فصل: غَارُ ثَوْرٍ وَطَرِيقُهُ مِنْ مَكَّةَ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.غَارُ ثَوْرٍ وَطَرِيقُهُ مِنْ مَكَّةَ:

الْغَارُ وَالْمَغَارُ وَالْمَغَارَةُ مِنْ مَادَّةِ الْغَوْرِ، وَغَوْرُ كُلِّ شَيْءٍ قَعْرُهُ وَعُمْقُهُ، فَالْغَارُ فِي الْجَبَلِ تَجْوِيفٌ فِيهِ يُشْبِهُ الْبَيْتَ، وَثَوْرٌ جَبَلٌ مِنْ جِبَالِ مَكَّةَ وَعْرُ الْمُرْتَقَى، وَقَدْ وَصَفَهُ وَحَدَّدَ مَسَافَةَ الطَّرِيقِ إِلَيْهِ مِنْ مَكَّةَ الْمُكَرَّمَةِ إِبْرَاهِيمُ رِفْعَتْ بَاشَا أَمِيرُ الْحَجِّ الْمِصْرِيُّ إِذْ زَارَهُ فِي 18 ذِي الْحِجَّةِ سَنَةَ 1318هـ وَكَانَ يَحْرُسُهُ ثُلَّةٌ مِنَ الْجَيْشِ الْمِصْرِيِّ خَوْفًا مِنْ فَتْكِ الْأَعْرَابِ بِهِ، فَذَكَرَ أَنَّ الْمَسَافَةَ بَيْنَهُ وَبَيْنَ مُعَسْكَرِ الْمَحْمَلِ الْمِصْرِيِّ فِي الْمَحَلِّ الْمُسَمَّى بِالشَّيْخِ مَحْمُودٍ مِنْ ضَوَاحِي مَكَّةَ قَرِيبَةٌ مِنْ خَمْسَةِ أَمْيَالٍ وَنِصْفٍ، وَأَنَّهُمْ قَطَعُوهَا عَلَى ظُهُورِ الْخَيْلِ فِي سَاعَةٍ وَثُلُثِ سَاعَةٍ، ثُمَّ قَالَ فِي وَصْفِ الطَّرِيقِ وَالْغَارِ مَا نَذْكُرُهُ بِنَصِّهِ لِيَعْلَمَ الْقُرَّاءُ أَنَّ إِيوَاءَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَصَاحَبِهِ رضي الله عنه إِلَيْهِ لَمْ يَكُنْ بِالسَّهْلِ الَّذِي لَا مَشَقَّةَ فِيهِ، وَأَنَّهُ لَيْسَ بِالْكَبِيرِ الَّذِي يَعِزُّ الْعُثُورُ عَلَى مَنْ يَسْتَخْفِي فِيهِ، قَالَ: وَالطَّرِيقُ مِنْ مَكَّةَ إِلَى الْجَبَلِ تَحُفُّهُ الْجِبَالُ مِنَ الْجَانِبَيْنِ، وَبِهِ عَقَبَةٌ صَغِيرَةٌ يَرْتَفِعُ إِلَيْهَا الْإِنْسَانُ وَيَنْحَدِرُ مِنْهَا، وَلَمْ يَسْتَغْرِقْ قَطْعُهَا إِلَّا ثَلَاثَ دَقَائِقَ، وَبِالطَّرِيقِ سَبْعَةُ أَعْلَامٍ مَبْنِيَّةٌ بِالْحَجَرِ وَمُجَصَّصَةٌ فَوْقَ نُشُوزٍ مِنَ الْأَرْضِ يَبْلُغُ ارْتِفَاعَ الْوَاحِدِ مِنْهَا ثَلَاثَةَ أَمْتَارٍ، وَقَاعِدَتُهُ مِتْرٌ مُرَبَّعٌ، وَتَنْتَهِي بِشَكْلٍ هَرَمِيٍّ، وَهَذِهِ الْأَعْلَامُ عَلَى يَسَارِ الْقَاصِدِ لِلْجَبَلِ وَبَيْنَ كُلِّ اثْنَيْنِ مِنْهَا بُعْدٌ يَتَرَاوَحُ بَيْنَ 200 مِتْرٍ وَأَلْفِ مِتْرٍ، وَكُلُّ وَاحِدٍ مِنْهَا وُضِعَ عِنْدَ تَعْرِيجَةٍ؛ حَتَّى لَا يَضِلَّ السَّالِكُ عَنِ الْجَبَلِ، وَسَاعَةُ بَلَغْنَا الْجَبَلَ قَسَّمْنَا قُوَّتَنَا (يَعْنِي عَسْكَرَهُمْ) قِسْمَيْنِ: قِسْمٌ صَعَدَ مَعَنَا إِلَى الْجَبَلِ، وَالْآخَرُ وَقَفَ بِسَفْحِهِ يَرُدُّ عَنَّا عَادِيَةَ الْعُرْبَانِ إِنْ هَمُّوا بِالْأَذَى، وَقَدْ تَسَلَّقْنَا الْجَبَلَ فِي سَاعَةٍ وَنِصْفِهَا بِمَا فِي ذَلِكَ اسْتِرَاحَةُ دَقِيقَةٍ أَوِ اثْنَتَيْنِ كُلَّ خَمْسِ دَقَائِقَ، بَلْ فِي بَعْضِ الْأَحْيَانِ كُنَّا نَسْتَرِيحُ خَمْسَ دَقَائِقَ؛ لِأَنَّ الطَّرِيقَ وَعْرٌ حَلَزُونِيٌّ، وَقَدْ عَدَدْتُ 54 تَعْرِيجَةً إِلَى نِصْفِ الْجَبَلِ، وَكُنَّا آوِنَةً نَصْعَدُ وَأُخْرَى نَنْحَدِرُ حَتَّى وَصَلْنَا الْغَارَ بِسَلَامٍ، وَلَوْلَا الْإِصْلَاحُ الَّذِي أَحْدَثَهُ الْمُشِيرُ عُثْمَانُ بَاشَا نُورِي الَّذِي وَلِيَ الْحِجَازَ سَنَةَ 1299هـ وَالْمُشِيرُ السَّيِّدُ إِسْمَاعِيلُ حَقِّي بَاشَا الَّذِي كَانَ وَالِيًا عَلَى الْحِجَازِ، وَشَيْخًا لِلْحَرَمِ سَنَةَ 1307هـ لَازْدَادَتِ الصُّعُوبَةُ، وَضَلَّ السَّائِرُ عَنِ الطَّرِيقِ وَلَمْ يَهْتَدِ إِلَى الْغَارِ لِعِظَمِ الْجَبَلِ وَاتِّسَاعِهِ وَتَشَعُّبِ مَسَالِكِهِ، وَكَانَ مِنْ أَثَرِ إِصْلَاحِهِمَا جَعْلُ الطَّرِيقِ بِهَيْئَةِ سَلَالِمَ تَارَةً تَتَصَعَّدُ وَأُخْرَى تَنْحَدِرُ، عَلَى أَنَّهُ مَعَ ذَلِكَ لَا يَزَالُ الْعُرُوجُ صَعْبًا، فَقَدْ رَأَيْتُ بَعْضَ الصَّاعِدِينَ امْتَقَعَ لَوْنُهُ وَخَارَتْ قُوَاهُ فَوَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ مَغْشِيًّا عَلَيْهِ، وَلَوْلَا أَنَّنَا تَدَارَكْنَاهُ بِجُرْعَةٍ مِنَ الْمَاءِ شَرِبَهَا وَصَبَابَةٍ مِنْهُ سَكَبْنَاهَا عَلَى رَأْسِهِ حَتَّى أَفَاقَ لَبَاغَتَتْهُ الْمَنِيَّةُ، وَلِهَذَا نَنْصَحُ لِلزَّائِرِينَ بِأَنْ يَتَزَوَّدُوا مِنَ الْمَاءِ لِيَقُوا أَنْفُسَهُمْ شَرَّ الْعَطَبِ.
وَلَمَّا بَلَغْنَا الْغَارَ وَجَدْنَاهُ صَخْرَةً مُحَوَّفَةً فِي قُنَّةِ الْجَبَلِ أَشْبَهَ بِسَفِينَةٍ صَغِيرَةٍ ظَهْرُهَا إِلَى أَعْلَى، وَلَهَا فَتْحَتَانِ فِي مُقَدِّمِهَا وَاحِدَةٌ وَفِي مُؤَخِّرِهَا أُخْرَى، وَقَدْ دَخَلْتُ مِنَ الْغَرْبِيَّةِ زَاحِفًا عَلَى بَطْنِي مَادًّا ذِرَاعِي إِلَى الْأَمَامِ، وَخَرَجْتُ مِنَ الشَّرْقِيَّةِ الَّتِي تَتَّسِعُ عَنِ الْأُولَى قَلِيلًا بَعْدَ أَنْ دَعَوْتُ فِي الْغَارِ وَصَلَّيْتُ، وَالْفَتْحَةُ الصَّغِيرَةُ عَرْضُهَا ثَلَاثَةُ أَشْبَارٍ فِي شِبْرَيْنِ تَقْرِيبًا وَهِيَ الْفُتْحَةُ الْأَصْلِيَّةُ الَّتِي دَخَلَ مِنْهَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم وَهِيَ فِي نَاحِيَةِ الْغَرْبِ. أَمَّا الْفُتْحَةُ الْأُخْرَى فَهِيَ فِي الشَّرْقِ وَيُقَالُ: إِنَّهَا مُحْدَثَةٌ؛ لِيَسَهُلَ عَلَى النَّاسِ الدُّخُولُ إِلَى الْغَارِ وَالْخُرُوجُ مِنْهُ، وَالْغَارُ مِنَ الْجَبَلِ فِي النَّاحِيَةِ الْمُوَالِيَةِ لِمَكَّةَ، وَقَدْ وَجَدْنَا بِجَانِبِهِ رَجُلًا عَرَبِيًّا يَتَنَاوَلُ الصَّدَقَاتِ مِنَ الزَّائِرِينَ فِي مَوَاسِمِ الْحَجِّ، وَيُرْشِدُهُمْ إِلَى الْغَارِ إِذْ تُوجَدُ هُنَاكَ صُخُورٌ تُشْبِهُ صَخْرَتَهُ وَلَكِنَّهَا لَا تُمَاثِلُهَا تَمَامًا. انْتَهَى مَا ذَكَرَهُ إِبْرَاهِيمُ بَاشَا رِفْعَتْ فِي كِتَابِ مِرْآةِ الْحَرَمَيْنِ.
وَقَدْ وَضَعَ فِي الْكِتَابِ صُورَةَ الْغَارِ وَصُورَةَ الْجَبَلِ بِرَسْمِ آلَةِ الِانْعِكَاسِ الشَّمْسِيِّ، فَاسْتَفَدْنَا مِنْ ذَلِكَ كُلِّهِ أَنَّ الْغَارَ ضَيِّقٌ وَوَعْرُ الْمُرْتَقَى وَضَيِّقُ الْمَدْخَلِ. فَعَلِمُنَا قَدْرَ الْمَشَقَّةِ الَّتِي أَصَابَتِ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم وَصَاحَبَهُ رضي الله عنه فِيهِ، وَسَبَبُ إِشْفَاقِ الصِّدِّيقِ وَخَوْفِهِ أَنْ يَرَاهُمَا الْمُشْرِكُونَ بِأَدْنَى الْتِفَاتٍ وَلَكِنَّ اللهَ تَعَالَى صَرَفَ أَبْصَارَهُمْ.
وَقَدْ وَرَدَ فِي كُتُبِ الْحَدِيثِ وَالسِّيرَةِ أَخْبَارٌ وَآثَارٌ كَثِيرَةٌ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ وَدُخُولِ الْغَارِ، فِيهَا كَرَامَاتٌ وَخَوَارِقٌ يَتَسَاهَلُونَ بِقَبُولِ مِثْلِهَا فِي الْمَنَاقِبِ وَإِنْ لَمْ تَصِحَّ بِطُرُقٍ مُتَّصِلَةٍ يُحْتَجُّ بِمِثْلِهَا فِي الْأَحْكَامِ الْعَمَلِيَّةِ، وَلَا فِي الْمَسَائِلِ الِاعْتِقَادِيَّةِ بِالْأَوْلَى.
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِ حَدِيثِ عَائِشَةَ مِنَ الْفَتْحِ: إِنَّ الْإِمَامَ أَحْمَدَ رَوَى بِإِسْنَادٍ حَسَنٍ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي قوله تعالى: {وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا} (8: 30) الْآيَةَ.
قال تَشَاوَرَتْ قُرَيْشٌ لَيْلَةً بِمَكَّةَ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِذَا أَصْبَحَ فَأَثْبِتُوهُ بِالْوَثَاقِ- يُرِيدُونَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم- وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ اقْتُلُوهُ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ أَخْرِجُوهُ. فَأَطَلَعَ اللهُ نَبِيَّهَ عَلَى ذَلِكَ فَبَاتَ عَلِيٌّ عَلَى فِرَاشِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم تِلْكَ اللَّيْلَةَ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم حَتَّى لَحِقَ بِالْغَارِ، وَبَاتَ الْمُشْرِكُونَ يَحْرُسُونَ عَلِيًّا يَحْسَبُونَهُ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَعْنِي: يَنْتَظِرُونَهُ حَتَّى يَقُومَ فَيَفْعَلُونَ بِهِ مَا اتَّفَقُوا عَلَيْهِ، فَلَمَّا أَصْبَحُوا وَرَأَوْا عَلِيًّا رَدَّ اللهُ مَكْرَهُمْ فَقَالُوا: أَيْنَ صَاحِبُكَ هَذَا؟ قَالَ: لَا أَدْرِي، فَاقْتَصُّوا أَثَرَهُ، فَلَمَّا بَلَغُوا الْجَبَلَ اخْتَلَطَ عَلَيْهِمْ فَصَعِدُوا الْجَبَلَ فَمَرُّوا بِالْغَارِ فَرَأَوْا عَلَى بَابِهِ نَسْخَ الْعَنْكَبُوتِ فَقَالُوا: لَوْ دَخَلَ هُنَا لَمْ يَكُنْ نَسْجُ الْعَنْكَبُوتِ عَلَى بَابِهِ، فَمَكَثَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ. اهـ.
وَذَكَرَ الْحَافِظُ رِوَايَاتٍ بِهَذَا الْمَعْنَى مِنْ مَرَاسِيلِ الزُّهْرِيِّ وَالْحَسَنِ فِي بَعْضِ السِّيَرِ وَغَيْرِهَا وَنَقَلَ عَنْ دَلَائِلِ النُّبُوَّةِ لِلْبَيْهَقِيِّ مِنْ مُرْسَلِ مُحَمَّدِ بْنِ سِيرِينَ: أَنَّ أَبَا بَكْرٍ لَيْلَةَ انْطَلَقَ مَعَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم إِلَى الْغَارِ كَانَ يَمْشِي بَيْنَ يَدَيْهِ سَاعَةً، وَمِنْ خَلْفِهِ سَاعَةً، فَسَأَلَهُ (أَيْ عَنْ سَبَبِ ذَلِكَ) فَقَالَ: أَذْكُرُ الطَّلَبَ فَأَمْشِي خَلْفَكَ. وَأَذْكُرُ الرَّصْدَ فَأَمْشِي أَمَامَكَ، فَقَالَ: «لَوْ كَانَ شَيْءٌ أَحْبَبْتَ أَنْ تُقْتَلَ دُونِي»؟ قَالَ: إِي وَالَّذِي بَعَثَكَ بِالْحَقِّ. فَلَمَّا انْتَهَى إِلَى الْغَارِ قَالَ: مَكَانَكَ يَا رَسُولَ اللهِ حَتَّى أَسْتَبْرِئَ لَكَ الْغَارَ، فَاسْتَبْرَأَهُ. وَذَكَرَ أَبُو الْقَاسِمِ الْبَغَوِيُّ مِنْ مُرْسَلِ ابْنِ أَبِي مُلَيْكَةَ نَحْوَهُ، وَذَكَرَ ابْنُ هِشَامٍ مِنْ زِيَادَاتِهِ عَنِ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ بَلَاغًا نَحْوَهُ. اهـ.
أَقُولُ: فَهَذِهِ مَرَاسِيلُ عَنْ كِبَارِ عُلَمَاءِ التَّابِعِينَ يُؤَيِّدُ بَعْضُهَا بَعْضًا، وَفِي الْمَوْضُوعِ رِوَايَاتٌ أُخْرَى مِنْهَا أَنَّ حَمَامَتَيْنِ عَشَّشَتَا عَلَى بَابِهِ، وَفِي بَعْضِ الرِّوَايَاتِ أَنَّ أَبَا بَكْرٍ سَدَّ كُلَّ جُحْرٍ كَانَ فِي الْغَارِ بِقِطَعٍ مِنْ ثَوْبِهِ، وَهَذَا مُرَادُهُ مِنِ اسْتِبْرَائِهِ.
وَقَالَ الْحَافِظُ قَبْلَ ذَلِكَ فِي شَرْحِ قَوْلِ عَائِشَةَ: ثُمَّ لَحِقَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم وَأَبُو بَكْرٍ بِغَارٍ فِي جَبَلِ ثَوْرٍ: ذَكَرَ الْوَاقِدَيُّ أَنَّهُمَا خَرَجَا مِنْ خَوْخَةٍ فِي ظَهْرِ بَيْتِ أَبِي بَكْرٍ، وَقَالَ الْحَاكِمُ: تَوَاتَرَتِ الْأَخْبَارُ أَنَّ خُرُوجَهُ صلى الله عليه وسلم كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ، وَدُخُولُهُ الْمَدِينَةَ كَانَ يَوْمَ الِاثْنَيْنِ. إِلَّا أَنَّ مُحَمَّدَ بْنَ مُوسَى الْخُوَارِزْمِيَّ قَالَ: إِنَّهُ خَرَجَ مِنْ مَكَّةَ يَوْمَ الْخَمِيسِ. (قُلْتُ): يُجْمَعُ بَيْنَهُمَا بِأَنَّ خُرُوجَهُ مِنْ مَكَّةَ كَانَ يَوْمَ الْخَمِيسِ وَخُرُوجَهُ مِنَ الْغَارِ كَانَ لَيْلَةَ الِاثْنَيْنِ؛ لِأَنَّهُ أَقَامَ فِيهِ ثَلَاثَ لَيَالٍ فَهِيَ لَيْلَةُ الْجُمُعَةِ وَلَيْلَةُ السَّبْتِ وَلَيْلَةُ الْأَحَدِ وَخَرَجَ فِي أَثْنَاءِ لَيْلَةِ الِاثْنَيْنِ. اهـ.

.الْكَلِمَةُ الثَّانِيَةُ: مَنَاقِبُ الصِّدِّيقِ فِي قِصَّةِ الْهِجْرَةِ:

قَدْ دَلَّتْ هَذِهِ الْآيَةُ الْكَرِيمَةُ وَمَا يُفَسِّرُهَا وَيَشْرَحُهَا مِنَ الْأَحَادِيثِ الصَّحِيحَةِ وَمَا فِي مَعْنَاهَا مِنَ الْأَخْبَارِ وَالْآثَارِ مِمَّا دُوْنَهَا فِي الرِّوَايَةِ عَلَى مَنَاقِبَ وَفَضَائِلَ لِأَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللهُ تَعَالَى عَنْهُ، امْتَازَ بِهَا عَلَى جَمِيعِ أَصْحَابِ رَسُولِ اللهِ نَذْكُرُ مِنْهَا مَا يَتَبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ بِغَيْرِ تَكَلُّفٍ لِبَدَاهَتِهِ، وَمِنْ غَيْرِ مُرَاعَاةِ تَرْتِيبٍ.
(الْأَوَّلُ) أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَأْمَنْ عَلَى سِرِّهِ وَعَلَى نَفْسِهِ فِي هَذِهِ الْحَادِثَةِ الَّتِي كَانَتْ أَهَمَّ حَوَادِثِ رِسَالَتِهِ، وَأَشَدَّهَا خَطَرًا وَخَيْرَهَا عَاقِبَةً غَيْرَ صَاحِبِهِ الْأَوَّلِ أَبِي بَكْرٍ الصِّدِّيقِ. وَإِنْ شِئْتَ قُلْتَ: إِنَّهُ لَمْ يَخْتَرْ لِصُحْبَتِهِ وَإِينَاسِهِ فِيهَا غَيْرَهُ. وَيُؤَيِّدُهُ مَا رَوَاهُ ابْنُ عَدِيٍّ وَابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ أَنَسٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَالَ لِحَسَّانَ: «هَلْ قَلْتَ فِي أَبِي بَكْرٍ شَيْئًا»؟ قَالَ: نَعَمْ.
قال: «قُلْ وَأَنَا أَسْمَعُ» فَقَالَ:
وَثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الْغَارِ الْمُنِيفِ وَقَدْ ** طَافَ الْعَدُوُّ بِهِ إِذْ صَعِدَ الْجَبَلَا

وَكَانَ حُبُّ رَسُولِ اللهِ قَدْ عَلِمُوا ** مِنَ الْبَرِيَّةِ لَمْ يَعْدِلْ بِهِ رَجُلًا

فَضَحِكَ رَسُولُ اللهِ حَتَّى بَدَتْ نَوَاجِذُهُ ثُمَّ قَالَ: «صَدَقْتَ يَا حَسَّانُ هُوَ كَمَا قُلْتَ».
(الثَّانِيَةُ) أَنَّهُ صلى الله عليه وسلم رَضِيَ أَنْ تَكُونَ نَفَقَةُ هَذِهِ الرَّاحِلَةِ مِنْ مَالِ أَبِي بَكْرٍ الَّذِي أَنْفَقَ جَمِيعَ مَالِهِ فِي خِدْمَتِهِ صلى الله عليه وسلم، إِلَّا أَنَّهُ أَحَبَّ أَنْ تَكُونَ الرَّاحِلَةُ الَّتِي رَكِبَهَا بِالثَّمَنِ يَدْفَعُهُ بَعْدَ ذَلِكَ. وَتَقَدَّمَ مَا قَالَهُ بَعْضُ الْعُلَمَاءِ فِي تَعْلِيلِ ذَلِكَ، وَفِي صَحِيحِ الْبُخَارِيِّ أَنَّ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ غَضِبَ مِنْ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه فِي مُحَاوَرَةٍ بَيْنِهِمَا، فَطَلَبَ مِنْهُ أَبُو بَكْرٍ أَنْ يَغْفِرَ لَهُ فَأَبَى، فَأَتَى النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَ ذَلِكَ لَهُ. فَقَالَ لَهُ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «يَغْفِرُ اللهُ لَكَ يَا أَبَا بَكْرٍ» ثَلَاثًا- قَالَ الرَّاوِي وَهُوَ أَبُو الدَّرْدَاءِ رضي الله عنه ثُمَّ إِنَّ عَمَرَ نَدِمَ فَأَتَى مَنْزِلَ أَبِي بَكْرٍ فَقَالَ: أَثَمَّ أَبُو بَكْرٍ؟ فَقَالُوا: لَا- فَأَتَى إِلَى النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَسَلَّمَ عَلَيْهِ، فَجَعَلَ وَجْهُ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَتَمَعَّرُ حَتَّى أَشْفَقَ أَبُو بَكْرٍ فَجَثَا عَلَى رُكْبَتَيْهِ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللهِ وَاللهِ أَنَا كُنْتُ أَظْلَمُ- مَرَّتَيْنِ- فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم: «إِنَّ اللهَ بَعَثَنِي إِلَيْكُمْ فَقُلْتُمْ كَذَبْتَ، وَقَالَ أَبُو بَكْرٍ: صَدَقَ، وَوَاسَانِي بِنَفْسِهِ وَمَالِهِ، فَهَلْ أَنْتُمْ تَارِكُو لِي صَاحِبِي»؟ مَرَّتَيْنِ- فَمَا أُوذِيَ أَبُو بَكْرٍ بَعْدَهَا. وَقَدْ صَرَّحَ أَيْضًا بِأَنَّ أَمَنَّ النَّاسِ عَلَيْهِ فِي مَالِهِ وَنَفْسِهِ أَبُو بَكْرٍ. رَوَاهُ الشَّيْخَانِ وَغَيْرُهُمَا.
(الثَّالِثَةُ) أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم لَمْ يَخْتَرْ فِي ذَلِكَ وَأَمْثَالِهِ إِلَّا مَا اخْتَارَهُ اللهُ تَعَالَى لَهُ، فَهَذَا تَفْصِيلٌ مِنَ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلصِّدِّيقِ عَلَى غَيْرِهِ مِنْ أَصْحَابِ نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم.
(الرَّابِعَةُ) ذَكَرَهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي كِتَابِهِ الْعَزِيزِ بِهَذَا الثَّنَاءِ الْعَظِيمِ الَّذِي لَمْ يُشَارِكْهُ فِيهِ أَحَدٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي مَقَامِ إِطْلَاقِ الْإِنْكَارِ عَلَيْهِمْ وَالتَّوْبِيخِ لَهُمْ عَلَى تَثَاقُلِهِمْ عَنْ إِجَابَةِ اسْتِنْفَارِ رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم إِيَّاهُمْ بِأَمْرِهِ. أَخْرَجَ خَيْثَمَةُ بْنُ سُلَيْمَانَ الْأَطْرَابُلُسِيُّ فِي فَضَائِلِ الصَّحَابَةِ وَابْنِ عَسَاكِرَ مِنْ طَرِيقِ الزُّهْرِيِّ عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ رضي الله عنه قَالَ: إِنَّ اللهَ ذَمَّ النَّاسَ كُلَّهُمْ وَمَدَحَ أَبَا بَكْرٍ رضي الله عنه فَقَالَ: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللهَ مَعَنَا (40)} وَأَخْرَجَ ابْنُ عَسَاكِرَ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ، قَالَ: عَاتَبَ اللهُ الْمُسْلِمِينَ جَمِيعًا فِي نَبِيِّهِ صلى الله عليه وسلم غَيْرَ أَبِي بَكْرٍ رضي الله عنه وَحْدَهُ فَإِنَّهُ خَرَجَ مِنَ الْمُعَاتَبَةِ. ثُمَّ قَرَأَ: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللهُ الْآيَةَ. ذَكَرَهُمَا السُّيُوطِيُّ فِي الدُّرِّ الْمَنْثُورِ- فَهَذَا مَا دَلَّ عَلَيْهِ أُسْلُوبُ الْآيَةِ، وَالسِّيَاقُ مِنْ تَفْضِيلِهِ عَلَى جَمِيعِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- بِغَيْرِ اسْتِثْنَاءٍ. وَأَخْرَجَ ابْنُ الْمُنْذِرِ عَنِ الشَّعْبِيِّ قَالَ: وَالَّذِي لَا رَبَّ غَيْرُهُ لَقَدْ عُوتِبَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ صلى الله عليه وسلم فِي نُصْرَتِهِ إِلَّا أَبَا بَكْرٍ، فَقَدْ قَالَ تَعَالَى: {إِلَّا تَنْصُرُوهُ} الْآيَةَ. خَرَجَ أَبُو بَكْرٍ رضي الله عنه مِنَ الْمَعْتَبَةِ.
(الْخَامِسَةُ) أَمْرُهُ صلى الله عليه وسلم عَلِيًّا كَرَّمَ اللهُ وَجْهَهُ أَنَّ يُبَلِّغَ النَّاسَ فِي مَوْسِمِ الْحَجِّ هَذِهِ الْآيَةَ فِي جُمْلَةِ مَا بَلَّغَهُ مِنْ أَوَّلِ سُورَةِ بَرَاءَةٌ، كَمَا تَقَدَّمَ فِي أَوَّلِ تَفْسِيرِ السُّورَةِ، وَفِي ذَلِكَ حِكَمٌ بَالِغَةٌ تَقْطَعُ كُلَّ وَتِينٍ مِنْ قُلُوبِ الرَّافِضَةِ، وَإِنْ لَمْ تَقْطَعْ أَلْسِنَتَهُمُ الْكَاذِبَةَ الْخَاطِئَةَ.
(السَّادِسَةُ) قَوْلُهُ تَعَالَى فِي رَسُولِهِ صلى الله عليه وسلم وَفِيهِ: {ثَانِيَ اثْنَيْنِ} فَهَذَا الْقَوْلُ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِي خِطَابٍ جَمَعَ الْمُؤْمِنِينَ فِي هَذَا الْمَقَامِ، وَالسِّيَاقُ فِيهِ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى فَضْلِ هَذَيْنِ الِاثْنَيْنِ، وَكَوْنُ الصِّدِّيقُ هُوَ الثَّانِي فِي الْمَرْتَبَةِ بَعْدَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي كُلِّ مَا يَقْتَضِيهِ الْمَقَامُ لِلْهِجْرَةِ الشَّرِيفَةِ مِنَ الْفَضَائِلِ وَالْمَزَايَا.
قال الفخر الرَّازِيُّ عِنْدَ ذِكْرِ هَذِهِ الْمَنْقَبَةِ، وَهِيَ كَوْنُ أَبِي بَكْرٍ ثَانِيَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي الْغَارِ مَا نَصُّهُ: وَالْعُلَمَاءُ أَثْبَتُوا أَنَّهُ رَضِيَ اللهُ عَنْهُ كَانَ ثَانِيَ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي أَكْثَرِ الْمَنَاصِبِ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّهُ صلى الله عليه وسلم لَمَّا أُرْسِلَ إِلَى الْخَلْقِ، وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى أَبِي بَكْرٍ آمَنَ أَبُو بَكْرٍ، ثُمَّ ذَهَبَ وَعَرَضَ الْإِسْلَامَ عَلَى طَلْحَةَ وَالزُّبَيْرِ وَعُثْمَانَ بْنِ عَفَّانَ وَجَمَاعَةٍ آخَرِينَ مِنْ أَجِلَةِ الصَّحَابَةِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُمْ- وَالْكُلُّ آمَنُوا عَلَى يَدَيْهِ، ثُمَّ إِنَّهُ جَاءَ بِهِمْ إِلَى رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم بَعْدَ أَيَّامٍ قَلَائِلَ فَكَانَ هُوَ رضي الله عنه ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي الدَّعْوَةِ إِلَى اللهِ، وَأَيْضًا كُلَّمَا وَقَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم فِي غَزْوَةٍ كَانَ أَبُو بَكْرٍ يَقِفُ فِي خِدْمَتِهِ وَلَا يُفَارِقُهُ فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ فِي مَجْلِسِهِ، وَلَمَّا مَرِضَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم قَامَ مَقَامَهُ فِي إِمَامَةِ النَّاسِ فِي الصَّلَاةِ فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ، وَلَمَّا تُوُفِّيَ دُفِنَ بِجَنْبِهِ فَكَانَ ثَانِيَ اثْنَيْنِ هُنَاكَ أَيْضًا. اهـ.