فصل: قال الشعراوي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأمّا ما يتعلّق بجعل الصدقات لهؤلاء الأصناف فبقطع النظر عن حمل اللام في قوله: {للفقراء} على معنى الملك أو الإستحقاق، فقد اختلف العلماء في استحقاق المستحقّين من هذه الصدقات هل يجب إعطاء كلّ صنف مقدارًا من الصدقات، وهل تجب التسوية بين الأصناف فيما يعطى كلّ صنف من مقدارها، والذي عليه جمهور العلماء أنّه لا يجب الإعطاء لجميع الأصناف، بل التوزيع موكول لاجتهاد وُلاَة الأمور يضعونها على حسب حاجة الأصناف وسعة الأموال، وهذا قول عمر بن الخطاب، وعلي، وحذيفةَ، وابن عباس، وسعيد بن جبير، وأبي العالية، والنخعي، والحسن، ومالك، وأبي حنيفة.
وعن مالك أنّ ذلك ممّا أجمع عليه الصحابة، قال ابن عبد البر: ولا نعلم مخالفًا في ذلك من الصحابة، وعن حذيفة.
إنّما ذكر الله هذه الأصناف لتُعرف وأيّ صنف أعطيْت منها أجزأك.
قال الطبري: الصدقة لسدّ خلّة المسلمين أو لسدّ خلّة الإسلام، وذلك مفهوم من مآخذ القرآن في بيان الأصناف وتعدادهم.
قلت وهذا الذي اختاره حذّاق النظّار من العلماء، مثل ابن العربي، وفخر الدين الرازي.
وذهب عكرمة، والزهري، وعمر بن عبد العزيز، والشافعي: إلى وجوب صرف الصدقات لجميع الأصناف الثمانية لكلّ صنف ثُمن الصدقات فإن انعدم أحد الأصناف قسمت الصدقات إلى كسور بعدد ما بقي من الأصناف.
واتّفقوا على أنّه لا يجب توزيع ما يعطى إلى أحد الأصناف على جميع أفراد ذلك الصنف.
وأمّا ما يرجع إلى تحقيق معاني الأصناف، وتحديد صفاتها: فالأظهر في تحقيق وصف الفقير والمسكين أنّه موكول إلى العرف، وأنّ الخصاصة متفاوتة وقد تقدّم آنفًا.
واختلف العلماء في ضبط المكاسب التي لا يكون صاحبها فقيرًا، واتّفقوا على أن دار السكنى والخادم لا يُعدَّاننِ مالًا يرفع عن صاحبه وصف الفقر.
وأمّا القدرة على التكسّب، فقيل: لا يعدّ القادر عليه فقيرًا ولا يستحقّ الصدقة بالفقر وبه قال الشافعي، وأبو ثور، وابن خويز منداد، ويحيى بن عُمر من المالكية.
ورويت في ذلك أحاديث رواها الدارقطني، والترمذي، وأبو داود.
وقيل: إذا كان قويًا ولا مال له جاز له أخذ الصدقة، وهو المنقول عن مالك واختاره الترمذي.
والكيا الطبري من الشافعية.
وأمّا العاملون عليها فهم يتعيّنون بتعيين الأمير، وعن ابن عمر يعطون على قدر عملهم من الأجرة.
وهو قول مالك وأبي حنيفة.
وأمّا المؤلفة قلوبهم فقد أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم عطايا متفاوتة من الصدقات وغيرها.
فأمّا الصدقات فلهم حقّ فيها بنصّ القرآن، وأما غير الصدقات فبفعل النبي صلى الله عليه وسلم واستمرّ عطاؤهم في خلافة أبي بكر، وزمنٍ من خلافة عمر، وكانوا يعطَون بالاجتهاد، ولم يكونوا يعيِّنون لهم ثُمن الصدقات ثم اختلف العلماء في استمرار هذا المصرف، وهي مسألة غريبة لأنّها مبنية على جواز النسخ بدليل العَقْل وقياس الاستنباط أي دون وجود أصل يقاس عليه نظيره وفي كونها مبنيّة على هذا الأصل نظر.
وإنّما بناؤها على أنّه إذا تعطّل المصرف فلِمَن يردّ سهمه وينبغي أن تقاس على حكم سهم من مات من أهل الحبس أنّ نصيبه يصير إلى بقية المحبس عليهم.
وفداء الأسرى من فك الرقاب على الأصحّ من المذهب، وهو لابن عبد الحكم، وابن حبيب، خلافًا لأصبغ، من المالكية.
وأما الغارمون فشرطهم أن لا يكون دينهم في معصية إلاّ أن يتوبوا.
والميت المدين الذي لا وفاء لدينه في تركته يُعدّ من الغارمين عند ابن حبيب، خلافًا لابن الموّاز.
وسبيل الله لم يُختلف أنّ الغزو هو المقصود، فيعطى الغزاة المحتاجون في بلد الغزو، وإن كانوا أغنياء في بلدهم، وأمّا الغزاة الأغنيَاء في بلد الغزو فالجمهور أنّهم يعطَون.
وبه قال مالك، والشافعي، وإسحاق، وقال أبو حنيفة: لا يعطون.
والحق أنّ سبيل الله يشمل شراء العُدّة للجهاد من سلاح، وخيل، ومراكب بحرية، ونوتيه، ومجانيق، وللحُملان، ولبناء الحصون، وحفر الخنادق، وللجواسيس الذين يأتون بأخبار العدوّ، قاله محمد بن عبد الحكم من المالكية ولم يُذكر أنّ له مخالفًا، وأشعر كلام القرطبي في التفسير أنّ قول ابن عبد الحكم مخالف لقول الجمهور.
وذهب بعض السلف أنّ الحجّ من سبيل الله يدخل في مصارف الصدقات، وروي عن ابن عمر، وأحمد، وإسحاق.
وهذا اجتهاد وتأويل، قال ابن العربي: وما جاء أثرٌ قطّ بإعطاء الزكاة في الحجّ.
وأما ابن السبيل فلم يُختلف في الغريب المحتاج في بلد غربته أنّه مراد ولو وجد من يسلفه، إذ ليس يلزمه أن يدخل نفسه تحتَ منّة.
واختلف في الغني: فالجمهور قالوا: لا يعطى؛ وهو قول مالك، وقال الشافعي وأصبغ: يعطى ولو كان غنيًا في بلد غربتِه.
وقوله: {فريضة من الله} منصوب على أنّه مصدر مؤكِّد لمصدر محذوف يدلّ عليه قوله: {إنما الصدقات} لأنّه يفيد معنى فَرضَ اللَّهُ أو أوجبَ، فأكّد بفريضة من لفظ المقدّر ومعناه.
والمقصود من هذا تعظيم شأن هذا الحكم والأمر بالوقوف عنده.
وجملة {والله عليم حكيم} تذييل إمّا أفاده الحصر بـ {إنّما} في قوله: {إنما الصدقات للفقراء والمساكين} إلخ، أي: والله عليم حكيم في قصر الصدقات على هؤلاء، أيْ أنّه صادر عن العليم الذي يعلم ما يناسب في الأحكام، والحكيممِ الذي أحكم الأشياء التي خلقها أو شرعها.
والواو اعتراضية لأنّ الاعتراض يكون في آخر الكلام على رأي المحقّقين. اهـ.

.قال الشعراوي:

{إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ وَالْعَامِلِينَ عَلَيْهَا}
وعندما تسمع كلمة {إِنَّمَا} فافهم أنه يُرَادُ بها القصر، فإن قلتَ إنما الرجل زيد، أي: أنك قصرت الرجولة على زيد. وإن قلتَ: إنما الكريم حاتم، تكون قد قصرت الكرم على حاتم. وقول الحق سبحانه وتعالى: {إِنَّمَا الصدقات} معناها: أن الصدقات محصورة في هؤلاء ولا تتعداهم.
فمن هم هؤلاء الذين حصر الحق سبحانه وتعالى فيهم الصدقة؟ وما المراد هنا بالصدقة؟ هل هي صدقة التطوع أو الزكاة؟
نقول: ما دام الحق سبحانه وتعالى قد حدد لها مصارف فهي الزكاة، ولسائل أن يسأل: لماذا لم يَقُل الحق سبحانه وتعالى الزكاة وقال الصدقة؟
ونقول: ألا ترى- في المجتمعات غير الإيمانية الملحدة- أن من الناس مَنْ يكفرون في إنشاء مؤسسات اجتماعية لرعاية الفقراء؟ إن عطف الإنسان على أخيه الإنسان هو أمر غريزي خلقه الله فينا جميعًا، ولذلك كان يجب أن نفهم أن الزكاة صدقة، ولو لم يشرعها الله لكان يجب أن يقدمها الإنسان لأخيه الإنسان. وحوادث الكون كلها تدل على صدق وصف الحق سبحانه وتعالى للزكاة بأنها صدقة؛ لأنها تأتي تطوعًا من غير المؤمن وغير الملتزم بالتشريع، ويحس القادر بالسعادة وهو يعطي لغير القادر، وعي غريزة وضعها الله في خلقه ليخفف من الشقاء في الكون.
وهنا يقول الحق: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاءِ والمساكين} وقد احتار العلماء في ذلك، فقال بعضهم: إن الفقير هو الذي لا يجد شيئًا فهو مُعدم. والمسكين هو من يملك شيئًا ولكنه لا يكفيه، وعلى هذا يكون المسكين أحسن حالًا من الفقير، واستندوا في ذلك إلى نص قرآني في قوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي البحر...} [الكهف: 79].
وما دام هؤلاء المساكين يملكون سفينة إذن فعندهم شيء يملكونه. ولكن العائد الذي تأتي به السفينة لا يكفيهم.
ولكن بعض العلماء قالوا عكس ذلك، ورأوا أن المسكين هو مَنْ لا يملك شيئًا مطلقًا، والفقير هو الذي يجد الكفاف. وعلى هذا يكون الفقير أحسن حالًا من المسكين، ولا أعتقد أن الدخول في هذا الجدل له فائدة؛ لأن الله أعطى الاثنين.. الفقير والمسكين. وكلمة فقير معناها الذي أتعبت الحياة فَقَار ظهره أي فقرات ظهره، وحاله يغني للتعبير عنه، والمسكين هو الذي أذهلته المسكنة.
ثم يأتي بعد ذلك: {والعاملين عَلَيْهَا} أي: الذين يقومون بجمع الصدقات ويأخذونها ممن يعطيها ويضعونها في بيت المال، ونلاحظ هنا أن {والعاملين عَلَيْهَا} جاءت مطلقة؛ فلم تحدد هل يستحق الصدقة مَنْ كان يجمعها وهو فقير، أو مَنْ كان يجمعها وهو غير محتاج. ونقول: إن جمع الصدقة عمل، ولو قلنا: إن غير المحتاج ويعمل في جمع الصدقة لا يجب أن يأخذ أجرًا، هنا يصبح عمله لونًا من التفضل، وما دام العمل تفضُّلًا فلن يكون بنفس الكفاءة التي يعمل بها، إذا كان العمل بالأجر.
وأيضًا حتى لا يُحرَم المجتمع من جامع صدقة ذكي نشيط؛ لأنه غير محتاج، ولكن نعطيه أجرًا ليكون مسئولًا عن عمله، والمسئولية لا تأتي إلا إذا ارتبطت بالأجر.
والعامل على جمع الصدقة إنما يعمل لصالح الدولة الإيمانية، فهو يجمع الصدقات ويعطيها للحاكم أو الوالي الذي يوزعها. وفي هذا مصلحة لمجتمع المسلمين كله. خصوصًا إن كانت الصدقة توزع من بيت المال فلا يتعالى أحد على أحد، ولا يذلك أحد أمام أحد، وفي هذا حفظ لكرتمة المؤمنين؛ لأن من يأخذ من غير بيت المال سيعاني من انكساره يده السُّفْلى.
ومن يعطي لغير بيت المال قد يكون في عطائه لون من تعالى صاحب اليد العليا، وكذلك فإن أولاد الفقير لن يروا أباهم وهو ذاهب إلى رجل غني ليأخذ منه الصدقة ويُصَاب بالذلة والانكسار. ولا يرى أولاد الغني هذا الفقير وهو يأتي إلى أبيهم ليأخذ منه الصدقة؛ فَيتعالَوْنَ على أبناء الفقير. فإن أخذ الفقراء الصدقة من بيت المال، كان ذلك صيانة لكرامة الجميع، وإن حدث خلال بين غني وفقير فلن يقول الغني للفقير: أنا أعطيك كذا وكذا، أو يقول أولاد الغني لأولاد الفقير: لولا أبونا لَمُتُمْ جوعًا.
إذن: فقد أراد الحق سبحانه بهذا النظام أن يمنع طغيان المعطي، ويمنع- أيضًا- ذلة السؤال، فالكل يذهب إلى بيت المال ليأخذ أو يعطي. وحين يذهب الفقير ليأخذ من بيت المال بأمر من الوالي فلا غضاضة؛ لأن كل المحكومين تحت ولايته مسؤولون منه.
ثم يأتي الحق إلى فئة أخرى فيقول: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} وهم من يريد الإسلام أن يستميلهم، أو على الأقل أن يكفوا آذاهم عن المسلمين. وكان المسلمون في الزمن الأول للإسلام ضعافًا لا يقدرون على حماية أنفسهم. وعندما أعز الله دولة المسلمين بالقوة والعزة والمكانة، منع الخليفة عمر بن الخطاب إعطاء المؤلفة قلوبهم نصيبًا من الزكاة؛ لأنه لم يجد أن قوة الإسلام تحتاج أحدًا غير صحيحي الإيمان؛ لذلك لم يدخلهم عمر بن الخطاب في فئات الزكاة.
وقول الحق سبحانه: {والمؤلفة قُلُوبُهُمْ} يثير سؤالًا: هل يُؤلَّف القلب؟. نقول: نعم، فالإحسان يؤلف قلب الإنسان السَّوي، وكذلك يؤلف جوارح الإنسان غير السوي، فلا يعتدى على من أحسن إليه باللسان أو باليد.
ثم يقول الحق سبحانه: {وَفِي الرقاب} ومعناها العبيد الذين أُسروا في حرب مشروعة. وكانت تصفية الرق من أهداف الإسلام؛ لذلك جعل من مصارف الزكاة تحرير العبيد. وبعض من الناس يدَّعون أن الإسلام جاء بالرق وأقره. ونقول: لم يأت الإسلام بالرق؛ لأن الرق كان موجودًا قبيل البعثة المحمدية، وجاء الإسلام بالعتق ليصفى الرق، فجعل من فَكِّ الرقبة كفارة لبعض الذنوب.
وجعل من مصارف الزكاة عتق العبيد. وقد نزل القرآن وقت أن كانت منابع الرق متعددة.
وكان من المعتاد في تلك الأيام أن المدين الذي يعجز عن سداد ما عليه من دَيْن، فالدائن يأخذه أو يأخذ أحد أبنائه كعبد له.
وإذا فُعلَتْ جناية، فالجاني يأخذ العفو من المجني عليه مقابل أن يعطيه أحد أولاده عبدًا. وإذا سُرِق شيء فإن السارق لا يعاقب، بل يعطي أحد أولاده عبدًا للمسروق منه. وكان الأقوياء يستعبدون الضعفاء؛ فيخطفون نساءهم وأولادهم بالقوة ويبيعونهم في سوق الرقيق، وهكذا كانت منابع الرق في العالم متعددة، ولا يوجد إلا مصرف واحد هو إرادة السيد؛ إن شاء حرر وإن شاء لم يحرر.
وقد كان الرق موجودًا في أوروبا وفي آسيا وفي أفريقيا ووُجِد أيضًا في أمريكا. إذن: كانت هناك منابع متعددة للرق؛ ومصرف واحد هو إرادة السيد، وقد كان الرق يتزايد، وجاء الإسلام والعالمُ غارق في الرق، لماذا؟
لأن الرق في ذلك الوقت كان يشبه حوضًا تصب فيه صنابير متعددة، وليس له إلا بالوعة واحدة. ولم يعالج الإسلام المسألة طفرة واحدة، شأن معظم تشريعات الله، ولكنه عالجها على مراحل، تمامًا كتحريم الخمر حين بدأ التحريم بالمنع عند الصلاة، فقال الحق سبحانه وتعالى: {تَقْرَبُواْ الصلاة وَأَنْتُمْ سكارى حتى تَعْلَمُواْ مَا تَقُولُونَ...} [النساء: 43] ثم حرمها تحرميًا قاطعًا.