فصل: (1) مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وَقَالَ الْآلُوسِيُّ فِي تَفْسِيرِ الْكَلِمَةِ عِنْدَ الْحَنَفِيَّةِ: أُرِيدَ بِذَلِكَ عِنْدَ أَبِي يُوسُفَ مُنْقَطِعُو الْغُزَاةِ وَالْحَجِيجِ. وَقِيلَ: الْمُرَادُ طَلَبَةُ الْعِلْمِ، وَاقْتَصَرَ عَلَيْهِ فِي الْفَتَاوَى الظَّهِيرِيَّةِ، وَفَسَّرَهُ فِي الْبَدَائِعِ بِجَمِيعِ الْقُرَبِ فَيَدْخُلُ فِيهِ كُلُّ سَعْيٍ فِي طَاعَةِ اللهِ وَسُبُلِ الْخَيْرَاتِ.
قال فِي الْبَحْرِ: وَلَا يَخْفَى أَنَّ قَيْدَ الْفَقْرِ لابد مِنْهُ عَلَى الْوُجُوهِ كُلِّهَا، فَحِينَئِذٍ لَا تَظْهَرُ ثَمَرَتُهُ فِي الزَّكَاةِ، وَإِنَّمَا تَظْهَرُ فِي الْوَصَايَا وَالْأَوْقَافِ. اهـ. وَنَقُولُ: إِنَّهُ بِهَذَا الْقَيْدِ أَبْطَلَ كَوْنَ سَبِيلِ اللهِ صِنْفًا مُسْتَقِلًّا إِذَا أَرْجَعَهُ إِلَى الصِّنْفِ الْأَوَّلِ وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ. اهـ.
وَقَالَ الْقَاضِي أَبُو بَكْرِ بْنُ الْعَرَبِيِّ الْمَالِكِيُّ فِي أَحْكَامِ الْقُرْآنِ: قَوْلُهُ: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} قَالَ مَالِكٌ: سُبُلُ اللهِ كَثِيرَةٌ، وَلَكِنِّي لَا أَعْلَمُ خِلَافًا فِي أَنَّ الْمُرَادَ بِسَبِيلِ اللهِ هُنَا الْغَزْوُ مِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللهِ (هَكَذَا) إِنَّ مَا يُؤْثَرُ عَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ فَإِنَّهُمَا قَالَا: إِنَّهُ الْحَجُّ. وَالَّذِي يَصِحُّ عِنْدِي مِنْ قَوْلِهِمَا أَنَّ الْحَجَّ مِنْ جُمْلَةِ السُّبُلِ مَعَ الْغَزْوِ؛ لِأَنَّهُ طَرِيقُ بِرٍّ فَأُعْطِي مِنْهُ بِاسْمِ السَّبِيلِ، وَهَذَا يَحِلُّ عَقْدَ الْبَابِ، وَيَخْرِمُ قَانُونَ الشَّرِيعَةِ، وَيَنْثُرُ سِلْكَ النَّظَرِ، وَمَا جَاءَ قَطُّ بِإِعْطَاءِ الزَّكَاةِ فِي الْحَجِّ أَثَرٌ. وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا: وَيُعْطَى مِنْهَا الْفَقِيرُ بِغَيْرِ خِلَافٍ؛ لِأَنَّهُ قَدْ سُمِّيَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، وَيُعْطَى الْغَنِيُّ عِنْدَ مَالِكٍ بِوَصْفِ سَبِيلِ اللهِ تَعَالَى كَانَ غَنِيًّا فِي بَلَدِهِ أَوْ فِي مَوْضِعِهِ الَّذِي يَأْخُذُ بِهِ، لَا يُلْتَفَتُ إِلَى غَيْرِ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ الَّذِي يُؤْثَرُ عَنْهُ.
قال النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا يُعْطَى الْغَازِي إِلَّا إِذَا كَانَ فَقِيرًا. وَهَذِهِ زِيَادَةٌ عَلَى النَّصِّ. وَعِنْدَهُ أَنَّ الزِّيَادَةَ عَلَى النَّصِّ نَسْخٌ وَلَا نَسْخَ فِي الْقُرْآنِ إِلَّا بِقُرْآنٍ مِثْلِهِ أَوْ بِخَبَرٍ مُتَوَاتِرٍ، وَقَدْ بَيَّنَا أَنَّهُ فَعَلَ مِثْلَ هَذَا فِي الْخُمُسِ فِي قَوْلِهِ: {وَلِذِي الْقُرْبَى} فَشَرَطَ فِي قَرَابَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْفَقْرَ، وَحِينَئِذٍ يُعْطَوْنَ مِنَ الْخُمُسِ، وَهَذَا كُلُّهُ ضَعِيفٌ حَسْبَمَا بَيَّنَّاهُ، وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ: يُعْطَى مِنَ الصَّدَقَةِ فِي الْكُرَاعِ وَالسِّلَاحِ، وَمَا يُحْتَاجُ إِلَيْهِ مِنْ آلَاتِ الْحَرْبِ، وَكَفِّ الْعَدُوِّ عَنِ الْحَوْزَةِ؛ لِأَنَّهُ كُلَّهُ مِنْ سَبِيلِ الْغَزْوِ وَمَنْفَعَتِهِ، وَقَدْ أَعْطَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم مِنَ الصَّدَقَةِ مِائَةَ نَاقَةٍ فِي نَازِلَةِ سَهْلِ بْنِ أَبِي حَتَمَةَ إِطْفَاءً لِلثَّائِرَةِ. اهـ.
وَمَا قَالَهُ مَالِكٌ وَابْنُ عَبْدِ الْحَكَمِ مِنْ أَصْحَابِهِ مِنَ التَّعْبِيرِ بِالْغَزْوِ بَدَلَ الْغُزَاةِ، وَمِنَ الصَّرْفِ فِي السِّلَاحِ وَالْكُرَاعِ إِلَخْ هُوَ الْحَقُّ الظَّاهِرُ مِنْ كَوْنِ هَذَا السَّهْمِ فِي الْمَصْلَحَةِ الْعَامَّةِ لَا لِأَشْخَاصِ الْغُزَاةِ.
وَقَالَ السَّيِّدُ حَسَن صِدِّيق فِي فَتْحِ الْبَيَانِ وَهُوَ عَلَى مَذْهَبِ أَهْلِ الْحَدِيثِ الْمُسْتَقِلِّينَ- بَعْدَ ذِكْرِ قَوْلِ الْجُمْهُورِ: إِنَّهُمُ الْغُزَاةُ وَالْمُرَابِطُونَ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَبَعْدَ ذِكْرِ الرِّوَايَةِ الْمُتَقَدِّمَةِ عَنِ ابْنِ عُمَرَ وَعَنْ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ مَا نَصُّهُ: وَقِيلَ إِنِ اللَّفْظَ عَامٌّ فَلَا يَجُوزُ قَصْرُهُ عَلَى نَوْعٍ خَاصٍّ، وَيَدْخُلُ فِيهِ جَمِيعُ وُجُوهِ الْخَيْرِ مِنْ تَكْفِينِ الْمَوْتَى وَبِنَاءِ الْجُسُورِ وَالْحُصُونِ وَعِمَارَةِ الْمَسَاجِدِ وَغَيْرِ ذَلِكَ، وَالْأَوَّلُ أَوْلَى لِإِجْمَاعِ الْجُمْهُورِ عَلَيْهِ. اهـ.
وَقَالَ فِي الرَّوْضَةِ النَّدِيَّةِ: وَمِنْ جُمْلَةِ سَبِيلِ اللهِ الصَّرْفُ فِي الْعُلَمَاءِ الَّذِينَ يَقُومُونَ بِمَصَالِحِ الْمُسْلِمِينَ الدِّينِيَّةِ، فَإِنَّ لَهُمْ فِي مَالِ اللهِ نَصِيبًا سَوَاءً كَانُوا أَغْنِيَاءَ أَوْ فُقَرَاءَ. بَلِ الصَّرْفُ فِي هَذِهِ الْجِهَةِ مِنْ أَهَمِّ الْأُمُورِ؛ لِأَنَّ الْعُلَمَاءَ وَرَثَةُ الْأَنْبِيَاءِ وَحَمَلَةُ الدِّينِ وَبِهِمْ تُحْفَظُ بَيْضَةُ الْإِسْلَامِ، وَشَرِيعَةُ سَيِّدِ الْأَنَامِ، وَقَدْ كَانَ عُلَمَاءُ الصَّحَابَةِ يَأْخُذُونَ مِنَ الْعَطَاءِ مَا يَقُومُ بِمَا يَحْتَاجُونَ إِلَيْهِ، مَعَ زِيَادَاتٍ كَثِيرَةٍ يَتَفَوَّضُونَ بِهَا فِي قَضَاءِ حَوَائِجِ مَنْ يَرِدُ عَلَيْهِمْ مِنَ الْفُقَرَاءِ وَغَيْرِهِمْ وَالْأَمْرُ فِي ذَلِكَ مَشْهُورٌ. وَمِنْهُمْ مَنْ كَانَ يَأْخُذُ زِيَادَةً عَلَى مِائَةِ أَلْفِ دِرْهَمٍ، وَمِنْ جُمْلَةِ الْأَمْوَالِ الَّتِي كَانَتْ تُفَرَّقُ بَيْنَ الْمُسْلِمِينَ عَلَى هَذِهِ الصِّفَةِ الزَّكَاةُ. وَقَدْ قَالَ صلى الله عليه وسلم لِعُمَرَ لَمَّا قَالَ لَهُ يُعْطَى مَنْ هُوَ أَحْوَجُ مِنْهُ: «مَا أَتَاكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ» كَمَا فِي الصَّحِيحِ وَالْأَمْرُ ظَاهِرٌ. اهـ.
أَقُولُ: مَا ذَكَرَهُ السَّيِّدُ رَحِمَهُ اللهُ تَعَالَى هُنَا غَيْرُ ظَاهِرٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، وَحَدِيثُ عُمَرَ رضي الله عنه يُفَسِّرُهُ حَدِيثُ ابْنُ السَّعْدِيِّ الَّذِي تَقَدَّمَ فِي بَحْثِ الْعَامِلِينَ عَلَى الصَّدَقَاتِ، وَهُوَ أَنَّهُ كَانَ عُمَالَةٌ كَمَا رَجَّحَهُ بَعْضُهُمْ، وَرَجَّحَ آخَرُونَ أَنَّ الْمُرَادَ بِهِ الْعَطَاءُ مِنْ بَيْتِ الْمَالِ كَالْغَنَائِمِ، وَفِيهِ: أَنَّ عُمَرَ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا كَمَا هُوَ مَعْرُوفٌ، وَلَفْظُ الْحَدِيثِ صَرِيحٌ فِيهِ. وَالْحَدِيثُ مُتَّفَقٌ عَلَيْهِ مِنْ حَدِيثِ ابْنِ عُمَرَ قَالَ: سَمِعْتُ عُمَرَ يَقُولُ: كَانَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم يُعْطِينِي الْعَطَاءَ فَأَقُولُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، فَقَالَ: «خُذْهُ، إِذَا جَاءَكَ مِنْ هَذَا الْمَالِ شَيْءٌ وَأَنْتَ غَيْرُ مُشْرِفٍ وَلَا سَائِلٍ فَخُذْهُ وَمَا لَا فَلَا تُتْبِعْهُ نَفْسَكَ».
قَالَ الْحَافِظُ فِي شَرْحِهِ مِنَ الْفَتْحِ: قَالَ الطَّحَاوِيُّ: لَيْسَ مَعْنَى هَذَا الْحَدِيثِ فِي الصَّدَقَاتِ، وَإِنَّمَا هُوَ فِي الْأَمْوَالِ الَّتِي يُقَسِّمُهَا الْإِمَامُ، وَلَيْسَتْ هِيَ مِنْ جِهَةِ الْفَقْرِ، وَلَكِنْ مِنَ الْحُقُوقِ، فَلَمَّا قَالَ عُمَرُ: أَعْطِهِ مَنْ هُوَ أَفْقَرُ إِلَيْهِ مِنِّي، لَمْ يَرْضَ بِذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا أَعْطَاهُ لِمَعْنًى غَيْرِ الْفَقْرِ.
قال: وَيُؤَيِّدُهُ قَوْلُهُ فِي رِوَايَةِ شُعَيْبٍ: «خُذْهُ فَتَمَوَّلْهُ» فَدَلَّ ذَلِكَ عَلَى أَنَّهُ لَيْسَ مِنَ الصَّدَقَاتِ.
وَقَالَ الطَّبَرِيُّ: اخْتَلَفُوا فِي قَوْلِهِ: «فَخُذْهُ» بَعْدَ إِجْمَاعِهِمْ عَلَى أَنَّهُ أَمْرُ نَدْبٍ، فَقِيلَ: هُوَ نَدْبٌ لِكُلِّ مَنْ أُعْطِيَ عَطِيَّةً أَبَى قَبُولَهَا كَائِنًا مَنْ كَانَ، وَهَذَا هُوَ الرَّاجِحُ، يَعْنِي بِالشَّرْطَيْنِ الْمُتَقَدِّمَيْنِ، وَقِيلَ: هُوَ مَخْصُوصٌ بِالسُّلْطَانِ، وَيُؤَيِّدُهُ حَدِيثُ سَمُرَةَ فِي السُّنَنِ «إِلَّا أَنْ يَسْأَلَ ذَا سُلْطَانٍ» وَكَانَ بَعْضُهُمْ يَقُولُ: يَحْرُمُ قَبُولُ الْعَطِيَّةِ مِنَ السُّلْطَانِ. وَبَعْضُهُمْ يَقُولُ: يُكْرَهُ، وَهُوَ مَحْمُولٌ عَلَى مَا إِذَا كَانَتِ الْعَطِيَّةُ مِنَ السُّلْطَانِ الْجَائِرِ، أَوِ الْكَرَاهَةُ مَحْمُولَةٌ عَلَى الْوَرَعِ وَهُوَ الْمَشْهُورُ مِنْ تَصَرُّفِ السَّلَفِ وَاللهُ أَعْلَمُ، وَالتَّحْقِيقُ فِي الْمَسْأَلَةِ أَنَّ مَنْ عُلِمَ كَوْنُ مَالِهِ حَلَالًا فَلَا تُرَدُّ عَطِيَّتُهُ، وَمَنْ عُلِمَ كَوْنُ مَالِهِ حَرَامًا فَتَحْرُمُ عَطِيَّتُهُ، وَمَنْ شُكَّ فِيهِ فَالِاحْتِيَاطُ رَدُّهُ وَهُوَ الْوَرَعُ، وَمَنْ أَبَاحَهُ أَخَذَ بِالْأَصْلِ.
قال ابْنُ الْمُنْذِرِ: وَاحْتَجَّ مَنْ رَخَّصَ فِيهِ بِأَنَّ اللهَ تَعَالَى قَالَ فِي الْيَهُودِ: {سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ} (5: 42) وَقَدْ رَهَنَ الشَّارِعُ دِرْعَهُ عِنْدَ يَهُودِيٍّ مَعَ عِلْمِهِ بِذَلِكَ، وَكَذَلِكَ أَخَذَ الْجِزْيَةَ مِنْهُمْ مَعَ الْعِلْمِ بِأَنَّ أَكْثَرَ أَمْوَالِهِمْ مِنْ ثَمَنِ الْخَمْرِ وَالْخِنْزِيرِ وَالْمُعَامَلَاتِ الْفَاسِدَةِ. وَفِي حَدِيثِ الْبَابِ: إِنَّ لِلْإِمَامِ أَنْ يُعْطِيَ بَعْضَ رَعِيَّتِهِ إِذَا رَأَى لِذَلِكَ وَجْهًا وَإِنْ كَانَ غَيْرُهُ أَحْوَجَ إِلَيْهِ مِنْهُ، وَأَنَّ رَدَّ عَطِيَّةِ الْإِمَامِ لَيْسَ مِنَ الْأَدَبِ، وَلَاسِيَّمَا مِنَ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم لِقوله تعالى: {وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ} (59: 7) الْآيَةَ. اهـ.
(أَقُولُ): إِنَّ بَعْضَ السَّلَفِ أَبَاحَ أَخْذَ مَالِ السَّلَاطِينِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا كَانَ بِحَقٍّ، وَإِنْ كَانَ أَصْلُهُ حَرَامًا، وَيَسْتَدِلُّونَ بِمَا قَالَهُ ابْنُ الْمُنْذِرِ وَبِغَيْرِهِ مِمَّا لَا مَحَلَّ لَهُ هُنَا. وَأَمَّا السُّنَّةُ فِي هَذَا السَّهْمِ فَقَدِ اسْتَدَلُّوا مِنْهَا بِأَحَادِيثَ (مِنْهَا) رَوَى أَبُو دَاوُدَ وَابْنُ مَاجَهْ وَالْحَاكِمُ وَصَحَّحَهُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ رضي الله عنه قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ رَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ غَارِمٍ، أَوْ غَازٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، أَوْ مِسْكِينٍ تُصُدِّقَ عَلَيْهِ مِنْهَا فَأَهْدَى لِغَنِيٍّ مِنْهَا وَرَوَاهُ مَالِكٌ فِي الْمُوَطَّأِ مِنْ مُرْسَلِ عَطَاءِ بْنِ يَسَارٍ وَهِيَ إِحْدَى رِوَايَتَيْ أَبِي دَاوُدَ. وَإِسْنَادُ مَنْ أَسْنَدَهُ زِيَادَةٌ يَجِبُ الْأَخْذُ بِهَا، وَقَدْ أَسْنَدَهُ مَعْمَرٌ وَسُفْيَانُ الثَّوْرِيُّ.
(وَمِنْهَا) مَا رَوَى أَحْمَدُ مِنْ حَدِيثِ أَبِي لَاسٍ الْخُزَاعِيِّ قَالَ: حَمَلَنَا رَسُولُ اللهِ عَلَى إِبِلٍ مِنَ الصَّدَقَةِ إِلَى الْحَجِّ- وَرُوِيَ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ الْأَسَدِيَّةِ أَنَّ زَوْجَهَا جَعَلَ بِكْرًا فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَنَّهَا أَرَادَتِ الْعُمْرَةَ فَسَأَلَتْ زَوْجَهَا الْبِكْرَ فَأَبَى، فَأَتَتِ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَذَكَرَتْ لَهُ ذَلِكَ فَأَمَرَهُ أَنْ يُعْطِيَهَا، وَقَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم الْحَجُّ وَالْعُمْرَةُ فِي سَبِيلِ اللهِ وَرَوَاهُ بِنَحْوِهِ أَصْحَابُ السُّنَنِ وَهُوَ ضَعِيفٌ، وَفِي إِسْنَادِهِ مَجْهُولٌ، وَيُعَارِضُهُ مَا رَوَاهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ طَرِيقِ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ عَنْ أُمِّ مَعْقِلٍ قَالَتْ: لَمَّا حَجَّ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم حَجَّةَ الْوَدَاعِ وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ فَجَعَلَهُ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَأَصَابَنَا مَرَضٌ وَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ وَخَرَجَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، فَلَمَّا فَرَغَ مِنْ حَجَّتِهِ جِئْتُهُ فَقَالَ: «يَا أَمَّ مَعْقِلٍ مَا مَنَعَكِ أَنْ تَخْرُجِي»؟ قَالَتْ: لَقَدْ تَهَيَّأْنَا فَهَلَكَ أَبُو مَعْقِلٍ، وَكَانَ لَنَا جَمَلٌ هُوَ الَّذِي يَحُجُّ عَلَيْهِ فَأَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ فِي سَبِيلِ اللهِ. فَقَالَ: «فَهَلَّا خَرَجْتِ عَلَيْهِ فَإِنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ»؟ وَهَذَا ضَعِيفٌ أَيْضًا، لَا لِلْخِلَافِ فِي ابْنِ إِسْحَاقَ بَلْ؛ لِأَنَّهُ مُدَلِّسٌ، وَقَدْ عَنْعَنَ هُنَا، وَمَنْ وَثَّقَهُ يَرُدُّونَ مَا عَنْعَنَ فِيهِ لِتَدْلِيسِهِ.
وَأَقُولُ: مِنْ جِهَةِ الْمَعْنَى- أَوَّلًا- أَنَّ جَعْلَ أَبِي مَعْقِلٍ جَمَلَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَوْ وَصِيَّتَهُ بِهِ صَدَقَةُ تَطَوُّعٍ، وَهِيَ لَا يُشْتَرَطُ فِيهَا أَنْ تُصْرَفَ فِي هَذِهِ الْأَصْنَافِ الَّتِي قَصَرَتْهَا عَلَيْهَا الْآيَةُ- وَثَانِيًا- أَنَّ حَجَّ امْرَأَتِهِ عَلَيْهِ لَيْسَ تَمْلِيكًا لَهَا يُخْرِجُ الْجَمَلَ عَنْ إِبْقَائِهِ عَلَى مَا أَوْصَى بِهِ أَبُو مَعْقِلٍ. وَيُقَالُ مِثْلُ هَذَا فِي حَدِيثِ أَبِي لَاسٍ- ثَالِثًا- أَنَّ الْحَجَّ مِنْ سَبِيلِ اللهِ بِالْمَعْنَى الْعَامِّ لِلَّفْظِ، وَالرَّاجِحُ الْمُخْتَارُ أَنَّهُ غَيْرُ مُرَادٍ فِي الْآيَةِ.
وَيَأْتِي هَاهُنَا تَحْرِيرُ الْمُرَادِ مِنْ هَذَا الْعُمُومِ: أَمَّا عُمُومُ مَدْلُولِ هَذَا اللَّفْظِ فَهُوَ يَشْمَلُ كُلَّ أَمْرٍ مَشْرُوعٍ أُرِيدَ بِهِ مَرْضَاةُ اللهِ تَعَالَى، بِإِعْلَاءِ كَلِمَتِهِ، وَإِقَامَةِ دِينِهِ، وَحُسْنِ عِبَادَتِهِ، وَمَنْفَعَةِ عِبَادِهِ، وَلَا يَدْخُلُ فِيهِ الْجَهْلُ بِالْمَالِ وَالنَّفْسِ، وَإِذَا كَانَ لِأَجْلِ الرِّيَاءِ وَالسُّمْعَةِ. وَهَذَا الْعُمُومُ لَمْ يَقُلْ بِهِ أَحَدٌ مِنَ السَّلَفِ، وَلَا مِنَ الْخَلَفِ، وَلَا يُمْكِنُ أَنْ يَكُونَ مُرَادًا هُنَا؛ لِأَنَّ الْإِخْلَاصَ الَّذِي يَكُونُ بِهِ الْعَمَلُ فِي سَبِيلِ اللهِ أَمْرٌ بَاطِنِيٌّ لَا يَعْلَمُهُ إِلَّا اللهُ تَعَالَى، فَلَا يُمْكِنُ أَنْ تُنَاطَ بِهِ حُقُوقٌ مَالِيَّةٌ دَوْلِيَّةٌ، وَإِذَا قِيلَ: إِنَّ الْأَصْلَ فِي كُلِّ طَاعَةٍ مِنَ الْمُؤْمِنِ أَنْ تَكُونَ لِوَجْهِ اللهِ تَعَالَى فَيُرَاعَى هَذَا فِي الْحُقُوقِ عَمَلًا بِالظَّاهِرِ، اقْتَضَى هَذَا أَنْ يَكُونَ كُلُّ مُصَلٍّ وَصَائِمٍ وَمُتَصَدِّقٍ وَتَالٍ لِلْقُرْآنِ وَذَاكِرٍ لِلَّهِ تَعَالَى وَمُمِيطٍ لِلْأَذَى عَنِ الطَّرِيقِ مُسْتَحِقًّا بِعَمَلِهِ هَذَا لِلزَّكَاةِ الشَّرْعِيَّةِ، فَيَجِبُ أَنْ يُعْطَى مِنْهَا، وَيَجُوزُ لَهُ أَنْ يَأْخُذَ وَإِنْ كَانَ غَنِيًّا، وَهَذَا مَمْنُوعٌ بِالْإِجْمَاعِ أَيْضًا، وَإِرَادَتُهُ تُنَافِي حَصْرَ الْمُسْتَحِقِّينَ لِلصَّدَقَاتِ فِي الْأَصْنَافِ الْمَنْصُوصَةِ؛ لِأَنَّ هَذَا الصِّنْفَ لَا حَدَّ لِجَمَاعَاتِهِ فَضْلًا عَنْ أَفْرَادِهِ، وَإِذَا وُكِّلَ أَمْرُهُ إِلَى السَّلَاطِينِ وَالْأُمَرَاءِ تَصَرَّفُوا فِيهِ بِأَهْوَائِهِمْ تَصَرُّفًا تَذْهَبُ بِهِ حِكْمَةُ فَرْضِيَّةِ الصَّدَقَةِ مِنْ أَصْلِهَا.
(فَإِنْ قِيلَ) نُخَصِّصُ الْعُمُومَ بِمَا رَوَاهُ أَحْمَدُ- وَقَالَ: مَا أَجْوَدَهُ مِنْ حَدِيثٍ- وَأَبُو دَاوُدَ وَالنَّسَائِيُّ بِأَسَانِيدَ صَحِيحَةٍ كَمَا قَالَ النَّوَوِيُّ عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَدِيِّ بْنِ الْخِيَارِ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم يَسْأَلَانِهِ مِنَ الصَّدَقَةِ، فَقَلَّبَ فِيهِمَا الْبَصَرَ، وَرَآهُمَا جَلْدَيْنِ فَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمَا أَعْطَيْتُكُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِقَوِيٍّ مُكْتَسِبٍ» وَبِحَدِيثِ أَبِي سَعِيدٍ الْمُتَقَدِّمِ آنِفًا (قُلْنَا): إِنَّ هَذَا لَيْسَ تَخْصِيصًا لِعُمُومِ «سَبِيلِ اللهِ».
وَالتَّحْقِيقُ: أَنَّ سَبِيلَ اللهِ هُنَا مَصَالِحُ الْمُسْلِمِينَ الْعَامَّةُ الَّتِي بِهَا قِوَامُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ دُونَ الْأَفْرَادِ، وَأَنَّ حَجَّ الْأَفْرَادِ لَيْسَ مِنْهَا؛ لِأَنَّهُ وَاجِبٌ عَلَى الْمُسْتَطِيعِ دُونَ غَيْرِهِ، وَهُوَ مِنَ الْفَرَائِضِ الْعَيْنِيَّةِ بِشَرْطِهِ كَالصَّلَاةِ وَالصِّيَامِ، لَا مِنَ الْمَصَالِحِ الدِّينِيَّةِ الدَّوْلِيَّةِ، وَسَيَأْتِي بَيَانُهُ بِشَيْءٍ مِنَ التَّفْصِيلِ، وَلَكِنَّ شَعِيرَةَ الْحَجِّ وَإِقَامَةَ الْأُمَّةِ لَهَا مِنْهَا، فَيَجُوزُ الصَّرْفُ مِنْ هَذَا السَّهْمِ عَلَى تَأْمِينِ طُرُقِ الْحَجِّ وَتَوْفِيرِ الْمَاءِ وَالْغِذَاءِ وَأَسْبَابِ الصِّحَّةِ لِلْحُجَّاجِ إِنْ لَمْ يُوجَدْ لِذَلِكَ مَصْرَفٌ آخَرُ.
{وَاِبْنِ السَّبِيلِ} اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّهُ الْمُنْقَطِعُ عَنْ بَلَدِهِ فِي سَفَرٍ لَا يَتَيَسَّرُ لَهُ فِيهِ شَيْءٌ مِنْ مَالِهِ إِنْ كَانَ لَهُ مَالٌ، فَهُوَ غَنِيٌّ فِي بَلَدِهِ، فَقِيرٌ فِي سَفَرِهِ، فَيُعْطَى لِفَقْرِهِ الْعَارِضِ مَا يَسْتَعِينُ بِهِ عَلَى الْعَوْدَةِ إِلَى بَلَدِهِ، وَهُوَ مِنْ عِنَايَةِ الْإِسْلَامِ بِالسِّيَاحَةِ بِالْإِعَانَةِ عَلَيْهَا، وَلَا يُعْرَفُ مِثْلُهُ فِي دِينٍ وَلَا شَرْعٍ آخَرَ- وَاشْتَرَطُوا أَنْ يَكُونَ سَفَرُهُ فِي طَاعَةٍ أَوْ فِي غَيْرِ مَعْصِيَةٍ عَلَى الْأَقَلِّ، وَلَكِنِ اخْتَلَفُوا فِي السَّفَرِ الْمُبَاحِ كَالتَّنَزُّهِ لَا الِاسْتِشْفَاءِ، وَإِنَّمَا أُخِذَ هَذَا الشَّرْطُ مِنْ قَوَاعِدِ الدِّينِ الْعَامَّةِ كَالتَّعَاوُنِ عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى، وَعَدَمِ التَّعَاوُنِ عَلَى الْإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ، وَمِنَ الطَّاعَةِ فِي السَّفَرِ كَوْنُهُ بِقَصْدِ مَا أَرْشَدَ إِلَيْهِ الْوَحْيُ مِنَ النَّظَرِ فِي آيَاتِ اللهِ وَسُنَنِهِ فِي الْأُمَمِ، كَمَا فَصَّلْنَاهُ فِي الْأَصْلَيْنِ 13 و14 مِنْ خُلَاصَةِ تَفْسِيرِ سُورَةِ الْأَنْعَامِ (ص77 ج8 ط الْهَيْئَةِ) وَقَلَّمَا يُوجَدُ غَنِيٌّ يُسَافِرُ فِي أَمْصَارِ الْحَضَارَةِ فِي هَذَا الْعَصْرِ لَا يَقْدِرُ عَلَى جَلْبِ الْمَالِ مِنْ بَلَدِهِ إِلَى بَلَدٍ آخَرَ.
{فَرِيضَةً مِنَ اللهِ} أَيْ: فَرَضَ اللهُ لَهُمْ ذَلِكَ، أَوْ هَذِهِ الصَّدَقَاتُ فَرِيضَةٌ مِنْهُ تَعَالَى فَلَيْسَ لِأَحَدٍ فِيهَا رَأْيٌ، أَوْ تَقْدِيرُ الْكَلَامِ: إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِمَنْ ذُكِرَ مِنْ أَصْنَافِ الْمُحْتَاجِينَ، وَفِيمَا ذُكِرَ مِنْ مَصَالِحِ الْأُمَّةِ حَالَ كَوْنِهَا مَفْرُوضَةً لَهُمْ مِنَ اللهِ تَعَالَى وَاللهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ عَلِيمٌ بِحَالِ عِبَادِهِ وَمَصَالِحِهِمْ، حَكِيمٌ فِيمَا يَشْرَعُهُ لَهُمْ، فَهُوَ لِتَطْهِيرِ أَنْفُسِهِمْ وَتَزْكِيَتِهَا، بِمَا يَحْمِلُ عَلَيْهَا مِنَ الْإِخْلَاصِ وَالشُّكْرِ لَهُ، وَإِرْضَائِهِ بِنَفْعِ عِبَادِهِ كَمَا قَالَ فِيمَا سَيَأْتِي فِي هَذِهِ السُّورَةِ: {خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا} (103) وَهُوَ حُجَّةٌ عَلَى نُفَاةِ الْمَصَالِحِ فِي أَفْعَالِ اللهِ وَأَحْكَامِهِ. هَذَا مَا فُتِحَ عَلَيْنَا فِي مَعْنَى الْآيَةِ، وَنُعَزِّزُهُ بِمَبَاحِثَ فِي نَظْمِهَا وَأَحْكَامِهَا وَحِكَمِهَا وَمَدَارِكِ الْأَئِمَّةِ، وَمَا تَقْتَضِيهِ مَصَالِحُ الْأُمَّةِ وَحَالَةُ هَذَا الْعَصْرِ فِيهَا فَنَقُولُ:

.(1) مَصَارِفُ الصَّدَقَاتِ:

قِسْمَانِ: أَشْخَاصٌ وَمَصَالِحُ: عُلِمَ مِمَّا تَقَدَّمَ أَنَّ مَصَارِفَ الصَّدَقَاتِ فِي الْآيَةِ قِسْمَانِ:
(أَحَدُهُمَا) أَصْنَافٌ مِنَ النَّاسِ يَمْلِكُونَهَا تَمْلِيكًا بِالْوَصْفِ الْمُقْتَضِي لِلتَّمْلِيكِ، وَعَبَّرَ عَنْهُ بِلَامِ الْمِلْكِ.
(وَثَانِيهِمَا) مَصَالِحُ عَامَّةٌ اجْتِمَاعِيَّةٌ وَدَوْلِيَّةٌ لَا يُقْصَدُ بِهَا أَشْخَاصٌ يَمْلِكُونَهَا بِصِفَةٍ قَائِمَةٍ فِيهِمْ وَعَبَّرَ عَنْهُ بِـ {فِي} الظَّرْفِيَّةِ وَهُوَ قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} وَقَوْلُهُ: {وَفِي سَبِيلِ اللهِ} وَالْأَوَّلُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ يَسْتَحِقُّونَهَا بِفَقْرِهِمْ مَا دَامُوا فُقَرَاءَ- وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا يَسْتَحِقُّونَهَا بِعَمَلِهِمْ وَإِنْ كَانُوا أَغْنِيَاءَ، وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يَسْتَحِقُّهَا مِنْهُمْ مَنْ ثَبَتَ عِنْدَ أُولِي الْأَمْرِ الْحَاجَةُ إِلَى تَأْلِيفِهِ، وَالْغَارِمُونَ بِقَدْرِ مَا يُخْرِجُهُمْ مِنْ غُرْمِهِمْ، وَابْنُ السَّبِيلِ بِقَدْرِ مَا يُسَاعِدُهُ عَلَى الْعَوْدِ إِلَى أَهْلِهِ وَمَالِهِ، وَهَذَا فِي مَعْنَى الْفَقِيرِ، وَلَكِنْ قَدْ يَكُونُ فَقْرُهُ عَارِضًا بِسَبَبِ السِّيَاحَةِ وَالْقِسْمُ الثَّانِي: فَكُّ الرِّقَابِ وَتَحْرِيرُهَا، وَهِيَ مَصْلَحَةٌ عَامَّةٌ فِي الْإِسْلَامِ، وَلَيْسَ فِيهَا تَمْلِيكٌ لِأَشْخَاصٍ مُعَيَّنِينَ بِوَصْفٍ فِيهَا- وَفِي سَبِيلِ اللهِ وَهُوَ يَشْمَلُ سَائِرَ الْمَصَالِحِ الشَّرْعِيَّةِ الْعَامَّةِ الَّتِي هِيَ مِلَاكُ أَمْرِ الدِّينِ وَالدَّوْلَةِ، وَأَوَّلُهَا وَأَوْلَاهَا بِالتَّقْدِيمِ الِاسْتِعْدَادُ لِلْحَرْبِ بِشِرَاءِ السِّلَاحِ، وَأَغْذِيَةِ الْجُنْدِ، وَأَدَوَاتٍ لِنَقْلِ وَتَجْهِيزِ الْغُزَاةِ، وَتَقَدَّمَ مِثْلُهُ عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَبْدِ الْحَكَمِ، وَلَكِنَّ الَّذِي يُجَهَّزُ بِهِ الْغَازِيَ يَعُودُ بَعْدَ الْحَرْبِ إِلَى بَيْتِ الْمَالِ إِنْ كَانَ مِمَّا يَبْقَى كَالسِّلَاحِ وَالْخَيْلِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُهُ دَائِمًا بِصِفَةِ الْغَزْوِ الَّتِي قَامَتْ بِهِ، بَلْ يَسْتَعْمِلُهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، وَيَبْقَى بَعْدَ زَوَالِ تِلْكَ الصِّفَةِ مِنْهُ فِي سَبِيلِ اللهِ، بِخِلَافِ الْفَقِيرِ وَالْعَامِلِ عَلَيْهَا وَالْغَارِمِ وَالْمُؤَلَّفِ وَابْنِ السَّبِيلِ فَإِنَّهُمْ لَا يَرُدُّونَ مَا أَخَذُوا بَعْدَ فَقْدِ الصِّفَةِ الَّتِي أَخَذُوهُ بِهَا، وَيَدْخُلُ فِي عُمُومِهِ إِنْشَاءُ الْمُسْتَشْفَيَاتِ الْعَسْكَرِيَّةِ، وَكَذَا الْخَيْرِيَّةُ الْعَامَّةُ، وَإِشْرَاعُ الطُّرُقِ وَتَعْبِيدُهَا، وَمَدُّ الْخُطُوطِ الْحَدِيدِيَّةِ الْعَسْكَرِيَّةِ لَا التِّجَارِيَّةِ، وَمِنْهَا بِنَاءُ الْبَوَارِجِ الْمُدَرَّعَةِ وَالْمَنَاطِيدِ وَالطَّيَّارَاتِ الْحَرْبِيَّةِ وَالْحُصُونِ وَالْخَنَادِقِ.