فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ثالثا: في قوله تعالى: {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
عاد الحديث عن النبي وحده، بضمير المفرد {فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها}.. كما بدأ الحديث عنه وحده: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ}.
وعدم ذكر أبى بكر في هذين المقامين- البدء والختام- لا ينقص من قدر أبى بكر، ولا يزحزحه عن مقامه الكريم، الذي رفعه اللّه سبحانه وتعالى إليه بقوله: {إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا}. إذ لا شك أن الموقف هو موقف الرسول، وأن الرسالة هو صاحبها، والمدعوّ إليها من ربه، وإنه ليكفى أبا بكر شرفا أن ينفرد بهذا المقام الكريم، فيكون للنبي ردءا وعضدا، في وقت كان النبي الكريم يواجه فيه وحده المشركين جميعا..
والسكينة، هي الطمأنينة التي تحلّ بالقلب، فيجد الإنسان المكروب ريح الأمن، وبرد السلامة والعافية.. وهى مأخوذة من السكون، أو السكن، بمعنى القرار..
{وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها}. هي قوى من قوى الحق، أمدّه اللّه بها، فكانت عينا تحرسه، ويدا تردّ من يريد السّوء به..
وفى التعبير عن حلول السكينة قلب النبي بإنزالها عليه، إشارة إلى أنها منزلة من السماء، وأنها من قوى الحقّ التي أمدّ اللّه نبيّه بها، وليست من القوى التي يملكها الناس، ويستندون إليها..
{وَجَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى} أي أن اللّه أبطل كيدهم، وأفسد تدبيرهم.. والمراد بالكلمة هنا، الحال والشأن والأمر.. بمعنى أن المشركين وقد فوّت اللّه عليهم ما أرادوا بالنبيّ من سوء، وأبطل ما دبروا من كيد، وما بيّتوا له من عدوان.. فإن ذلك يحدّث عن ضعفهم وهوانهم، أمام تلك القوة القادرة القاهرة.. وإذا كانت الكلمة تعبيرا عن إرادة المتكلم بها، وتصويرا لمشيئته التي يريد إمضاءها، فإن إنفاذ هذه الإرادة، وإمضاء تلك المشيئة، إنما يكون بحسب ما عند المتكلم من رصيد من القوى التي يحشدها وراء كلمته، ليقيم لها مكانا في عالم الواقع المحقق.. وإنه حين تبطل الكلمة، ولا تجد لها مكانا في الواقع المحقق، يكون ذلك دليلا قائما على ضعف صاحبها، وسقوط همته.. وأن كلماته التي ينطق بها ليست إلا أصواتا ضائعة في الهواء!.
وفى التعبير عن كلمة اللّه بالعلوّ، إشارة إلى أن كلمات اللّه سبحانه، هي في المكان المتمكن، الذي تستولى به على كل شيء، بحيث لا تقف لها قوة، ولا يحول دونها حائل..
وفى وضع ضمير الفصل {هى} بين المبتدأ والخبر في قوله سبحانه: {وَكَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا} إشارة أخرى إلى كلمة اللّه، وإلى تحقيقها، وإفرادها بهذه المنزلة دون غيرها من الكلام البشرى على أي مستوى.. فهى وحدها هي العليا، المتفردة بهذا المقام المتمكن من العلوّ..
ولهذا جاء بعدها الوصف المناسب للّه سبحانه وتعالى، صاحب هذه الكلمة: {وَاللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}. فهو العزيز الذي لا عزة لأحد مع عزّته، وهو الحكيم الذي- مع ماله من عزّة مطلقة، ومن سلطان لا ينازع- يضع الأمور مواضعها القائمة على ميزان الحكمة والعدل والإحسان..
أما هؤلاء المشركون، الذين يستشعرون العزّة والقوة من أنفسهم على غيرهم من الضعفاء، فإن عزّتهم عزة غاشمة جهولة، وقوتهم قوة عمياء حمقاء، تضرب بغير حساب، ولا تقدير! والغار الذي تشير إليه الآية الكريمة، هو غار ثور، في أعلى جبل يقال له جبل ثور، على مسيرة ساعة من مكة، على يمين المتجه إلى المدينة. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{إِلاَّ تَنصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ الله إِذْ أَخْرَجَهُ الذين كَفَرُواْ ثَانِيَ اثنين إِذْ هُمَا في الغار إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لاَ تَحْزَنْ إِنَّ الله مَعَنَا}.
استئناف بياني لقوله: {ولا تضروه شيئًا والله على كل شيء قدير} [التوبة: 39] لأنّ نفي أن يكون قعودهم عن النفير مُضرًّا بالله ورسولِه، يثير في نفس السامع سؤالًا عن حصول النصر بدون نصير، فبيّن بأنّ الله ينصره كما نصره حين كان ثاني اثنين لا جيش معه، فالذي نصره حين كان ثاني اثنين قدير على نصره وهو في جيش عظيم، فتبيّن أنّ تقدير قعودهم عن النفير لا يضرّ الله شيئًا.
والضمير المنصوب بـ {تنصروه} عائِد إلى النبي صلى الله عليه وسلم وإن لم يتقدّم له ذكر، لأنّه واضح من المقام.
وجملة {فقد نصره الله} جواب للشرط، جعلت جوابًا له لأنّها دليل على معنى الجواب المقدَّر لِكونها في معنى العلّة للجواب المحذوف: فإنّ مضمون {فقد نصره الله} قد حصل في الماضي فلا يكون جوابًا للشرط الموضوع للمستقبل، فالتقدير: إن لا تنصروه فهو غني عن نصرتكم بنصر الله إيّاه إذ قد نصره في حين لم يكن معه إلا واحد لا يكون به نصر فكما نصره يومئذٍ ينصره حين لا تنصرونه.
وسيجيء في الكلام بيان هذا النصر بقوله: {فأنزل الله سكينته عليه وأيده بجنود لم تروها} الآية.
ويتعلّق {إذ أخرجه} بـ {نَصَره} أي زمنَ إخراج الكفارِ إيّاه، أي من مكة، والمراد خروجه مهاجرًا.
وأسند الإخراج إلى الذين كفروا لأنّهم تسببوا فيه بأن دبّروا لخروجه غير مرّة كما قال تعالى: {وإذ يمكر بك الذين كفروا ليثبتوك أو يقتلوك أو يخرجوك} [الأنفال: 30]، وبأن آذوه وضايقوه في الدعوة إلى الدين، وضايقوا المسلمين بالأذى والمقاطعة، فتوفّرت أسباب خروجه ولكنّهم كانوا مع ذلك يتردّدون في تمكينه من الخروج خشية أن يظهر أمر الإسلام بين ظهراني قوم آخرين، فلذلك كانوا في آخر الأمر مصمّمين على منعه من الخروج، وأقاموا عليه من يرقبه وحاولوا الإرسال وراءه ليردّوه إليهم، وجعلوا لمن يظفر به جزاءً جَزلًا، كما جاء في حديث سُراقة بن جُعْشُم.
كتب في المصاحف {إلاَّ} من قوله: {إلا تنصروه} بهمزة بعدها لام ألف، على كيفية النطق بها مدغمةً، والقياس أن تكتب (إنْ لا) بهمزة فنون فلام ألف لأنّهما حرفان: (إنْ) الشرطية و(لا) النافية، ولكنَّ رسم المصحف سنّة متبعة، ولم تكن للرسم في القرن الأول قواعد متّفق عليها، ومثل ذلك كتب {إلا تفعلوه تكن فتنة في الأرض} في سورة الأنفال (73).
وهم كتبوا قوله: {بل ران} في سورة المطففين (14) بلام بعد الباء وراء بعدها، ولم يكتبوها بباء وراء مشدّدة بعدها.
وقد أثار رسم {إلا تنصروه} بهذه الصورة في المصحف خشية تَوَهُّم مُتوهّم أنّ {إلاّ} هي حرف الاستثناء فقال ابن هشام في مغني اللبيب: تنبيه ليس من أقسام (إلاّ)، (إلاّ) التي في نحو {إلا تنصروه فقد نصره الله} وإنّما هذه كلمتان (إن) الشرطية و(لا) النافية، ومن العجب أن ابن مالك على إمامته ذكرها في شرح التسهيل من أقسام إلاّ، ولم يتبعه الدماميني في شروحه الثلاثة على المغني ولا الشمني.
وقال الشيخ محمد الرصاع في كتاب الجامع الغريب لترتيب آي مغني اللبيب: وقد رأيت لبعض أهل العصر المشارقة ممن اعتنى بشرح هذا الكتاب أي التسهيل أخذ يعتذر عن ابن مالك والانصاف أنّ فيه بعض الإشكال.
وقال الشيخ محمد الأمير في تعليقه على المغني: ليس ما في شرح التسهيل نصًّا في ذلك وهو يُوهمه فإنّه عَرَّف المستثنى بالمخرَج بـ(إلاّ) وقال: واحترزتُ عن (إلا) بمعنى إنْ لم ومثَّل بالآية، أي فلا إخراج فيها.
وقلت عبارة متن التسهيل: المستثنى هو المخرج تحقيقًا أو تقديرًا من مذكور أو متروك بإلا أو ما بمعناها، ولم يعرّج شارحه المُرادي ولا شارحه الدماميني على كلامه الذي احترز به في شرحه ولم نقف على شرح ابن مالك على تسهيله، وعندي أنّ الذي دعا ابن مالك إلى هذا الاحتراز هو ما وقع للأزهري من قوله: إلاّ تكون استثناءً وتكون حرف جزاء أصلها إنْ لا نقله صاحب لسان العرب.
وصدوره من مثله يستدعي التنبيه عليه.
و{ثانيَ اثنين} حال من ضمير النصب في {أخرجه}، والثاني كلّ من به كان العدد اثنين فالثاني اسم فاعل أضيف إلى الاثنين على معنى {مِن}، أي ثانيًا مِن اثنين، والاثنان هما النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر: بتواتر الخبر، وإجماع المسلمين كلّهم.
ولكون الثاني معلومًا للسامعين كلّهم لم يحتج إلى ذكره، وأيضًا لأنّ المقصود تعظيم هذا النصر مع قلّة العدد.
و{إذْ} التي في قوله: {إذ هما في الغار} بدل من {إذ} التي في قوله: {إذ أخرجه} فهو زمن واحد وقع فيه الإخراج، باعتبار الخروج، والكونُ في الغار.
والتعريف في الغار للعهد، لغار يعلمه المخاطبون، وهو الذي اختفى فيه النبي صلى الله عليه وسلم وأبو بكر حين خروجهما مهاجِريْن إلى المدينة، وهو غارٌ في جبل ثَوْر خارج مكة إلى جنوبيها، بينه وبين مكة نحو خمسة أميال، في طريق جبليّ.
والغار الثقب في التراب أو الصخر.
و{إذْ} المضافة إلى جملة {يقول} بدل من {إذ} المضافة إلى جملة {هما في الغار} بدل اشتمال.
والصاحب هو {ثاني اثنين} وهو أبو بكر الصديق.
ومعنى الصاحب: المتّصف بالصحبة، وهي المعية في غالب الأحوال، ومنه سمّيت الزوجة صاحبة، كما تقدّم في قوله تعالى: {ولم تكن له صاحبة} في سورة الأنعام (101).
وهذا القول صدر من النبي لأبي بكر حين كانا مختفيين في غار ثور، فكان أبو بكر حزينًا إشفاقًا على النبي أن يشعر به المشركون، فيصيبوه بمضرّة، أو يرجعوه إلى مكة.
والمعية هنا: معية الإعانة والعناية، كما حكى الله تعالى عن موسى وهارون: {قال لا تخافا إنني معكما} [طه: 46] وقوله: {إذ يوحي ربك إلى الملائكة أني معكم} [الأنفال: 12].
{فَأَنزَلَ الله سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَأَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَّمْ تَرَوْهَا وَجَعَلَ كَلِمَةَ الذين كَفَرُواْ السفلى وَكَلِمَةُ الله هِي العليا والله عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
التفريع مؤذن بأنّ السكينة أنزلت عقب الحُلول في الغار، وأنّها من النصر، إذ هي نصر نفساني، وإنّما كان التأييد بجنود لم يروها نصرًا جثمانيًا.
وليس يلزم أن يكون نزول السكينة عقب قوله: {لا تحزن إن الله معنا} بل إنّ قوله ذلك هو من آثار سكينة الله التي أنزلت عليه، وتلك السكينة هي مظهر من مظاهر نصر الله إيّاه، فيكون تقدير الكلام: فقد نصره الله فأنزل السكينة عليه وأيّده بجنود حين أخرجه الذين كفروا، وحِين كان في الغار، وحين قال لصاحبه: لا تحزن إن الله معنا.
فتلك الظروف الثلاثة متعلّقة بفعل {نصره} على الترتيب المتقدّم، وهي كالاعتراض بين المفرّع عنه والتفريع، وجاء نظم الكلام على هذا السبك البديع للمبادأة بالدلالة على أنّ النصر حصل في أزمان وأحوال ما كان النصر ليحصل في أمثالها لغيره لولا عناية الله به، وأنّ نصره كان معجزةً خارقًا للعادة.
وبهذا البيان تندفع الحيرة التي حصلت للمفسّرين في معنى الآية، حتّى أغرب كثير منهم فأرجع الضمير المجرور من قوله: {فأنزل الله سكينته عليه} إلى أبي بكر، مع الجزم بأنّ الضمير المنصوب في {أيّده} راجع إلى النبي صلى الله عليه وسلم فنشأ تشتيت الضمائر، وانفكاك الأسلوب بذكر حالة أبي بكر، مع أنّ المقام لذكر ثباتتِ النبي صلى الله عليه وسلم وتأييد الله إيّاه، وما جاء ذكر أبي بكر إلاّ تبعًا لذكر ثبات النبي عليه الصلاة والسلام، وتلك الحيرة نشأت عن جعل {فأنزل الله} مفرّعًا على {إذ يقول لصاحبه لا تحزن} وألجأهم إلى تأويل قوله: {وأيده بجنود لم تروها} إنّها جنود الملائكة يوم بدر، وكلّ ذلك وقوف مع ظاهر ترتيب الجمل، مع الغفلة عن أسلوب النظم المقتضي تقديمًا وتأخيرًا.
والسكينة: اطمئنان النفس عند الأحوال المخوفة، مشتقّة من السكون، وقد تقدّم ذكرها عند قوله تعالى: {فيه سكينة من ربكم} في سورة البقرة (248).
والتأييد: التقوية والنصر، وهو مشتقّ من اسم اليَدِ، وقد تقدّم عند قوله تعالى: {وأيدناه بروح القدس} في سورة البقرة (87).
والجنود: جمع جند بمعنى الجيش، وقد تقدم عند قوله تعالى: {فلما فصل طالوت بالجنود} في سورة البقرة (249)، وتقدّم آنفًا في هذه السورة.
ثم جوز أن تكون جملة {وأيده بجنود} معطوفة على جملة {فأنزل الله سكينته عليه} عطف تفسير فيكون المراد بالجنود الملائكة الذين ألقوا الحيرة في نفوس المشركين فصرفوهم عن استقصاء البحث عن النبي صلى الله عليه وسلم وإكثار الطلب وراءهُ والترصّدِ له في الطرق المؤدّية والسبل الموصلة، لاسيما ومن الظاهر أنّه قصد يثرب مهاجَرَ أصحابه، ومدينة أنصاره، فكان سهلًا عليهم أن يرصدوا له طرق الوصول إلى المدينة.