فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال ابن عاشور:

{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}
هذه الجملة معطوفة على ما قبلها من أخبار أهل النفاق.
وضمائر الجمع عائدة إليهم، قصد منها إبطال ما يموّهون به على المسلمين من تأكيد كونهم مؤمنين بالقَسم على أنّهم من المؤمنين.
فمعنى: {إنهم لمنكم} أي بعض من المخاطبين ولمّا كان المخاطبون مؤمنين، كانَ التبعيض على اعتبار اتّصافهم بالإيمان، بقرينة القَسَم لأنّهم توجّسوا شكّ المؤمنين في أنّهم مثلهم.
والفَرَق: الخوف الشديد.
واختيار صيغة المضارع في قوله: {ويحلفون} وقوله: {يفرقون} للدلالة على التجدّد وأنّ ذلك دأبهم.
ومقتضى الاستدراك: أن يكون المستدرك أنّهم ليسوا منكم، أي كافرون، فحُذف المستدرك استغناء بأداة الإستدراك، وذُكر ما هو كالجواب عن ظاهر حالهم من الإيمان بأنّه تظاهر باطل وبأنّ الذي دعاهم إلى التظاهر بالإيمان في حال كفرهم: هم أنّهم يفرَقون من المؤمنين، فحصل إيجاز بديع في الكلام إذ استغني بالمذكور عن جملتين محذوفتين.
وحذف متعلّق {يفرقون} لظهوره، أي يخافون من عداوة المسلمين لهم وقتالهم إياهم أو إخراجهم، كما قال تعالى: {لئن لم ينته المنافقون والذين في قلوبهم مرض والمرجفون في المدينة لنغرينك بهم ثم لا يجاورونك فيها إلا قليلًا ملعونين أينما ثقفوا أخذوا وقتلوا تقتيلًا} [الأحزاب: 60، 61].
وقوله: {وما هم منكم ولكنهم قوم يفرقون} كلام موجه لصلاحيته لأن يكون معناه أيضًا وما هم منكم ولكنّهم قوم متّصفون بصفة الجُبن، والمؤمنون من صفتهم الشجاعة والعزّة، فالذين يفرقون لا يكونون من المؤمنين، وفي معنى هذا قوله تعالى: {قال يا نوح إنه ليس من أهلك إنه عمل غير صالح} [هود: 46] وقول مساور بن هند في ذمّ بني أسد:
زَعَمتُم أنَّ إخوتكم قُريش ** لهم إلْفٌ وليس لكم إلاف

أولئك أومِنُوا جُوعًا وخوفًا ** وقد جَاعَتْ بنو أسد وخافوا

فيكون توجيهًا بالثناء على المؤمنين، وربما كانت الآية المذكورة عقبها أوفق بهذا المعنى.
وفي هذه الآية دلالة على أنّ اختلاف الخُلق مانع من المواصلة والموافقة. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}
لماذا أتى الله بهذه الآية بعد أن حذرنا من أن نُعجَبَ بأموال المنافقين وأولادهم؟ لأن هذه ليست نعمة لهم ولكنها نقمة عليهم، وأراد الحق سبحانه وتعالى أن يشحننا ضد المنافقين وأن يجعلنا نحذر منهم كل الحذر، ويضرب لنا المثل باليمين، واليمين لا ينطق بها الإنسان عادة إلا بعد شبهة إنكار. فإذا جئت لإنسان بخبر وصدَّقه فأنت لا تضطر لأن تحلف له. ولكن إذا أنكره فأنت تحلف لتزيل شبهة الإنكار من نفسه، ولذلك فأنت حين تروي الخبر لأول مرة لا تحلف، فإن أنكره سامعك حلفْتَ.
ولكن لماذا يحلف المنافقون دون سابق إنكار؟
إنهم يسمعون القرآن الذي ينزل من السماء مملوءًا بالغضب عليهم، وهم يشعرون في داخل صدورهم أن كل مسلم في قلبه شك من ناحية تصرفاتهم، فيبدأون كلامهم بالحلف حتى يصدِّقهم المؤمنون، والمؤمنون قد متَّعهم الله بمناعة إيمانية، في صدورهم؛ فلا يصدقون ما يقوله المنافقون، حتى يأخذوا حِذْرهم ويكونوا بمنجاة مما يدبره هؤلاء المنافقون من أذى، ولذلك حذر سبحانه وتعالى المؤمنين من تصديق كلام المنافقين حتى ولو حلفوا.
ولو لم يُعط الله المؤمنين هذه المناعة الإيمانية لصدَّقوا قول المنافقين بقداسة اليمين. وبماذا حلف المنافقون؟ لقد حلفوا بأنهم من المؤمنين والحقيقة أنهم في مظاهر التشريع يفعلون كما يفعل المؤمنون، ولكن قلوبهم ليس فيها يقين أو صدق.
وما داموا على غير يقين وغير صدق، فلماذا يحلفون؟ نقول: إن هذا هو تناقض الذات، وأنت تجد المؤمن غيرَ متناقض مع نفسه؛ لأنه مؤمن بقلبه ومؤمن بذاته، ومؤمن بجوارحه، ولا توجد مَلَكَاتٌ تتناقض فيه، والكافر أيضًا غير متناقض مع نفسه؛ لأنه يعلن صراحة أنه لا يؤمن بالله ولا برسوله، فليس هناك تناقض بين ظاهره وباطنه، صحيح أن فيه ملكة واحدة، ولكنها فاسدة، ولكن ليس فيه تناقض بين ما يفعله ظاهرًا وما في قلبه.
أما المنافق فتتناقض ملكاته. فهو يقول بلسانه: أنا مؤمن وأشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله. لكن قلبه يناقض ما يقوله، فلا يشهد بوحدانية الألوهية لله، ولا يصدق رسالة رسوله صلى الله عليه وسلم.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى في سورة المنافقون: {إِذَا جَاءَكَ المنافقون قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ الله والله يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ والله يَشْهَدُ إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1].
كيف يقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ المنافقين لَكَاذِبُونَ}، مع أنهم شهدوا بما شهد به الله، وهو أن محمدًا صلى الله عليه وسلم رسول الله؟ نقول: إن الحق أراد أن يفضحهم، فهم قد شهدوا بألسنتهم فقط ولكن قلوبهم منكرة. وفضح الله ما في قلوبهم وأوضح أن ألسنتهم تكذب؛ لأنها لا تنقل صدق ما في قلوبهم.
إذن: فالمنافق يعيش في تناقض مع نفسه، وهو شر من الكافر؛ لأن الكافر يعلن عداءه للدين فهو عدو ظاهر لك فتأخذ حذرك منه. أما المنافق فهو يتظاهر بالإيمان، فتأمن له ويكون إيذاؤه أكبر، وقدرته على الغَدْرِ أشد. ولذلك قال الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّ المنافقين فِي الدرك الأسفل مِنَ النار...} [النساء: 145].
ونحن نعلم أن تناقض الذات هو الذي يتعب الدنيا كلها، ويبين لنا المتنبي هذه القضية، ويشرح كيف أنها أتعبُ شيء في الوجود، فيقول:
وَمِنْ نَكَدِ الدُّنْيا علَى الحرِّ أنْ يَرَى ** عَدوّا له مَا مِنْ صَداقتِه بُدُّ

هذا هو تناقض الملكَاتِ حين تجد عدوًا لك، وتحكم عليك الظروف أن تصادقه. وفي ذلك يقول شاعر آخر:
عَلَى الذَّمِّ بِتْناَ مُجْمِعينَ وحالُنَا ** مِنَ الخوْفِ حَالُ المجْمِعين عَلىَ الحمْدِ

وشاعر ثالث يريد أن يصور التناقض في المجتمع الذي يجعل الناس يمجدون هذا وهم كارهون له، فيقول:
كَفَانَا هَوانًا مِنْ تناقُضِ ذَاتِنا ** متى تَصْدُق الأقوالُ بالألسُنِ الخُوَّفِ

إذن: فالمنافقون يحلفون بألسنتهم بأنهم من المؤمنين، وهم كذلك في ظاهر التشريع، ولكنهم ليسوا منكم في حقيقتهم، فهم في قلوبهم ليسوا منكم.
ويكمل الحق سبحانه وتعالى الصورة بقوله: {وَيَحْلِفُونَ بالله إِنَّهُمْ لَمِنكُمْ وَمَا هُم مِّنكُمْ ولكنهم قَوْمٌ يَفْرَقُونَ} والفَرَق معناه: الخوف، أي أنهم في فزع دائم، ويخافون أن يُفتضَحَ أمرهم فيعزلهم مجتمع الإسلام ويحاربهم محاربته للكفار. ويشرِّدهم ويأخذ أموالهم ويَسْبي نساءهم وأولادهم. إذن: فالخوف هو الذي جعلهم يحلفون كذبًا وخوفًا من افتضاح أمرهم؛ ولذلك قال الحق لرسوله صلى الله عليه وسلم عنهم: {وَلَوْ نَشَاءُ لأَرَيْنَاكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُم بِسِيمَاهُمْ وَلَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ القول...} [محمد: 30].
وفي هذا القول دعوة لفحص ما يقوله أهل النفاق، حتى وإنْ بَدا القول على ألسنتهم جميلًا. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

من لطائف القشيري في الآية:
قال عليه الرحمة:
{وَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَمَا هُمْ مِنْكُمْ وَلَكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56)}
التَّقَرُّبُ بالأَيْمانِ الفاجِرةِ لا يوجِبُ للقلوب إلا بُعْدًا عن القُبول.
ويقال إنَّ إظهارَ التلبيس لا (...) الأسرارَ بَرَدِّ السكون، ولا يَشْفِي البصائر بِرَدِّ الثقة واليقين.. فما لا يكون فلا يكون بحيلةٍ أبدًا، وما هو كائنٌ سيكون. اهـ.

.تفسير الآية رقم (57):

.من أقوال المفسرين:

قوله تعالى: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغَارَاتٍ أَوْ مُدَّخَلًا لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَهُمْ يَجْمَحُونَ (57)}

.قال البقاعي:

{لو يجدون ملجئًا} أي شيئًا يلجؤون إليه من حصن أو جبل أو قوم يمنعونهم منكم {أو مغارات} في الجبال تسعهم، جمع مغارة- مفعلة من غار في الشيء- إذا دخل فيه، والغور: ما انخفض من الأرض.
ولما كانت الغيران- وهي النقوب في الجبال- واسعة والوصول إليها سهلًا، قال: {أو مدخلًا} أي مكانًا يدخلونه يغاية العسر والصعوبة لضيقه أو لمانع في طريقه أو قومًا يداخلونهم وإن كانوا يكرهونهم- بما أرشد إليه التشديد: {لولوا إليه} أي لاشتدوا في التوجه إليه متولين مرتدين عنكم على أعقابهم {وهم يجمحون} أي حالهم حال الدابة التي كانت مسرعة في طواعية راكبها فإذا هي قد نكصت على عقبها ثم أخذت في غير قصده بغاية الإسراع ونهاية الرغبة والداعية لا يردها بئر تقع فيه ولا مهلكة ولا شيء. اهـ.

.قال الفخر:

قوله: {لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئًا}
الملجأ: المكان الذي يتحصن فيه، ومثله اللجأ مقصورًا مهموزًا، وأصله من لجأ إلى كذا يلجأ لجأ بفتح اللام وسكون الجيم، ومثله التجأ والجأته إلى كذا، أي جعلته مضطرًا إليه، وقوله: {أَوْ مغارات} هي جمع مغارة، وهي الموضع الذي يغور الإنسان فيه، أي يستتر.
قال أبو عبيد: كل شيء جزت فيه فغبت فهو مغارة لك، ومنه غار الماء في الأرض وغارت العين.
وقوله: {مُدْخَلًا} قال الزجاج: أصله مدتخل والتاء بعد الدال تبدل دالًا، لأن التاء مهموسة، والدال مهجورة، وهما من مخرج واحد وهو مفتعل من الدخول، كالمتلج من الولوج.
ومعناه: المسلك الذي يستتر بالدخول فيه.
قال الكلبي وابن زيد: نفقا كنفق اليربوع.
والمعنى: أنهم لو جدوا مكانًا على أحد هذه الوجوه الثلاثة، مع أنها شر الأمكنة {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} أي رجعوا إليه.
يقال: ولى بنفسه إذا انصرف وولى غيره إذا صرفه وقوله: {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} أي يسرعون إسراعًا لا يرد وجوههم شيء، ومن هذا يقال: جمح الفرس وهو فرس جموح، وهو الذي إذا حمل لم يرده اللجام، والمراد من الآية أنهم من شدة تأذيهم من الرسول ومن المسلمين صاروا بهذه الحالة.
واعلم أنه تعالى ذكر ثلاثة أشياء وهي: الملجأ، والمغارات، والمدخل، والأقرب أن يحمل كل واحد منها على غير ما يحمل الآخر عليه، فالملجأ يحتمل الحصون، والمغارات الكهوف في الجبال، والمدخل السرب تحت الأرض نحو الآبار.
قال صاحب الكشاف: قرئ {مُّدْخَلًا} من دخل و{مُّدْخَلًا} من أدخل وهو مكان يدخلون فيه أنفسهم، وقرأ أبي بن كعب {متدخلًا} وقرأ {لَوْ ألو إِلَيْهِ} أي لالتجاؤا، وقرأ أنس {يجمزون} فسئل عنه فقال: يجمحون ويجمزون ويشتدون واحد. اهـ.

.قال الثعلبي:

{لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَئًا} يعني حرزًا وحصنًا ومعقلًا، وقال عطاء مهربًا، وقال ابن كيسان: قومًا يأمنون فيهم {أَوْ مَغَارَاتٍ} غيرانًا في الجبال، وقال عطاء: سرادب، وقال الاخفش: كلّ ما غرتَ فيه فغبت فهو مغارة، وهي مفعلة من غار الرجل في الشيء يغور فيه إذا دخل، ومنه غار الماء وغارت العين إذا دخلت في الحدقة، ومنه غور تهامة، والغور: ما انخفض من الأرض، وقرأ عبد الرحمن بن عوف مُغارات بضم الميم جعله مفعلًا من أغار يُغير إذا أسرع ومعناه موضع فرارا، قال الشاعر:
فعدّ طلابها وتعدّ عنها ** بحرف قد تغير إذ تبوع

{أَوْ مُدَّخَلًا} موضع دخول، وهو مفتعل من تدخّل يتدخّل متدخّل، وقال مجاهد: مدّخلا: محرزًا. قتادة: سردابًا، وقال الكلبي وابن زيد: نفقًا كنفق اليربوع، وقال الضحاك: مأوىً يأوون إليه، وقال الحسن: وجهًا يدخلونه على خلاف رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال ابن كيسان: دخلا من مدخلا لاينالهم منكم ما يخافون منه وقرأ الحسن: أو مدخلًا، مفتوحة الميم خفيفة الدال من دخل يدخل، وقرأ مسلمة بن محارب مُدخلًا بضم الميم وتخفيف الدال من دخل يدخل، وقرأه أُبيّ مندخلا، منفعل من اندخل. كما قال:
فلا يدي في حميت السكن تندخل

وقرأ الأعرج بتشديد الدال والخاء [...] جعله متّفعلا ثم أدغم التاء في الدال كالمزمّل والمدّثر {لَّوَلَّوْاْ إِلَيْهِ} لأدبروا إليه هربًا منكم، وفي حرف أُبي: لولّوا وجوههم إليه، وقرأ الأعمش والعقيلي: لوالوا إليه بالألف من الموالاة أي تابعوا وسارعوا.
وروى معاوية بن نوفل عن أبيه عن جده وكانت له صحبة لولوا إليه بتخفيف اللام لأنها من التولية يقال: ولي إليه بنفسه إذا انصرف ولولوّا إليه من المولي {وَهُمْ يَجْمَحُونَ} يسرعون في الفرار لا يردهم شيء.
قال الشاعر أبان بن ثعلب:
سبوحًا جموحًا وإحضارها ** كمعمعة السعف الموقد

وقيل: إن الجماح مشي بين مشيين وهو مثل الصماح.
قال مهلهل:
لقد جمحت جماحًا في دمائهمُ ** حتى رأيت ذوي أحسابهم خمدوا

وقرأ الأعمش: وهم يجمزون أي يسرعون ويشدّون. اهـ.