فصل: المسألة الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.المسألة الرَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: إذَا كَانَ الْفَقِيرُ قَوِيًّا:

فَقَالَ مَالِكٌ فِي مُخْتَصَرِ مَا لَيْسَ فِي الْمُخْتَصَرِ: يُعْطَى، يَعْنِي لِتَحْقِيقِ صِفَةِ الِاسْتِحْقَاقِ فِيهِ.
وَقَالَ يَحْيَى بْنُ عُمَرَ: لَا يُجْزِيهِ، وَبِهِ قَالَ الشَّافِعِيُّ، لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِغَنِيٍّ وَلَا لِذِي مِرَّةٍ سَوِيٍّ».
خَرَّجَهُ التِّرْمِذِيُّ مَعَ غَيْرِهِ، وَزَادَ فِيهِ: «إلَّا لِذِي فَقْرٍ مُدْقِعٍ أَوْ غُرْمٍ مُفْظِعٍ».
وَقَالَ: هَذَا غَرِيبٌ، وَالْحَدِيثُ الْمُطْلَقُ دُونَ زِيَادَةٍ لَا يُرْكَنُ إلَيْهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُعَوَّلَ عَلَى هَذَا؛ فَإِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَانَ يُعْطِيهَا لِلْفُقَرَاءِ الْأَصِحَّاءِ، وَوُقُوفُهَا عَلَى الزَّمْنَى بَاطِلٌ، وَهَذَا أَوْلَى مِنْ ذَلِكَ بِالِاتِّبَاعِ، وَأَقْوَى مِنْهُ فِي الِارْتِبَاطِ وَالِانْتِزَاعِ.

.المسألة الْخَامِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: مَنْ كَانَ لَهُ نِصَابٌ مِنْ الزَّكَاةِ، هَلْ يَجُوزُ لَهُ أَخْذُهَا أَمْ لَا؟

فَقَالَ عُلَمَاؤُنَا تَارَةً: مَنْ مَلَكَ نِصَابًا فَلَا يَأْخُذُ مِنْهَا شَيْئًا؛ لِأَنَّهُ غَنِيٌّ تُؤْخَذُ مِنْهُ فَلَا تُدْفَعُ إلَيْهِ.
وَفِي الْقَوْلِ الثَّانِي: يَأْخُذُ مِنْهَا، وَقَدْ ثَبَتَ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وسلم قال: «مَنْ سَأَلَ وَعِنْدَهُ أُوقِيَّةٌ أَوْ عَدْلُهَا فَقَدْ سَأَلَ إلْحَافًا».
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ مَالِكٌ وَالشَّافِعِيُّ: إنَّ مَنْ كَانَتْ عِنْدَهُ كِفَايَةٌ تُغْنِيهِ فَهُوَ الْغَنِيُّ، وَإِنْ كَانَ أَقَلَّ مِنْ نِصَابٍ، وَمَنْ زَادَ عَلَى النِّصَابِ، وَلَمْ تَكُنْ فِيهِ كِفَايَةٌ لِمُؤْنَتِهِ وَلَا سَدَادٌ لِخُلَّتِهِ فَلَيْسَ بِغَنِيِّ فَيَأْخُذُ مِنْهَا.

.المسألة السَّادِسَةُ وَالْعِشْرُونَ: هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ نِصَابًا أَمْ لَا؟

اخْتَلَفَ الْعُلَمَاءُ، هَلْ يُعْطَى مِنْ الزَّكَاةِ نِصَابًا أَمْ لَا؟ عَلَى قَوْلَيْنِ.
وَقَالَ بَعْضُ الْمُتَأَخِّرِينَ: إنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ: نَقْدٌ، وَحَرْثٌ، أَخَذَ مَا يُبَلِّغُهُ إلَى الْأُخْرَى.
وَاَلَّذِي أَرَاهُ أَنْ يُعْطَى نِصَابًا، وَإِنْ كَانَ فِي الْبَلَدِ زَكَاتَانِ وَأَكْثَرُ، فَإِنَّ الْغَرَضَ إغْنَاءُ الْفَقِيرِ، حَتَّى يَصِيرَ غَنِيًّا، فَإِذَا أَخَذَ تِلْكَ فَإِنْ حَضَرَتْ زَكَاةٌ أُخْرَى وَعِنْدَهُ مَا يَكْفِيهِ أَخَذَهَا غَيْرُهُ، وَإِلَّا عَادَ عَلَيْهِ الْعَطَاءُ.

.المسألة السَّابِعَةُ وَالْعِشْرُونَ: لَا تُصْرَفُ الصَّدَقَةُ إلَى آلِ مُحَمَّدٍ:

لِقَوْلِهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ الصَّدَقَةَ لَا تَحِلُّ لِآلِ مُحَمَّدٍ، إنَّمَا هِيَ أَوْسَاخُ النَّاسِ».
وَالْمَسْأَلَةُ مُشْكِلَةٌ جِدًّا، وَقَدْ أَفَضْنَا فِيهَا فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ مَا شَاءَ اللَّهُ أَنْ نُفِيضَ فِيهِ.
وَبِالْجُمْلَةِ إنَّ الصَّدَقَةَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِإِجْمَاعِ أُمَّتِهِ، وَهِيَ مُحَرَّمَةٌ عَلَى بَنِي هَاشِمٍ فِي قَوْلِ أَكْثَرِ أَهْلِ الْعِلْمِ.
وَقَالَ الشَّافِعِيُّ: بَنُو الْمُطَّلِبِ وَبَنُو هَاشِمٍ وَاحِدٌ؛ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: «إنَّ بَنِي هَاشِمٍ وَبَنِي الْمُطَّلِبِ لَمْ يَفْتَرِقُوا فِي جَاهِلِيَّةٍ وَلَا فِي إسْلَامٍ».
قَالُوا: لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَعْطَاهُمْ الْخُمُسَ عِوَضًا عَنْ الصَّدَقَةِ وَلَمْ يُعْطِهِ أَحَدًا مِنْ قَبَائِلِ قُرَيْشٍ.
وَقَالَ مُحَمَّدُ بْنُ الْمَوَّازِ: آلُ مُحَمَّدٍ عَشِيرَتُهُ الْأَقْرَبُونَ: بَنُو عَبْدِ الْمُطَّلِبِ، وَآلُ هَاشِمٍ، وَآلُ عَبْدِ مَنَافٍ، وَآلُ قُصَيٍّ، وَآلُ غَالِبٍ؛ لِأَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لَمَّا نَزَلَتْ: {وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَك الْأَقْرَبِينَ} نَادَى بِأَعْلَى صَوْتِهِ: «يَا آلَ قُصَيٍّ، يَا آلَ غَالِبٍ، يَا آلَ عَبْدِ مَنَافٍ، يَا فَاطِمَةُ بِنْتَ مُحَمَّدٍ، يَا صَفِيَّةُ عَمَّةُ رَسُولِ اللَّهِ، اعْمَلُوا لِمَا عِنْدَ اللَّهِ؛ فَإِنِّي لَسْت أَمْلِكُ لَكُمْ مِنْ اللَّهِ شَيْئًا».
فَبَيَّنَ بِمُنَادَاتِهِ عَشِيرَتَهُ الْأَقْرَبِينَ.
وَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَقَدْ سُئِلَ عَنْهَا: نَحْنُ هُمْ.
يَعْنِي آلَ مُحَمَّدٍ خَاصَّةً، وَأَبَى ذَلِكَ عَلَيْنَا قَوْمُنَا.
فَأَمَّا مَوَالِيهِمْ، فَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي الْحَدِيثِ الَّذِي جَاءَ: لَا تَحِلُّ الصَّدَقَةُ لِآلِ مُحَمَّدٍ إنَّمَا ذَلِكَ فِي الزَّكَاةِ لَا فِي التَّطَوُّعِ، وَإِنَّمَا هُمْ بَنُو هَاشِمٍ أَنْفُسُهُمْ.
قِيلَ لَهُ يَعْنِي مَالِكًا: فَمَوَالِيهِ؟ قَالَ: لَا أَدْرِي مَا الْمَوَالِي؟ وَكَأَنَّهُ لَمْ يَرَهُمْ مِنْ ذَلِكَ فَاحْتَجَجْت عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْهُمْ»، فَقَالَ: وَقَدْ قَالَ: «ابْنُ أُخْتِ الْقَوْمِ مِنْهُمْ».
قَالَ أَصْبَغُ: وَذَلِكَ فِي الْبِرِّ وَالْحُرْمَةِ، كَقَوْلِهِ عَلَيْهِ السَّلَامُ: «أَنْتَ وَمَالُك لِأَبِيك».
قَالَ مُطَرِّفٌ وَابْنُ الْمَاجِشُونِ: مَوَالِيهِمْ مِنْهُمْ لَا تَحِلُّ لَهُمْ الصَّدَقَةُ.
وَقَالَ مَالِكٌ فِي الْوَاضِحَةِ: لَا يُعْطَى آلُ مُحَمَّدٍ مِنْ التَّطَوُّعِ.
وَأَجَازَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ فِي كِتَابِ مُحَمَّدٍ، وَهُوَ الْأَصَحُّ؛ لِأَنَّ الْوَسَخَ إنَّمَا قُرِنَ بِالْفَرْضِ خَاصَّةً.
فَإِنْ قِيلَ: قَدْ رَوَى أَبُو دَاوُد عَنْ أَبِي رَافِعٍ، أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بَعَثَ رَجُلًا عَلَى الصَّدَقَةِ مِنْ بَنِي مَخْزُومٍ، فَقَالَ لِأَبِي رَافِعٍ: اصْحَبْنِي، فَإِنَّك تُصِيبُ مِنْهَا؛ فَقَالَ: حَتَّى آتِيَ رَسُولَ اللَّهِ فَأَسْأَلَهُ.
فَأَتَاهُ فَسَأَلَهُ، فَقَالَ: «مَوْلَى الْقَوْمِ مِنْ أَنْفُسِهِمْ، وَإِنَّا لَا تَحِلُّ لَنَا الصَّدَقَةُ».
وَهَذَا نَصٌّ فِي الْمَسْأَلَةِ، فَلَوْ صَحَّ لَوَجَبَ قَبُولُهُ، وَقَدْ قَالَ عُلَمَاؤُنَا فِي ذَلِكَ جَوَابَانِ: الْأَوَّلُ: أَنَّ ذَلِكَ عَلَى التَّنْزِيهِ مِنْهُ.
الثَّانِي: أَنَّ أَبَا رَافِعٍ كَانَ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَخْدُمُ وَيُطْعِمُ، فَكَرِهَ لَهُ تَرْكَ الْمَالِ الَّذِي لَمْ يُذَمَّ، وَأَخْذَهُ لِمَالٍ هُوَ أَوْسَاخُ النَّاسِ، فَكَسْبُ غَيْرِهِ أَوْلَى مِنْهُ.
فَإِنْ قِيلَ: فَقَدْ رُوِيَ أَنَّ ابْنَ عَبَّاسٍ قَالَ: بَعَثَنِي أَبِي إلَى النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي إبِلٍ أَعْطَاهَا إيَّاهُ مِنْ الصَّدَقَةِ.
قُلْنَا: لَمْ يَصِحَّ.
وَجَوَابُهُ لَوْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ اسْتَسْلَفَ مِنْ الْعَبَّاسِ، فَرَدَّ إلَيْهِ مَا اسْتَسْلَفَ مِنْ الصَّدَقَةِ، فَأَكَلَهَا بِالْعِوَضِ.
وَقَدْ رَوَيْنَا ذَلِكَ مُفَسَّرًا مُسْتَوْفًى فِي شَرْحِ الْحَدِيثِ.
وَقَدْ قَالَ أَبُو يُوسُفَ: يَجُوزُ صَرْفُ صَدَقَةِ بَنِي هَاشِمٍ إلَى فُقَرَائِهِمْ، فَيُقَالُ لَهُ: أَيَأْكُلُونَ مِنْ أَوْسَاخِهِمْ؟ هَذَا جَهْلٌ بِحَقِيقَةِ الْعِلَّةِ وَجِهَةِ الْكَرَامَةِ.

.المسألة الثَّامِنَةُ وَالْعِشْرُونَ: قَوْلُهُ: {إنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ}: مُقَابَلَةُ جُمْلَةٍ بِجُمْلَةٍ:

وَهِيَ جُمْلَةُ الصَّدَقَةِ بِجُمْلَةِ الْمَصْرِفِ لَهَا، وَلَكِنَّ النَّبِيَّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ فِي حَدِيثِ الْبُخَارِيِّ وَغَيْرِهِ حِينَ أَرْسَلَ مُعَاذًا إلَى الْيَمَنِ: «قُلْ لَهُمْ: إنَّ اللَّهَ افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ صَدَقَةً تُؤْخَذُ مِنْ أَغْنِيَائِهِمْ فَتُرَدُّ عَلَى فُقَرَائِهِمْ» فَاخْتُصَّ أَهْلُ كُلِّ بَلَدٍ بِزَكَاةِ بَلَدِهِ؛ فَهَلْ يَجُوزُ نَقْلُهَا أَمْ لَا؟ فِي ذَلِكَ ثَلَاثَةُ أَقْوَالٍ: الْأَوَّلُ: لَا تُنْقَلُ، وَبِهِ قَالَ سَحْنُونٌ.
وَقَالَ ابْنُ الْقَاسِمِ، إلَّا أَنَّهُ زَادَ إنْ نَقَلَ بَعْضَهَا لِضَرُورَةٍ رَأَيْتُهُ صَوَابًا.
الثَّانِي: يَجُوزُ نَقْلُهَا، وَقَالَهُ مَالِكٌ أَيْضًا.
الثَّالِثُ: يُقَسَّمُ فِي الْمَوْضِعِ سَهْمُ الْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينَ، وَيُنْقَلُ سَائِرُ السِّهَامِ، بِاجْتِهَادِ الْإِمَامِ.
وَالصَّحِيحُ مَا قَالَهُ ابْنُ الْقَاسِمِ لِقَوْلِ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ لِمُعَاذٍ، وَلِأَنَّ الْحَاجَةَ إذَا نَزَلَتْ وَجَبَ تَقْدِيمُهَا عَلَى مَنْ لَيْسَ بِمُحْتَاجٍ فَالْمُسْلِمُ أَخُو الْمُسْلِمُ لَا يُسْلِمُهُ وَلَا يَظْلِمُهُ. اهـ.

.قال الشوكاني في الآيات السابقة:

{وَمِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ}
قوله: {وَمِنْهُمْ مَّن يَلْمِزُكَ} هذا ذكر نوع آخر قبائحهم، يقال: لمزه يلمزه: إذا عابه.
قال الجوهري: اللمز: العيب، وأصله الإشارة بالعين ونحوها، وقد لمزه يلمزه ويلمزه، ورجل لماز، ولمزة: أي عياب.
قال الزجاج: لمزت الرجل ألِمزه وأُلمزه، بكسر الميم وضمها: إذا عبته، وكذا همزته.
ومعنى الآية: ومن المنافقين من يعيبك في الصدقات، أي في تفريقها وقسمتها.
وروى عن مجاهد أنه قال: معنى {يَلْمِزُكَ}: يرزؤك ويسألك، والقول عند أهل اللغة هو الأوّل، كما قال النحاس.
وقرئ {يلمزك} بضم الميم، و{يلمزك} بكسرها مع التشديد.
وقرأ الجمهور بكسرها مخففة {فَإِنْ أُعْطُواْ مِنْهَا} أي: من الصدقات بقدر ما يريدون {رَضُواْ} بما وقع من رسول الله صلى الله عليه وسلم ولم يعيبوه، وذلك لأنه لا مقصد لهم إلا حطام الدنيا، وليسوا من الدين في شيء {وَإِن لَّمْ يُعْطَوْاْ مِنهَا} أي: من الصدقات ما يريدونه ويطلبونه {إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ} أي: وإن لم يعطوا فاجئوا السخط، وفائدة إذا الفجائية: أن الشرط مفاجئ للجزاء وهاجم عليه.
وقد نابت إذا الفجائية مناب فاء الجزاء.
{وَلَوْ أَنَّهُمْ رَضُوْاْ مَا ءاتاهم الله وَرَسُولُهُ} أي: ما فرضه الله لهم وما أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم من الصدقات، وجوب لو محذوف: أي لكان خيرًا لهم، فإن فيما أعطاهم الخير العاجل والآجل {وَقَالُواْ حَسْبُنَا الله سَيُؤْتِينَا الله مِن فَضْلِهِ وَرَسُولُهُ} أي: قالوا هذه المقالة عند أن أعطاهم رسول الله صلى الله عليه وسلم ما هو لهم: أي كفانا الله، سيعطينا من فضله، ويعطينا رسوله بعد هذا ما نرجوه ونؤمله {إِنَّا إِلَى الله راغبون} في أن يعطينا من فضله ما نرجوه.
قوله: {إِنَّمَا الصدقات لِلْفُقَرَاء} لما لمز المنافقون رسول الله صلى الله عليه وسلم في قسمة الصدقات بيّن الله لهم مصرفها دفعًا لطعنهم، وقطعًا لشغبهم، و{إِنَّمَا} من صيغ القصر، وتعريف الصدقات للجنس: أي جنس هذه الصدقات مقصور على هذه الأصناف المذكورة لا يتجاوزها، بل هي لهم لا لغيرهم.
وقد اختلف أهل العلم هل يجب تقسيط الصدقات على هذه الأصناف الثمانية، أو يجوز صرفها إلى البعض دون البعض على حسب ما يراه الإمام أو صاحب الصدقة؟ فذهب إلى الأوّل الشافعي وجماعة من أهل العلم، وذهب إلى الثاني: مالك وأبو حنيفة، وبه قال عمر، وحذيفة، وابن عباس، وأبو العالية، وسعيد بن جبير، وميمون بن مهران.
قال ابن جرير وهو قول عامة أهل العلم: احتج الأوّلون بما في الآية من القصر، وبحديث زياد بن الحرث الصدائي عند أبي داود والدارقطني قال: أتيت النبي صلى الله عليه وسلم فبايعته، فأتى رجل فقال: أعطني من الصدقة، فقال له:
«إن الله لم يرض بحكم نبيّ ولا غيره في الصدقات حتى حكم فيها هو، فجزأها ثمانية أصناف، فإن كنت من تلك الأجزاء أعطيتك» وأجاب الآخرون بأن ما في الآية من القصر إنما هو لبيان الصرف والمصرف، لا لوجوب استيعاب الأصناف، وبأن في إسناد الحديث عبد الرحمن بن زياد بن أنعم الإفريقي وهو ضعيف.
ومما يؤيد ما ذهب إليه الآخرون قوله تعالى: {إِن تُبْدُواْ الصدقات فَنِعِمَّا هي وَإِن تُخْفُوهَا وَتُؤْتُوهَا الفقراء فَهُوَ خَيْرٌ لَّكُمْ} [البقرة: 271] والصدقة تطلق على الواجبة كما تطلق على المندوبة.
وصح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: «أمرت أن آخذ الصدقة من أغنيائكم وأردّها في فقرائكم» وقد ادّعى مالك الإجماع على القبول الآخر.
قال ابن عبد البرّ: يريد إجماع الصحابة، فإنه لا يعلم له مخالفًا منهم.
قوله: {لِلْفُقَرَاء} قدمهم، لأنهم أحوج من البقية على المشهور لشدّة فاقتهم وحاجتهم.
وقد اختلف أهل العلم في الفرق بين الفقير والمسكين على أقوال: فقال يعقوب بن السكيت، والقتيبي، ويونس ابن حبيب: إن الفقير أحسن حالًا من المسكين، قالوا: لأن الفقير هو الذي له بعض ما يكفيه ويقيمه.
والمسكين الذي لا شيء له، وذهب إلى هذا قوم من أهل الفقه منهم أبو حنيفة.
وقال آخرون بالعكس، فجعلوا المسكين أحسن حالًا من الفقير، واحتجوا بقوله تعالى: {أَمَّا السفينة فَكَانَتْ لمساكين} [الكهف: 79].
فأخبر أن لهم سفينة من سفن البحر.
وربما ساوت جملة من المال، ويؤيده تعوّذ النبيّ صلى الله عليه وسلم من الفقر مع قوله: «اللهم أحيني مسكينًا وأمتني مسكينًا» وإلى هذا ذهب الأصمعي وغيره من أهل اللغة.
وحكاه الطحاوي عن الكوفيين، وهو أحد قولي الشافعي وأكثر أصحابه.
وقال قوم: إن الفقير والمسكين سواء لا فرق بينهما وهو أحد قولي الشافعي، وإليه ذهب ابن القاسم وسائر أصحاب مالك، وبه قال أبو يوسف.
وقال قوم: الفقير المحتاج المتعفف، والمسكين: السائل.
قاله الأزهري، واختاره ابن شعبان، وهو مرويّ عن ابن عباس.
وقد قيل غير هذه الأقوال مما لا يأتي الاستكثار منه بفائدة يعتدّ بها.
والأولى في بيان ماهية المسكين: ما ثبت عن رسول الله صلى الله عليه وسلم عند البخاري ومسلم، وغيرهما، من حديث أبي هريرة، أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: «ليس المسكين بهذا الطواف الذي يطوف على الناس فتردّه اللقمة واللقمتان والتمرة والتمرتان»، قالوا: فما المسكين يا رسول الله؟ قال: «الذي لا يجد غنى يغنيه، ولا يفطن له فيتصدّق عليه، ولا يسأل الناس شيئًا» قوله: {والعاملين عَلَيْهَا} أي: السعاة والجباة الذين يبعثهم الإمام لتحصيل الزكاة، فإنهم يستحقون منها قسطًا.