فصل: قال صاحب المنار:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ومن جهة أخرى.. فإن الإسلام قد نظر نظرة أوسع من هذا، فلم يجعل إلى بيت المال وحده، القيام بهذا الواجب حيال أبناء السبيل.. فقد يكون ابن السبيل في مكان لا تصل إليه يد «بيت المال».. وقد يكون «بيت المال» ولا مال فيه يتّسع للوفاء بحاجة المحتاجين من أبناء السبيل.
ومن أجل هذا، فقد فرض الإسلام على المسلمين جميعا، القيام بهذا الواجب إذا عرض لهم، وطلع عليهم ابن سبيل أو أبناء سبيل! روى البخاري ومسلم، عن عقبة بن عامر قال: قلنا يا رسول اللّه، تبعثنا فننزل بقوم فلا قروننا، فما ترى في ذلك؟ فقال- صلى اللّه عليه وسلم: «إذا نزلتم بقوم فأمروا لكم ما ينبغى للضيف فاقبلوا منهم، وإن لم يفعلوا فخذوا منهم حق الضيف الذي ينبغى لهم».
وعنه صلى اللّه عليه وسلم قال: «أيّما مسلم ضاف قوما فأصبح الضيف محروما، فإن حقّا على كل مسلم نصره، حتى يأخذ بقرى ليلته.. من زرعه أو ماله».
وعن أبى كريمة، أنه سمع رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: «ليلة الضيف واجبة على كل مسلم، فإن أصبح بفنائه محروما كان دينا عليه، فإن شاء اقتضاه، وإن شاء تركه!».
فإلى هذا الحدّ تبلغ عناية الشريعة الإسلامية ورعايتها للفقراء، والضعفاء، في المجتمع الإسلامى، حتى لتجعل فرضا على كل مسلم نزل به ابن سبيل، أن يجعله ضيفا عليه، وأن يقدّم إليه من البشاشة والرعاية والإكرام ما يقدّم للضيف العزيز، دون منّ أو أذى، ودون ضيق أو تكره.. وفى تسمية ابن السبيل ضيفا، رعاية لهذا الواجب الذي ينبغى للمضيف أن يؤديه له، وصيانة لابن السبيل من أن ينظر إليه، أو ينظر هو إلى نفسه نظرة المتطفل.. وكلا إنه صاحب حق، وهو إذ ينزل بأحد المسلمين، فإنما ليستقضى حقّه عنده! فأين في دنيا الناس، هذا المجتمع الذي ينزل فيه الفقير والمسكين منزلة الضيف العزيز المكرم؟ إن ذلك لن يكون إلا في المجتمع الإسلامى، الذي يحفظ شريعة الإسلام، ويقيم سلوكه عليها!! «فريضة من اللّه».
أي هذا التشريع الذي شرعه اللّه في أموال الأغنياء، ثم ردّ هذه الأموال على تلك الجهات، التي بينها اللّه سبحانه وتعالى في الآية الكريمة- هذا التشريع، هو فرض محكم فرضه اللّه على المسلمين، وأوجب عليهم أداءه، على هذا الوجه الذي شرعه.
{وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ}.
أي أن هذا التشريع الذي شرعه اللّه سبحانه وتعالى، هو مما قضى به علمه وحكمته.. علمه الذي يحيط بكل شيء، وينفذ إلى كل شيء، ويستولى على كل شيء.. وحكمته المقدّرة لكل أمر، المحكمة لكل تدبير..
فليس بعد قضاء اللّه قضاء، ولا بعد تدبيره تدبير، ولا وراء حكمه حكم..
من أخذ به اهتدى وأمن، وسعد، ومن عدل عنه، ضلّ وخاب وشقى!. اهـ.

.قال صاحب المنار:

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}
لَمَّا كَانَ طَمَعُ الْبَشَرِ فِي الْمَالِ لَا حَدَّ لَهُ، وَقَدْ يَكُونُ الْغَنِيُّ أَشَدَّ طَمَعًا فِيهِ مِنَ الْفَقِيرِ، وَكَانَ ضَعِيفُ الْإِيمَانِ لَا يُرْضِيهِ قِسْمَةُ الرَّسُولِ الْمَعْصُومِ لَهُ إِذَا لَمْ يُعْطِهِ مَا يُرْضِي طَمَعَهُ، وَكَانَ غَيْرُ الْمَعْصُومِ مِنْ أَوْلِيَاءِ الْأُمُورِ، وَمِنَ الْأَغْنِيَاءِ عُرْضَةً لِاتِّبَاعِ الْهَوَى فِي قِسْمَةِ الصَّدَقَاتِ، بَيَّنَ اللهُ تَعَالَى مَصَارِفَهَا بِنَصِّ كِتَابِهِ فَقَالَ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} هَذِهِ الْآيَةُ نَاطِقَةٌ بِوُجُوبِ قَصْرِ الصَّدَقَاتِ الْوَاجِبَةِ، وَهِيَ زَكَاةُ النُّقُودِ عَيْنًا أَوْ تِجَارَةً وَالْأَنْعَامِ وَالزَّرْعِ وَالرِّكَازِ وَالْمَعْدِنِ عَلَى الْأَصْنَافِ السَّبْعَةِ أَوِ الثَّمَانِيَةِ الْمَنْصُوصَةِ فِيهَا دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهِيَ حُجَّةٌ عَلَى مَنْ لَمَزَ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَ إِعْطَائِهِمْ مِنْهَا- وَهُمْ لَيْسُوا مِنْهُمْ- وَقَاطِعَةٌ لِأَطْمَاعِ أَمْثَالِهِمْ. واللَّامُ فِي قَوْلِهِ: {لِلْفُقَرَاءِ} لِلْمِلْكِ وَلِلِاسْتِحْقَاقِ، أَوْ بِتَقْدِيرِ مَفْرُوضَةٌ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قَوْلُهُ فِي آخِرِ الْآيَةِ: {فَرِيضَةً مِنَ اللهِ} وَسَيَأْتِي حُكْمُ سَائِرِ الْمَعْطُوفَاتِ.
وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ عَلَى أَنَّ الْفُقَرَاءَ وَالْمَسَاكِينَ صِنْفَانِ مُسْتَقِلَّانِ، وَقَدِ اخْتَلَفُوا فِي تَعْرِيفِ كُلٍّ مِنْهُمَا بِمَا ذَهَبَ بِهِ بَعْضُهُمْ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْمِسْكِينِ، وَبَعْضُهُمْ إِلَى الْعَكْسِ، وَجَعَلُوا ذَلِكَ مِنْ تَقَالِيدِ الْمَذَاهِبِ الَّتِي يَتَعَصَّبُ لَهَا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ. وَيَرَى بَعْضُ الْعُلَمَاءِ الْمُسْتَقِلِّينَ أَنَّهُمَا قِسْمَانِ لِصِنْفٍ وَاحِدٍ يَخْتَلِفَانِ بِالْوَصْفِ لَا بِالْجِنْسِ وَهُوَ الْمُخْتَارُ لَنَا، وَلَمْ يَجْمَعِ الذِّكْرُ الْحَكِيمُ بَيْنَهُمَا إِلَّا فِي هَذِهِ الْآيَةِ، وَيَكْفِي مِنْ دَلَالَةِ الْعَطْفِ فِيهَا عَلَى الْمُغَايَرَةِ مَا اخْتَرْنَاهُ فِي تَغَيُّرِهِمَا فِي الْوَصْفِ. فَالْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ خِلَافُ الْغَنِيِّ وَمُقَابِلُهُ مُقَابَلَةَ التَّضَادِّ كَمَا يَدُلُّ عَلَيْهِ قوله تعالى: {إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيرًا فَاللهُ أَوْلَى بِهِمَا} (4: 135) وَقَوْلُهُ: {وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ} (4: 6) وَقَوْلُهُ: {إِنْ يَكُونُوا فُقَرَاءَ يُغْنِهِمُ اللهُ مِنْ فَضْلِهِ} (24: 32) وَالْغَنِيُّ الْمُطْلَقُ هُوَ اللهُ تَعَالَى، وَكُلُّ عِبَادِهِ فَقِيرٌ إِلَيْهِ كَمَا قَالَ: {وَاللهُ الْغَنِيُّ وَأَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ} (47: 38) وَأَمَّا فَقْرُ النَّاسِ بَعْضِهِمْ إِلَى بَعْضٍ فَهُوَ أَمْرٌ نِسْبِيٌّ، فَمَا مِنْ غَنِيٍّ إِلَّا وَهُوَ مُفْتَقِرٌ إِلَى غَيْرِهِ مِمَّنْ فَوْقَهُ وَمِمَّنْ دُونَهُ أَيْضًا، وَلَكِنَّ ذِكْرَ الْفَقِيرِ فِي مُقَابَلَةِ الْغَنِيِّ أَوْ إِطْلَاقَ ذِكْرِهِ، يَدُلُّ عَلَى الْمُحْتَاجِ فِي مَعِيشَتِهِ إِلَى مُوَاسَاةِ غَيْرِهِ؛ لِعَدَمِ وُجُودِ مَا يَكْفِيهِ بِحَسَبِ حَالِهِ، وَيُطْلَقُ الْفَقِيرُ فِي اللُّغَةِ عَلَى الْكَسِيرِ الْفَقَارِ وَمَنْ يَشْتَكِي فَقَارَهُ- وَهِيَ جَمْعُ فَقْرَةٍ وَفَقَارَةٌ (بِفَتْحِهِمَا) عِظَامُ الظَّهْرِ الْمَنْضُودَةُ مِنْ لَدُنِ الْكَاهِلِ إِلَى عَجْبِ الذَّنَبِ فِي الصُّلْبِ- وَهَذَا هُوَ الْمَعْنَى الْأَصْلِيُّ، وَالْمَعْنَى الْأَوَّلُ مَأْخُوذٌ مِنْهُ، كَمَا قِيلَ: وَمِنْهُ الْفَاقِرَةُ وَهِيَ الدَّاهِيَةُ أَوِ الْمُصِيبَةُ الَّتِي تَكْسِرَ فَقَارَ الظَّهْرِ.
وَأَمَّا الْمِسْكِينُ فَمَأْخُوذٌ مِنْ مَادَّةِ السُّكُونِ الْمُرَادِ بِهِ قِلَّةُ الْحَرَكَةِ وَالِاضْطِرَابِ الْحِسِّيِّ مِنَ الضَّعْفِ وَالْعَجْزِ، أَوِ النَّفْسِيِّ مِنَ الْقَنَاعَةِ وَالصَّبْرِ، وَإِنَّمَا يُطْلَقُ عَلَى الْفَقِيرِ إِذَا كَانَ الْفَقْرُ سَبَبَ سُكُونِهِ.
قال فِي الصِّحَاحِ: الْمِسْكِينُ الْفَقِيرُ وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الذِّلَّةِ وَالضَّعْفِ. اهـ.
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّهُ الْفَقِيرُ الْقَانِعُ الَّذِي لَا يَسْأَلُ، وَقِيلَ خِلَافُ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى. وَقَالُوا: إِنَّ لَفْظَ الْمِسْكِينِ يُسْتَعْمَلُ بِمَعْنَى الذَّلِيلِ وَالضَّعِيفِ، وَبِمَعْنَى الْمُتَوَاضِعِ الْمُخْبِتِ، وَالْخَاشِعِ لِلَّهِ تَعَالَى، وَمُقَابِلُهُ الْجَعْظَرِيُّ الْجَوَّاظُ الْمُتَكَبِّرُ، وَيُقَالُ: سَكَنَ الرَّجُلُ وَتَسَكَّنَ وَتَمَسْكَنَ إِذَا صَارَ مِسْكِينًا. وَلَكِنَّ صِيغَةَ تَمَسْكَنَ يَدُلُّ عَلَى تَكَلُّفِ الْمَسْكَنَةِ وَمُحَاوَلَتِهَا بِالتَّخَلُّقِ وَالتَّعَوُّدِ. وَقَالَ اللِّحْيَانِيُّ: تَمَسْكَنَ لِرَبِّهِ: تَضَرَّعَ. وَفِي الْحَدِيثِ الْمَرْفُوعِ: «اللهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَتَوَفَّنِي مِسْكِينًا، وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ» رَوَاهُ ابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ-، وَصَحَّحَهُ وَأَقَرَّهُ الذَّهَبِيُّ وَلَكِنْ ضَعَّفَهُ النَّوَوِيُّ، وَرَوَاهُ التِّرْمِذِيُّ مِنْ حَدِيثِ أَنَسٍ بِسَنَدٍ ضَعِيفٍ. وَقَالَ ابْنُ الْجَوْزِيِّ: إِنَّهُ مَوْضُوعٌ وَخَطَّأَهُ السُّيُوطِيُّ، وَفِيهِ زِيَادَةٌ عِنْدَ الْحَاكِمِ، وَأُخْرَى عِنْدَ التِّرْمِذِيِّ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْهُ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ كَانَ يَسْتَعِيذُ بِاللهِ مِنَ الْفَقْرِ، وَقَدِ امْتَنَّ عَلَيْهِ رَبُّهُ بِقَوْلِهِ: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} (93: 8) فَلَا يُعْقَلُ هَذَا أَنْ يَسْأَلَهُ أَشَدَّ الْفَقْرِ، وَقَدْ عَاشَ صلى الله عليه وسلم مَكْفِيًّا وَمَاتَ مَكْفِيًّا.
وَقَالَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ: وَالْمِسْكِينُ مَنْ لَا شَيْءَ لَهُ أَوِ الْفَقِيرُ الْمُحْتَاجُ. وَالْمِسْكِينُ مَنْ أَذَلَّهُ الْفَقْرُ أَوْ غَيْرُهُ مِنَ الْأَحْوَالِ. اهـ.
قال شَارِحُهُ قَالَ ابْنُ عَرَفَةَ: فَإِذَا كَانَتْ مَسْكَنَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ حَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ، وَكَانَ فَقِيرًا مِسْكِينًا، وَإِذَا كَانَ مِسْكِينًا قَدْ أَذَلَّهُ سِوَى الْفَقْرِ فَالصَّدَقَةُ لَا تَحِلُّ لَهُ؛ إِذْ كَانَ شَائِعًا فِي اللُّغَةِ أَنْ يُقَالَ: ضُرِبَ فُلَانٌ الْمِسْكِينُ وَظُلِمَ الْمِسْكِينُ- وَهُوَ مِنْ أَهْلِ الثَّرْوَةِ وَالْيَسَارِ- وَإِنَّمَا لَحِقَهُ اسْمُ الْمِسْكِينِ مِنْ جِهَةِ الذِّلَّةِ، فَمَنْ لَمْ تَكُنْ مَسْكَنَتُهُ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ فَالصَّدَقَةُ عَلَيْهِ حَرَامٌ. اهـ.
فَعُلِمَ مِنْ هَذَا كُلِّهِ أَنَّ الْفَقِيرَ فِي اللُّغَةِ الْمُحْتَاجُ، وَهُوَ ضِدُّ الْغَنِيِّ أَيِ الْمَكْفِيِّ مَا يَحْتَاجُ إِلَيْهِ، مِنَ الْغَنَاءِ (بِالْفَتْحِ) وَهُوَ الْكِفَايَةُ، وَأَنَّ الْمِسْكِينَ وَصْفٌ مِنَ السُّكُونِ يُوصَفُ بِهِ الْفَقِيرُ وَغَيْرُهُ. وَقَدِ اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ فِيهِ: هَلْ هُوَ أَسْوَأُ حَالًا وَأَشَدُّ حَاجَةً مِنَ الْفَقِيرِ أَوْ أَحْسَنُ كَمَا تَقَدَّمَ؟ وَيُقَالُ فِي التَّرْجِيحِ بَيْنَ الْقَوْلَيْنِ زِيَادَةٌ عَمَّا قُلْنَاهُ فِي الْحَدِيثِ آنِفًا: إِمَّا أَنْ يَكُونَ الْمِسْكِينُ فِي الْآيَةِ صِنْفًا مُسْتَقِلًّا مُبَايِنًا لِلْفَقِيرِ، وَإِمَّا أَنْ يَكُونَ أَخَصَّ مِنْهُ؛ لِأَنَّ الْمَسْكَنَةَ فِيهِ وَصْفٌ لِلْفَقِيرِ، كَمَا ذَكَرَ الْوَجْهَيْنِ ابْنُ عَرَفَةَ وَغَيْرُهُ، فَإِنْ كَانَ صِنْفًا مُسْتَقِلًّا وَجَبَ أَنْ يَكُونَ غَيْرَ فَقِيرٍ؛ لِأَنَّ وَصْفَ الْمَسَكَنَةِ فِيهِ لَمْ يَكُنْ لَهُ بِسَبَبِ فَقْرِهِ بَلْ بِتَوَاضُعِهِ وَأَدَبِهِ مَثَلًا، كَمَا هُوَ الْمُرَادُ بِدُعَاءِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم الَّذِي ذَكَرْنَاهُ آنِفًا، فَكَيْفَ يَكُونُ أَسْوَأَ مِنَ الْفَقِيرِ فِي شِدَّةِ الْحَاجَةِ الَّتِي يَسْتَحِقُّ بِهَا الصَّدَقَةَ؟ وَإِنْ كَانَ أَخَصَّ مِنَ الْفَقِيرِ بِوَصْفِ الْمَسْكَنَةِ الَّتِي كَانَ سَبَبُهَا الْفَقْرَ، فَلَا يَظْهَرُ أَنْ يَكُونَ الْمُرَادُ بِهَا شِدَّةَ الْفَقْرِ وَسُوءَ الْحَالِ فِيهِ؛ لِأَنَّ ذِكْرَ الْفُقَرَاءِ فِي هَذِهِ الْحَالَةِ يُغْنِي عَنْ ذِكْرِ الْمَسَاكِينِ؛ لِأَنَّهُ يَشْمَلُهُمْ بِعُمُومِهِ لَهُمْ، وَيَكُونُ اسْتِحْقَاقُ الشَّدِيدِ الْفَقْرِ لِلصَّدَقَةِ أَوْلَى مِنِ اسْتِحْقَاقِ مَنْ دُونَهُ فِيهِ. فَلَا يَصِحُّ فِي الْكَلَامِ الْبَلِيغِ أَنْ يُقَالَ: أَعْطِ هَذِهِ الصَّدَقَةَ أَوْ أَطْعِمْ هَذَا الطَّعَامَ لِلْفُقَرَاءِ وَلِأَشَدِّ النَّاسِ فَقْرًا؛ لِأَنَّ ذِكْرَ أَشَدِّهِمْ فَقْرًا بَعْدَ ذِكْرِ الْفُقَرَاءِ يَكُونُ لَغْوًا، إِلَّا أَنْ يُرَادَ بِهِ الْإِضْرَابُ عَمَّا قَبْلَهُ، وَحِينَئِذٍ يُقَالُ: بَلْ لِأَشَدِّهِمْ فَقْرًا، وَلَا يَظْهَرُ هُنَا إِرَادَةُ التَّأْكِيدِ لِلِاهْتِمَامِ، فَتَرَجَّحَ أَوْ تَعَيَّنَ أَنْ يُرَادَ بِالْمَسَاكِينِ مَنْ جَعَلَتْهُمْ مَسْكَنَةُ الْفَقْرِ أَقَلَّ اضْطِرَابًا فِيهِ، وَأَكْثَرَ تَجَمُّلًا وَسُكُونًا لِخِفَّتِهِ عَلَيْهِمْ وَعَدَمِ وُصُولِهِ بِهِمْ إِلَى الدَّرَجَةِ الَّتِي لَا تُطَاقُ، وَلَا يُمْكِنُ إِخْفَاؤُهَا بِالتَّجَمُّلِ، وَلَا يُرَدُّ عَلَى هَذَا قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} (90: 16) لِأَنَّ شِدَّةَ الْحَاجَةِ الْمُلْصِقَةِ بِالتُّرَابِ لَا تُنَافِي التَّجَمُّلَ وَالتَّعَفُّفَ. وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا قَوْلُهُ صلى الله عليه وسلم: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ وَالتَّمْرَتَانِ، وَلَا اللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، إِنَّمَا الْمِسْكِينُ الَّذِي يَتَعَفَّفُ اقْرَؤُوا إِنْ شِئْتُمْ: {لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (2: 273) وَفِي لَفْظِ: «وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الَّذِي لَا يَجِدُ غِنًى يُغْنِيهِ، وَلَا يُفْطَنُ لَهُ فَيُتَصَدَّقُ عَلَيْهِ وَلَا يَقُومُ فَيَسْأَلُ النَّاسَ» وَالْحَدِيثُ بِلَفْظَيْهِ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ، وَهُوَ صَرِيحٌ فِيمَا اخْتَرْنَاهُ. وَإِنَّمَا أَطَلْنَا فِي الْمَسْأَلَةِ؛ لِتَفْنِيدِ مَا أَطَالَهُ فِيهَا كَثِيرٌ مِنَ الْمُقَلِّدِينَ.
فَالْفُقَرَاءُ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ هُمُ الْمُسْتَحِقُّونَ لَهَا بِفَقْرِهِمْ، كَمَا قَالَ فِي آيَةِ سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقَاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَإِنْ تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الْفُقَرَاءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ} (2: 271) و{لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللهِ لَا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيمَاهُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا} (2: 273) وَكَمَا قَالَ فِي مَالِ الْفَيْءِ مِنْ سُورَةِ الْحَشْرِ: {مَا أَفَاءَ اللهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ وَلِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ وَابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لَا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ} (59: 7) إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. ثُمَّ خَصَّ الْمَسَاكِينَ مِنَ الْفُقَرَاءِ بِالذِّكْرِ؛ لِأَنَّهُمْ رُبَّمَا لَا يُفْطَنُ لَهُمْ لِتَجَمُّلِهِمْ.
وَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لِمُعَاذٍ لَمَّا بَعَثَهُ إِلَى الْيَمَنِ وَالِيًا وَقَاضِيًا: «إِنَّكَ تَأْتِي قَوْمًا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ فَادْعُهُمْ إِلَى شَهَادَةِ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللهُ، وَأَنِّي رَسُولُ اللهِ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ خَمْسَ صَلَوَاتٍ فِي كُلِّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ فَأَعْلِمْهُمْ أَنَّ اللهَ قَدِ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ فِي فُقَرَائِهِمْ، فَإِنْ هُمْ أَطَاعُوكَ لِذَلِكَ فَإِيَّاكَ وَكَرَائِمَ أَمْوَالِهِمْ، وَاتَّقِ دَعْوَةَ الْمَظْلُومِ فَإِنَّهُ لَيْسَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ اللهِ حِجَابٌ» رَوَاهُ الْجَمَاعَةُ كُلُّهُمْ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ رضي الله عنه وَكَرَائِمُ أَمْوَالِ النَّاسِ خِيَارُهَا وَنَفَائِسُهَا الَّتِي تَضِنُّ النَّفْسُ بِهَا، فَلَا يَجُوزُ لِلْحُكَّامِ وَالْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ أَخْذُهَا فِي الصَّدَقَةِ لِتُعْطَى لِلْفُقَرَاءِ، وَلَا بِالرِّشْوَةِ الْمُحَرَّمَةِ بِالْأَوْلَى. وَالْمَسَاكِينُ يَدْخُلُونَ فِي عُمُومِ الْفُقَرَاءِ فِي هَذَا الْحَدِيثِ وَأَمْثَالِهِ كَالْآيَاتِ لُغَةً، وَحَيْثُ يُذْكَرُ الْمِسْكِينُ أَوِ الْمَسَاكِينُ فِي الْقُرْآنِ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ الْفُقَرَاءَ بِالتَّغْلِيبِ أَوْ بِطَرِيقِ الْأَوْلَى؛ إِذْ وَرَدَ ذَلِكَ فِي الْأَمْرِ بِالْإِحْسَانِ بِهِمْ، وَفِي كَفَّارَاتِ الظِّهَارِ وَالْيَمِينِ وَصَيْدِ الْحَرَمِ وَالْغَنَائِمِ وَصَدَقَةِ التَّطَوُّعِ، فَهُمَا صِنْفَانِ لِجِنْسٍ أَوْ نَوْعٍ وَاحِدٍ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ.
وَجُمْلَةُ الْقَوْلِ أَنَّ بَيْنَ الْفَقِيرِ وَالْمِسْكِينِ عُمُومًا وَخُصُوصًا وَجْهَيْنِ فِي اللُّغَةِ، وَعُمُومًا وَخُصُوصًا مُطْلَقًا فِي اسْتِعْمَالِ الشَّرْعِ لِلَفْظَيْنِ فِي آيَةِ الصَّدَقَاتِ الْجَامِعَةِ بَيْنَهُمَا، وَحَيْثُ يُذْكَرُ أَحَدُهَا وَحْدَهُ يُرَادُ بِهِ مَا يَعُمُّ الْآخَرَ، فَاللَّفْظَانِ مُخْتَلِفَانِ فِي مَفْهُومِهِمَا، مُتَّحِدَانِ فِيمَا يَصْدُقَانِ عَلَيْهِ، وَمَا يُعْطَاهُ الْفَقِيرُ وَالْمِسْكِينُ مِنَ الصَّدَقَةِ يَخْتَلِفُ بِاخْتِلَافِ الْأَحْوَالِ، وَمِقْدَارِ الْمَالِ، وَهُوَ خَاصٌّ بِالْمُسْلِمِينَ بِخِلَافِ صَدَقَةِ التَّطَوُّعِ.
{وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا} أَيِ: الَّذِينَ يُوَلِّيهِمُ الْإِمَامُ أَوْ نَائِبُهُ الْعَمَلَ عَلَى جَمْعِهَا مِنَ الْأَغْنِيَاءِ وَهُمُ الْجُبَاةُ، وَعَلَى حِفْظِهَا وَهُمُ الْخَزَنَةُ، وَكَذَا الرُّعَاةُ لِلْأَنْعَامِ مِنْهَا، وَالْكَتَبَةُ لِدِيوَانِهَا، وَيَجِبُ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُسْلِمِينَ، يُقَالُ: كَانَ فُلَانٌ عَامِلَ الْإِمَامِ أَوِ السُّلْطَانِ عَلَى بَلَدِ كَذَا أَوْ عَلَى الزَّكَاةِ أَوِ الْخَرَاجِ، وَفِي الْأَسَاسِ: وَيُقَالُ: مَنِ الَّذِي عُمِّلَ (بِالتَّشْدِيدِ وَالْبِنَاءِ لِلْمَفْعُولِ) عَلَيْكُمْ؟ أَيْ: نُصِّبَ عَامِلًا عَلَيْكُمُ. اهـ. وَقَالَ فِي أَوَّلِ الْمَادَّةِ: تَقُولُ: أَعْطِ الْعَامِلَ عُمَالَتَهُ، وَوَفِّهِ جُعَالَتَهُ، وَهُوَ بِالضَّمِّ فِيهِمَا جَزَاءُ الْعَمَلِ وَأُجْرَتُهُ الْمُعَيَّنَةُ. وَقَالَ الْجَوْهَرِيُّ: رِزْقُ الْعَامِلِ عَلَى عَمَلِهِ، وَلَا يُشْتَرَطُ فِي الْعَامِلِ عَلَى الصَّدَقَاتِ أَنْ يَكُونَ مُسْتَحِقًّا لِلصَّدَقَةِ بِفَقْرِهِ مَثَلًا، وَلَكِنْ إِنْ وُجِدَ مَنْ هُوَ أَهْلٌ لِلْعَمَلِ مِنَ الْمُسْتَحِقِّينَ يَكُونُ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، وَإِنَّمَا عُمَالَتُهُ عَلَى عَمَلِهِ لَا عَلَى فَقْرِهِ، فَإِنْ لَمْ تَكْفِهِ كَانَ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ بِفَقْرِهِ مَا يَأْخُذُهُ أَمْثَالُهُ، وَإِنْ كَانَتْ زَائِدَةً عَلَى حَاجَتِهِ أَوْ كَانَ غَيْرَ مُحْتَاجٍ فَلَهُ أَنْ يَأْكُلَ مِنْهَا وَيُهْدِيَ وَيَتَصَدَّقَ، وَقَدْ تَجِبُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِمَا يَأْخُذُهُ مِنْهَا بِشُرُوطِهَا مِنَ النِّصَابِ وَالْحَوْلِ، وَقَدْ يَسْتَغْنِي عَنْهُ فَيَسْقُطُ سَهْمُهُ.
وَلَا تَجُوزُ الْعُمَالَةُ لِمَنْ تَحْرُمُ عَلَيْهِمُ الصَّدَقَةُ مِنْ آلِ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم وَهُمْ بَنُو هَاشِمٍ بِالِاتِّفَاقِ، وَكَذَا بَنُو الْمُطَّلِبِ، وَدَلِيلُهُ أَنَّ الْفَضْلَ بْنَ عَبَّاسٍ وَالْمُطَّلِبَ بْنَ رَبِيعَةَ بْنِ عَبْدِ الْمُطَّلِبِ سَأَلَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يُؤَمِّرَهُمَا عَلَى الصَّدَقَاتِ بِالْعُمَالَةِ كَمَا يُؤَمِّرُ النَّاسَ، فَقَالَ لَهُمَا: «إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِمُحَمَّدٍ وَلَا لِآلِ مُحَمَّدٍ، إِنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ» وَفِي لَفْظٍ «لَا تَنْبَغِي» بَدَلُ «لَا تَحِلُّ» رَوَاهُ أَحْمَدُ وَمُسْلِمٌ.