فصل: مسألة (الرقاب):

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.مسألة [الرقاب]:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: وَالرِّقَابُ الْمُكَاتَبُونَ مِنْ حَيِّزِ إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ وَاللَّهُ أَعْلَمُ، وَلَا يُعْتَقُ عَبْدٌ يُبْتَدَأُ عِتْقُهُ فَيُشْتَرَى وَيُعْتَقُ.
قال الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا صَحِيحٌ وَالرِّقَابُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، لِقَوْلِهِ تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} فَاخْتَلَفَ الْفُقَهَاءُ فِيهِمْ، فَذَهَبَ الشَّافِعِيُّ إِلَى أَنَّهُمُ الْمُكَاتَبُونَ يُعْطَوْنَ الْمُسَمَّى لَهُمْ يَسْتَعِينُونَ بِهِ فِي مَالِ كِتَابَتِهِمْ وَلَا يَبْتَدِئُ عِتْقَ رِقَابٍ تُشْتَرَى، وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَالِبٍ عليه السلام، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ وَالنَّخَعِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَبِي حَنِيفَةَ وَالثَّوْرِيِّ. وَقَالَ مَالِكٌ: الرِّقَابُ أَنْ يُبْتَدَأَ عِتْقُ رِقَابٍ تُشْتَرَى. وَهُوَ فِي الصَّحَابَةِ قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ، وَفِي التَّابِعِينَ قَوْلُ الْحَسَنِ الْبَصْرِيِّ، وَفِي الْفُقَهَاءِ قَوْلُ أَحْمَدَ وَإِسْحَاقَ اسْتِدْلَالًا بِقوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} وَفِيهَا ثَلَاثَةُ أَدِلَّةٍ: أَحَدُهَا: أَنَّ مُطْلَقَ اسْمِ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ؛ بِدَلِيلِ قوله تعالى: {تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ} يَقْتَضِي عِتْقَ الْعَبْدِ الْقِنِّ دُونَ الْمُكَاتَبِ. وَالثَّانِي: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ سُهْمَانَ الصَّدَقَاتِ إِلَى الْأَصْنَافِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} وَخَالَفَ صِيغَةَ اللَّفْظِ فِي الرِّقَابِ بِأَنْ حَذَفَ لَامَ التَّمْلِيكِ، فَقَالَ وَفِي الرِّقَابِ فَجَعَلَ ذَلِكَ فِيهِمْ وَلَمْ يَجْعَلْهُ لَهُمْ، فَاقْتَضَى أَلَّا يَمْلِكَهُ الْمُكَاتَبُونَ وَيُشْتَرَى بِهِ عَبِيدٌ يُعْتَقُونَ لِيَصِحَّ أَنْ يَكُونَ فِيهِمْ وَلَا يَكُونُ لَهُمْ. وَالثَّالِثُ: أَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ، فَلَوْ أُرِيدُوا بِالْآيَةِ لَاكْتَفَى بِذِكْرِ الْغَارِمِينَ عَنْ ذِكْرِهِمْ، وَلِأَنَّ مَا وَجَبَ مِنْ أَمْوَالِ الطُّهْرَةِ نَوْعَانِ: زَكَوَاتٍ، وَكَفَّارَاتٍ، فَلَمَّا كَانَ فِي الْكَفَّارَاتِ عِتْقٌ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ فِي الزَّكَوَاتِ عِتْقٌ. وَتَحْرِيرُهُ: أَنَّهُ أَحَدُ نَوْعَيِ الطُّهْرَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَخْتَصَّ بِعِتْقٍ وَيُفَرِّقَهُ كَالْكَفَّارَاتِ وَدَلِيلُنَا قوله تعالى: {وَفِي الرِّقَابِ} [التَّوْبَةِ: 60]، وَمِنْهَا سَبْعَةُ أَدِلَّةٍ:
أَحَدُهَا: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ ذَلِكَ فِي الرِّقَابِ لَا فِي السَّادَةِ وَمِلْكُهُ يَجْعَلُهُ فِي السَّادَةِ لَا فِي الرِّقَابِ.
وَالثَّانِي: أَنَّ سَائِرَ الْأَصْنَافِ لَمَّا اسْتَحَقُّوا الْأَخْذَ وَجَبَ أَنْ يَكُونَ صِنْفُ الرِّقَابِ مُسْتَحِقًّا الْأَخْذَ.
وَالثَّالِثُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذَكَرَ فِي الْآيَةِ ثَمَانِيَةَ أَصْنَافٍ وَقَرَنَ فِيهَا بَيْنَ كُلِّ صِنْفَيْنِ يَتَقَارَبُ مَعْنَاهُمَا فَنُقَارِبُ فِي حَاجَتِنَا إِلَيْهِمْ، وَفَرَّقَ بَيْنَ سَبِيلِ اللَّهِ وَابْنِ السَّبِيلِ: لِأَنَّ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبٌ فِي اخْتِصَاصِهِمْ بِقَطْعِ مَسَافَةٍ، وَفَرَّقَ بَيْنَ الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونَ مَعْنَاهُمَا مُتَقَارِبًا، فَلَمَّا أَخَذَ الْغَارِمُونَ لِمَا فِي الذِّمَّةِ اقْتَضَى أَنْ يَأْخُذَ الرِّقَابُ لِمَا فِي الذِّمَّةِ.
وَالرَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ الْمَصْرُوفَ إِلَى الْأَصْنَافِ صَدَقَةً وَفِي صَرْفِهِ فِي الْعِتْقِ يَصِيرُ ثَمَنًا يَخْرُجُ عَنْ حُكْمِ الصَّدَقَةِ.
وَالْخَامِسُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى جَعَلَ كُلَّ صِنْفٍ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ مِمَّنْ يُمْكِنُ دَفْعُ سَهْمِهِ إِلَيْهِ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ وَلَا يُمْكِنُ إِذَا جَعَلَ سَهْمَ الرِّقَابِ فِي الْعِتْقِ أَنْ يُعْتِقَ سَهْمَهُمْ مِنْ كُلِّ صَدَقَةٍ، وَإِذَا جُعِلَ فِي الْمُكَاتَبِينَ أَمْكَنَ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ مَنْ كُلِّ صَدَقَةٍ.
وَالسَّادِسُ: أَنَّهُ لَوْ صُرِفَ سَهْمُ الرِّقَابِ فِي مُكَاتَبِينَ وَبَقِيَ عَلَيْهِمْ مِنْ آخِرِكُمْ آخِرُ نَجْمِ مَا يُعْتَقُونَ بِهِ فَأَعْطَوْا مَا عُتِقُوا بِهِ أَجْزَأَ، وَلَوْ خَرَجُوا مِنْ حُكْمِ الْآيَةِ لَمْ يُجْزِ كَالْعِتْقِ فِي الْكَفَّارَةِ فَدَلَّ عَلَى أَنَّهُمُ الْمُرَادُ بِالْآيَةِ.
وَالسَّابِعُ: أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى لَوْ أَرَادَ بِالرِّقَابِ الْمُعْتَقَ لَقَرَنَهُ بِذِكْرِ التَّحْرِيرِ كَالْكَفَّارَةِ حَيْثُ قَالَ: فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَلَا يَقْتَضِي أَنْ يُحْمَلَ مُطْلَقُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ عَلَى الْمُقَيَّدِ مِنْهَا فِي الْكَفَّارَةِ: لِأَنَّ فِي الْمُطْلَقِ فِي الرِّقَابِ مَا يُجْزِئُ وَهُوَ مَا ذَكَرْنَا مِنَ الْمُكَاتَبِينَ، فَكَانَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُطْلَقِ أَوْلَى مِنْ حَمْلِهِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَخَالَفَ تَقْيِيدَ الشَّهَادَةِ بِالْعَدَالَةِ فِي مَوْضِعٍ وَإِطْلَاقَهَا فِي آخَرَ: لِأَنَّهُ لَيْسَ فِي الشَّهَادَةِ مَالٌ يُعْتَبَرُ فِيهِ الْعَدَالَةُ: فَلِذَلِكَ وَجَبَ حَمْلُ الْمُطْلَقِ عَلَى الْمُقَيَّدِ، وَيَدُلُّ عَلَيْهِ مِنْ طَرِيقِ الِاعْتِبَارِ أَنَّهُ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَةِ، فَوَجَبَ أَنْ يَكُونُوا عَلَى صِفَةٍ يَسْتَحِقُّونَ بِهَا الْأَخْذَ قِيَاسًا عَلَى سَائِرِ الْأَصْنَافِ، وَلِأَنَّ الْعِتْقَ يَقْتَضِي ثُبُوتَ الْوَلَاءِ لِلْمُعْتِقِ، فَلَوْ أَعْتَقَ سَهْمُ الرِّقَابِ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَثْبُتَ عَلَى الْمُعْتِقِ وَلَاءٌ أَوْ لَا يَثْبُتُ، فَإِنْ لَمْ يَثْبُتْ عَلَيْهِ وَإِلَّا سُلِبَ حُكْمَ الْعِتْقِ. وَقَدْ قَالَ النَّبِيُّ- صلى الله عليه وسلم-: الْوَلَاءُ لِمَنْ أَعْتَقَ، وَإِنْ ثَبَتَ عَلَيْهِ الْوَلَاءُ لَمْ يَخْلُ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ أَوْ لِغَيْرِهِ فَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِغَيْرِهِ: لِأَنَّهُ غَيْرُ مُعْتَقٍ بِمَالِهِ وَلَمْ يَجُزْ أَنْ يَكُونَ لِرَبِّ الْمَالِ لِأَمْرَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُ مَا اشْتَرَاهُ وَلَا اشْتُرِيَ لَهُ. وَالثَّانِي: أَنَّهُ لَا يَسْتَفِيدُ بِإِخْرَاجِ زَكَاتِهِ مِلْكًا كَسَائِرِ الْأَصْنَافِ فَثَبَتَ امْتِنَاعُ الْعِتْقِ. فَإِنْ قِيلَ: فَلَوْ أَخَذَ الْغَارِمُ سَهْمَهُ وَعَلَيْهِ لِرَبِّ الْمَالِ دَيْنٌ جَازَ أَنْ يَسْتَعِيدَهُ مِنْ دَيْنِهِ فَيَصِيرُ مِلْكًا لَهُ. قِيلَ: لَيْسَ هَذَا فِي كُلِّ غَارِمٍ وَلَا الْغَارِمُ الَّذِي عَلَيْهِ الدَّيْنُ يَلْزَمُهُ رَدُّ ذَلِكَ بِعَيْنِهِ: لِأَنَّهُ لَوْ دَفَعَ غَيْرُهُ أَجَزَأَ. فَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ مِنْ أَنَّ مُطْلَقَ الرَّقَبَةِ يَتَنَاوَلُ الْعَبْدَ الْقِنَّ دُونَ الْمُكَاتَبِ فَهُوَ أَنَّ ادِّعَاءَ ذَلِكَ غَيْرُ مُسَلَّمٍ: لِأَنَّهُ إِنْ أُطْلِقَ تَنَاوَلَتِ الْقِنَّ وَغَيْرَهُ، وَإِنْ قُيِّدَ بِقَرِينَةٍ كَالتَّحْرِيرِ تَخَصَّصَ لِأَجْلِ الْقَرِينَةِ بِالْقِنِّ دُونَ غَيْرِهِ، فَلَمَّا أُطْلِقَ ذِكْرُ الرِّقَابِ فِي الصَّدَقَةِ وَجَبَ أَنْ يُحْمَلَ عَلَى عُمُومِهِ وَلَا يَجْرِي مَجْرَى مَا خُصَّ فِي الْكَفَّارَةِ بِقَرِينَةٍ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ مِنَ الْآيَةِ بِأَنَّ اللَّهَ تَعَالَى أَضَافَ الصَّدَقَاتِ إِلَى أَهْلِ السُّهْمَانِ بِلَامِ التَّمْلِيكِ إِلَّا الرِّقَابَ فَهُوَ أَنَّهُ قَدْ قَالَ مِثْلَ ذَلِكَ فِي الْغُزَاةِ وَبَنِي السَّبِيلِ فَقَالَ: وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ وَاِبْنِ السَّبِيلِ لَا يَقْتَضِي ذَلِكَ أَلَّا يُدْفَعَ إِلَيْهِمْ تَمْلِيكًا، كَذَلِكَ الرِّقَابُ. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ فِيهَا بِأَنَّ الْمُكَاتَبِينَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ فَمِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنَّهُمْ غَيْرُ الْغَارِمِينَ: لِأَنَّ دُيُونَهُمْ غَيْرُ مُسْتَقِرَّةٍ وَدُيُونَ الْغَارِمِينَ مُسْتَقِرَّةٌ. وَالثَّانِي: أَنَّهُمْ وَإِنْ تَقَارَبُوا فِي الْمَعْنَى فَإِنَّهُ يُسْتَفَادُ بِذِكْرِهِمْ أَلَّا يُقْتَصَرَ عَلَى الْغَارِمِينَ لَوْ لَمْ يُذْكَرُوا وَعَلَيْهِمْ دُونَ الْغَارِمِينَ لِأَنَّهُمْ مِنْهُمْ، وَجَرَى ذَلِكَ مَجْرَى ذِكْرِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ، وَإِنْ كَانُوا مُتَقَارِبَيْنِ يُسْتَغْنَى بِذِكْرِ أَحَدِهِمَا عَنْ ذِكْرِ الْآخَرِ: لِئَلَّا يَقْتَصِرَ عَلَى أَحَدِهِمَا حَتَّى يَلْزَمَ الْجَمْعُ بَيْنَهُمَا. وَأَمَّا الْجَوَابُ عَنِ اسْتِدْلَالِهِمْ بِالْكَفَّارَاتِ فَهُوَ أَنَّ الْمَأْمُورَ بِإِخْرَاجِهِ فِي الْكَفَّارَاتِ هُوَ الْعِتْقُ، لِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً يَمْلِكُهَا أَجْزَأَهُ، وَالْمَأْمُورُ بِإِخْرَاجِهِ فِي الصَّدَقَاتِ هُوَ الْمَالُ، وَلِذَلِكَ لَوْ أَعْتَقَ رَقَبَةً يَمْلِكُهَا لَمْ يُجْزِهِ فَافْتَرَقَا.

.فصل [في أَنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ مَصْرُوفٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ]:

فَإِذَا ثَبَتَ أَنَّ سَهْمَ الرِّقَابِ مَصْرُوفٌ فِي الْمُكَاتَبِينَ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمُكَاتَبِ في الزكاة مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَادِرًا عَلَى مَا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، أَوْ عَاجِزًا عَنْهُ، فَإِنْ كَانَ قَادِرًا عَلَيْهِ وَذَلِكَ بِأَحَدِ وَجْهَيْنِ: إِمَّا بِمَالٍ فِي يَدِهِ بِقَدْرِ الْبَاقِي مِنْ مَالِ كِتَابَتِهِ، أَوْ بِصِنَاعَةٍ يَكْتَسِبُ بِهَا، فَذَلِكَ يَكُونَا فِي الْحُكْمِ سَوَاءً، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ شَيْءٍ مِنَ الصَّدَقَاتِ: لِأَنَّهَا مَصْرُوفَةٌ فِي ذَوِي الْحَاجَاتِ وَلَيْسَ هَذَا الْمُكَاتَبُ مِنْهُمْ، وَإِنْ كَانَ عَاجِزًا عَمَّا عَلَيْهِ مِنْ مَالِ الْكِتَابَةِ، فَلَا يَخْلُو حَالُهُ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ أَوْ لَمْ يَحُلَّ، فَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ وَاسْتَحَقَّ السَّيِّدُ الْمُطَالَبَةَ بِهِ دُفِعَ إِلَيْهِ وَكَانَ رَبُّ الْمَالِ وَالْعَامِلُ بِالْخِيَارِ بَيْنَ أَنْ يَدْفَعَهُ إِلَى الْمُكَاتَبِ حَتَّى يَدْفَعَهُ الْمُكَاتَبُ إِلَى سَيِّدِهِ، أَوْ يَدْفَعَهُ ابْتِدَاءً إِلَى السَّيِّدِ بِأَمْرِ الْمُكَاتَبِ أَوْ بِغَيْرِ أَمْرِهِ، وَإِنْ كَانَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ لَمْ يَحُلَّ وَمُطَالَبَةُ الْمُكَاتَبِ بِهِ لَمْ تَجِبْ، فَفِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يُدْفَعُ إِلَيْهِ لِأَنَّهُ غَيْرُ مُحْتَاجٍ إِلَيْهِ. وَالثَّانِي: يُدْفَعُ إِلَيْهِ: لِأَنَّهُ قَدْ يَحُلُّ مَالُ النَّجْمِ فَيَحْتَاجُ إِلَيْهِ.

.فصل [في أقسام المكاتب بعد دفع سهم الزكاة إليه]:

فَإِذَا تَقَرَّرَ مَا وَصَفْنَا لَمْ يَخْلُ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الدَّفْعِ إِلَيْهِ سهم الزكاة مِنْ ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يُعْتَقَ بِالْأَدَاءِ فَقَدِ اسْتَقَرَّ اسْتِحْقَاقُ مَا أَخَذَهُ مِنْ كِتَابَتِهِ. وَالْقِسْمُ الثَّانِي: يُعْتَقُ بِغَيْرِ أَدَاءِ مَالِ الصَّدَقَةِ وَذَلِكَ إِمَّا بِإِبْرَاءِ السَّيِّدِ لَهُ، أَوْ بِأَدَاءِ آخَرَ عَنْهُ، أَوْ بِأَدَائِهِ مِنْ كَسْبِهِ، فَيَكُونُ الْحُكْمُ فِي هَذِهِ الْأَحْوَالِ الثَّلَاثَةِ سَوَاءً، وَيَنْظُرُ فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتَرْجَعَ مِنْه مَا دَفَعَ إِلَيْهِ: لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لِلْأَخْذِ تَأْثِيرٌ فِي الْمَقْصُودِ مِنْ عِتْقِهِ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ وَقَدْ أَدَّاهُ فِيهِ لَمْ يَسْتَرْجِعْ: لِأَنَّهُ قَدْ كَانَ لِذَلِكَ الدَّفْعِ تَأْثِيرٌ فِي تَحْرِيرِ الْعِتْقِ، وَلَوِ اسْتَرْجَعَ لَمْ يُعْتَقْ.
الْقِسْمُ الثَّالِثُ: أَنْ يَسْتَرِقَّهُ السَّيِّدُ بِالْعَجْزِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ الْمَدْفُوعِ إِلَيْهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ أَوْ فِيمَا قَبْلَهُ، فَإِنْ كَانَ فِي النَّجْمِ الْأَخِيرِ اسْتُرْجِعَ الْمَدْفُوعُ إِلَيْهِ، سَوَاءً كَانَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، أَوْ قَدْ قَبَضَهُ السَّيِّدُ مِنْهُ: لِأَنَّ الْمَقْصُودَ مِنَ الْعِتْقِ لَمْ يَقَعْ، وَإِنْ كَانَ فِيمَا قَبْلَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ مِنَ النُّجُومِ الْمُتَقَدِّمَةِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بَاقِيًا فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَيُسْتَرْجَعُ مِنْهُ، وَلَا يَجُوزُ أَنْ يَأْخُذَهُ السَّيِّدُ بَعْدَ الْعَجْزِ وَلَا يَتَمَلَّكَ الْمُكَاتَبُ بَعْدَ الرِّقِّ لِفَوَاتِ الْمَعْنَى الْمُبِيحِ لِلْأَخْذِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ السَّيِّدُ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْ مَالِ النَّجْمِ الَّذِي عَجَّزَهُ فِيهِ، فَهَذَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ أَيْضًا لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ بِذَلِكَ الْأَخْذِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ قَدْ قَبَضَهُ مِنْهُ مِنْ مَالِ نَجْمٍ مُتَقَدِّمٍ قَبْلَ نَجْمِ التَّعْجِيزِ فَفِي جَوَازِ اسْتِرْجَاعِهِ مِنْهُ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ لِفَوَاتِ الْمَقْصُودِ مِنَ الْعِتْقِ فَشَابَهَ مَالَ النَّجْمِ الْأَخِيرِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: لَا يُسْتَرْجَعُ مِنْهُ: لِأَنَّ لِكُلِّ نَجْمٍ حُكْمًا.

.فصل [في استرجاع المأخوذ من مال الصدقة]:

فَإِذَا وَجَبَ اسْتِرْجَاعُ الْمَأْخُوذِ مِنْ مَالِ الصَّدَقَةِ فَتَلَفَ قَبْلَ الِاسْتِرْجَاعِ، فَلَا يَخْلُو حَالُ تَلَفِهِ مِنْ أَحَدِ أَمْرَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَتْلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ أَوْ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ، فَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ السَّيِّدِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ بِالْغُرْمِ، سَوَاءً تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ لَهُ أَوْ بِغَيْرِهِ: لِأَنَّهُ أَخَذَهُ عَلَى وَجْهِ الْبَدَلِ عَنِ الْعِتْقِ، فَإِذَا فَاتَ الْعِتْقُ ضَمِنَهُ بِالرَّدِّ إِنْ بَقِيَ وَبِالْغُرْمِ إِنْ تَلَفَ كَالْمَبِيعِ، وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِ الْمُكَاتَبِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ، فَإِنْ تَلَفَ بِاسْتِهْلَاكِهِ ضُمِنَ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ يُقَدَّمُ عَلَى دُيُونِ الْمُعَامَلَاتِ، فَإِنْ ضَاقَ مَا بِيَدِهِ عَنْ غُرْمِهِ ضَمِنَهُ فِي رَقَبَتِهِ، وَإِنْ تَلَفَ بِغَيْرِ اسْتِهْلَاكِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ بِيَدِهِ قَبْلَ عَجْزِهِ. وَالثَّانِي: أَنْ يَتْلَفَ بَعْدَ عَجْزِهِ، فَإِنْ تَلَفَ قَبْلَ عَجْزِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ: أَحَدُهُمَا: أَنْ يَتْلَفَ قَبْلَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ، فَلَا ضَمَانَ عَلَيْهِ وَلَا عَلَى سَيِّدِهِ: لِأَنَّهُ كَانَ مُؤْتَمَنًا عَلَى أَدَائِهِ. وَالثَّانِي: يَتْلَفُ بَعْدَ إِمْكَانِ دَفْعِهِ إِلَى سَيِّدِهِ، فَهَذَا عَلَى ضَرْبَيْنِ: إِمَّا أَنْ يَكُونَ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ نَجَمُ الْكِتَابَةِ وَأَخَّرَ دَفْعَ ذَلِكَ إِلَيْهِ فَهُوَ مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الْأَدَاءِ. وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَلَّا يَكُونَ نَجْمُ الْكِتَابَةِ قَدْ حَلَّ عَلَيْهِ، فَفِي ضَمَانِهِ عَلَيْهِ وَجْهَانِ مِنِ اخْتِلَافِ الْوَجْهَيْنِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ قَبْلَ حُلُولِ النَّجْمِ عَلَيْهِ:
أَحَدُهُمَا: يَضْمَنُهُ إِذَا جُعِلَ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ.
وَالثَّانِي: لَا يَضْمَنُهُ إِذَا لَمْ يُجْعَلْ فِي جَوَازِ الدَّفْعِ إِلَيْهِ كَالَّذِي حَلَّ عَلَيْهِ، وَإِنْ تَلَفَ فِي يَدِهِ بَعْدَ عَجْزِهِ فَعَلَى ضَرْبَيْنِ:
أَحَدُهُمَا: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ بَعْدَ إِمْكَانِ رَدِّهِ عَلَى رَبِّ الْمَالِ أَوِ الْعَامِلِ، فَهَذَا مَضْمُونٌ عَلَيْهِ ضَمَانَ الْمَغْصُوبِ لِعُدْوَانِهِ بِتَأْخِيرِ الرَّدِّ، وَيَكُونُ الضَّمَانُ فِي رَقَبَتِهِ دُونَ مَا بِيَدِهِ لِتَقَدُّمِ اسْتِحْقَاقِ مَا بِيَدِهِ فِي مُعَامَلَاتِهِ.
وَالضَّرْبُ الثَّانِي: أَنْ يَكُونَ تَلَفُهُ قَبْلَ إِمْكَانِ رَدِّهِ فَهُوَ غَيْرُ مَضْمُونٍ عَلَى الْمُكَاتَبِ: لِأَنَّهُ مَا قَبَضَهُ لِنَفْسِهِ وَلَا كَانَ مُتَعَدِّيًا فِي جِنْسِهِ وَهَلْ يَكُونُ مَضْمُونًا عَلَى سَيِّدِهِ؟ فِيهِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: لَا يَضْمَنُهُ: لِأَنَّهُ مَا صَارَ إِلَيْهِ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: يَضْمَنُهُ: لِأَنَّ الْمُكَاتَبَ قَبَضَهُ لِسَيِّدِهِ وَيَدُهُ بَعْدَ الْعَجْزِ كَيَدِهِ.

.مسألة: في بيان أصناف الغارمين:

قَالَ الشَّافِعِيُّ: (وَالْغَارِمُونَ) صِنْفَانِ صِنْفٌ دَانُوا فِي مَصْلَحَتِهِمْ أَوْ مَعْرُوفٍ وَغَيْرِ مَعْصِيَةٍ، ثُمَّ عَجَزُوا عَنْ أَدَاءِ ذَلِكَ فِي الْعَرْضِ وَالنَّقْدِ فَيُعْطَوْنَ فِي غُرْمِهِمْ لِعَجْزِهِمْ، فَإِنْ كَانَتْ لَهُمْ عُرُوضٌ يَقْضُونَ مِنْهَا دُيُونَهُمْ فَهُمْ أَغْنِيَاءُ لَا يُعْطَوْنَ حَتَّى يَبْرَءُوا مِنَ الدَّيْنِ، ثُمَّ لَا يَبْقَى لَهُمْ مَا يَكُونُونَ بِهِ أَغْنِيَاءَ، وَصِنْفٌ دَانُوا فِي صَلَاحِ ذَاتِ بَيْنٍ وَمَعْرُوفٍ وَلَهُمْ عُرُوضٌ تَحْمِلُ حَمَالَاتِهِمْ أَوْ عَامَّتَهَا وَإِنْ بِيعَتْ أَضَرَّ ذَلِكَ بِهِمْ وَإِنْ لَمْ يَفْتَقِرُوا، فَيُعْطَى هَؤُلَاءِ وَتُوَفَّرُ عُرُوضُهُمْ كَمَا يُعْطَى أَهْلُ الْحَاجَةِ مِنَ الْغَارِمِينَ حَتَّى يَقْضُوا سَهْمَهُمْ (وَاحتَجَّ) بِأَنَّ قَبِيصَةَ بْنَ الْمُخَارِقِ قَالَ تَحَمَّلْتُ بِحَمَالَةٍ فَأَتَيْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ: نُؤَدِّيهَا عَنْكَ، أَوْ نُخْرِجُهَا عَنْكَ إِذَا قَدِمَ نَعَمُ الصَّدَقَةِ، يَا قَبِيصَةُ. الْمَسْأَلَةُ حُرِّمَتْ إِلَّا فِي ثَلَاثَةٍ: رَجُلٍ تَحمَّلَ بِحَمَالَةٍ فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُؤَدِّيَهَا ثُمَّ يُمْسِكُ، وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ فَاقَةٌ أَوْ حَاجَةٌ حَتَّى شَهِدَ أَوْ تَكَلَّمَ ثَلَاثَةٌ مِنْ ذَوِي الْحَاجَةِ مِنْ قَوْمِهِ أَنَّ بِهِ فَاقَةً أَوْ حَاجَةً فَحَلَّتْ لَهُ الْمَسْأَلَةُ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ. وَرَجُلٍ أَصَابَتْهُ جَائِحَةٌ فَاجْتَاحَتْ مَالَهُ فَحَلَّتْ لَهُ الصَّدَقَةُ حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ أَوْ قَوَامًا مِنْ عَيْشٍ ثُمَّ يُمْسِكُ، وَمَا سِوَى ذَلِكَ مِنَ الْمَسْأَلَةِ فَهُوَ سُحْتٌ (قالَ الشَّافِعِيُّ)- رَحِمَهُ اللَّهُ- فَبِهَذَا قُلْتُ فِي الْغَارِمِينَ وَقَوْلُ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم تَحِلُّ لَهُ الْمَسْأَلَةُ فِي الْفَاقَةِ وَالْحَاجَةِ، يَعْنِي- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- مِنْ سَهْمِ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ لَا الْغَارِمِينَ، وَقَوْلُهُ: «حَتَّى يُصِيبَ سَدَادًا مِنْ عَيْشٍ يَعْنِي»- وَاللَّهُ أَعْلَمُ- أَقَلَّ اسْمِ الْغِنَى وَلِقَوْلِ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ إِلَّا لِخَمْسَةٍ: لِغَازٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ، أَوْ لِعَامِلٍ عَلَيْهَا، أَوْ لِغَارِمٍ، أَوْ لِرَجُلٍ اشْتَرَاهَا بِمَالِهِ، أَوْ لِرَجُلٍ لَهُ جَارٌ مِسْكِينٌ فَتَصَدَّقَ عَلَى الْمِسْكِينِ فَأَهْدَى الْمِسْكِينُ لِلْغَنِيِّ فَبِهَذَا قُلْتُ يُعْطَى الْغَازِي وَالْعَامِلُ وَإِنْ كَانَا غَنِيَّيْنِ، وَالْغَارِمُ فِي الْحَمَالَةِ عَلَى مَا أَبَانَ عليه السلام لَا عَامًّا.
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ: وَهَذَا كَمَا قَالَ، وَالْغَارِمُونَ صِنْفٌ مِنْ أَهْلِ الصَّدَقَاتِ، قَالَ اللَّهُ تَعَالَى: {وَفِي الرِّقَابِ وَالْغَارِمِينَ} [التَّوْبَةِ: 60]، فَجَعَلَ لَهُمْ مِنَ الصَّدَقَاتِ سَهْمًا وَهُمْ صِنْفَانِ: صِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ أَنْفُسِهِمْ، وَصِنْفٌ أَدَانُوا فِي مَصَالِحِ غَيْرِهِمْ، فَأَمَّا مَنْ أَدَانَ فِي مَصْلَحَةِ نَفْسِهِ فَعَلَى ثَلَاثَةِ أَقْسَامٍ: أَحَدُهَا: أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ. وَالثَّانِي: فِي تَبْذِيرٍ. وَالثَّالِثُ: فِي مَعْصِيَةٍ. فَأَمَّا الْأَوَّلُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي حَقٍّ فَكَرَجُلٍ أَدَانَ فِي جَوَائِحَ أَصَابَتْهُ، أَوْ نَفَقَاتٍ لَزِمَتْهُ، أَوْ مُعَامَلَاتٍ أَضَرَّتْ، أَوْ زَكَوَاتٍ وَجَبَتْ، وَحَجٍّ أُدِّيَ، وَفَرْضٍ قُضِيَ إِلَى مَا جَرَى مَجْرَى ذَلِكَ مِنْ وِاجِبَاتٍ أَوْ مُبَاحَاتٍ، فَيَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَى مَنْ صَارَ بِهَا غَارِمًا مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ إِذَا كَانَ فَقِيرًا، فَأَمَّا إِنْ كَانَ غَنِيًّا، فَلَا يَخْلُو مَالُهُ مِنْ أَنْ يَكُونَ نَاضًّا، أَوْ عَقَارًا، فَإِنْ كَانَ مَالُهُ نَاضًّا كَالذَّهَبِ وَالْوَرِقِ وَعُرُوضِ التِّجَارَاتِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُدْفَعَ إِلَيْهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ: لِأَنَّهُ مُسْتَغْنٍ عَنِ الْمَعُونَةِ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ، وَلِأَنَّهُ قَلَّمَا يَخْلُو مُوسِرٌ مِنْ دَيْنٍ فَيَجْعَلُ كُلَّ الْمُوسِرِ مِنَ الْغَارِمِينَ، وَإِنْ كَانَ مَالُهُ عَقَارًا مِنْ دُورٍ وَضِيَاعٍ كَفَى أَثْمَانُهَا بِدَيْنِهِ، فَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ قَوْلَانِ: أَصَحُّهُمَا وَهُوَ الْمَنْصُوصُ عَلَيْهِ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ وَأَكْثَرُ كُتُبِهِ أَنَّهُ لَا يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى: لِأَنَّهُ قَادِرٌ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ كَالْمُوسِرِ بِمَالٍ نَاضٍّ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: قَالَهُ فِي الْقَدِيمِ وَحُكِيَ عَنْهُ فِي كِتَابِ الْأُمِّ أَنَّهُ يَجُوزُ أَنْ يُعْطَى: لِأَنَّ الْعَاجِزَ عَنْ قَضَاءِ الدَّيْنِ إِلَّا مِنْ عَقَارٍ مُسْتَقًا هُوَ بِالْمُعْسِرِينَ أَشْبَهُ عَنْهُ بِالْمُوسِرِينَ فَاقْتَضَى أَنْ يَكُونَ مِنْ جُمْلَةِ الْغَارِمِينَ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّانِي وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي تَبْذِيرٍ كَرَجُلٍ بَذَّرَ فِي الشَّهَوَاتِ وَاللَّذَّاتِ وَأَسْرَفَ فِي الصِّلَاتِ وَالْهِبَاتِ لَا فِي بِرٍّ وَلَا تَقْوَى؛ فَهَذَا لَا يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ وَلَهُ مَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْهُ مِنْ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ: لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ التَّبْذِيرِ، فَلِأَنْ يَعُودَ تَبْذِيرُهُ عَلَى مَالِهِ أَوْلَى مِنْ أَنْ يَعُودَ عَلَى مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَإِنْ كَانَ فَقِيرًا لَا يَقْدِرُ عَلَى قَضَاءِ دَيْنِهِ مِنْ نَاضٍّ وَلَا عَقَارٍ جَازَ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ: لِأَنَّهُ مِنْهُمْ فِي الْغُرْمِ وَالْحَاجَةِ. وَأَمَّا الْقِسْمُ الثَّالِثُ وَهُوَ أَنْ يَكُونَ قَدْ أَدَانَ فِي مَعْصِيَةٍ، فَإِنْ لَمْ يَتُبْ مِنْهَا وَكَانَ مُصِرًّا عَلَى تِلْكَ الْمَعْصِيَةِ لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ: لِأَنَّهُ مَمْنُوعٌ مِنَ الْمَعْصِيَةِ، فَلَا يَجُوزُ أَنْ يُعَانَ عَلَيْهَا بِتَحَمُّلِ الْغُرْمِ فِيهَا، وَإِنْ كَانَ قَدْ تَابَ مِنْهَا وَأَقْلَعَ عَنْهَا لَمْ يَجُزْ أَنْ يُعْطَى مِنْ سَهْمِ الْغَارِمِينَ مَعَ الْغِنَى بِمَالٍ نَاضٍّ أَوْ عَقَارٍ: لِأَنَّ مَالَهُ فِي غُرْمِ الْمَعَاصِي أَوْلَى مِنْ مَالِ الصَّدَقَاتِ، وَفِي جَوَازِ إِعْطَائِهِ مَعَ الْفَقْرِ وَجْهَانِ: أَحَدُهُمَا: يَجُوزُ لِبَقَاءِ الْغُرْمِ مَعَ زَوَالِ الْمَعْصِيَةِ. وَالثَّانِي: لَا يَجُوزُ: لِأَنَّهُ غُرْمٌ سَبَبُهُ الْمَعْصِيَةُ.