فصل: قال ابن كثير:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن كثير:

والصواب في ذلك أن يقال إن الله تعالى نهى آدم وزوجته عن أكل شجرة بعينها من أشجار الجنة دون سائر أشجارها فأكلا منها، ولا علم عندنا بأي شجرة كانت على التعيين، لأن الله لم يضع لعبادة دليلًا على ذلك في القرآن ولا من السنة الصحيحة وقد قيل: كانت شجرة البر، وقبل: كانت شجرة العنب، وقيل: كانت شجرة التين وجائز أن تكون واحدة منها، وذلك علم إذا علم لم ينفع العالم به علمه، وإن جهله جاهل لم يضره جهله به والله أعلم، وكذلك رجح الإمام فخر الدين الرازي في تفسيره وغيره، وهو الصواب، انتهى كلامه رحمه الله.

.قال الفخر:

فصل: المراد بقوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين}:
اتفقوا على أن المراد بقوله تعالى: {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} هو أنكما إن أكلتما فقد ظلمتما أنفسكما لأن الأكل من الشجرة ظلم الغير، وقد يكون ظالمًا بأن يظلم نفسه وبأن يظلم غيره، فظلم النفس أعم وأعظم.
ثم اختلف الناس هاهنا على ثلاثة أقوال:
الأول: قول الحشوية الذين قالوا: إنه أقدم على الكبيرة فلا جرم كان فعله ظلمًا.
الثاني: قوله: المعتزلة الذين قالوا: إنه أقدم على الصغيرة ثم لهؤلاء قولان:
أحدهما: قول أبي علي الجبائي وهو أنه ظلم نفسه بأن ألزمها ما يشق عليه من التوبة والتلافي.
وثانيهما: قول أبي هاشم وهو أنه ظلم نفسه من حيث أحبط بعض ثوابه الحاصل فصار ذلك نقصًا فيما قد استحقه.
الثالث: قول من ينكر صدور المعصية منهم مطلقًا وحمل هذا الظلم على أنه فعل ما الأولى له أن لا يفعله.
ومثاله إنسان طلب الوزارة ثم إنه تركها واشتغل بالحياكة، فإنه يقال له: يا ظالم نفسه لم فعلت ذلك؟ فإن قيل: هل يجوز وصف الأنبياء عليهم السلام بأنهم كانوا ظالمين أو بأنهم كانوا ظالمي أنفسهم؟ والجواب أن الأولى أنه لا يطلق ذلك لما فيه من إيهام الذم. اهـ.
وقال صاحب الميزان:
قوله تعالى: {فتكونا من الظالمين} من الظلم لا من الظلمة على ما احتمل بعضهم وقد اعترفا بظلمهما حيث قالا على ما حكاه الله تعالى عنهما {ربنا ظلمنا أنفسنا وإن لم تغفر لنا وترحمنا لنكونن من الخاسرين} [الأعراف: 23] ومن هنا يظهر أن وبال هذا الظلم إنما كان هو الوقوع في تعب حياة هذه الأرض من جوع وعطش، وعراء وعناء وعلى هذا، فالظلم منهما إنما هو ظلمهما لأنفسهما، لا بمعنى المعصية المصطلحة، والظلم على سبحانه، ومن هنا يظهر أيضًا أن هذا النهي أعني: قوله: {ولا تقربا} إنما كان نهيًا تنزيهيًا إرشاديًا يرشد به إلى ما فيه خير المكلف وصلاحه في مقام النصح لا نهيًا مولويًا.
فهما إنما ظلما أنفسهما في ترك الجنة على أن جزاء المخالفة للنهي المولوي التكليفي يتبدل بالتوبة إذا قبلت، ولم يتبدل في موردهما، فإنهما تابا وقبلت توبتهما، ولم يرجعا إلى ما كانا من الجنة، ولولا أن التكليف إرشادي ليس له إلا التبعة التكوينية دون التشريعية لاستلزم قبول التوبة رجوعهما إلى ما كانا فيه من مقام القرب. اهـ.

.قال القرطبي:

يقال إن أوّل مَن أكل من الشجرة حوّاء بإغواء إبليس إياها على ما يأتي بيانه وإن أوّل كلامه كان معها لأنها وسواس المحنة، وهي أوّلِ فتنة دخلت على الرجال من النساء؛ فقال: ما منعتما هذه الشجرة إلا أنها شجرة الخُلْد؛ لأنه علم منهما أنهما كانا يُحبّان الخُلْد، فأتاهما من حيث أحبّا حُبّك الشيء يُعمِي ويُصِم فلما قالت حوّاء لآدم أنكر عليها وذكر العهد؛ فألحّ على حّواء وألَحّت حوّاء على آدم، إلى أن قالت: أنا آكل قبلك حتى إن أصابني شيء سَلِمْتَ أنت؛ فأكلتْ فلم يضرها، فأتت آدم فقالت: كُلْ فإني قد أكلتُ فلم يضرّني؛ فأكل فبدت لهما سوءاتهما وحصلا في حكم الذنب؛ لقول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} فجمعهما في النّهي؛ فلذلك لم تنزل بها العقوبة حتى وُجد المنهيّ عنه منهما جميعًا، وخَفِيت على آدم هذه المسألة؛ ولهذا قال بعض العلماء: إن من قال لزوجتيه أو أَمَتَيْه: إن دخلتما الدار فأنتما طالقتان أو حُرّتان؛ إن الطلاق والعتق لا يقع بدخول إحداهما.
وقد اختلف علماؤنا في ذلك على ثلاثة أقوال؛ قال ابن القاسم: لا تطلقان ولا تَعتِقان إلا باجتماعهما في الدخول؛ حملًا على هذا الأصل وأخذًا بمقتضى مطلق اللفظ.
وقاله سُحْنون.
وقال ابن القاسم مرة أخرى: تطلقان جميعًا وتَعتِقان جميعًا بوجود الدخول من إحداهما؛ لأن بعض الحِنْث حِنْث؛ كما لو حلف ألاّ يأكل هذين الرغيفين فإنه يحنث بأكل أحدهما بل بأكل لُقمة منهما.
وقال أشهب: تَعتِق وتطلقُ التي دخلت وحدها؛ لأن دخول كلّ واحدة منهما شرطٌ في طلاقها أو عتقها.
قال ابن العربي: وهذا بعيد؛ لأن بعض الشرط لا يكون شرطًا إجماعًا.
قلت: الصحيح الأوّل، وإن النّهي إذا كان معلَّقًا على فعلين لا تتحقق المخالفة إلا بهما؛ لأنك إذا قلت: لا تدخلا الدار؛ فدخل أحدهما ما وُجدت المخالفة منهما؛ لأن قول الله تعالى: {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} نَهْيٌ لهما {فَتَكُونَا مِنَ الظالمين} جوابه؛ فلا يكونا من الظالمين حتى يفعلا؛ فلما أكلت لم يصبها شيء؛ لأن المنهيّ عنه ما وُجد كاملًا.
وخَفِيَ هذا المعنى على آدم فطمع ونسي هذا الحكم، وهو معنى قوله تعالى: {وَلَقَدْ عَهِدْنَا إلى آدَمُ مِن قَبْلُ فَنَسِيَ}.
وقيل: نسي قوله: {إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَّكَ وَلِزَوْجِكَ فَلاَ يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الجنة فتشقى} [طه: 117]. والله أعلم. اهـ.

.قال الخطيب الإسكافي:

قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدًا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} [البقرة: 35] وقال في سورة الأعراف {يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} [الأعراف: 19] فعطف {كلا} على قوله: {اسكن} بالفاء في هذه السورة، وعطفها عليه في سورة البقرة بالواو، والأصل في ذلك أن كل فعل عطف عليه ما يتعلق به تعلق الجواب بالابتداء، وكان الأول مع الثاني بمعنى الشرط والجزاء، فالأصل فيه عطف الثاني على الأول بالفاء دون الواو، كقوله تعالى: {وإذ قلنا ادخلوا هذه القرية فكلوا منها حيث شئتم رغدًا} [البقرة: 58] فعطف {كلوا} على {ادخلوا} بالفاء، لما كان وجود الأكل منها متعلقًا بدخولها، فكأنه قال: إن دخلتموها أكلتم منها فالدخول موصل إلى الأكل، والأكل متعلق وجوده بوجوده: يبين ذلك قوله تعالى في مثل هذه الآية من سورة الأعراف: {وإذ قيل لهم اسكنوا هذه القرية وكلوا منها حيث شئتم وقولوا حطة} [الأعراف: 161] فعطف {كلوا} على قوله: {اسكنوا} بالوا ودون الفاء، لأن {اسكنوا} من السكنى، وهي المقام مع طول لبث والأكل لا يختص وجوده بوجوده، لأن من يدخل بستانًا قد يأكل منه، وإن كان مجتازًا، فلما لم يتعلق الثاني بالأول تعلق الجواب بالإبتداء وجب العطف بالوا ودون الفاء، وعلى هذا قوله تعالى في الآية التي بدأت بذكرها:
{وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا} وبقى أن نبين المراد بالفاء في قوله تعالى: {فكلا من حيث شئتما} من سورة الأعراف مع عطفه على قوله: {اسكن} وهو أن السكن يقال لمن دخل مكانًا، ويراد به: الزم المكان الذي دخلته، ولا تنتقل عنه، ويقال أيضًا لمن لم يدخله اسكن هذا المكان يعني: ادخله واسكنه كما تقوله لمن تعرض عليه دارًا ينزلها سكنى، فتقول: اسكن هذه الدار، واصنع ما شئت فيها من الصناعات، معناه: ادخلها ساكنًا لها، فافعل فيها كذا وكذا، فعلى هذه الوجه قوله تعالى في سورة الأعراف:
{ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا} بالفاء الحمل على هذا المعنى في هذه الآية أولى، لأنه عز من قائل لما قال لإبليس: {أخرج منها مذءومًا مدحورًا} [الأعراف: 18] فكأنه قال لآدم: {اسكن أنت وزوجك الجنة} فقال: {اسكن} يعني: ادخل ساكنًا ليوافق الدخول الخروج، ويكون أحد الخطابين لهما قبل الدخول، والآخر بعده، مبالغة في الإعذار وتوكيدًا للإنذار، وتحقيقًا لمعنى قوله عز وجل: {ولا تقربا هذه الشجرة فتكونا من الظالمين}. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.قال في ملاك التأويل:

قوله تعالى: {وقلنا يا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة وكلا منها رغدا حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} وفى سورة الأعراف: {ويا آدم اسكن أنت وزوجك الجنة فكلا من حيث شئتما ولا تقربا هذه الشجرة} في هذا سؤالان:
الأول: ورود أمرهما بالأكل في البقرة بواو النسق المقتضية عدم الترتيب ما لم يفهم من غيرها، وفى الأعراف: بالفاء المقتضية الترتيب والتعقيب والأمر واحد والقصة واحدة.
والثانى: وصف الأكل في البقرة بالرغد ولم يقع هذا الوصف في الأعراف مع اتحاد الأمر كما ذكرنا.
والجواب عن السؤال الأول: والله أعلم أن الوارد في الآيتين مختلف في الموضعين أما الوارد في البقرة فقصد به الإخبار والإعلام لرسول الله صلى الله عليه وسلم بما جرى في قصة آدم صلوات الله وسلامه عليه وابتداء خلقه وأمر الملائكة بالسجود له وما جرى من إبليس عن السجود ثم ما أمر آدم من سكنى الجنة والأكل منها ولم يقصد غير التعريف بذلك من غير ترتيب زمانى أو تحديد غاية فناسبه الواو وليس موضع الفاء، وأما آية الأعراف فمقصودها تعداد نعم الله جل وتعالى على آدم وذريته ألا ترى ما تقدمها من قوله تعالى: {ولقد مكناكم في الأرض} وما اتبع به هذا من ذكر الخلق والتصوير وأمر الملائكة بالسجود لآدم ثم قوله مفردا لإبليس: {اخرج منها مذءوما مدحورا} ثم بعد ذلك أمر آدم عليه السلام بالهبوط متبعًا بالتأنيس له ووصية ذريته في قوله تعالى: {يا بني آدم لا يفتننكم الشيطان} فتاسب هذا القصد العطف بالفاء المقتضية الترتيب والواو لا تقتضى ذلك وإنما بابها الجمع حيث لا يراد ترتيب وليس موضع شرط وجزاء فيكون ذلك مسوغًا لدخول الفاء، وإنما ورد هنا لما ذكرته من قصد تجريد التفصيل المحصل لتعداد النعم، ولما اختلف القصدان اختلفت العبارة عنهما، فورد كل على ما يناسب. والله أعلم.
وأما السؤال الثانى فالجواب عنه: أن ورود الرغد في آية البقرة وسقوط ذلك في الأعراف إنما ذلك لأن المعنى من هنا التبعيض ومعناها بما هو تبعيض قد يسبق منه إرادة التقليل وهو غير مراد هنا، وإنما مصرف التبعيض هنا إلى المأكول منه، فإن ما اشتملت عليه الجنة من ذلك إذا أكلت منه ذرية آدم بأجمعها فإنما تأكل بعضا إذ فيها من كل متنعم به ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر فاجتمع هنا أن البعضية مرادة بالنظر إلى ما انطوت عليه الجنة وإباحة التوسعة في أكلها مقصودة وليس ثم ما يحرزها فقال تعالى: {رغدًا} ليحصل المعنى التوسعة وتجردت {من} لإحراز معناها ولم يكن هنا بد إذ ليس في السياق ما يحرز ذلك المعنى من التوسعة وذلك قوله تعالى: {من حيث شئتما} لإباحة ما في أماكنها ومن المحال أن يباح لهما الأكل من حيث شاءا منها على اتساع المساحة وكثرة المآكل ثم يحجر عليهما التوسع في الأكل والرغد فيه، هذا متناقض.
فإن قيل: قد وقع في سورة البقرة: {حيث شئتما} وتلك توسعة في الأماكن.
قلت: ليس موقع {حيث شئتما} موقع {من حيث شئتما} لأن {من حيث شئتما} يحرز ويعطى إباحة الأكل من ثمر كل موضع فيها.
أما حيث إذا لم يكن معها {من} فإنها تعطى بأظهر الاحتمالين إباحة الأكل في كل موضع لا من ثمر كل موضع فقد يقال للشخص كل هذا العنقود حيث شئت من هذا البستان فإنما أبيح له أكل عنقود معين مخصوص حيث شاء من أماكن ذلك البستان ولم يتعرض بهذه العبارة لإباحة أكل ما في كل موضع منه إلا باحتمال ضعيف.
أما إذا قيل له كل من حيث شئت من مواضع هذا البستان فقد أبيح له الأكل من كل ما في مواضعه، وحصلت التوسعة في المأكل ولم يحصل ذلك عند سقوط {من} على ما تقدم آنفا، فقد وضح افتراق الموضعين، وتعين ورود رغدًا في البقرة إذ ليس ثم ما يحرزه وتعين سقوطه في الأعراف لوجود ما بحرزه. والله أعلم بما أراد. اهـ.

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
{وَقُلْنَا يَا آَدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَزَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَكُلَا مِنْهَا رَغَدًا حَيْثُ شِئْتُمَا وَلَا تَقْرَبَا هَذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونَا مِنَ الظَّالِمِينَ (35)}.
أسْكَنَه الجنةَ ولكن أثبت مع دخوله شجرة المحنة، ولولا سابق التقدير لكان يبدل تلك الشجرة بالنضارة ذبولًا، وبالخضرة يبسًا، وبالوجود فقدًا، وكانت لا تصل يد آدم إلى الأوراق ليخصفها على نفسه- ويقع منه ما يقع.
ولو تطاولت تلك الشجرة حتى كانت لا تصل إليها يده حين مدَّها لم يقع في شأنه كل ذلك التشويش ولكن بدا من التقدير ما سبق به الحكم.
ولا مكانَ أفضل من الجنة، ولا بَشَرَ أكيس من آدم، ولا ناصح يقابل قوله إشارة الحق عليه، ولا غريبة منه قبل ارتكابه ما ارتكب، ولا عزيمة أشد من عزيمته- ولكنَّ القدرةَ لا تُكابَرَ، والحُكْمَ لا يُعَارض.
ويقال لما قال له: {اسْكُنْ أنْتَ وَزَوْجُكَ الجَنَّةَ وَكُلاَ مِنْهَا رَغَدًا} كان فيه إشارة إلى أن الذي يليق بالخَلْق السكون إلى الخَلْق، والقيام باستجلاب الحظ، وآدم عليه السلام وَحْدَه كان بكل خير وكل عافية، فلمَّا جاء الشكلُ والزوجُ ظهرت أنياب الفتنة، وانفتح باب المحنة؛ فحين سَاكَنَ حواء أطاعها فيما أشارت عليه بالأكل، فوقع فيما وقع، ولقد قيل:
داءٌ قديمٌ في بني آدم ** صبوةُ إنسان بإنسان