فصل: قال الشوكاني في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقيل: إلا خبثًا. وقيل: هو الاضطراب في الرأي وذلك بتزيين أمر لقوم وتقبيحه لآخرين حتى يختلفوا وتتفرق كلمتهم.
قالت المعتزلة: دلت الآية على أنه كره انبعاثهم لاشتماله على هذا الخبال والشر. وفيه دليل على أنه تعالى لا يريد إلا الخير والصلاح. ولقائل: أن يقول إثبات حكم كلي بحكم جزئي غير معقول. واعلم أنه سبحانه عد من مفاسد خروجهم ثلاثة: الأول: قوله: {ما زادوكم إلا خبالًا} الثاني: {ولا أوضعوا خلالكم يبغونكم الفتنة} قال في الكشاف: زيد ألف في الكتابة لأن الفتحة كانت تكتب ألفًا قبل الخط العربي والخط العربي اخترع قريبًا من نزول القرآن وقد بقي من ذلك الألف أثر في الطباع فكتبوا صورة الهمزة ألفًا أخرى ونحوه.
{أو لأذبحنه} [الآية: 21] في النمل {ولا أتوها} [الآية: 14] في الأحزاب، ولا رابع لها في القرآن. وفي الإيضاع قولان لأهل اللغة؛ فقال أكثرهم: هو متعد يقال: وضع البعير إذا عدا، وأوضعه الراكب إذا حمله على العدو. وعلى هذا يكون في الآية حذف والتقدير: ولأوضعوا ركائبهم. وقال الأخفش وأبو عبيد: إنه جاء لازمًا ويقال: أوضع الرجل إذا سار بنفسه سيرًا حثيثًا. ومنه ما روي أن النبي صلى الله عليه وسلم أفاض من عرفة وعليه السكينة وأوضع في وادي محسر أي أسرع.
قال الواحدي: والآية تشهد للأخفش وأبي عبيد. وعلى القولين المراد في الآية السعي بين المسلمين بالتضريب والنميمة والمبالغة في الأول أكثر لأن الراكب أسرع من الماشي. ومعنى {خلالكم} أي فيما بينكم. والخلل الفرجة فيما بين الشيئين. و{يبغونكم الفتنة} أي يبغون لكم.
قال الأصمعي: يقال ابغني كذا وابغ لي أي اطلبه لأجلي. ومعنى الفتنة هنا افتراق الكلمة والتشويش في المقاصد فعند ذلك يحصل الانهزام أسرع ما يكون. فالحاصل من النوع الأول اختلاف الآراء، ومن الثاني المشي بالنميمة لتسهيل ذلك الغرض. وأما النوع الثالث فذلك قوله: {وفيكم سماعون لهم} قال مجاهد وابن زيد: أي عيون لهم ينقلون إليهم ما يسمعون منكم. وقال قتادة: فيكم من يسمع كلامهم ويقبل قولهم وإذا تعاضد الفاعل والقابل وقع الأثر على أكمل الوجوه لا محالة. واعترض على هذا القول بأنه كيف يجوز ذلك على المؤمنين مع قوة دينهم؟ وأجيب بأن ذلك إنما يقع لمن قرب عهده بالإسلام أو لمن جبل على الجبن والفشل أو لمن حسن ظنه ببعض المنافقين لقرابة أو هيبة، وقلما يخلو الأقوياء من ضعيف سخيف أو أهل الحق من مبطل منافق ولهذا ختم الآية بقوله: {والله عليم بالظالمين} الذين ظلموا أنفسهم بكفرهم ونفاقهم وغيرهم بإلقاء الفتنة فيما بينهم.
ثم سلى نبيه بتوهين كيد أهل النفاق قديمًا وحديثًا فقال: {لقد ابتغوا الفتنة من قبل} أي من قبل وقعة توبك.
قال ابن جريج: هو أن اثني عشر رجلًا من المنافقين وقفوا على ثنية الوداع ليلة العقبة ليفتكوا بالنبي صلى الله عليه وسلم. وقيل: المراد ما فعله عبد الله بن أبي يوم أحد حين انصرف عن النبي صلى الله عليه وسلم مع أصحابه. ومعنى الفتنة السعي في تشتيت شمل المسلمين والاختلاف الموجب للفرقة بعد الألفة فسلمهم الله منه {وقلبوا لك الأمور} حرفوها ودبروا كل الحيل والمكايد.
ومنه فلان حوّل قلب إذا كان دائرًا حول مصايد المكايد {حتى جاء الحق} الذي هو القرآن {وظهر أمر الله} غلب دينه وشرعه {وهم كارهون} رد الله مكرهم في نحرهم وأتى بضد مقصودهم. ولما كان الأمر كذلك في الماضي فكذا يكون الحال في المستقبل لقوله: {ويأبى الله إلا أن يتم نوره} [التوبة: 32] {ومنهم من يقول ائذن لي} في القعود {ولا تفتني} ولا توقعني في الفتنة وهي الإثم بأن لا تأذن لي فإني إن تخلفت بغير إذنك أثمت. واحتمل أن يكون قد ذكره على سبيل السخرية أو على سبيل الجد بأن كان يغلب على ظن ذلك المنافق صدق محمد وإن كان غير جازم به بعد. وقيل: لا تفتني أي لا تلقني في التهلكة فإني إن خرجت معك هلك مالي وعيالي. وقيل: قال الجد بن قيس؛ قد علمت الأنصار أني مستهتر بالنساء فلا تفتني ببنات الأصفر يعني نساء الروم، ولكني أعينك بما لي فاتركني، فأعرض عنه النبي صلى الله عليه وسلم وقال: قد أذنت لك فنزلت الآية. فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم لبني سلمة- وكان الجد منهم- من سيدكم يا بني سلمة؟ قالوا: جد بن قيس غير أنه بخيل جبان. فقال النبي صلى الله عليه وسلم: وأي داء أدوى من البخل؟ بل سيدكم الفتى الأبيض الجعد الشعر البراء ابن معرور.
{ألا في الفتنة سقطوا} أي إن الفتنة هي التي سقطوا فيها وهي فتنة النفاق والتمرد عن قبول التكليف المستتبع لشقاء الدارين ولهذا ختم الآية بقوله: {وإن جهنم لمحيطة بالكافرين} أما في الدنيا فلإحاطة أسبابها بهم من النعي عليهم بالنفاق وإفشاء الأسرار وهتك الأستار وتحقير المقدار، وأما في الآخرة فلمآل حالهم إلى الدرك الأسفل من النار. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَتَعْلَمَ الْكَاذِبِينَ (43)}
الاستفهام في: {عَفَا الله عَنكَ لِمَ أَذِنتَ لَهُمْ} للإنكار من الله تعالى على رسوله صلى الله عليه وسلم حيث وقع منه الإذن لما استأذنه في القعود قبل أن يتبين من هو صادق منهم في عذره الذي أبداه، ومن هو كاذب فيه.
وفي ذكر العفو عنه صلى الله عليه وسلم ما يدلّ على أن هذا الإذن الصادر منه كان خلاف الأولى، وفي هذا عتاب لطيف من الله سبحانه.
وقيل: إن هذا عتاب له صلى الله عليه وسلم في إذنه للمنافقين بالخروج معه، لا في إذنه لهم بالقعود عن الخروج.
والأوّل: أولى، وقد رخص له سبحانه في سورة النور بقوله: {فَإِذَا استأذنوك لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَن لّمَن شِئْتَ مِنْهُمْ} [النور: 62] ويمكن أن يجمع بين الآيتين بأن العتاب هنا متوجه إلى الإذن قبل الاستثبات حتى يتبين الصادق من الكاذب، والإذن هنالك متوجه إلى الإذن بعد الإستثبات، والله أعلم.
وقيل: إن قوله: {عَفَا الله عَنكَ} هي افتتاح كلام كما تقول: أصلحك الله، وأعزّك ورحمك، كيف فعلت كذا، وكذا حكاه مكي والنحاس، والمهدوي، وعلى هذا التأويل يحسن الوقف على عفا الله عنك، وعلى التأويل الأوّل: لا يحسن.
ولا يخفاك أن التفسير الأوّل هو المطابق لما يقتضيه اللفظ على حسب اللغة العربية، ولا وجه لإخراجه عن معناه العربي.
وفي الآية دليل على جواز الاجتهاد منه صلى الله عليه وسلم، والمسألة مدوّنة في الأصول، وفيها أيضًا دلالة على مشروعية الاحتراز عن العجلة، والاغترار بظواهر الأمور، و{حتى} في {حتى يَتَبَيَّنَ لَكَ الذين صَدَقُواْ} للغاية، كأنه قيل: لم سارعت إلى الإذن لهم؛ وهلا تأنيث حتى يتبين لك صدق من هو صادق منهم في العذر الذي أبداه، وكذب من هو كاذب منهم في ذلك؟
ثم ذكر سبحانه أنه ليس من عادة المؤمنين أن يستأذنوا رسول الله صلى الله عليه وسلم في القعود عن الجهاد، بل كان من عادتهم أنه صلى الله عليه وسلم إذا أذن لواحد منهم بالقعود شق عليه ذلك.
فقال: {لاَ يَسْتَأْذِنُكَ الذين يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر أَن يجاهدوا} وهذا على أن معنى لآية أن لا يجاهدوا على حذف حرف النفي؛ وقيل المعنى: لا يستأذنك المؤمنون في التخلف كراهة الجهاد؛ وقيل: إن معنى الاستئذان في الشيء الكراهة له، وأما على ما يقتضيه ظاهر اللفظ فالمعنى: لا يستأذنك المؤمنون في الجهاد، بل دأبهم أن يبادروا إليه من غير توقف ولا ارتقاب منهم، لوقوع الإذن منك فضلًا عن أن يستأذنوك في التخلف.
قال الزجاج: {أن يجاهدوا} في موضع نصب بإضمار في: أي في أن يجاهدوا: {والله عَلِيمٌ بالمتقين} وهم هؤلاء الذين لم يستأذنوا {إِنَّمَا يَسْتَأْذِنُكَ} في القعود عن الجهاد، والتخلف عنه: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ بالله واليوم الآخر} وهم: المنافقون، وذكر الإيمان بالله أوّلا، ثم باليوم الآخر ثانيًا في الموضعين، لأنهما الباعثان على الجهاد في سبيل الله.
قوله: {وارتابت قُلُوبُهُمْ} عطف على قوله: {الذين لاَ يُؤْمِنُونَ} وجاء بالماضي للدلالة على تحقق الريب في قلوبهم، وهو: الشك.
قوله: {فَهُمْ في رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ} أي: في شكهم الذي حلّ بقلوبهم يتحيرون، والتردّد: التحير.
والمعنى: فهؤلاء الذين يستأذنونك ليسوا بمؤمنين، بل مرتابين حائرين لا يهتدون إلى طريق الصواب، ولا يعرفون الحق.
قوله: {وَلَوْ أَرَادُواْ الخروج لاعَدُّواْ لَهُمْ عِدَّةَ} أي: لو كانوا صادقين فيما يدّعونه ويخبرونك به من أنهم يريدون الجهاد معك، ولكن لم يكن معهم من العدّة للجهاد ما يحتاج إليه، لما تركوا إعداد العدّة وتحصيلها قبل وقت الجهاد، كما يستعدّ لذلك المؤمنون، فمعنى هذا الكلام: أنهم لم يريدوا الخروج أصلًا ولا استعدّوا للغزو.
والعدّة ما يحتاج إليه المجاهد من الزاد والراحلة والسلاح.
قوله: {ولكن كَرِهَ الله انبعاثهم} أي: ولكن كره الله خروجهم، فتثبطوا عن الخروج، فيكون المعنى: ما خرجوا ولكن تثبطوا، لأن كراهة الله انبعاثهم تستلزم تثبطهم عن الخروج، والانبعاث: الخروج، أي حبسهم الله عن الخروج معك وخذلهم، لأنهم قالوا: إن لم يؤذن لنا في الجلوس، أفسدنا وحرّضنا على المؤمنين.
وقيل: المعنى: لو أرادوا الخروج لأعدّوا له عدّة، ولكن ما أرادوه لكراهة الله له قوله: {وَقِيلَ اقعدوا مَعَ القاعدين} قيل: القائل لهم هو الشيطان بما يلقيه إليهم من الوسوسة، وقيل: قاله بعضهم لبعض.
وقيل: قاله رسول الله صلى الله عليه وسلم غضبًا عليهم.
وقيل: هو عبارة عن الخذلان، أي أوقع الله في قلوبهم القعود خذلانًا لهم.
ومعنى: {مَعَ القاعدين} أي: مع أولي الضرر من العميان، والمرضى، والنساء، والصبيان، وفيه من الذمّ لهم والإزراء عليهم والتنقص بهم ما لا يخفى.
قوله: {لَوْ خَرَجُواْ فِيكُم مَّا زَادُوكُمْ إِلاَّ خَبَالًا} هذه تسلية لرسول الله صلى الله عليه وسلم وللمؤمنين عن تخلف المنافقين، والخبال: الفساد والنميمة، وإيقاع الاختلاف والأراجيف.
قيل: هذا الاستثناء منقطع، أي ما زادوكم قوّة، ولكن طلبوا الخبال.
وقيل المعنى: لا يزيدونكم فيما تردّدون فيه من الرأي إلا خبالًا فيكون متصلًا.
وقيل: هو استثناء من أعمّ العام: أي ما زادوكم شيئًا إلا خبالًا.
فيكون الاستثناء من قسم المتصل؛ لأن الخبال من جملة ما يصدق عليه الشيء.
قوله: {ولأَوْضَعُواْ خلالكم يَبْغُونَكُمُ الفتنة} الإيضاع: سرعة السير، ومنه قوله ورقة بن نوفل:
يا ليتني فيها جذع ** أخبّ فيها وأضع

يقال: أوضع البعير: إذا أسرع السير.
وقيل: الإيضاع: سير الخبب، والخلل: الفرجة بين الشيئين، والجمع الخلال: أي الفرج التي تكون بين الصفوف.
والمعنى: لسعوا بينكم بالإفساد بما يختلقونه من الأكاذيب المشتملة على الإرجاف والنمائم الموجبة لفساد ذات البين.
قوله: {يَبْغُونَكُمُ الفتنة} يقال: بغيته كذا: طلبته له، وأبغيته كذا: أعنته على طلبه.
والمعنى: يطلبون لكم الفتنة في ذات بينكم بما يصنعونه من التحريش والإفساد.
وقيل: الفتنة هنا الشرك.
وجملة: {وَفِيكُمْ سماعون لَهُمْ} في محل نصب على الحال، أي والحال أنّ فيكم من يستمع ما يقولونه من الكذب، فينقله إليكم فيتأثر من ذلك الاختلاف بينكم، والفساد لإخوانكم {والله عَلِيمٌ بالظالمين} وبما يحدث منهم لو خرجوا معكم، لذلك اقتضت حكمته البالغة أن لا يخرجوا معكم، وكره انبعاثهم معكم، ولا ينافي حالهم هذا لو خرجوا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم ما تقدّم من عتابه على الإذن لهم في التخلف؛ لأنه سارع إلى الإذن لهم، ولم يكن قد علم من أحوالهم لو خرجوا أنهم يفعلون هذه الأفاعيل، فعوتب صلى الله عليه وسلم على تسرّعه إلى الإذن لهم قبل أن يتبين له الصادق منهم في عذره من الكاذب، ولهذا قال الله سبحانه فيما يأتي في هذه السورة: {فَإِن رَّجَعَكَ الله إلى طَائِفَةٍ مّنْهُمْ فاستأذنوك لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَّن تَخْرُجُواْ مَعِىَ أَبَدًا} [التوبة: 83] الآية، وقال في سورة الفتح: {سَيَقُولُ المخلفون إِذَا انطلقتم إلى مَغَانِمَ} إلى قوله: {قُل لَّن تَتَّبِعُونَا} [الفتح: 15].
قوله: {لَقَدِ ابتغوا الفتنة مِن قَبْلُ} أي: لقد طلبوا الإفساد والخبال وتفريق كلمة المؤمنين وتشتيت شملهم من قبل هذه الغزوة التي تخلفوا عنك فيها.
كما وقع من عبد الله بن أبيّ وغيره {ويأبى الله إِلاَّ أَن يُتِمَّ نُورَهُ وَلَوْ كَرِهَ الكافرون}.
قوله: {وَقَلَّبُواْ لَكَ الأمور} أي: صرّفوها من أمر إلى أمر، ودبروا لك الحيل والمكائد، ومنه قول العرب حوّل قلب إذا كان دائرًا حول المكائد والحيل، يدير الرأي فيها ويتدبره.
وقرئ {وقلبوا} بالتخفيف {حتى جَاء الحق} أي: إلى غاية هي مجيء الحق، وهو النصر لك والتأييد {وَظَهَرَ أَمْرُ الله} بإعزاز دينه، وإعلاء شرعه، وقهر أعدائه.