فصل: مسألة (في أن مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسألة [في أن مَالَ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَيُجْمِعُ أَهْلُ السُّهْمَانِ أَنَهُمْ أَهْلُ حَاجَةٍ إِلَى مَالِهِمْ مِنْهَا وَأَسْبَابُ حَاجَتِهِمْ مُخْتَلِفَةٌ، وَكَذَلِكَ أَسْبَابُ اسْتِحْقَاقِهِمْ مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، مَالُ الصَّدَقَاتِ لَا يَنْصَرِفُ إِلَّا فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ إِلَّا أَنَّهَا ضَرْبَانِ: أَحَدُهُمَا: مَنْ يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا، وَهُمُ الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالْمُكَاتَبُونَ وَأَحَدُ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ الَّذِينَ أُذِنُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ وَبَنُو السَّبِيلِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: مَنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ وَهُمُ الْعَامِلُونَ عَلَيْهَا وَالْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ، وَأَحَدُ صِنْفَيِ الْغَارِمِينَ وَهُمُ الَّذِينَ أُذِنُوا فِي صَلَاحِ ذَاتِ الْبَيْنِ وَالْغُزَاةِ، فَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِهِ إِلَيْهَا لَمْ يَسْتَحِقَّهَا إِلَّا مَعَ الْفَقْرِ، وَلَمْ يُجْزِ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى. وَمَنْ دُفِعَتْ إِلَيْهِ لِحَاجَتِنَا إِلَيْهِ جَازَ أَنْ تُدْفَعَ إِلَيْهِ مَعَ الْغِنَى وَالْفَقْرِ، الزكاة ثُمَّ يَنْقَسِمُ جَمِيعُهُمْ ثَلَاثَةَ أَقْسَامٍ: فَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ، وَمِنْهُمْ مَنْ يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ، فَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْفُقَرَاءُ وَالْمَسَاكِينُ وَالْعَامِلُونَ عَلَيْهَا: لِأَنَّ السَّبَبَ الَّذِي بِهِ أَخَذُوا وَبِهِ اسْتَحَقُّوا هُوَ الْفَقْرُ وَالْمَسْكَنَةُ وَالْعَمَلُ وَذَلِكَ مُتَقَدِّمٌ عَلَى الْأَخْذِ، فَإِذَا قَبَضُوهَا فَقَدِ اسْتَقَرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهَا، فَلَا يَجُوزُ أَنْ تُسْتَرْجَعَ مِنْهُمْ وَإِنْ زَالَ سَبَبُ اسْتِحْقَاقِهِمْ.
وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا وَيَسْتَحِقُّهَا بِسَبَبٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ صِنْفَانِ: بَنُو السَّبِيلِ، وَالْغُزَاةُ. فَيَأْخُذُ ابْنُ السَّبِيلِ لِيَبْتَدِئَ سَفَرَهُ وَيَأْخُذُ الْغَازِي لِيَبْتَدِئَ جِهَادَهُ، فَإِذَا أَخَذُوا سَهْمَهُمْ مِنْهَا لَمْ يَسْتَقِرَّ مِلْكُهُمْ عَلَيْهِ إِلَّا أَنْ يُسَافِرَ ابْنُ السَّبِيلِ وَيُجَاهِدَ الْغَازِي فَيَسْتَقِرُّ حِينَئِذٍ مِلْكُهُمْ عَلَى مَا أَخَذُوا، فَإِنْ لَمْ يُسَافِرِ ابْنُ السَّبِيلِ وَلَمْ يُجَاهِدِ الْغَازِي اسْتَرْجَعَ مِنْهُمَا مَا أَخَذَاهُ لِفَقْدِ السَّبَبِ الَّذِي يُعْتَبَرُ بِهِ الْأَخْذُ وَالِاسْتِحْقَاقُ، وَأَمَّا الَّذِي يَأْخُذُهَا بِسَبَبٍ مُتَقَدِّمٍ وَاسْتِحْقَاقٍ مُسْتَحْدَثٍ فَهُمْ ثَلَاثَةُ أَصْنَافٍ: الْمُؤَلَّفَةُ قُلُوبُهُمْ يُدْفَعُ إِلَيْهِمْ لِتَغَيَّرَ نِيَّاتُهُمُ الْمُتَقَدِّمَةِ وَيَسْتَحِقُّونَهَا بِجِنْسِ نِيَّاتِهِمُ الْمُسْتَحْدَثَةِ، وَالْمُكَاتَبُونَ يَأْخُذُونَهَا لِلْبَاقِي عَلَيْهِمْ مِنْ أَمْوَالِ كِتَابَتِهِمْ وَيَسْتَحِقُّونَهَا بِمَا يَسْتَحْدِثُونَ مِنْ قَضَاءِ دُيُونِهِمْ وَزَوَالِ غُرْمِهِمْ، فَهَؤُلَاءِ إِنْ حَدَثَ مِنْهُمْ بَعْدَ أَخْذِهَا مَا بِهِ يَسْتَقِرُّ الِاسْتِحْقَاقُ مِنْ حُسْنِ نِيَّاتِ الْمُؤَلَّفَةِ وَعِتْقِ الْمُكَاتَبِينَ بِالْأَدَاءِ وَقَضَاءِ دُيُونِ الْغَارِمِينَ بِالْقَضَاءِ، فَلَا يَجُوزُ الرُّجُوعُ عَلَيْهِمْ بِشَيْءٍ مِنْهَا؛ لِاسْتِقْرَارِ الِاسْتِحْقَاقِ، وَالْحَادِثُ بَعْدَ الْأَخْذِ بِالسَّبَبِ الْمُتَقَدِّمِ، وَإِنْ لَمْ يَحْدُثْ مِنْهُمْ بَعْدَ الْأَخْذِ مَا يَسْتَقِرُّ بِهِ الِاسْتِحْقَاقُ فَلَمْ يَحْسُنْ بِهِ نِيَّاتُ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَلَمْ يُؤَدِّ الْمُكَاتَبُونَ ذَلِكَ فِي عِتْقِهِمْ وَلَا قَضَاهُ الْغَارِمُونَ فِي دُيُونِهِمْ، فَهَذَا يُنْظَرُ، فَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ بَاقِيًا وَهُوَ بَقَاءُ الْكِتَابَةِ عَلَى الْمُكَاتَبِينَ، وَبَقَاءُ الدَّيْنِ عَلَى الْغَارِمِينَ لَمْ يُسْتَرْجَعْ ذَلِكَ مِنْهُمْ: لِأَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُسْتَأْنَفَ دَفْعُهَا إِلَيْهِمْ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُسْتَرْجَعَ الْمُتَقَدِّمُ مِنْهُمْ. وَكَذَلِكَ الْمُؤَلَّفَةُ: لِأَنَّ ضَعْفَ نِيَّاتِهِمُ الَّتِي قُصِدُوا لَهُ بِتَآلُفِهِمْ بَاقٍ يَقْتَضِي اسْتِئْنَافَ الْعَطَاءِ، فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يُعَارَضَ بِالِاسْتِرْجَاعِ الْمُنْكَرِ، وَإِنْ كَانَ سَبَبُ الْأَخْذِ قَدْ زَالَ مَعَ بَقَاءِ الصَّدَقَةِ بِأَيْدِيهِمْ كَعِتْقِ الْمُكَاتَبِ تَبَرُّعًا، أَوْ بِأَدَاءِ مَنْ كَسَبَ وَزَالَ الْغُرْمُ بِإِبْرَاءٍ أَوْ بِقَضَاءٍ مِنْ كَسْبٍ اسْتُرْجِعَتْ مِنْهُمْ: لِأَنَّ سَبَبَ الِاسْتِحْقَاقِ لَمْ يُوجَدْ.

.مسألة [في تحديد المراد بالفقر والمسكنة]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: فَإِذَا اجْتَمَعُوا فَالْفُقَرَاءُ الزَّمْنَى الضِّعَافُ الَّذِينَ لَا حِرْفَةَ لَهُمْ، وَأَهْلُ الْحِرْفَةِ الضَّعِيفَةِ الَّذِينَ لَا تَقَعُ فِي حِرْفَتِهِمْ مَوْقِعًا مِنْ حَاجَتِهِمْ وَلَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ. (وَقَالَ) وَفِي الْجَدِيدِ زَمِنًا كَانَ أَوْلَى أَوْ غَيْرَ زَمِنٍ سَائِلًا أَوْ مُتَعَفِّفًا (قَالَ الشَّافِعِيُّ) وَالْمَسَاكِينُ السُّؤَّالُ، وَمَنْ لَا يَسْأَلُ مِمَّنْ لَهُ حِرْفَةٌ لَا تَقَعُ مِنْهُ مَوْقِعًا وَلَا تُغْنِيهِ وَلَا عِيَالَهُ. وَقَالَ فِي الْجَدِيدِ سَائِلًا كَانَ أَوْ غَيْرَ سَائِلٍ (قَالَ الْمُزَنِيُّ) أَشْبَهُ بِقَوْلِهِ مَا قَالَهُ فِي الْجَدِيدِ: لِأَنَّهُ قَالَ: لِأَنَّ أَهْلَ هَذَيْنِ السَّهْمَيْنِ يَسْتَحِقُّونَهُمَا بِمَعْنَى الْعَدَمِ، وَقَدْ يَكُونُ السَّائِلُ بَيْنَ مَنْ يَقِلُّ مُعْطِيهِمْ وَصَالِحٌ مُتَعَفِّفٌ بَيْنَ مَنْ يُبْدُونَهُ بِعَطِيَّتِهِمْ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: اعْلَمْ أَنَّ الْفَقْرَ وَالْمَسْكَنَةَ ما المراد بهما؟ اسْمَانِ يَشْتَرِكَانِ مِنْ وَجْهٍ وَيَفْتَرِقَانِ مِنْ وَجْهٍ، فَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَشْتَرِكَانِ فِيهِ فَهُوَ الضَّعْفُ، وَأَنَّ كُلَّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا إِذَا أُفْرِدَ بِالذِّكْرِ شَارَكَهُ الْآخَرُ فِيهِ حَتَّى لَوْ وَصَّى بِثُلُثِ مَالِهِ لِلْفُقَرَاءِ شَارَكَهُمُ الْمَسَاكِينُ، وَلَوْ وَصَّى بِهِ لِلْمَسَاكِينِ شَارَكَهُمُ الْفُقَرَاءُ. وَأَمَّا الْوَجْهُ الَّذِي يَفْتَرِقَانِ فِيهِ فَهُوَ أَنَّهُ إِذَا جَمَعَ بَيْنَهُمَا تَمَيَّزَا، ثُمَّ اخْتُلِفَ فِي تَمَيُّزِهِمَا عِنْدَ الِاجْتِمَاعِ هَلْ يَكُونُ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الْحَاجَةِ، أَوْ بِاخْتِلَافِهِمَا فِي الصِّفَةِ؟ الفقير والمسكين فَذَهَبَتْ طَائِفَةٌ إِلَى تَمَيُّزِهَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الصِّفَةِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ، وَمَنْ قَالَ بِهَذَا اخْتَلَفُوا فِي الصِّفَةِ الَّتِي بِهَا وَقَعَ التَّمْيِيزُ بَيْنَهُمَا عَلَى أَرْبَعَةِ أَقَاوِيلَ: أَحَدُهَا: أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ الْمُحْتَاجُ الْمُتَعَفِّفُ عَنِ السُّؤَالِ وَالْمِسْكِينَ هُوَ الْمُحْتَاجُ السَّائِلُ، وَهَذَا قَوْلُ ابْنِ عَبَّاسٍ وَالْحَسَنِ وَالزُّهْرِيِّ. وَالثَّانِي: أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ ذُو الزَّمَانَةِ، وَالْمِسْكِينَ هُوَ الصَّحِيحُ الْجِسْمِ مِنْ أَهْلِ الْحَاجَةِ، وَهَذَا قَوْلُ قَتَادَةَ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْفُقَرَاءَ هُمُ الْمُهَاجِرُونَ وَالْمَسَاكِينَ غَيْرُ الْمُهَاجِرِينَ، وَهَذَا قَوْلُ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ وَإِبْرَاهِيمَ النَّخَعِيِّ. وَالرَّابِعُ: أَنَّ الْفُقَرَاءَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ وَالْمَسَاكِينَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ، وَهَذَا قَوْلُ عِكْرِمَةَ. وَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ وَأَبُو حَنِيفَةَ وَجُمْهُورُ الْفُقَهَاءِ إِلَى أَنَّ تَمْيِيزَهُمَا بِالِاخْتِلَافِ فِي الضَّعْفِ وَالْحَاجَةِ وَإِنْ تَسَاوَيَا فِي الصِّفَةِ، وَأَنَّ أَحَدَهُمَا أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْآخَرِ، فَبِذَلِكَ تَمَيَّزَ عَنْهُ، ثُمَّ اخْتَلَفُوا فِي أَيِّهِمَا أَسْوَأُ حَالًا الْفَقِيرُ أَوِ الْمِسْكِينُ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّ الْفَقِيرَ هُوَ أَسْوَأُهُمَا حَالًا وَهُوَ الَّذِي لَا شَيْءَ لَهُ، أَوْ لَهُ يَسِيرٌ تَافِهٌ لَا يُؤَثِّرُ فِي قَدَرِ حَاجَتِهِ. وَالْمِسْكِينُ: هُوَ الَّذِي لَهُ مَا يُؤَثِّرُ فِي حَاجَتِهِ وَيَقْتَصِرُ عَلَى كِفَايَتِهِ، فَإِذَا كَانَتْ كِفَايَةُ الْوَاحِدِ عَشَرَةً، فَإِنْ وَجَدَهَا فَلَيْسَ بِمِسْكِينٍ وَلَا فَقِيرٍ، وَإِنْ عَدِمَهَا أَوْ وَجَدَ أَقَلَّهَا كَانَ فَقِيرًا، وَإِنْ وَجَدَ أَكْثَرَهَا كَانَ مِسْكِينًا وَهَذَا فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْأَصْمَعِيِّ، وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: الْمِسْكِينُ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ، فَالْمِسْكِينُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْفَقِيرِ عِنْدَنَا وَالْفَقِيرُ عِنْدَهُ عَلَى صِفَةِ الْمِسْكِينِ عِنْدَنَا، وَهُوَ فِي أَهْلِ اللُّغَةِ قَوْلُ الْفَرَّاءِ وَثَعْلَبٍ وَاخْتَارَهُ أَبُو إِسْحَاقَ الْمَرْوَزِيُّ مِنْ أَصْحَابِنَا اسْتِدْلَالًا بِقوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [الْبَلَدِ: 16] أَيْ مُلْصَقًا بِالتُّرَابِ لِضُرِّهِ وَعُرْيِهِ؛ وَلَيْسَ أَحَدٌ أَسْوَأَ حَالًا مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْفَقِيرِ وَبِقوله تعالى: {وَآتَى الْمَالَ عَلَى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينَ وَابْنَ السَّبِيلِ وَالسَّائِلِينَ} [الْبَقَرَةِ: 177] وَالسَّائِلُ أَحْسَنُ حَالًا فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَسْوَأُ حَالًا، وَلِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى خَصَّ بِمَصْرِفِ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ مِنْ ذَوِي الْحَاجَاتِ مِنَ الْقُرَبِ وَالْكَفَّارَاتِ عَلَى الْمَسَاكِينِ دُونَ الْفُقَرَاءِ، فَدَلَّ تَخْصِيصُهُمْ بِالذِّكْرِ عَلَى اخْتِصَاصِهِمْ بِسُوءِ الْحَالَةِ.
قَالُوا: وَقَدْ حُكِيَ عَنْ يُونُسَ قَالَ: قُلْتُ لِأَعْرَابِيٍّ أَمِسْكِينٌ أَنْتَ؟ فَقَالَ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ، بَلْ فَقِيرٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَحْسَنُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ: لِأَنَّ الْحَمْدَ يَكُونُ عَلَى أَحْسَنِ الْحَالَيْنِ وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا أَيْضًا قَوْلُ:
أَمَّا الْفَقِيرُ الَّذِي كَانَتْ حَلُوبَتُهُ ** وَفْقَ الْعِيَالِ فَلَمْ يَتْرُكْ لَهُ سِيدُ

فَسَمَّاهُ فَقِيرًا وَلَهُ حَلُوبَةٌ هِيَ وَفْقَ عِيَالِهِ.
وَدَلِيلُنَا قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التَّوْبَةِ: 60] فَبَدَأَ بِذَوِي الْحَاجَاتِ بِالْفُقَرَاءِ وَالْبِدَايَةُ تَكُونُ بِالْأَهَمِّ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ الْفَقْرُ أَسْوَأَ حَالًا وَقَالَ تَعَالَى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فَاطِرٍ: 15] وَلَمْ يَقُلِ الْمَسَاكِينُ؛ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَمَسَّ حَاجَةً وَأَسْوَأَ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ وَقَالَ تَعَالَى: {أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ} [الْكَهْفِ: 79] فَسَمَّاهُمْ مَسَاكِينَ وَلَهُمْ سَفِينَةٌ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا. وَرَوَى أَبُو زُهْرَةَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي تَرُدُّهُ التَّمْرَةُ والتَّمْرَتَانِ وَاللُّقْمَةُ وَاللُّقْمَتَانِ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْمُتَعَفِّفُ، اقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ لَا يَسْأَلُونَ النَّاسَ إِلْحَافًا، فَكَانَ هَذَا نَصًّا فِي أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا. وَرَوَى أَنَسُ بْنُ مَالِكٍ أَنَّ النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم قَالَ: كَادَ الْفَقْرُ أَنْ يَكُونَ كُفْرًا، وَكَادَ الْحَسَدُ أَنْ يَغْلِبَ الْقَدَرَ، فَكَانَ هَذَا نَصًّا عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: اللَّهُمَّ أَحْيِنِي مِسْكِينًا وَأَمِتْنِي مِسْكِينًا وَاحْشُرْنِي فِي زُمْرَةِ الْمَسَاكِينِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْمِسْكِينَ أَحْسَنُ حَالًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: أَنَّهُ كَانَ يَتَعَوَّذُ مِنَ الْفَقْرِ اللَّازِبِ، يَعْنِي: اللَّازِمَ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا. وَرُوِيَ عَنْ عُمَرَ بْنَ الْخَطَّابِ رضي الله عنه أَنَّهُ قَالَ: لَيْسَ الْمِسْكِينُ الَّذِي لَا مَالَ لَهُ، وَلَكِنَّ الْمِسْكِينَ الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ قَالَ ابْنُ عُلَيَّةَ: الْأَخْلَقُ الْكَسْبِ: الْمُحَارِفُ؛ وَلِأَنَّ فِي اشْتِقَاقِ الْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ دَلِيلًا عَلَى أَنَّ الْفَقْرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمَسْكَنَةِ. أَمَّا الْفَقْرُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهِ فَقَالَ قَوْمٌ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنِ انْكِسَارِ الْفَقَارِ وَهُوَ الظَّهْرُ الَّذِي لَا تَبْقَى مَعَهُ قُدْرَةٌ. وَقَالَ آخَرُونَ: هُوَ مُشْتَقٌّ مِنَ الْفَاقَةِ وَمِنْ قوله تعالى: {تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِهَا فَاقِرَةٌ} [الْقِيَامَةِ: 25] وَفِيهَا ثَلَاثَةُ تَأْوِيلَاتٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّهَا الْفَاقِرَةُ الدَّاهِيَةُ الْعُظْمَى، وَهُوَ قَوْلُ مُجَاهِدٍ. وَالثَّانِي: أَنَّهَا الْهَلَاكُ الْمُسْتَأْصِلُ، وَهُوَ قَوْلُ السُّدِّيِّ. وَالثَّالِثُ: أَنَّهُ الشَّرُّ الْمُحَلَّى، وَهُوَ قَوْلُ قَتَادَةَ؛ وَعَلَى أَيِّ التَّأْوِيلَاتِ كَانَ فَهُوَ لِلْمُبَالَغَةِ فِي سُوءِ الْحَالِ. وَأَمَّا الْمَسْكَنَةُ فَقَدِ اخْتُلِفَ فِي اشْتِقَاقِهَا فَقَالَ قَوْمٌ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ الْتَمَسْكُنِ وَهُوَ الْخُضُوعُ، وَقَالَ آخَرُونَ: هِيَ مُشْتَقَّةٌ مِنَ السُّكُونِ: لِأَنَّ الْمِسْكِينَ مَا يُسْكَنُ إِلَيْهِ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا، وَلِأَنَّ شَوَاهِدَ أَشْعَارِ الْعَرَبِ تَدُلُّ عَلَى ذَلِكَ، أَنْشَدَ ابْنُ الْأَعْرَابِيِّ لِبَعْضِ الْعَرَبِ:
هَلْ لَكَ فِي أَجْرٍ عَظِيمٍ تُؤْجَرُهْ ** تُغِيثُ مِسْكِينًا قَلِيلًا عَسْكَرُهْ

عَشْرُ شِيَاهٍ سَمْعُهُ وَبَصَرُهْ ** قَدْ حَدَّثَ النَّفْسَ بِمِصْرٍ يَحْضُرُهْ

فَسَمَّاهُ مِسْكِينًا وَلَهُ عَشْرُ شِيَاهٍ، فَدَلَّ عَلَى أَنَّ لِلْمِسْكِينِ مَالًا وَأَنَّهُ أَحْسَنُ حَالًا.
وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قوله تعالى: {أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ} [الْبَلَدِ: 16] فَهُوَ أَنَّ الْمُرَادَ بِالْمِسْكِينِ هَاهُنَا الْفَقِيرُ: لِأَنَّهُ لَمْ يُطْلِقْ ذِكْرَهُ، وَلَكِنْ قَيَّدَهُ بِصِفَاتِ الْفُقَرَاءِ، وَقَدْ يَنْطَلِقُ اسْمُ الْمِسْكِينِ عَلَى الْفَقِيرِ كَمَا ذَكَرْنَا، وَإِنَّمَا كَلَامُنَا فِي الْمِسْكِينِ الَّذِي قَدْ أُطْلِقَتْ صِفَتُهُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ الْأُخْرَى فَهُوَ أَنَّ السَّائِلَ لَا يَكُونُ أَحْسَنَ حَالًا مِنَ الْمُتَعَفِّفِ: لِأَنَّهُ قَدْ يَسْأَلُ فَيُحْرَمُ وَيَتَعَفَّفُ فَيُعْطَى. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِ الْأَعْرَابِيِّ: لَا وَالْحَمْدُ لِلَّهِ أَنَا فَقِيرٌ، فَهُوَ إِذًا أَبَانَ بِذَلِكَ مَنْزِلَتَهُ فِي الشُّكْرِ مَعَ شِدَّةِ الضُّرِّ. وَأَمَّا الشِّعْرُ فَلَا دَلِيلَ فِيهِ: لِأَنَّهُ بَعْدَ أَخْذِ الْحَلُوبَةِ سَمَّاهُ فَقِيرًا حِينَ لَمْ يَتْرُكْ لَهُ سِيدٌ، فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ الْفَقِيرَ أَسْوَأُ حَالًا مِنَ الْمِسْكِينِ فَقَدْ يَكُونُ الْفَقِيرُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ، وَقَدْ يَكُونُ الْمِسْكِينُ سَائِلًا وَغَيْرَ سَائِلٍ، وَهُوَ مَعْنَى قَوْلِ الشَّافِعِيِّ فِي الْجَدِيدِ وَالْقَدِيمِ مِنَ التَّسْوِيَةِ فَظَنَّ الْمُزَنِيُّ أَنَّ قَوْلَهُ قَدِ اخْتُلِفَ فِيهِ فَجَعَلَ الْجَدِيدَ أَوْلَى وَلَيْسَ كَمَا ظَنَّ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.

.مسألة [فيمن يكتسب بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ- رَحِمَهُ اللَّهُ-: فَإِنْ كَانَ رَجُلٌ جَلْدٌ، يَعْلَمُ الْوَالِي أَنَّهُ صَحِيحٌ مُكْتَسِبٌ، يُغْنِي عِيَالَهُ أَوْ لَا عِيَالَ لَهُ يُغْنِي نَفْسَهُ بِكَسْبِهِ لَمْ يُعْطِهِ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، الْمُكْتَسِبُ بِصَنْعَتِهِ قَدْرَ كِفَايَتِهِ وَكِفَايَةِ عِيَالِهِ لَا يَكُونُ فَقِيرًا وَتَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ وَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ مَالٌ. وَقَالَ أَبُو حَنِيفَةَ: لَا تَحْرُمُ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا حَتَّى يَمْلِكَ نِصَابًا تَجِبُ فِيهِ الزَّكَاةُ، أَوْ مَا يَبْلُغُ قِيمَتُهُ نِصَابًا؛ فَجَعَلَ الْفَقْرَ مُعْتَبَرًا بِعَدَمِ النِّصَابِ وَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَى كِفَايَتِهِ بِنَفْسِهِ، وَجَوَّزَ لَهُ أَخَذَ الزَّكَاةَ وَجَعَلَ الْغَنَاءَ مُعْتَبَرًا بِمِلْكِ النِّصَابِ وَإِنْ عَجَزَ عَنْ كِفَايَتِهِ وَحَظَرَ عَلَيْهِ أَخَذَ الزَّكَاةَ اسْتِدْلَالًا لِقوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ} [التَّوْبَةِ: 60] وَالْفَقِيرُ هُوَ الْعَادِمُ، وَهَذَا عَادِمٌ وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا، وَبِمَا رُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ فَمَيَّزَ الْأَغْنِيَاءَ بِأَخْذِ الصَّدَقَةِ مِنْهُمْ وَمَيَّزَ الْفُقَرَاءَ بِدَفْعِ الصَّدَقَةِ إِلَيْهِمْ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ الصَّدَقَةُ غَنِيًّا، وَإِنْ كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ، وَمَنْ تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَقِيرًا، وَإِنْ كَانَ مُكْتَسِبًا. وَرُوِيَ عَنِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم أَنَّهُ قَالَ: مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ وَقَالَ: أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ وَقَدْ سَأَلَ الْمُكْتَسِبُ، فَوَجَبَ أَنْ يُعْطَى، وَلِأَنَّهُ لَا يَمْلِكُ نِصَابًا وَلَا قِيمَتَهُ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ فَقِيرًا تَحِلُّ لَهُ الصَّدَقَةُ قِيَاسًا عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا لَمْ يَكُنَ الْمُكْتَسِبُ غَنِيًّا فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ لَمْ يَكُنْ غَنِيًّا فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا حَلَّتِ الزَّكَاةُ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ حَلَّتْ لَهُ مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَدَلِيلُنَا مَا رَوَاهُ الشَّافِعِيُّ عَنْ سُفْيَانَ بْنِ عُيَيْنَةَ عَنْ هِشَامِ بْنِ عُرْوَةَ عَنْ أَبِيهِ عَنْ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ عَدِيٍّ أَنَّ رَجُلَيْنِ أَخْبَرَاهُ أَنَّهُمَا أَتَيَا النَّبِيَّ صلى الله عليه وسلم فَسَأَلَاهُ مِنَ الصَّدَقَاتِ فَصَعَّدَ النَّظَرَ فِيهِمَا وَصَوَّبَ وَقَالَ: «إِنْ شِئْتُمَا وَلَا حَظَّ فِيهَا لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُوَّةٍ مُكْتَسِبٍ» فَجَعَلَ الْكَسْبَ كَالْغِنَى بِالْمَالِ فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ. وَرَوَى سَالِمُ بْنُ أَبِي الْجَعْدِ عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم: إِنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي قُدْرَةٍ فَحَرَّمَ الصَّدَقَةَ بِالْقُدْرَةِ عَلَى الْكَسْبِ كَمَا حَرَّمَهَا بِالْغِنَى، وَلِأَنَّهُ مُسْتَدِيمُ الْقُدْرَةِ عَلَى كِفَايَتِهِ، فَوَجَبَ أَنْ تَحْرُمَ عَلَيْهِ الزَّكَاةُ بِالْفَقْرِ وَالْمَسْكَنَةِ كَالْقَادِرِ عَلَى نِصَابٍ، أَوْ كَالْمُشْتَغِلِ لِوَقْفٍ؛ وَلِأَنَّ مَنْ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الْمَسْأَلَةُ حَرُمَتْ عَلَيْهِ الصَّدَقَةُ كَالْغَنِيِّ، وَلِأَنَّهُ لَمَّا كَانَ الِاكْتِسَابُ كَالْغِنَى فِي سُقُوطِ نَفَقَتِهِ عَنْ وَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ وَوُجُوبِهَا عَلَيْهِ لِوَالِدِيهِ وَمَوْلُودِيهِ كَانَ كَالْغِنَى فِي تَحْرِيمِ الصَّدَقَاتِ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ الْآيَةِ فَهُوَ أَنَّ الْفَقْرَ لَيْسَ الْعَدَمَ وَإِنَّمَا هُوَ الْحَاجَةُ؛ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ: أُمِرْتُ أَنْ آخُذَ الصَّدَقَةَ مِنْ أَغْنِيَائِكُمْ فَأَرُدَّهَا فِي فُقَرَائِكُمْ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ يَكُونُ فِي النَّاسِ مَنْ لَا تُؤْخَذُ مِنْهُ وَلَا تُدْفَعُ إِلَيْهِ فَهُوَ مَالِكُ مَا لَا يُزَكَّى، فَكَذَلِكَ الْمُكْتَسِبُ، فَجَازَ أَنْ يَكُونَ مِنْهُمْ مَنْ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَتُدْفَعُ إِلَيْهِ وَهُوَ مَالِكُ مَا يُزَكَّى إِذَا كَانَ غَيْرَ مُكْتَسِبٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنْ قَوْلِهِ صلى الله عليه وسلم: مَنْ سَأَلَنَا أَعْطَيْنَاهُ فَهُوَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَنْ أَظْهَرَ لَنَا الْفَقْرَ قَبِلْنَا مِنْهُ: لِأَنَّ الْأَصْلَ فِي النَّاسِ الْعَدَمُ.
وَأَمَّا قَوْلُهُ: «أَعْطُوا السَّائِلَ وَلَوْ جَاءَ عَلَى فَرَسٍ»، فَهُوَ دَلِيلُنَا: لِأَنَّ أَبَا حَنِيفَةَ يَمْنَعُهُ إِذَا كَانَ ثَمَنُ فَرَسِهِ نِصَابًا وَنَحْنُ نُعْطِيهِ إِذَا كَانَ مُحْتَاجًا. وَأَمَّا قِيَاسُهُ عَلَى غَيْرِ الْمُكْتَسِبِ فَالْمَعْنَى فِيهِ الْحَاجَةُ، وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: لَمَّا لَمْ يَكُنِ الِاكْتِسَابُ كَالْمَالِ فِي وُجُوبِ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ كَذَلِكَ فِي تَحْرِيمِ الزَّكَاةِ فَهُوَ فَاسِدٌ بِنَفَقَاتِ الْأَقَارِبِ الَّتِي يُجْعَلُ الِاكْتِسَابُ فِيهَا كَالْمَالِ، ثُمَّ وُجُوبُ الْحَجِّ وَالتَّكْفِيرِ بِالْعِتْقِ يَتَعَلَّقَانِ بِوُجُودِ الْمَالِ وَالْمُكْتَسِبُ غَيْرُ وَاجِدٍ وَتَحْرِيمُ الزَّكَاةِ يَتَعَلَّقُ بِالْكِفَايَةِ وَالْمُكْتَسِبُ مُكْتَفٍ، وَبِاللَّهِ التَّوْفِيقُ.