فصل: قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقوله: {لخرجنا} سد مسد جوابي القسم و{لَوْ} جميعًا.
ومعنى الاستطاعة استطاعة العدة أو استطاعة الأبدان كأنهم تمارضوا {يُهْلِكُونَ أَنفُسَهُمْ} بدل من {سَيَحْلِفُونَ} أو حال منه أي مهلكين، والمعنى أنهم يهلكونها بالحلف الكاذب، أو حال من {لَخَرَجْنَا} أي لخرجنا معكم وإن أهلكنا أنفسنا وألقيناها في التهلكة بما نحملها على المسير في تلك الشقة {والله يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لكاذبون} فيما يقولون.
{عَفَا الله عَنكَ} كناية عن الزلة لأن العفو رادف لها وهو من لطف العتاب بتصدير العفو في الخطاب، وفيه دلالة فضله على سائر الأنبياء عليهم السلام حيث لم يذكر مثله لسائر الأنبياء عليهم السلام {لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} بيان لما كنى عنه بالعفو، ومعناه مالك أذنت لهم في القعود عن الغزو حين استأذنوك واعتلّوا لك بعللهم وهلا استأنيت بالإذن! {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ وَتَعْلَمَ الكاذبين} يتبين لك الصادق في العذر من الكاذب فيه.
وقيل: شيئان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يؤمر بهما: إذنه للمنافقين، وأخذه الفدية من الأسارى، فعاتبه الله.
وفيه دليل جواز الاجتهاد للأنبياء عليهم السلام لأنه عليه السلام إنما فعل ذلك بالاجتهاد، وإنما عوتب مع أن له ذلك لتركه الأفضل وهم يعاتبون على ترك الأفضل {لا يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا} ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا {بأموالهم وَأَنفُسِهِمْ والله عَلِيمٌ بالمتقين} عدة لهم بأجزل الثواب.
{إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} يعني المنافقين وكانوا تسعة وثلاثين رجلًا {وارتابت قُلُوبُهُمْ} شكوا في دينهم واضطربوا في عقيدتهم {فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} يتحيرون لأن التردد ديدن المتحير كما أن الثبات ديدن المتبصر. اهـ.

.قال الخطيب الشربيني في الآيات السابقة:

{إنّ عدّة الشهور} أي: عددها {عند الله اثنا عشر شهرًا} وهي المحرّم وصفر وشهر ربيع الأوّل وشهر ربيع الثاني وجمادى الأوّل وجمادى الثاني ورجب وشعبان وشهر رمضان وشوّال وذو القعدة وذو الحجة، هذه شهور السنة القمرية التي هي مبنية على سير القمر في المنازل وهي شهور العرب التي يعتدّ بها المسلمون في صيامهم ومواقيت حجهم وأعيادهم وسائر أمورهم وأحكامهم وأيام هذه الشهور ثلثمائة وخمسة وخمسون يومًا والسنة الشمسية عبارة عن دور الشمس في الفلك دورة واحدة تامّة وهي ثلثمائة وخمسة وستون يومًا وربع يوم فتنقص السنة الهلالية عن السنة الشمسية عشرة أيام فبسبب هذا النقصان تدور السنة الهلالية فيقع الصوم والحج تارة في الشتاء وتارة في الصيف قال المفسرون: وسبب نزول هذه الآية من أجل النسيء الذي كانت العرب تفعله في الجاهلية فكان حجهم يقع تارة في وقته وتارة في المحرّم وتارة في صفر وتارة في غيرهما من الشهور فأعلم الله تعالى أنّ عدة الشهور سنة المسلمين التي يعتدون بها اثنا عشر شهرًا على منازل القمر وسيره فيها وهو قوله تعالى: {إنّ عدّة الشهور عند الله اثنا عشر شهرًا} أي: في علمه وحكمه {في كتاب الله} أي: في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه أحوال مخلوقاته بأسرها على التفصيل وهو أصل الكتب التي أنزلها الله تعالى على جميع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام وقيل فيما أثبته وأوجبه من حكمه ورآه حكمة وصوابًا {يوم خلق السموات والأرض} أي: إنّ هذا الحكم حكم به قضاه يومئذ أي: السنة اثنا عشر شهرًا {منها} أي: الأشهر {أربعة حرم} ثلاثة سواء ذو القعدة بفتح القاف وذو الحجة بكسر الحاء على المشهور فيهما وسميا بذلك لقعودهم عن القتال في الأوّل ولوقوع الحج في الثاني، والمحرّم بتشديد الراء المفتوحة سمي بذلك لتحريم القتال فيه وقيل: لتحريم الجنة فيه على إبليس ودخلته اللام دون غيره من الشهور لأنه أوّلها فعرفوه كأنه قيل: هذا الشهر الذي ابتدأ أول السنة وواحد فرد وهو رجب ويجمع على أرجاب ورجاب ورجوب ورجبات، ويقال له: الأصم والأصب، وقيل: لم يعذب الله أمّة في شهر رجب ورد عليه بأنّ الله تعالى أغرق قوم نوح فيه قاله الثعلبي، وهذا الترتيب الذي ذكرناه في عد الأشهر الحرم وجعلها من سنتين هو الصواب كما قاله النوويّ في شرح مسلم ويؤيده قوله صلى الله عليه وسلم في خطبته في حجة الوداع: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات والأرض السنة اثنا عشر شهرًا منها أربعة حرم ثلاث متواليات ذو القعدة وذو الحجة والمحرم ورجب مضر الذي بين جمادى وشعبان» وعدها الكوفيون من سنة واحدة فقالوا: المحرم ورجب وذو القعدة وذو الحجة، قال ابن دحية: وتظهر فائدة الخلاف فيما إذا نذر صيامها مرتبة فعلى الأوّل يبتدئ بذي القعدة وعلى الثاني بالمحرم ومعنى الحديث أنّ الأشهر رجعت إلى ما كانت عليه وعاد الحج في ذي الحجة وبطل النسيء الذي كان في الجاهلية وقد وافقت حجة الوداع ذا الحجة وكانت حجة أبي بكر رضي الله عنه قبلها في ذي القعدة ومعنى الحرم أنّ المعصية فيها أشدّ عقابًا والطاعة فيها أكثر ثوابًا والعرب كانوا يعظمونها جدًّا حتى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يتعرّض له.
فإن قيل: أجزاء الزمان متشابهة في الحقيقة فما السبب في هذا التمييز؟
أجيب: بأنّ هذا المعنى غير مستبعد في الشرائع فإن أمثلته كثيرة ألا ترى أنه تعالى ميز البلد الحرام عن سائر البلاد بمزيد الحرمة وميز يوم الجمعة عن سائر أيام الأسبوع بمزيد الحرمة وميز يوم عرفة عن سائر الأيام بتلك العبادة المخصوصة وميز شهر رمضان عن سائر الشهور بمزيد حرمة وهو وجوب الصوم وميز بعض ساعات اليوم بوجوب الصلاة فيها وميز بعض الليالي عن سائرها وهي ليلة القدر وميز بعض الأشخاص عن سائر الناس بإعطاء خلع الرسالة وإذا كانت هذه الأمثلة ظاهرة مشهورة فأي استبعاد في تخصيص بعض الأشهر بمزيد الحرمة {ذلك} أي: تحريم الأشهر الأربعة {الدين القيم} أي: المستقيم وهو دين إبراهيم وإسماعيل عليهما السلام والعرب ورثوه منهما، وقيل: المراد بالدين الحساب يقال: الكيس من دان نفسه أي: حاسبها، والقيم معناه المستقيم فتفسير الآية على هذا التقدير ذلك الحساب المستقيم الصحيح والعدد المستوي وقال الحسن: ذلك الدين القيم الذي لا يبدل ولا يغير فالقيم هنا بمعنى القائم الدائم الذي لا يزول وهو الدين الذي فطر الناس عليه {فلا تظلموا فيهنّ} أي: الأشهر الحرم {أنفسكم} بالمعاصي فإنها فيها أعظم وزرًا لأنّ الله تعالى خص هذه الشهور بمزيد احترام في آية أخرى وهو قوله تعالى: {الحج أشهر معلومات فمن فرض فيهنّ الحج فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج}
فهذه الأشياء غير جائزة في غير الحج أيضًا إلا أنه تعالى أكد في المنع منها في هذه الأيام تنبيهًا على زيادتها في الشرف وقال ابن عباس: إنّ المراد فلا تظلموا في الشهور الاثني عشر أنفسكم والمقصود منع الإنسان من الإقدام على الفساد مطلقًا في جميع العمر قال الفراء: والأوّل أولى لأنّ العرب تقول فيما بين الثلاثة إلى العشرة فيهنّ فإذا جاوز هذا العدد قالوا فيها: والأصل فيه أنّ جمع القلة يكنى عنه كما يكنى عن جماعة مؤنثة ويكنى عن جمع الكثرة كما يكنى عن واحدة مؤنثة كما قال حسان:
لنا الجفنات الغرّ يلمعن في الضحى ** وأسيافنا يقطرن من نجدة دما

قال: يلمعن ويقطرن لأن الأسياف والجفنات جمع قلة ولو جمع جمع الكثرة لقال: تلمع وتقطر هذا في الاختيار ثم يجوز إجراء أحدهما مجرى الآخر كقول النابغة:
ولا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم ** بهن فلول من قراع الكتائب

فقال: بهن، والسيوف جمع كثرة، وقيل: المراد بالظلم المقاتلة في هذه الأشهر، وقيل: النسيء الذي كانوا يعملونه فينقلون الحج من الذي أمر الله تعالى بإقامته فيه إلى شيء آخر ويغيرون تكاليف الله تعالى والجمهور على أنّ حرمة المقاتلة في الأشهر الحرم منسوخة، وعن عطاء لا يحل للناس أن يغزوا في الحرم والأشهر الحرم إلا أن يقاتلوا ويؤيد الأوّل ما روي أنه صلى الله عليه وسلم حاصر الطائف وغزا هوازن بحنين في شوّال وذي القعدة، وقوله تعالى: {وقاتلوا المشركين كافة} أي: جميعًا في كل الشهور {كما يقاتلونكم كافة واعلموا أنّ الله مع المتقين} بالعون والنصرة ومن كان معه نصر لا محالة.
{إنما النسيء} أي: التأخير لحرمة شهر إلى آخر كما كانت الجاهلية تفعل كانوا إذا جاء شهر حرام وهم محاربون أحلوه وحرّموا مكانه شهرًا آخر ورفضوا خصوص الأشهر واعتبروا مجرّد العدد فكانوا يؤخرون تحريم المحرّم إلى صفر فيحرّمون صفر ويستحلون المحرم فإذا احتاجوا إلى تأخير تحريم صفر أخروه إلى ربيع وهكذا شهر بعد شهر حتى استدار التحريم على السنة كلها وكانوا يحجون في كل شهر عامين فحجوا في ذي القعدة عامين ثم حجوا في المحرم عامين ثم حجوا في صفر عامين وكذا باقي شهور السنة فوافقت حجة أبي بكر رضي الله عنه في السنة التاسعة في ذي القعدة قبل حجة الوداع بسنة ثم حج النبي صلى الله عليه وسلم في العام المقبل حجة الوداع فوافق حجه في شهر ذي الحجة وهو شهر الحج المشروع فوقف بعرفة في اليوم التاسع وخطب بالناس في اليوم العاشر وأعلمهم أنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق الله السموات والأرض- الحديث المتقدّم- وأمرهم بالمحافظة على ذلك لئلا يتبدل في مستأنف الأيام وقد رجع المحرّم إلى موضعه الذي وضعه الله تعالى وذلك بعد دهر طويل.
وروي عن أبي بكر رضي الله عنه أنه قال قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في خطبته لنا: «أيّ شهر هذا» قلنا الله ورسوله أعلم، فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس ذا الحجة» قلنا: بلى قال: «أيّ بلد هذا» قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس البلد الحرام» قلنا: بلى قال: «فأي يوم هذا» قلنا: الله ورسوله أعلم فسكت حتى ظننا أنه سيسميه بغير اسمه قال: «أليس يوم النحر» قلنا: بلى قال: «فإن دماءكم وأموالكم وأعراضكم عليكم حرام كحرمة يومكم هذا في بلدكم هذا في شهركم هذا وستلقون ربكم فيسألكم عن أعمالكم ألا فلا ترجعوا بعدي ضلالًا يضرب بعضكم رقاب بعض ألا ليبلغ الشاهد الغائب فلعلّ بعض من يبلغه أن يكون أوعى له من بعض من سمعه ألا هل بلغت ألا هل بلغت ألا هل بلغت» قلنا: نعم قال: «اللهم اشهد» واختلفوا في أوّل من نسأ النسيء فقال ابن عباس: بنو مالك بن كنانة وكان يليه أبو ثمامة وجنادة بن عوف بن أمية الكناني كان يقوم على جمل بالموسم فينادي إنّ آلهتكم قد أحلت لكم المحرّم فأحلوه ثم ينادي في قابل إنّ آلهتكم قد حرمت عليكم المحرّم فحرّموه وقال الكلبي: أوّل من فعل ذلك رجل من بني كنانة يقال له نعيم بن ثعلبة، وقيل: أول من فعل ذلك عمرو بن لحي وهو أوّل من سيب السوائب وقال فيه النبيّ صلى الله عليه وسلم: «رأيت عمرو بن لحيّ يجرّ قصبه في النار».
وقوله تعالى: {زيادة في الكفر} معناه أنه تعالى حكى عنهم أنواعًا كثيرة من الكفر فلما ضموا تحريم ما أحل الله تعالى وتحليل ما حرّم الله تعالى وهو كفر كان ضم هذا العمل إلى تلك الأنواع المتقدّمة من الكفر زيادة في الكفر لأنّ الكافر كلما أحدث معصية ازداد كفرًا فزادتهم رجسًا إلى رجسهم كما أنّ المؤمن كلما أحدث طاعة ازدادا إيمانًا فزادتهم إيمانًا وهم يستبشرون.
وقرأ ورش النسيّ بقلب الهمزة ياء وإدغام الياء فيها فبقيت ياء مضمومة مشدّدة والباقون بهمزة مضمومة هذا في الوصل وأمّا الوقف فورش يقف بياء مشدّدة ساكنة وحمزة كذلك وله فيه الروم والاشمام والباقون بهمزة ساكنة {يضل به} أي: بهذا التأخير الذي هو النسيء {الذين كفروا} قرأ حفص وحمزة والكسائي بضم الياء وفتح الضاد لقوله تعالى: {زين لهم سوء أعمالهم} والباقون بفتح الياء وكسر الضاد على معنى أنهم هم الضالون لقوله تعالى: {يحلونه} أي: يحلون النسيء من الأشهر الحرم {عامًا} ويحرّمون مكانه شهرًا آخر {ويحرّمونه عامًا} فيتركونه على حرمته وإنما فعلوا ذلك {ليواطؤا} أي: ليوافقوا {عدّة} أي: عدد {ما حرّم الله} من الأشهر فلا يزيدون على تحريم أربعة أشهر ولا ينقصون عنها ولا ينظرون إلى أعيانها {فيحلوا ما حرّم الله} بمواطأة العدة من غير مراعاة الوقت الذي يحلون إليه الأشهر الحرم {زين لهم سوء أعمالهم} قال ابن عباس: زين لهم الشيطان هذا العمل حتى حسبوا هذا القبيح حسنًا {والله لا يهدي القوم الكافرين} أي: هداية موصلة إلى الاهتداء لما سبق لهم في الأزل أنهم من أهل النار، ولما رجع النبيّ صلى الله عليه وسلم من الطائف إلى المدينة وحث على غزوة تبوك وكان ذلك الوقت زمان عسرة وشدّة حرّ وطابت ثمار المدينة ولم يكن رسول الله صلى الله عليه وسلم يريد غزوة إلا ورى بغيرها حتى كانت تلك الغزوة غزاها رسول الله صلى الله عليه وسلم في حرّ شديد واستقبل سفرًا بعيدًا ومفاوز جلًا للناس أمرهم ليتأهبوا أهبة غزوهم فشق عليهم الخروج وتثاقلوا فنزل: {يا أيها الذين آمنوا مالكم إذا قيل لكم انفروا في سبيل الله اثاقلتم} بإدغام التاء في الأصل في المثلثة واجتلاب همزة الوصل إذ أصله تثاقلتم ومعناه تباطأتم وملتم عن الجهاد {إلى الأرض} والقعود فيها والاستفهام للتوبيخ، قال المحققون وإنما تثاقل الناس من وجوه: الأوّل: شدّة الزمان في الصيف والقحط، والثاني: بعد المسافة والحاجة إلى الاستعداد الكثير الزائد على ما جرت به عادتهم في سائر الغزوات، والثالث: إدراك الثمار بالمدينة في ذلك الوقت، والرابع شدّة الحرّ في ذلك الوقت ثم قال لهم الله تعالى: {أرضيتم بالحياة الدنيا} وغرورها {من الآخرة} بدل الآخرة ونعيمها {فما متاع الحياة الدنيا في} جنب متاع {الآخرة إلا قليل} أي: حقير لأنّ متاع الدنيا يفقد عن قريب ونعيم الآخرة باق على الدوام فلهدا السبب كان متاع الدنيا بالنسبة إلى نعيم الآخرة قليلًا وفي الآية دليل على وجوب الجهاد في كل حال وفي كل وقت لأنّ الله تعالى نص على أن تثاقلهم عن الجهاد أمر منكر فلو لم يكن الجهاد واجبًا لما عاتبهم الله على التثاقل ويؤكد هذا الوعيد المذكور في قوله تعالى: {إلا} أي: بإدغام نون إن الشرطية في لا في الموضعين {تنفروا} أي: تخرجوا مع النبيّ صلى الله عليه وسلم للجهاد {يعذبكم عذابًا أليمًا} أي: مؤلمًا في الآخرة لأنّ العذاب الأليم لا يكون إلا فيها أو بالإهلاك بسبب فظيع كقحط وظهور عدو، وقيل: باحتباس المطر عنهم قال ابن عباس: استنفر رسول الله صلى الله عليه وسلم حيًا من أحياء العرب فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر فكان ذلك عذابهم {ويستبدل قومًا غيركم} أي: يأت بهم بدلكم قال ابن عباس: هم التابعون وقال سعيد بن جبير: أبناء فارس، وقال أبو روق: هم أهل اليمن، قال الرازي: وهذه الوجوه ليست تفسيرًا للآية لأنّ الآية ليس فيها إشعار بها بل حمل لذلك المطلق على صورة معينة شاهدوها وقال في الكشاف بعد ذكره ذلك والظاهر مستغن عن التخصيص {ولا تضروه شيئًا} أي: لا يقدح تثاقلكم في نصردينه شيئًا فإنه الغني عن كل شيء وفي كل أمر وقيل: الضمير راجع إلى الرسول صلى الله عليه وسلم أي: ولا تضروره لأنّ الله تعالى وعده أن ينصره ووعده كائن لا محالة {والله على كل شيء قدير} أي: فيقدر على التبديل وتغيير الأسباب والنصرة بلا عدد كما قال تعالى: {إلا تنصروه} أي: محمدًا صلى الله عليه وسلم أيها المؤمنون {فقد نصره الله} فإنه المتكفل بنصرة رسوله صلى الله عليه وسلم في إعزاز دينه وإعلاء كلمته أعنتموه أو لم تعينوه فإنه قد نصره عند قلة الأولياء وكثرة الأعداء فكيف به اليوم وهو في كثرة من العدد والعدد وقد نصره {إذ} أي: حين {أخرجه الذين كفروا} من مكة حين مكروا به حيث تشاوروافي قتله أو إخراجه أو إثباته في دار الندوة فكان ذلك لإذن الله له في الخروج من بينهم حالة كونه {ثاني اثنين} أي: أحدهما أبو بكر رضي الله عنه لا ثالث لهما لم يبصرهما إلا الله تعالى وقوله تعالى: {إذ} بدل من إذ قبله {هما في الغار} أي: غار ثور الذي في أعلى الجبل المواجه للركن اليماني بأسفل مكة على مسيرة ساعة منها لما كمنا فيه ثلاث ليال ليفتر عنهما الطلب وذلك قبل أن يصلا إليكم ويعوّلا في النصر عليكم وقوله تعالى: {إذ} بدل ثان {يقول} صلى الله عليه وسلم {لصاحبه} أبي بكر الصدّيق رضي الله عنه وثوقًا بربه غير منزعج من شيء وقد قال له أبو بكر لما رأى أقدام المشركين لو نظر أحدهم تحت قدميه لأبصرنا {لا تحزن} والحزن همّ غليظ بتوجع يرق له القلب وإنما كان خوفه على رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهما لما وصلا الغار نزل أبو بكر الغار أولًا يلتمس ما في الغار فقال له النبيّ صلى الله عليه وسلم: «ما لك» فقال: بأبي أنت وأمّي الغار مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك وكان في الغار جُحر فوضع عقبه عليه لئلا يخرج ما يؤذي رسول الله صلى الله عليه وسلم فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال له صلى الله عليه وسلم: «لا تحزن» {إن الله معنا} فقال له أبو بكر: وإنّ الله لمعنا فقال الرسول صلى الله عليه وسلم: «نعم» فجعل يمسح الدموع عن خدّه.
وروي لما طلع المشركون فوق الغار وأشفق أبو بكر رضي الله عنه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال عليه الصلاة والسلام: «ما طنك باثنين الله ثالثهما».
وروي لما دخلا الغار بعث الله تعالى حمامتين باضتا في أسفله والعنكبوت نسجت عليه فقال صلى الله عليه وسلم: «اللهمّ أعم أبصارهم» فجعلوا يتردّدون حول الغار ولا يرون أحدًا ويقولون لو دخلا هذا الغار تكسر بيض الحمام وتفسخ بيت العنكبوت.