك، بأبي أنت وأمي.
قال: «مَا أَرَى قُرَيْشًا إِلاَّ قَاتِلِيَّ».
فقال أبو بكر: دمي دون دمك ونفسي دون نفسك، لا يصنع بك شيء، حتى يبدأ بي.