فصل: قال ابن القيم:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



وقال صلى الله عليه وسلم ألا أخبركم بملوك أهل الجنة قالوا بلى يا رسول الله قال كل ضعيف مستضعف أغبر أشعث ذى طمرين لا يؤبه له لو أقسم على الله لأبره حديث ألا أخبركم عن ملوك الجنة الحديث متفق عليه من حديث حارثة بن وهب مختصرا ولم يقل ملوك وقد تقدم ولابن ماجه بسند جيد من حديث معاذ ألا أخبركم عن ملوك الجنة الحديث دون قوله أغبر أشعث.
وقال عمران بن حصين كانت لى من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه فقال يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاها فهل لك في عيادة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم قلت نعم بأبى أنت وأمى يا رسول الله فقام وقمت معه حتى وقف بباب فاطمة فقرع الباب وقال السلام عليكم أأدخل فقالت ادخل يا رسول الله قال أنا ومن معى قالت ومن معك يا رسول الله قال عمران فقالت فاطمة والذى بعثك بالحق نبيا ما على إلا عباءة قال اصنعى بها هكذا وهكذا وأشار بيده فقالت هذا جسدى قد واريته فكيف برأسى فألقى إليها ملاءة كانت عليه خلقة فقال شدى على رأسك ثم أذنت له فدخل فقال: السلام عليكم يا ابنتاه كيف أصبحت قالت أصبحت والله وجعة وزادني وجعا على ما بى أنى لست أقدر على طعام آكله فقد أضر بى الجوع فبكى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال لا تجزعى يا ابنتاه فو الله ما ذقت طعاما منذ ثلاث وإنى لأكرم على الله منك ولو سألت ربى لأطعمنى ولكنى آثرت الآخرة على الدنيا ثم ضرب بيده على منكبها وقال لها أبشري فو الله إنك لسيدة نساء أهل الجنة قالت فأين آسية امرأة فرعون ومريم بنت عمران قال آسيه سيدة نساء عالمها ومريم سيدة نساء عالمها وأنت سيدة نساء عالمك إنكن في بيوت من قصب لا أذى فيها ولا صخب ولا نصب ثم قال لها اقنعي بابن عمك فو الله لقد زوجتك سيدا في الدنيا سيدا في الآخرة حديث عمران ابن حصين كانت لي من رسول الله صلى الله عليه وسلم منزلة وجاه فقال يا عمران إن لك عندنا منزلة وجاها فهل لك في عيادة فاطمة الحديث تقدم.
وروى عن على كرم الله وجهه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا وتكالبوا على جمع الدراهم رماهم الله بأربع خصال بالقحط من الزمان والجور من السلطان والخيانة من ولاة الأحكام والشوكة من الأعداء حديث إذا أبغض الناس فقراءهم وأظهروا عمارة الدنيا الحديث أخرجه أبو منصور الديلمي بإسناد فيه جهالة وهو منكر.
وأما الآثار فقد قال أبو الدرداء رضى الله عنه ذو الدرهمين أشد حبسا أو قال أشد حسابا من ذى الدرهم.
وأرسل عمر رضى الله عنه إلى سعيد بن عامر بألف دينار فجاء حزينا كئيبا فقالت امرأته أحدث أمر قال أشد من ذلك ثم قال أرينى درعك الخلق فشقه وجعله صررا وفرقه ثم قام يصلى ويبكى إلى الغداة ثم قال سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول يدخل فقراء أمتى الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام حتى إن الرجل من الأغنياء يدخل في غمارهم فيؤخذ بيده فيستخرج حديث سعيد بن عامر يدخل فقراء المسلمين الجنة قبل الأغنياء بخمسمائة عام الحديث وفي أوله قصة أن عمر بعث إلى سعيد بألف دينار فجاء كئيبا حزينا وفرقها وقد روى أحمد في الزهد القصة إلا أنه قال تسعين عاما وفي إسناده يزيد بن أبي زياد تكلم فيه وفي رواية له بأربعين سنة وأما دخولهم قبلهم بخمسمائة عام فهو عند الترمذي من حديث أبي هريرة وصححه وقد تقدم.
وقال أبو هريرة ثلاثة يدخلون الجنة بغير حساب رجل يريد أن يغسل ثوبه فلم يكن له خلق يلبسه ورجل لم ينصب على مستوقد قدرين ورجل دعا بشرابه فلا يقال له أيها تريد.
وقيل جاء فقير إلى مجلس الثورى رحمه الله فقال له تخط لو كنت غنيا لما قربتك وكان الأغنياء من أصحابه يودون أنهم فقراء لكثرة تقريبه للفقراء وإعراضه عن الأغنياء وقال المؤمل ما رأيت الغنى أذل منه في مجلس الثورى ولا رأيت الفقير أعز منه في مجلس الثورى رحمه الله.
وقال بعض الحكماء مسكين ابن آدم لو خاف من النار كما يخاف من الفقر لنجا منهما جميعا ولو رغب في الجنة كما يرغب في الغنى لفاز بهما جميعا ولو خاف الله في الباطن كما يخاف خلقه في الظاهر لسعد في الدارين جميعا.
وقال ابن عباس ملعون من أكرم بالغنى وأهان بالفقر.
وقال يحيى بن معاذ حبك الفقراء من أخلاق المرسلين وإيثارك مجالستهم من علامة الصالحين وفرارك من صحبتهم من علامة المنافقين.
وفى الأخبار عن الكتب السالفة أن الله تعالى أوحى إلى بعض أنبيائه عليهم السلام احذر أن أمقتك فتسقط من عينى فأصب الدنيا عليك صبا.
ولقد كانت عائشة رضى الله عنها تفرق مائة ألف درهم في يوم واحد يوجهها إليها معاوية وابن عامر وغيرهما وإن درعها لمرقوع وتقول لها الجارية لو اشتريت لك بدرهم لحما تفطرين عليه وكانت صائمة فقالت لو ذكرتينى لفعلت وكان قد أوصاها رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال إن أردت اللحوق بى فعليك بعيش الفقراء وإياك ومجالسة الأغنياء ولا تنزعى درعك حتى ترقعيه حديث قال لعائشة إن أردت اللحوق بي فعليك بعيش الفقراء وإياك ومجالسة الأغنياء الحديث أخرجه الترمذي وقال غريب والحاكم وصححه نحوا من حديثها وقد تقدم.
وجاء رجل إلى إبراهيم بن أدهم بعشرة آلاف درهم فأبى عليه أن يقبلها فألح عليه الرجل فقال له إبراهيم أتريد أن أمحو اسمى من ديوان الفقراء بعشرة آلاف درهم لا أفعل ذلك أبدا رضي الله عنه. اهـ. بتصرف يسير.

.قال ابن القيم:

ومن منازل إياك نعبد وإياك نستعين منزلة الفقر:
هذه المنزلة أشرف منازل الطريق عند القوم وأعلاها وأرفعها بل هي روح كل منزلة وسرها ولبها وغايتها.
وهذا إنما يعرف بمعرفة حقيقة الفقر والذي تريد به هذه الطائفة أخص من معناه الأصلي فإن لفظ الفقر وقع في القرآن في ثلاثة مواضع أحدها: قوله تعالى: {لِلْفُقَرَاءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْبًا فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجَاهِلُ أَغْنِيَاءَ مِنَ التَّعَفُّفِ} الآية [البقرة: 273] أي الصدقات لهؤلاء كان فقراء المهاجرين نحو أربعمائة لم يكن لهم مساكن في المدينة ولا عشائر وكانوا قد حبسوا أنفسهم على الجهاد في سبيل الله فكانوا وقفا على كل سرية يبعثها رسول الله صلى الله عليه وسلم وهم أهل الصفة هذا أحد الأقوال في إحصارهم في سبيل الله وقيل: هو حبسهم أنفسهم في طاعة الله وقيل: حبسهم الفقر والعدم عن الجهاد في سبيل الله وقيل: لما عادوا أعداء الله وجاهدوهم في الله تعالى: أحصروا عن الضرب في الأرض لطلب المعاش فلا يستطيعون ضربا في الأرض والصحيح: أنهم لفقرهم وعجزهم وضعفهم لا يستطيعون ضربا في الأرض ولكمال عفتهم وصيانتهم يحسبهم من لم يعرف حالهم أغنياء.
والموضع الثاني: قوله تعالى: {إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ} الآية [التوبة: 60] والموضع الثالث: قوله تعالى: {يَا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَرَاءُ إِلَى اللَّهِ} [فاطر: 15].
فالصنف الأول: خواص الفقراء والثاني: فقراء المسلمين خاصهم وعامهم والثالث: الفقر العام لأهل الأرض كلهم: غنيهم وفقيرهم مؤمنهم وكافرهم فالفقراء الموصوفون في الآية الأولى: يقابلهم أصحاب الجدة ومن ليس محصرا في سبيل الله ومن لا يكتم فقره تعففا فمقابلهم أكثر من مقابل الصنف الثاني والصنف الثاني: يقابلهم الأغنياء أهل الجدة ويدخل فيهم المتعفف وغيره والمحصر في سبيل الله وغيره والصنف الثالث: لا مقابل لهم بل الله وحده الغني وكل ما سواه فقير إليه ومراد القوم بالفقر: شيء أخص من هذا كله وهو تحقيق العبودية والافتقار إلى الله تعالى في كل حالة.
وهذا المعنى أجل من أن يسمى فقرا بل هو حقيقة العبودية ولبها وعزل النفس عن مزاحمة الربوبية وسئل عنه يحيى بن معاذ فقال: حقيقته أن لا يستغني إلا بالله ورسمه: عدم الأسباب كلها يقول: عدم الوثوق بها والوقوف معها وهو كما قال بعض المشايخ: شيء لا يضعه الله إلا عند من يحبه ويسوقه إلى من يريده وسئل رويم عن الفقر فقال: إرسال النفس في أحكام الله وهذا إنما يحمد في إرسالها في الأحكام الدينية والقدرية التي لا يؤمر بمدافعتها والتحرز منها.
وسئل أبو حفص: بم يقدم الفقير على ربه فقال: ما للفقير شيء يقدم به على ربه سوى فقره وحقيقة الفقر وكماله كما قال بعضهم وقد سئل: متى يستحق الفقير اسم الفقر فقال: إذا لم يبق عليه بقية منه فقيل له: وكيف ذاك فقال: إذا كان له فليس له وإذا لم يكن له فهو له.
وهذه من أحسن العبارات عن معنى الفقر الذي يشير إليه القوم وهو أن يصير كله لله عز وجل لا يبقى عليه بقية من نفسه وحظه وهواه فمتى بقي عليه شيء من أحكام نفسه ففقره مدخول ثم فسر ذلك بقوله: إذا كان له فليس له أي إذا كان لنفسه فليس لله وإذا لم يكن لنفسه فهو لله فحقيقة الفقر أن لا تكون لنفسك ولا يكون لها منك شيء بحيث تكون كلك لله وإذا كنت لنفسك فثم ملك واستغناء مناف للفقر وهذا الفقر الذي يشيرون إليه: لا تنافيه الجدة ولا الأملاك فقد كان رسل الله وأنبياؤه في ذروته مع جدتهم وملكهم كإبراهيم الخليل كان أبا الضيفان وكانت له الأموال والمواشي وكذلك كان سليمان وداود عليهما السلام وكذلك كان نبينا كان كما قال الله تعالى: {وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى} [الضحى: 8] فكانوا أغنياء في فقرهم فقراء في غناهم فالفقر الحقيقي: دوام الافتقار إلى الله في كل حال وأن يشهد العبد في كل ذرة من ذراته الظاهرة والباطنة فاقة تامة إلى الله تعالى من كل وجه فالفقر ذاتي للعبد وإنما يتجدد له لشهوده ووجوده حالا وإلا فهو حقيقة كما قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه:
والفقر لي وصف ذات لازم أبدا ** كما الغنى أبدا وصف له ذاتي

وله آثار وعلامات وموجبات وأسباب أكثر إشارات القوم إليها كقول بعضهم: الفقير لا تسبق همته خطوته يريد: أنه ابن حاله ووقته فهمته مقصورة على وقته لاتتعداه وقيل: أركان الفقر أربعة: علم يسوسه وورع يحجزه ويقين يحمله وذكر يؤنسه وقال الشبلي: حقيقة الفقر أن لا يستغني بشيء دون الله وسئل سهل بن عبدالله: متى يستريح الفقير فقال: إذا لم ير لنفسه غير الوقت الذي هو فيه وقال أبو حفص: أحسن ما يتوسل به العبد إلى الله: دوام الافتقار إليه على جميع الأحوال وملازمة السنة في جميع الأفعال وطلب القوت من وجه حلال وقيل: من حكم الفقر: أن لا تكون له رغبة فإذا كان ولابد فلا تجاوز رغبته كفايته وقيل: الفقير من لا يملك ولا يملك وأتم من هذا: من يملك ولا يملكه مالك وقيل: من أراد الفقر لشرف الفقر مات فقيرا ومن أراده لئلا يشتغل عن الله بشيء مات غنيا والفقر له بداية ونهاية وظاهر وباطن فبدايته: الذل ونهايته: العز وظاهره: العدم وباطنه: الغنى كما قال رجل لآخر: فقر وذل فقال: لا بل فقر وعز قال: فقر وثراء قال: لا بل فقر وعرش وكلاهما مصيب واتفقت كلمة القوم على أن دوام الافتقار إلى الله مع التخليط خير من دوام الصفاء مع رؤية النفس والعجب مع أنه لا صفاء معهما وإذا عرفت معنى الفقر علمت أنه عين الغنى بالله فلا معنى لسؤال من سأل: أي الحالين أكمل الافتقار إلى الله أم الاستغناء به.
فهذه مسألة غير صحيحة فإن الاستغناء به هو عين الافتقار إليه وسئل عن ذلك محمد بن عبدالله الفرغاني فقال: إذا صح الافتقار إلى الله تعالى فقد صح الاستغناء بالله وإذا صح الاستغناء بالله كمل الغنى به فلا يقال أيهما أفضل: الافتقار أم الاستغناء لأنهما حالتان لا تتم إحداهما إلا بالأخرى وإما كلامهم في مسألة الفقير الصابر والغني الشاكر وترجيح أحدهما على صاحبه فعند أهل التحقيق والمعرفة: أن التفضيل لا يرجع إلى ذات الفقر والغنى وإنما يرجع إلى الأعمال والأحوال والحقائق فالمسألة أيضا فاسدة في نفسها فإن التفضيل: عند الله تعالى بالتقوى وحقائق الإيمان لا بفقر ولا غنى كما قال تعالى: {إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ} [الحجرات: 13] ولم يقل أفقركم ولا أغناكم قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه: والفقر والغنى ابتلاء من الله لعبده كما قال تعالى: {فأما الإنسان إذا ما ابتلاه ربه فأكرمه ونعمه فيقول ربي أكرمن وأما إذا ما ابتلاه فقدر عليه رزقه فيقول رَبِّي أَهَانَنِ كَلاَّ} [الفحر: 15-16] أي ليس كل من وسعت عليه وأعطيته: أكون قد أكرمته ولا كل من ضيقت عليه وقترت: أكون قد أهنته فالإكرام: أن يكرم الله العبد بطاعته والإيمان به ومحبته ومعرفته والإهانة: أن يسلبه ذلك قال يعني ابن تيمية ولا يقع التفاضل بالغني والفقر بل بالتقوى فإن استويا في التقوى استويا في الدرجة سمعته يقول ذلك وتذاكروا هذه المسألة عند يحيى بن معاذ فقال: لا يوزن غدا الفقر ولا الغنى وإنما يوزن الصبر والشكر وقال غيره: هذه المسألة محال من وجه آخر وهو أن كلا من الغني والفقير لابد له من صبر وشكر فإن الإيمان نصفان: نصف صبر ونصف شكر بل قد يكون نصيب الغني وقسطه من الصبر أوفر لأنه يصبر عن قدرة فصبره أتم من صبر من يصبر عن عجز ويكون شكر الفقير أتم لأن الشكر هو استفراغ الوسع في طاعة الله والفقير أعظم فراغا للشكر من الغني فكلاهما لا تقوم قائمة إيمانه إلا على ساقي الصبر والشكر نعم الذي يحكي الناس من هذه المسألة: فرعا من الشكر وفرعا من الصبر وأخذوا في الترجيح بينهما فجردوا غنيا منفقا متصدقا باذلا ماله في وجوه القرب شاكرا لله عليه وفقيرامتفرغا لطاعة الله ولأوراد العبادات من الطاعات صابرا على فقره فهل هو أكمل من ذلك الغني أم الغني أكمل منه فالصواب في مثل هذا: أن أكملهما أطوعهما فإن تساوت طاعتهما تساوت درجاتهما والله أعلم.