فصل: تنبيه (على دلالة هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.تنبيه [على دلالة هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه]:

دلت هذه الآية على تفضيل أبي بكر رضي الله عنه من وجوه منها أنّ الهجرة كانت بإذن الله تعالى وكان في خدمة رسول الله صلى الله عليه وسلم جماعة من المخلصين وكانوا في النسبة إلى شجرة رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرب من أبي بكر رضي الله عنه فلولا أنّ الله تعالى أمره بأن يستصحبه في تلك الواقعة الصعبة الهائلة وإلا لكان الظاهر أن لا يخصه بهذه الصحبة وتخصيص الله تعالى له بهذا التشريف دال على منصب عال له في الدين ومنها قوله صلى الله عليه وسلم: «لا تحزن إنّ الله معنا» ولا شك أنّ المراد من هذه المعية المعية بالحفظ والنصرة والحراسة والمعونة وقد شرك صلى الله عليه وسلم بين نفسه وبين أبي بكر في هذه المعية وكفى بها شرفًا ومنها أن قوله: «لا تحزن» نهى عن الحزن مطلقًا والنهي يوجب الدوام والتكرار وذلك يقتضي أنه لا يحزن أبو بكر رضي الله عنه بعد ذلك البتة قبل الموت وعند الموت وبعد الموت ومنها إطباق الكل على أنّ أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وعلى أنّ عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام.
وروي عن ابن عمر رضي الله عنهما أنه قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول لأبي بكر: «أنت صاحبي في الغار وصاحبي على الحوض» قال الحسن بن الفضل: من قال إنّ أبا بكر رضي الله عنه لم يكن صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر لإنكار نص القرآن وفي سائر الصحابة إذا أنكر يكون مبتدعًا لا كافرًا واختلف في عود الضمير في قوله تعالى: {فأنزل الله سكينته} أي: طمأنينته {عليه} هل هو للنبيّ صلى الله عليه وسلم أو لأبي بكر رضي الله عنه؟ رجح الثاني لوجوه: الأوّل: أن الضمير يجب عوده إلى أقرب المذكورات وأقرب المذكورات المتقدّمة في هذه الآية هو أبو بكر لأنه تعالى قال: {إذ يقول لصاحبه} والتقدير إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر لا تحزن وعلى هذا التقدير فأقرب المذكورات السابقة هو أبو بكر فوجب عود الضمير إليه. والثاني: أنّ الحزن والخوف كانا حاصلين لأبي بكر لا للرسول صلى الله عليه وسلم فإنه كان آمنًا ساكن القلب فيما وعده الله تعالى أن ينصره على قريش فلما قال لأبي بكر: لا تحزن صار آمنًا فصرف السكينة لأبي بكر ليصير ذلك سببًا لزوال خوفه أولى من صرفها إلى الرسول صلى الله عليه وسلم مع أنه كان قبل ذلك ساكن النفس قويّ القلب. الثالث: إنه لو كان المراد إنزال السكينة على الرسول صلى الله عليه وسلم لوجب أن يقال: إنّ الرسول كان قبل ذلك خائفًا ولو كان خائفًا لما أمكنه أن يقول لأبي بكر: «لا تحزن إنّ الله معنا» فمتى كان خائفًا لم يمكنه أن يزيل الخوف عن قلب غيره ولو كان راجعًا إلى الرسول لوجب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه: «لا تحزن» فيكون ذلك مما يدلّ على فضيلة أبي بكر رضي الله تعالى عنه ومنها حديث الهجرة على صاحبها أفضل الصلاة والسلام عن عائشة رضي الله عنها وعن أبويها قالت: لم أعقل أبويّ إلا وهما يدينان الدين ولم يمرّ علينا يوم إلا ورسول الله صلى الله عليه وسلم يأتينا طرفي النهار بكرة وعشية فلما ابتلي المسلمون قال النبيّ صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «إني رأيت دار هجرتكم سبخة ذات نخل بين لابتين وهما الحرتان» فهاجر من هاجر قبل المدينة ورجع عامّة من كان هاجر بأرض الحبشة إلى المدينة وتجهز أبو بكر رضي الله عنه قبل المدينة فقال له رسول الله صلى الله عليه وسلم: «على رسلك فإني أرجو أن يؤذن لي» فقال أبو بكر: وهل ترجون ذلك يا رسول الله قال: «نعم» فحبس أبو بكر نفسه على رسول الله صلى الله عليه وسلم وعلف راحلتين كانتا عنده من ورق الشجر وهو الخبط أربعة أشهر، قالت عائشة: فبينما نحن جلوس في بيت أبي بكر في حرّ الظهيرة قال قائل لأبي بكر: هذا رسول الله صلى الله عليه وسلم متقنعًا في ساعة لم يكن يأتينا فيها فقال أبو بكر: والله ما جاء به في هذه الساعة إلا أمر، قالت: فجاء رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستأذن فأذن له فدخل فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لأبي بكر: «أخرج من عندك» فقال أبو بكر: إنما هم أهلك يا رسول الله، فقال: «قد أذن لي في الخروج» فقال أبو بكر: الصحبة يا رسول الله، قال: «نعم» قال أبو بكر: فخذ إحدى راحلتيّ هاتين، قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: «بالثمن» قالت عائشة: فجهزناهما أحبّ الجهاز ووضعنا لهما سفرة في جراب فقطعت أسماء بنت أبي بكر قطعة من نطاقها فربطت به على فم الجراب فسميت بذلك ذات النطاقين قالت: ثم لحق رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر بغار في جبل ثور فمكثا فيه ثلاث ليال يبيت عندهما عبد الرحمن بن أبي بكر وهو غلام شاب فيدلج من عندهما بسحر فيصبح مع قريش بمكة كبائت فلا يسمع أمرًا يكادان به إلا وعاه حتى يأتيهما بخبر ذلك حين يختلط الظلام وكان يرعى عليهما عامر بن فهيرة مولى أبي بكر منحة من غنم فيريحها عليهما حين تذهب ساعة من العشاء يفعل ذلك كل ليلة من الليالي الثلاث واستأجر رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر رجلًا من بني الديل هاديًا عارفًا بالهداية وهو على دين كفار قريش فأمناه ودفعا إليه راحلتيهما وواعداه غار ثور بعد ثلاث ليال فأتاهما بعد صبح ثلاث فارتحلا وانطلق معهما عامر بن فهيرة والدليل الديليّ فأخذ بهم طريق الساحل فعلم بهم سراقة بن مالك المدلجي وكان كفار قريش جعلوا في رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر كل واحد منهما لمن قتله أو أسره دية قال سراقة فتبعتهم حتى دنوت فعثرت فرسي فخررت عنها فقمت وأهويت بيدي إلى كنانتي فاستخرجت منها الأزلام فاستقسمت بها أضرّهم أم لا فخرج الذي أكره فركبت فرسي وعصيت الأزلام فقربت بي حتى سمعت قراءة رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو لا يلتفت وأبو بكر يكثر الالتفات فساخت يدا فرسي في الأرض حتى بلغت الركبتين فخررت عنها ثم زجرتها فنهضت فلم تكد تخرج يديها فلما استوت قائمة إذ لأثر يديها غبار ساطع في السماء مثل الدخان فاستقسمت بالأزلام فخرج الذي أكره فناديتهم الآمان فوقفوا فركبت فرسي حتى جئتهم ووقع في نفسي حين لقيت ما لقيت من الحبس عنهم أن سيظهر أمر رسول الله صلى الله عليه وسلم فقلت له: إنّ قومك جعلوا فيك الدية وأخبرتهم بما يريد الناس بهم وعرضت عليهم الزاد والمتاع فلم يرزآني ولم يسألاني إلا أن قالا: أخف عنا، فسألته أن يكتب لي كتاب أمان فأمر عامر بن فهيرة فكتب لي رقعة من أدم ومضى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلقي الزبير في ركب من المسلمين كانوا تجارًا أقبلوا من الشام فكسا الزبير رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبا بكر ثيابًا بيضًا فلما قربا من المدينة وصل الخبر إلى الأنصار فخرجوا مسرعين فلقوا رسول الله صلى الله عليه وسلم بظهر الحرّة فأخذ بهم ذات اليمين حتى نزل بهم في بني عمرو بن عوف وذلك يوم الاثنين من شهر ربيع الأوّل فقام في بني عمرو بضع عشرة ليلة وأسس المسجد الذي أسس على التقوى وصلى فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم ثم ركب راحلته وصار يمشي معه الناس حتى بركت عند مكان مسجد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمدينة وكان مربد تمر لسهل وسهيل فساومهما صلى الله عليه وسلم ليتخذه مسجدًا فقالا بل نهبه لك يا رسول الله، ثم بناه مسجدًا وصار صلى الله عليه وسلم ينقل معهم اللبن في بنائه ويقول وهو ينقل اللبن:
هذا الحمال لا حمال خيبر ** هذا أبر ربنا وأطهر

ويقول أيضًا:
إنّ الأجر أجر الآخرة ** فارحم الأنصار والمهاجرة

قال ابن شهاب: لم يبلغنا في الأحاديث أنّ رسول الله صلى الله عليه وسلم تمثل ببيت شعر تام غير هذا فإظهار خروجه صلى الله عليه وسلم لأبي بكر رضي الله تعالى عنه مما يدل على فضيلته وفضائله رضي الله عنه وعن بقية الصحابة أجمعين وفيما ذكرناه كفاية. وأمّا الضمير في قوله تعالى: {وأيده} فاتفقوا أنه للنبي صلى الله عليه وسلم فهو معطوف على قوله تعالى: {فقد نصره الله}.
{بجنود لم تروها} أي: من الملائكة الكرام في الغار ويوم بدر والأحزاب وحنين وجميع مواطن قتاله {وجعل كلمة} أي: دعوة {الذين كفروا} إلى الكفر {السفلى} أي: المغلوبة فخيب سعيهم وردّ كيدهم {وكلمة الله} أي: إلى الإسلام {هي العليا} أي: الغالبة الظاهرة وقيل: كلمة الذين كفروا ما كانوا قدرها بينهم من الكيد بالنبيّ صلى الله عليه وسلم وكلمة الله هي ما وعده بالنصر والظفر بهم فكان ما وعده الله تعالى حقًا وصدقًا {والله عزيز} في ملكه {حكيم} في أمره وتدبيره لا يمكن أن ينتقض شيء من مراده فلا محيص عن نفوذ ما أراده ولما بلغت هذه المواعظ من القلوب الواعية مبلغًا هيأها للقبول أقبل عليها سبحانه وتعالى فقال: {انفروا خفافًا وثقالًا} أي: على الصفة التي يخف عليكم الجهاد فيها وعلى الصفة التي يثقل عليكم وهذان الوصفان يدخل تحتهما أقسام كثيرة ولهذا اختلفت عبارات المفسرين فيها فقال ابن عباس: نشاطًا وغير نشاط، وقال الحسن: شبانًا وشيوخًا، وقال عطية العوفي: ركبانًا ومشاة، وقال أبو صالح: فقراء وأغنياء، وقال الحكم بن عيينة: مشاغيل وغير مشاغيل، وقال حرة الهمداني: أصحاء وأصحاب مرض، وعن صفوان بن عمرو كنت واليًا على حمص فلقيت شيخًا كبيرًا قد سقط حاجباه من أهل دمشق على راحلته يريد الغزو فقلت: يا عم لقد أعذر الله إليك، فرفع حاجبيه وقال: استنفرنا الله خفافًا وثقالًا ألا إنه من يحبه الله يبتليه، وعن الزهري: خرج سعيد بن المسيب إلى الغزو وقد ذهبت إحدى عينيه فقيل: إنك عليل صاحب مرض فقال: استنفرنا الله الخفيف والثقيل فإن لم يمكني الحرب كثرت السواد وحفظت المتاع. وعن ابن أمّ مكتوم أنه قال لرسول الله صلى الله عليه وسلم أعليّ أن أنفر قال: «ما أنت إلا خفيف أو ثقيل» فرجع إلى أهله ولبس سلاحه ووقف بين يديه صلى الله عليه وسلم فنزل قوله تعالى: {ليس على الأعمى حرج} أي: فهي منسوخة بذلك وقال ابن عباس: نسخت بقوله تعالى: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى}
الآية، وقال السدي: لما نزلت اشتدّ شأنها على المسلمين فنسخها الله تعالى وأنزل: {ليس على الضعفاء ولا على المرضى} وقال عطاء الخراساني: منسوخة بقوله تعالى: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة}
وقوله تعالى: {وجاهدوا بأموالكم وأنفسكم في سبيل الله} أمر إيجاب للجهاد أي: ما أمكن لكم بهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال والحاجة.
{ذلكم} أي: هذا الأمر العظيم {خير لكم} أي: خاص بكم ويجوز أن يكون أفعل تفضيل، أي: عبادة المجاهد بالجهاد خير من عبادة القاعد بغيره كما قال صلى الله عليه وسلم لمن سأله هل يمكن بلوغ درجة المجاهد فقال: «هل تستطيع أن تقوم فلا تفتر وتصوم فلا تفطر» ثم ختم تعالى الآية بقوله تعالى: {إن كنتم تعلمون} أي: ما حصل من الخيرات في الآخرة على الجهاد لا يدرك إلا بالتأمل ولا يعرفه إلا المؤمن الذي عرف بالدليل أن القول بالقيامة حق وأن القول بالثواب والعقاب صدق.
ونزل في المنافقين الذين تخلفوا عن غزوة تبوك: {لو كان} ما تدعوهم إليه {عرضًا} أي: متاعًا من الدينا، يقال: الدنيا عرض حاضر يأكل منه البر والفاجر {قريبًا} أي: سهل المأخذ وقوله تعالى: {وسفرًا قاصدًا} أي: وسطًا فحذف اسم كان وهو ما قدرته، قال الزجاج: لدلالة ما تقدم عليه وإنما سمي السفر قاصدًا لأن المتوسط بين الإفراط والتفريط يقال له: مقتصد قال تعالى: {فمنهم ظالم لنفسه ومنهم مقتصد}
لأن المتوسط بين الكثرة والقلة يقصده كل أحد وقوله تعالى: {قاصدًا} أي: ذا قصد كقولهم: لابن وتامر {لاتبعوك} أي: وافقوك طلبًا للغنيمة {ولكن بعدت عليهم الشقة} أي: المسافة التي تقطع بمشقة {وسيحلفون} أي: المتخلفون {بالله} إذا رجعت من تبوك معتذرين {لو استطعنا} أي: لو كان لنا استطاعة بالبدن أو العدة {لخرجنا} أي: في هذه الغزاة {معكم يهلكون أنفسهم} أي: بسبب هذه الأيمان الكاذبة كما قال تعالى: {والله يعلم إنهم لكاذبون} في ذلك لأنهم كانوا مستطيعين الخروج.
{عفا الله عنك لم أذنت لهم} أي: عفا الله تعالى عنك يا محمد ما كان منك في ذلك لهؤلاء المنافقين الذين استأذنوك في ترك الخروج معك إلى تبوك، واختلفوا هل في ذلك معاتبة للنبي صلى الله عليه وسلم أم لا؟ فقال عمرو بن ميمون: اثنان فعلهما رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يؤمر بهما إذنه للمنافقين وأخذه الفداء من أسارى بدر فعاتبه الله تعالى كما تسمعون، وقال سفيان بن عيينة: انظروا إلى هذا اللطف بدأ الله تعالى بالعفو قبل أن يعيره، وقال القاضي عياض في الشفاء: إن هذا أمر لم يتقدّم للنبي صلى الله عليه وسلم فيه من الله تعالى نهي فيعد معصية ولأعده الله تعالى معصية عليه بل لم يعده أهل العلم معاتبة وغلطوا من ذهب إلى ذلك وليس عفا بمعنى غفر بل كما قال النبي صلى الله عليه وسلم: «عفا الله لكم عن صدقة الخيل والرقيق» ولم تجب عليهم قط أي: لم يكن يلزمكم ذلك. ونحوه للقشيري قال: وإنما يقول: العفو لا يكون إلا عن ذنب، من لا يعرف كلام العرب. وقال مكي: هو استفتاح كلام مثل أصلحك الله وأعزك. وقال السمرقندي: إن معناه عافاك الله، وقال الرازي: إن ذلك يدل على مبالغة الله في توقيره وتعظيمه كما يقول الرجل لغيره إذا كان معظمًا عنده عفا الله عنك ما جوابك عن كلامي ورضي الله عنك ما صنعت في أمري فلا يكون غرضه من هذا الكلام إلا مزيد التمجيد والتعظيم أي: كما كانت عادة العرب في مخاطبتهم لأكابرهم بأن يقولوا: أصلح الله الأمير والملك ونحو ذلك.