فصل: المسألة الأولى: قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} الآية:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والوجه الرابع: أن النفس الناطقة لها قوتان، نظرية وعملية، فالقوة النظرية كمالها في التعظيم لأمر الله، والقوة العملية كمالها في الشفقة على خلق الله، فأوجب الله الزكاة ليحصل لجوهر الروح هذا الكمال وهو اتصافه بكونه محسنًا إلى الخلق ساعيًا في إيصال الخيرات إليهم دافعًا للآفات عنهم، ولهذا السر قال عليه الصلاة والسلام: «تخلقوا بأخلاق الله».
والوجه الخامس: أن الخلق إذا علموا في الإنسان كونه ساعيًا في إيصال الخيرات إليهم، وفي دفع الآفات عنهم أحبوه بالطبع ومالت نفوسهم إليه لا محالة، على ما قاله عليه الصلاة والسلام: «جبلت القلوب على حب من أحسن إليها وبغض من أساء إليها» فالفقراء إذا علموا أن الرجل الغني يصرف إليهم طائفة من ماله، وأنه كلما كان ماله أكثر كان الذي يصرفه إليهم من ذلك المال أكثر، أمدوه بالدعاء والهمة، وللقلوب آثار وللأرواح حرارة فصارت تلك الدعوات سببًا لبقاء ذلك الإنسان في الخير والخصب، وإليه الإشارة بقوله تعالى: {وَأَمَّا مَا يَنفَعُ الناس فَيَمْكُثُ في الأرض} [الرعد: 17] وبقوله عليه الصلاة والسلام: «حصنوا أموالكم بالزكاة».
والوجه السادس: أن الاستغناء عن الشيء أعظم من الاستغناء بالشيء، فإن الاستغناء بالشيء يوجب الاحتياج إليه، إلا أنه يتوسل به إلى الاستغناء عن غيره، فأما الاستغناء عن الشيء فهو الغنى التام، ولذلك فإن الاستغناء عن الشيء صفة الحق، والاستغناء بالشيء صفة الخلق، فالله سبحانه لما أعطى بعض عبيده أموالًا كثيرة فقد رزقه نصيبًا وافرًا من باب الاستغناء بالشيء.
فإذا أمره بالزكاة كان المقصود أن ينقله من درجة الاستغناء بالشيء، إلى المقام الذي هو أعلى منه، وأشرف منه وهو الاستغناء عن الشيء.
والوجه السابع: أن المال سمي مالًا لكثرة ميل كل أحد إليه، فهو غاد ورائح، وهو سريع الزوال مشرف على التفرق، فما دام يبقى في يده كان كالمشرف على الهلاك والتفرق.
فإذا أنفقه الإنسان في وجوه البر والخير والمصالح بقي بقاء لا يمكن زواله، فإنه يوجب المدح الدائم في الدنيا والثواب الدائم في الآخرة، وسمعت واحدًا يقول: الإنسان لا يقدر أن يذهب بذهبه إلى القبر، فقلت بل يمكنه ذلك فإنه إذا أنفقه في طلب الرضوان الأكبر فقد ذهب به إلى القبر وإلى القيامة.
والوجه الثامن: وهو أن بذل المال تشبه بالملائكة والأنبياء، وإمساكه تشبه بالبخلاء المذمومين، فكان البذل أولى.
والوجه التاسع: أن إفاضة الخير والرحمة من صفات الحق سبحانه وتعالى، والسعي في تحصيل هذه الصفة بقدر القدرة تخلق بأخلاق الله، وذلك منتهى كمالات الإنسانية.
والوجه العاشر: أن الإنسان ليس له إلا ثلاثة أشياء: الروح والبدن والمال.
فإذا أمر بالإيمان فقد صار جوهر الروح مستغرقًا في هذا التكليف.
ولما أمر بالصلاة فقد صار اللسان مستغرقًا بالذكر والقراءة، والبدن مستغرقًا في تلك الأعمال، بقي المال؛ فلو لم يصر المال مصروفًا إلى أوجه البر والخير لزم أن يكون شح الإنسان بماله فوق شحه بروحه وبدنه، وذلك جهل، لأن مراتب السعادات ثلاثة: أولها: السعادات الروحانية.
وثانيها: السعادات البدنية وهي المرتبة الوسطى.
وثالثها: السعادات الخارجية وهي المال والجاه.
فهذه المراتب تجري مجرى خادم السعادات النفسانية، فإذا صار الروح مبذولًا في مقام العبودية، ثم حصل الشح ببذل المال لزم جعل الخادم في مرتبة أعلى من المخدوم الأصلي، وذلك جهل.
فثبت أنه يجب على العاقل أيضًا بذل المال في طلب مرضاة الله تعالى.
والوجه الحادي عشر: أن العلماء قالوا: شكر النعمة عبارة عن صرفها إلى طلب مرضاة المنعم، والزكاة شكر النعمة، فوجب القول بوجوبها لما ثبت أن شكر المنعم واجب.
والوجه الثاني عشر: أن إيجاب الزكاة يوجب حصول الإلف بالمودة بين المسلمين، وزوال الحقد والحسد عنهم، وكل ذلك من المهمات، فهذه وجوه معتبرة في بيان الحكمة الناشئة من إيجاب الزكاة العائدة إلى معطي الزكاة، فأما المصالح العائدة من إيجاب الزكاة إلى من يأخذ الزكاة فهي كثيرة، الأول: أن الله تعالى خلق الأموال، وليس المطلوب منها أعيانها وذواتها.
فإن الذهب والفضة لا يمكن الانتفاع بهما في أعيانهما إلا في الأمر القليل، بل المقصود من خلقهما أن يتوسل بهما إلى تحصيل المنافع ودفع المفاسد، فالإنسان إذا حصل له من المال بقدر حاجته كان هو أولى بإمساكه لأنه يشاركه سائر المحتاجين في صفة الحاجة، وهو ممتاز عنهم بكونه ساعيًا في تحصيل ذلك المال، فكان اختصاصه بذلك المال أولى من اختصاص غيره، وأما إذا فضل المال على قدر الحاجة، وحضر إنسان آخر محتاج، فههنا حصل سببان كل واحد منهما يوجب تملك ذلك المال.
أما في حق المالك، فهو أنه سعى في اكتسابه وتحصيله، وأيضًا شدة تعلق قلبه به، فإن ذلك التعلق أيضًا نوع من أنواع الحاجة.
وأما في حق الفقير، فاحتياجه إلى ذلك المال يوجب تعلقه به، فلما وجد هذان السببان المتدافعان اقتضت الحكمة الإلهية رعاية كل واحد من هذين السببين بقدر الإمكان.
فيقال حصل للمالك حق الاكتساب وحق تعلق قلبه به، وحصل للفقير حق الاحتياج، فرجحنا جانب المالك، وأبقينا عليه الكثير وصرفنا إلى الفقير يسيرًا منه توفيقًا بين الدلائل بقدر الإمكان.
الثاني: أن المال الفاضل عن الحاجات الأصلية إذا أمسكه الإنسان في بيته بقي معطلًا عن المقصود الذي لأجله خلق المال، وذلك سعي في المنع من ظهور حكمة الله تعالى، وهو غير جائز، فأمر الله بصرف طائفة منه إلى الفقير حتى لا تصير تلك الحكمة معطلة بالكلية.
الثالث: أن الفقراء عيال الله لقوله تعالى: {وَمَا مِن دَابَّةٍ فِي الأرض إِلاَّ عَلَى الله رِزْقُهَا} [هود: 6] والأغنياء خزان الله لأن الأموال التي في أيديهم أموال الله، ولولا أن الله تعالى ألقاها في أيديهم وإلا لما ملكوا منها حبة، فكم من عاقل ذكي يسعى أشد السعي، ولا يملك ملء بطنه طعامًا، وكم من أبله جلف تأتيه الدنيا عفوًا صفوًا.
إذا ثبت هذا فليس بمستبعد أن يقول الملك لخازنه: اصرف طائفة مما في تلك الخزانة إلى المحتاجين من عبيدي.
الوجه الرابع: أن يقال: المال بالكلية في يد الغني مع أنه غير محتاج إليه، وإهمال جانب الفقير العاجز عن الكسب بالكلية؛ لا يليق بحكمة الحكيم الرحيم، فوجب أن يجب على الغني صرف طائفة من ذلك المال إلى الفقير.
الوجه الخامس: أن الشرع لما أبقى في يد المالك أكثر ذلك المال وصرف إلى الفقير منه جزأ قليلًا، تمكن المالك من جبر ذلك النقصان بسبب أن يتجر بما بقي في يده من ذلك المال ويربح ويزول ذلك النقصان.
أما الفقير ليس له شيء أصلًا، فلو لم يصرف إليه طائفة من أموال الأغنياء لبقي معطلًا وليس له ما يجبره، فكان ذلك أولى.
الوجه السادس: أن الأغنياء لو لم يقوموا بإصلاح مهمات الفقراء فربما حملهم شدة الحاجة ومضرة المسكنة على الالتحاق بأعداء المسلمين، أو على الإقدام على الأفعال المنكرة كالسرقة وغيرها فكان إيجاب الزكاة يفيد هذه الفائدة فوجب القول بوجوبها.
الوجه السابع: قال عليه الصلاة والسلام: «الإيمان نصفان، نصف صبر ونصف شكر» والمال محبوب بالطبع، فوجدانه يوجب الشكر وفقدانه يوجب الصبر، وكأنه قيل: أيها الغني أعطيتك المال فشكرت فصرت من الشاكرين، فأخرج من يدك نصيبًا منه حتى تصبر على فقدان ذلك المقدار فتصير بسببه من الصابرين، وأيها الفقير ما أعطيتك الأموال الكثيرة فصبرت فصرت من الصابرين، ولكني أوجب على الغني أن يصرف إليك طائفة من ذلك المال حتى إذا دخل ذلك المقدار في ملكك شكرتني، فصرت من الشاكرين، فكان إيجاب الزكاة سببًا في جعل جميع المكلفين موصوفين بصفة الصبر والشكر معًا.
الوجه الثامن: كأنه سبحانه يقول للفقير إن كنت قد منعتك الأموال الكثيرة، ولكني جعلت نفسي مديونًا من قبلك، وإن كنت قد أعطيت الغني أموالًا كثيرة لكني كلفته أن يعدوا خلفك، وأن يتضرع إليك حتى تأخذ ذلك القدر منه، فتكون كالمنعم عليه بأن خلصته من النار.
فإن قال الغني: قد أنعمت عليك بهذا الدينار، فقل أيها الفقير بل أنا المنعم عليك حيث خلصتك في الدنيا من الذم والعار، وفي الآخرة من عذاب النار، فهذه جملة من الوجوه في حكمة إيجاب الزكاة بعضها يقينية، وبعضها إقناعية، والعالم بأسرار حكم الله وحكمته ليس إلا الله، والله أعلم.
المقام الثاني: في تفسير هذه الآية وفيه مسائل:

.المسألة الأولى: قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} الآية:

تدل على أنه لا حق في الصدقات لأحد إلا لهذه الأصناف الثمانية، وذلك مجمع عليه، وأيضًا فلفظة {إِنَّمَا} تفيد الحصر ويدل عليه وجوه: الأول: أن كلمة {إِنَّمَا} مركبة من إن وما وكلمة إن للإثبات وكلمة ما للنفي، فعند اجتماعهما وجب بقاؤهما على هذا المفهوم، فوجب أن يفيدا ثبوت المذكور، وعدم ما يغايره.
الثاني: أن ابن عباس تمسك في نفي ربا الفضل بقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الربا في النسيئة» ولولا أن هذا اللفظ يفيد الحصر، وإلا لما كان الأمر كذلك، وأيضًا تمسك بعض الصحابة في أن الإكسال لا يوجب الاغتسال بقوله عليه الصلاة والسلام: «إنما الماء من الماء» ولولا أن هذه الكلمة تفيد الحصر وإلا لما كان كذلك.
وقال تعالى: {إِنَّمَا الله إله واحد} [النساء: 171] والمقصود بيان نفي الإلهية للغير والثالث: الشعر.
قال الأعشى:
ولست بالأكثر منهم حصى ** وإنما العزة للكاثر

وقال الفرزدق:
أنا الذائد الحامي الذمار وإنما ** يدافع عن أحسابهم أنا أو مثلي

فثبت بهذه الوجوه أن كلمة {إِنَّمَا} للحصر، ومما يدل على أن الصدقات لا تصرف إلا لهذه الأصناف الثمانية أنه عليه الصلاة والسلام قال لرجل: «إن كنت من الأصناف الثمانية فلك فيها حق وإلا فهو صداع في الرأس، وداء في البطن» وقال: «لا تحل الصدقة لغني ولا لذي مرة سوي».

.المسألة الثانية: [في كون النبي صلى الله عليه وسلم خازنا على مال المسلمين]:

اعلم أنه تعالى لما أخبر عن المنافقين أنهم يلمزون الرسول عليه السلام في أخذ الصدقات، بين تعالى أنه إنما يأخذها لهؤلاء الأصناف الثمانية، ولا يأخذها لنفسه ولا لأقاربه ومتصليه، وقد بينا أن أخذ القليل من مال الغني ليصرف إلى الفقير في دفع حاجته هو الحكمة المعينة، والمصلحة اللازمة، وإذا كان الأمر كذلك كان همز المنافقين ولمزهم عين السفه والجهالة.
فكان عليه الصلاة والسلام يقول: «ما أوتيكم شيئًا ولا أمنعكم، إنما أنا خازن أضع حيث أمرت».

.المسألة الثالثة: [في جواز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف فقط]:

مذهب أبي حنيفة رحمه الله: أنه يجوز صرف الصدقة إلى بعض هؤلاء الأصناف فقط، وهو قول عمر وحذيفة وابن عباس وسعيد بن جبير وأبي العالية والنخعي، وعن سعيد بن جبير لو نظرت إلى أهل بيت من المسلمين فقراء متعففين فحبوتهم بها كان أحب إلي، وقال الشافعي رحمه الله: لابد من صرفها إلى الأصناف الثمانية، وهو قول عكرمة والزهري وعمر ابن عبد العزيز: واحتج بأنه تعالى ذكر هذه القسمة في نص الكتاب.
ثم أكدها بقوله: {فَرِيضَةً مّنَ الله} قال: ولابد في كل صنف من ثلاثة، لأن أقل الجمع ثلاثة، فإن دفع سهم الفقراء إلى فقيرين ضمن نصيب الثالث وهو ثلث سهم الفقراء.
قال: ولابد من التسوية في أنصباء هذه الأصناف الثمانية، مثل أنك إن وجدت خمسة أصناف ولزمك أن تتصدق بعشرة دراهم، جعلت العشرة خمسة أسهم كل سهم درهمان، ولا يجوز التفاضل.
ثم يلزمك أن تدفع إلى كل صنف درهمين وأقل عددهم ثلاثة، ولا يلزمك التسوية بينهم، فلك أن تعطي فقيرًا درهمًا وفقيرًا خمسة أسداس درهم وفقيرًا سدس درهم، هذه صفة قسمة الصدقات على مذهب الشافعي رحمه الله.