فصل: قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال نظام الدين النيسابوري في الآيات السابقة:

{يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا مَا لَكُمْ إِذَا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَرَضِيتُمْ بِالْحَيَاةِ الدُّنْيَا مِنَ الْآَخِرَةِ فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ (38)} إلى قوله تعالى: {وَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَلَا تَفْتِنِّي أَلَا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَإِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكَافِرِينَ (49)}
التفسير: لما شرح الله معايب هؤلاء الكفار عاد إلى الترغيب في قتالهم. عن ابن عباس أنها نزلت في غزوة تبوك سنة عشر؛ وذلك أنه صلى الله عليه وسلم لما رجع من الطائف أقام بالمدينة أيامًا فأمر بجهاد الروم فاستثقله الناس لكون الزمان زمان صيف وللقحط ولبعد المسافة ولمزيد احتياج إلاستعداد ولشدة الحر وللخوف من عسكر الروم ولوجود أسباب الرفاهية بالمدينة لكون الوقت وقت إدراك الثمار وحصول الغلات. روي أن رسول الله صلى الله عليه وسلم ما خرج في غزوة إلا ورّى عنها بغيرها إلا في غزوة تبوك ليستعد الناس تمام العدة. أصل النفر الخروج إلى مكان لأمر هاج عليه واسم ذلك القوم الذين يخرجون النفير. وأصل {اثاقلتم} تثاقلتم كما قلنا في {فادّارأتم} [البقرة: 72] ومعناه تبأطاتم. وإنما عدّي بإلى لتضمين معنى الميل والإخلاد كقوله: {أخلد إلى الأرض} [الأعراف: 176] أي مال إلى الدنيا وشهواتها. وقيل: المراد لتم إلى الإقامة بأرضكم والبقاء فيها. ومعنى الاستفهام في {ما لكم} الإنكار. وقرئ {اثاقلتم} على الاستفهام للإنكار أيضًا فيكون جواب {إذا} فعلًا آخر مدلولًا عليه بأثاقلتم كنحو ملتم، وذلك أن جواب {إذا} عامل في {إذا}، والاستفهام لا يعمل فيما قبله. ويجوز على هذه أن يكون {إذا} لمجرد الظرفية والعامل فيه ما في {ما لكم} من معنى الفعل كأنه قيل: ما تصنعون إذا قيل لكم ومن في {من الآخرة} للبدل كقوله: {لجعلنا منكم ملائكة في الأرض يخلفون} كأنه قيل: قد ذكرنا الموجبات الكثيرة الداعية إلى القتال وبينا أنواع فضائحهم التي تحمل العاقل على مقاتلتهم، ولو لم يكن فيه إلا طاعة المعبود المستلزمة لثواب الآخرة لكفى به باعثًا.
{فما متاع الحياة الدنيا في الآخرة} أي في جنبها وفي مقابلها.
{إلا قليل} ويجوز أن يراد بالقلة العدم إذ لا نسبة للمتناهي الزائل إلى غير المتناهي الباقي. والظاهر أن هذا التثاقل لم يصدر من جميع المخاطبين لاستحالة إطباق هذه الأمة على المعصية والضلالة إلا أنه طالما أعطى للأكثر حكم الكل وأطلق لفظ الكل على الإغلب، ثم لما رغبهم في الجهاد بعرض الثواب عليهم رغبتهم فيه بعرض العقاب فقال: {إلا تنفروا} ورتب عليه ثلاث خصال: الأولى قوله: {يعذبكم عذابًا أليمًا} قيل: هو عذاب الدنيا.
عن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فتثاقلوا فأمسك الله عنهم المطر. وقال الحسن: الله أعلم بالعذاب الذي كان ينزل عليهم. وقيل: هو عذاب الآخرة فإن الأليم لا يليق إلا به. وقيل: إنه تهديد بالعذاب المطلق الشامل للدارين. الثانية قوله: {ويستبدل قومًا غيركم} يعني قومًا آخرين خيرًا منهم وأطوع. قيل: هم أهل اليمن. عن أبي روق. وقيل: أبناء فارس عن سعيد بن جبير. وقيل: يحتمل أن يراد بهم الملائكة. وقال الأصم: معناه أنه يخرجه من بين أظهركم وهي المدينة والأصح إبقاء الآية على الإطلاق. الثالثة قوله: {ولا تضروه شيئًا} قال الحسن: الضمير لله وفيه أنه غني عنهم في نصرة دنيه بل في كل شيء. وقال آخرون. الضمير للرسول لأن الله وعده أن يعصمه ووعد الله كائن لا محالة. وفي قوله: {والله على كل شيء قدير} تنبيه على أنه قادر على نصرة رسوله بأي وجه أراد، وقادر على إيقاع العذاب بكل من يخالف أمره كائنًا من كان. عن الحسن وعكرمة أن الآية منسوخة بقوله: {وما كان المؤمنون لينفروا كافة} [التوبة: 122] والصحيح أنها خطاب لمن استنفرهم رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم ينفروا فلا نسخ.
قال الجبائي: في الآية دلالة على إبطال مذهب المرجئة من أن أهل القبلة لا وعيد لهم. وقال القاضي: فيها دلالة على وجوب الجهاد سواء كان مع الرسول أولا لقوله تعالى: {مالكم إذا قيل لكم} ولم ينص على أن القائل هو الرسول. ومن قال إن الضمير في قوله: {لا يضروه} عائد إلى الرسول فجوابه أن خصوص آخر الآية لا يمنع من عموم أولها. ثم رغبهم في الجهاد بطريق آخر فقال: {إلا تنصروه فقد نصره الله} وهذا كالتفسير لما تقدم. والمعنى إن لم تشتغلوا بنصره فإن الله سينصره بدليل أن الله نصره وقواه حال ما لم يكن معه إلا رجل واحد ولا أقل من الواحد. وفيه أنه لما أوجب له النصرة وقتئذّ فلن يخذله بعد ذلك. وقوله: {إذ أخرجه الذين كفروا} أي ألجؤه إلى أن خرج ظرف لنصره، و{ثاني اثنين} نصب على الحال ومعناه أحد اثنين لأنه إذا حضر اثنان فكل واحد منهما ثانٍ للآخر وواحد منهما.
وقوله: {إذ هما في الغار} بدل من إذ أخرجه و{إذ يقول} بدل ثان والغار نقب عظيم في الجيل والمراد به هاهنا نقب في أعلى ثور وهو جبل في يمين مكة على مسيرة ساعة.
واعلم أنا قد ذكرنا في سورة الأنفال أن قريشًا ومن بمكة تعاقدوا على قتل رسول الله صلى الله عليه وسلم فنزل: {وإذ يمكر بك الذين كفروا} [الأنفال: 30] فأمره الله تعالى أن يخرج هو وأبو بكر الصديق إلى الغار. فخرج وأمر عليًا أن يضطجع على فراشه فلما وصلا إلى الغار دخل أبو بكر يلتمس ما في الغار فقال له الرسول: مالك؟ فقال: بأبي أنت وأمي، الغيران مأوى السباع والهوام فإن كان فيه شيء كان بي لا بك، فخرق عمامته وسد الحجرة وبقي حجر واحد فوضع عقبه عليه كيلا يخرج منه ما يؤذي الرسول صلى الله عليه وسلم. فلما طلب المشركون الأثر وقربوا بكى أبو بكر خوفًا على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال عليه السلام: {لا تحزن أن الله معنا} وقيل: طلع المشركون فوق الغار فاشفق أبو بكر على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال إن تصب اليوم ذهب دين الله فقال صلى الله عليه وسلم: ما ظنك باثنين الله ثالثهما! وقيل: لما دخلا الغار بعث الله حمامتين فباضتا في أسفله، والعنكبوت فنسجت عليه وقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: اللهم أعم أبصارهم. فجعلوا يترددون حول الغار ولا يفطنون له قد أخذ الله أبصارهم عنه. استدل أهل السنة بالآية على أفضلية أبي بكر وغاية اتحاده ونهاية صحبته وموافقة باطنه ظاهره وإلا لم يعتمد الرسول عليه في مثل تلك الحالة، وأنه كان ثاني رسول الله صلى الله عليه وسلم في الغار وفي العلم لقوله: «ما صب في صدري شيء إلا وصببته في صدر أبي بكر» وفي الدعوة إلى الله لأنه صلى الله عليه وسلم عرض الإيمان أولًا على أبي بكر فآمن، ثم عرض أبو بكر الإيمان على طلحة والزبير وعثمان بن عفان وجماعة أخرى من أجلة الصحابة، وكان لا يفارق الرسول صلى الله عليه وسلم في الغزوات وفي أداء الجماعات وفي المجالس والمحافل، وقد أقامه في مرضه مقامه في الإمامة، ولما توفي دفن بجنب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكان ثاني اثنين من أول أمره إلى آخره، ولو قدرنا أنه توفي رسول الله صلى الله عليه وسلم في ذلك السفر لزم أن لا يقوم بأمره ولا يكون وصيه إلا أبو بكر. وأن لا يبلغ ما حدث في ذلك الطريق من الوحي والتنزيل إلا أبو بكر. وقوله: {لا تحزن} نهى عن الحزن مطلقًا والنهي يقتضي الدوام والتكرار فهو لا يحزن قبل الموت وعنده وبعده. ولا شك أن من كان الله معه فإنه يكون من المتقين المحسنين لقوله: {إن الله مع الذين اتقوا والذين هم محسنون} [النحل: 128] قال الحسين بن فضيل: من أنكر صحبة غير أبي بكر من الصحابة فإنه يكون كذابًا مبتدعًا، ومن أنكر صحبة أبي بكر فإنه يكون كافرًا لأنه خالف قول الله تعالى: {إذ يقول لصاحبه} أجابت الشيعة بأن كونه ثاني اثنين ليس أعظم من كون الله رابعًا لكل ثلاثة في قوله: {ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم} [المجادلة: 7] وهذا عام في حق كل كافر ومؤمن. وكون المصاحبة موجبة للتشريف معارض بقوله تعالى للكافر: {قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك} [الكهف: 37] وكما احتمل أن يقال إنه عليه السلام استخلصه لنفسه في هذا السفر لأجل الثقة، احتمل أن يكون ذلك لأجل إنه خاف أن يدل الكفار عليه أو يوقفهم على أسراره لو تركه. ثم إن حزنه لو كان حقًا لم ينه عنه فهو ذنب وخطأ. سلمنا دلالة الآية على فضل أبي بكر إلا أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراشه أعظم من ذلك فيه من خطر النفس. أجاب أهل السنة بأن كون الله رابعًا لكل ثلاثة أمر مشترك، وكونه ثاني اثنين تشريف زائد اختص الله أبا بكر به على أن المعية هنالك بالعمل والتدبير وههنا بالصحبة والمرافقة، فأين إحداهما من الأخرى؟! والصحبة في قوله: {قال له صاحبه} مقرونة بما تقتضي الإهانة والإذلال وهو قوله: {أكفرت} وفي الآية مقرونة بما يوجب التعظيم والإجلال وهو قوله: {ولا تحزن إن الله معنا} قالوا: والعجب أن الشيعة إذا حلفوا قالوا: وحق خمسة سادسهم جبريل. واستنكروا أن يقال: وحق اثنين الله ثالثهما. والاحتمال الذي ذكروه مدفوع بما روي أن أبا بكر هو الذي اشترى الراحلة للرسول وأن عبد الرحمن بن أبي بكر وأسماء بنت أبي بكر هما اللذان كانا يأتيانهما بالطعام مدة مكثهما في الغار وذلك ثلاثة أيام وقيل بضعة عشر يومًا. وروي أن جبريل عليه السلام أتاه وهو جائع فقال؛ هذه أسماء قد أتتك بحيسة ففرح بذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم وأخبر به أبا بكر، ولو كان أبو بكر قاصدًا له لصاح بالكفار عند وصولهم إلى باب الغار، ولقال ابنه وابنته نحن نعرف مكان محمد. وكون حزنه معصية معارض بقوله تعالى لموسى: {لا تخف إنك أنت الأعلى} [طه: 68] وقول الملائكة لإبراهيم: {لا تخف وبشروه} [الذاريات: 28] ثم إنا لا ننكر أن اضطجاع علي رضي الله عنه على فراش الرسول طاعة وفضيلة إلا أن صحبة أبي بكر أعظم لأن الحاضر أعلى حالًا من الغائب، ولأن عليًا رضي الله عنه ما تحمل المحنة إلا ليلة وأبو بكر مكث في الغار أيامًا، وإنما اختار عليًا للنوم على فراشه لأنه كان صغيرًا لم يظهر عنه بعد دعوة بالدليل والحجة ولا جهاد بالسيف والسنان بخلاف أبي بكر فإنه قد دعا حينئذ جماعة إلى الدين وكان يذب عن الرسول بالنفس والمال، فكان غضب الكفار على أبي بكر أشد من غضبهم على عليّ رضي الله عنه ولهذا لم يقصدوا عليًا بضرب ولا ألم لما عرفوا أن المضطجع هو.
ثم زعم أهل السنة أن الضمير في قوله: {فأنزل الله سكينته عليه} عائد إلى أبي بكر لا إلى الرسول لأنه أقرب المذكورين فإن التقدير: إذ يقول محمد لصاحبه أبي بكر ولأن الخوف كان حاصلًا لأبي بكر والرسول كان آمنًا ساكن القلب بما وعده الله من النصر، ولو كان خائفًا لم يمكنه إزالة الخوف عن غيره بقوله: {لا تحزن} ولناسب أن يقال: فأنزل الله سكينته عليه فقال لصاحبه لا تحزن. واعترض بأن قوله: {وأيده} عطف على {فأنزل} فواجب أن يتحد الضميران في حكم العود. وأجيب بأن قوله: {وأيده} معطوف على قوله: {فقد نصره} والتقدير: إلا تنصروه فقد نصره في واقعة الغار وأيده في واقعة بدر والأحزاب وحنين بالملائكة، والظاهر أن الحزن لا يبعد أن يكون شاملًا للنبي صلى الله عليه وسلم أيضًا من حيث البشرية كقوله: {وزلزلوا} [البقرة: 214] ويكون في الكلام تقديم وتأخير والتقدير: فأنزل الله سكينته عليه إذ يقول، أو يكون {فأنزل} معطوفًا على نصره. والمراد بالسكينة ما ألقي في قلبه من الأمنة التي سكن عندها قلبه وعلم أنه منصور لا محالة كقوله في قصة حنين {ثم أنزل الله سكينته على رسوله} [التوبة: 26] وقوله: {وجعل} يعني يوم بدر وسائر الوقائع {كلمة الذين كفروا} وهي دعوتهم إلى الكفر وعبادة الأصنام {السفلى وكلمة الله} وهي دعوته إلى الإسلام أو كلمة التوحيد لا إله إلا الله: {هي العليا} وفي توسيط كلمة الفصل- أعني هي- تأكيد فضل كلمة الله في العلو وأنها المختصة بالعلاء دون سائر الكلم.
قال الفراء: لا أحب قراءة نصب الكلمة لأن الأجود حينئذ أن يقال: وكلمته هي العليا. ألا ترى أنك تقول: أعتق أبوك غلامه ولا تقول أعتق أبوك غلام أبيك؟ قلت: وفي الرفع أيضًا الاستئناف وما في الجملة الاسمية من الثبات {والله عزيز حكيم} قاهر غالب لا فعل له إلا الصواب.