فصل: التفسير المأثور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



ولو فضحهم صلى الله عليه وسلم أمام المؤمنين لضاعت هيبتهم تمامًا. وإن فكر أحدهم في ترك النفاق إلى الإيمان، لوجد صعوبة شديدة في ذلك؛ لأن أحدًا لن يصدقه. ولكن أراد صلى الله عليه وسلم أن يسترهم أمام المؤمنين؛ فجعل باب الإيمان مفتوحًا على مصراعيه؛ لأن صلى الله عليه وسلم إنما جاء رحمة للعالمين، ولذلك فهو يحرص على أن يبقي باب التوبة وباب الإيمان أمامهم مفتوحًا دائمًا مع حفظ كرامتهم.
قول الحق سبحانه وتعالى: {وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أي: يصدقهم، وكلمة الإيمان بالنسبة للناس جاءت في آيات كثيرة، منها قوله تعالى حين أعلن السحرة إيمانهم برب موسى وسجدوا؛ قال لهم فرعون: {آمَنتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ ءَاذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الذي عَلَّمَكُمُ السحر...} [طه: 71].
ومعنى {آمَنتُمْ لَهُ} أي: صدَّقتموه، ولكن ما هو الفرق بين الباء واللام؟ أنت حين تقول: آمنا بالله. فأنت تعلن أنك قد آمنت بالذات بكل صفات الكمال فيها، وحين تقول: آمنت للمؤمنين فيما قالوه، أي صدقتهم لأنهم مؤمنون.
ومادة آمن تدور كلها حول الأمن والطمأنينة، ولكنها تأتي مرة لازمة ومرة متعدية. مثلما تقول: آمنت الطريق أي: اطمأننت إلى أنه لن يصيبني فيه شر. ومنها قول يعقوب عليه السلام لبنيه: {قَالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَمَا أَمِنتُكُمْ على أَخِيهِ مِن قَبْلُ...} [يوسف: 64].
أي: أن السابقة هنا أنه آمنهم على يوسف فلم يرعوا الأمانة، فصار لا يأمنهم على أخي يوسف، وهذه آمن اللازمة. أما المتعدية فهي التي يتعدد فيها الأمن، مثل قوله تعالى: {وَآمَنَهُم مِّنْ خَوْفٍ...} [قريش: 4].
والخوف متعدد في أشكاله، فهناك مثلًا خوف من الظلام، وخوف من العدو، وخوف من مخاطر الطريق، إذن: فالأمن هنا شمل أشياء متعددة وقد أدخلهم الحق سبحانه في الأمان والطمأنينة من أشياء متعددة.
وقوله تعالى: {يُؤْمِنُ بالله} هو إيمان بالذات، وإيمان بالصفات، وإيمان بالمنهج، وإيمات يسع أمة رسول الله صلى الله عليه وسلم كلها، فكأن الإيمان هنا قد تعددت جوانبه. أما الإيمان للمؤمنين فهو تصديق لهم وهذا هو الخير الثاني. وقوله سبحانه: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ}؛ لأنه صلى الله عليه وسلم شفيع لهم يوم القيامة، وقال: «أمتي أمتي». وهو رحمة لهم في الدنيا؛ لأنه يقودهم إلى الخير الذي يقودهم إلى سعادة الدنيا ثم إلى جنة الآخرة، ويبعدهم عن الشر والنار؛ فهو صلى الله عليه وسلم رحمة تدفع الضرر وتأتي بالخير، والرحمة إنما تأتي باتقاء الضرر.
والله سبحانه وتعالى يقول: {شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ...} [الإسراء: 82].
الشفاء يعني أن يكون هناك مرض ويشفى الإنسان منه، والرحمة ألا ياتي المرض، فكأن رسول الله صلى الله عليه وسلم يبشر بمنهج إذا اتبعه الناس وآمنوا به؛ كان لهم وقاية فلا يصيبهم شر في الدنيا ولا نار في الآخرة.
ويتساءل بعض الناس: لقد قال الحق سبحانه وتعالى: {وَرَحْمَةٌ لِّلَّذِينَ آمَنُواْ مِنكُمْ} والمنافقون قد آمنوا بألسنتهم فقط فما موقفهم؟ نقول: إن الرسول عليه الصلاة والسلام؛ لأنه رحمة فقد احترم كلمة اللسان وصدقهم أمام الناس، أما الحق سبحانه فينزلهم في جهنم.
ثم يقول سبحانه وتعالى: {والذين يُؤْذُونَ رَسُولَ الله لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وإيذاء المنافقين لرسول الله صلى الله عليه وسلم لم يكن بالمواجهة؛ لأنهم أعلنوا كلمة الإيمان، وكان الإيذاء لرسول الله صلى الله عليه وسلم من المنافقين في قلوبهم وفيما بينهم في مجالسهم، ولذلك لم يكن الإيذاء منهم مباشرة قط، ولكن الآيات بينت أنواع الإيذاء بأنهم يلمزون في الصدقات، ويقولون: إنه أُذُنُ، ويحلفون له كذبًا ليضللوه، إلى آخر ما كانوا يفعلون. اهـ.

.التفسير المأثور:

قال السيوطي:
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ (61)}
أخرج ابن إسحق وابن المنذر وابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان نبتل بن الحرث يأتي رسول الله صلى الله عليه وسلم فيجلس إليه فيسمع منه ثم ينقل حديثه إلى المنافقين، وهو الذي قال لهم: إنما محمد أذن من حدثه شيئًا صدقه، فأنزل الله فيه {ومنهم الذين يؤذون النبي ويقولون هو أذن} الآية.
وأخرج ابن أبي حاتم عن السدي قال: اجتمع ناس من المنافقين فيهم جلاس بن سويد بن صامت، وجحش بن حمير، ووديعة بن ثابت، فأرادوا أن يقعوا في النبي صلى الله عليه وسلم، فنهى بعضهم بعضًا وقالوا: أنا نخاف أن يبلغ محمدًا فيقع بكم، وقال بعضهم: إنما محمد أذن نحلف له فيصدقنا. فنزل: {ومنهم الذين يؤذون النبي} الآية.
وأخرج ابن جرير وابن المنذر وابن أبي حاتم وابن مردويه عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ويقولون هو أذن} يعني أنه يسمع من كل أحد.
قال الله عزَّ وجل: {قل أذن خير لكم يؤمن بالله ويؤمن للمؤمنين} يعني يصدق بالله ويصدق المؤمنين.
وأخرج ابن أبي حاتم عن ابن عباس رضي الله عنهما في قوله: {ويقولون هو أذن} أي يسمع ما يقال له.
وأخرج ابن أبي شيبة وابن المنذر وابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن مجاهد رضي الله عنه {ويقولون هو أذن} يقولون: سنقول له ما شئنا ثم نحلف له فيصدقنا.
وأخرج ابن أبي حاتم وأبو الشيخ عن عطاء رضي الله عنه قال: الأذن الذي يسمع من كل أحد ويصدقه.
وأخرج أبو الشيخ عن الضحاك رضي الله عنه في قوله: {يؤمن بالله} قال: يصدق الله بما أنزل إليه {ويؤمن للمؤمنين} يصدق المؤمنين فيما بينهم في شهاداتهم وإيمانهم على حقوقهم وفروجهم وأموالهم.
وأخرج الطبراني وابن عساكر وابن مردويه عن عمير بن سعد قال: فيَّ أنزلت هذه الآية: {ويقولون هو أذن} وذلك أن عمير بن سعد كان يسمع أحاديث أهل المدينة فيأتي النبي صلى الله عليه وسلم فيساره حتى كانوا يتأذون بعمير بن سعد، وكرهوا مجالسته وقالوا {هو أذن} والله أعلم. اهـ.

.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ}
قوله تعالى: {أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ}: {أُذُن} خبر مبتدأ محذوف، أي: قل هو أُذُنُ خيرٍ. والجمهور على جرِّ {خيرٍ} بالإِضافة.
وقرأ الحسن ومجاهد وزيد بن علي وأبو بكر عن عاصم {أُذنٌ} بالتنوين، {خيرٌ} بالرفع وفيها وجهان، أحدهما: أنها وصف لـ {أُذُن}. والثاني: أن يكون خبرًا بعد خبر. و{خير} يجوز أن تكون وصفًا من غير تفضيل، أي: أُذُنُ ذو خيرٍ لكم، ويجوز أن تكونَ للتفضيل على بابها، أي: أكثر خير لكم. وجوَّز صاحب اللوامح أن يكونَ «أذن» مبتدأ و«خير» خبرها، وجاز الابتداءُ هنا بالنكرة لأنها موصوفةٌ تقديرًا، أي: أذنٌ لا يؤاخذكم خير لكم مِنْ أُذُنٍ يؤاخذكم.
ويقال: رَجُلٌ أُذُنٌ، أي: يسمع كل ما يقال. وفيه تأويلان أحدهما: أنه سُمِّي بالجارحة لأنها آلة السماع، وهي معظم ما يُقْصد منه كقولهم للربيئة: عين. وقيل: المرادُ بالأذن هنا الجارحة، وحينئذٍ تكونُ على حَذْف مضاف، أي: ذو أذن. والثاني: أن الأذن وصفٌ على فُعُل كأُنُف وشُلل، يقال: أَذِن يَأْذَن فهو أُذُن، قال:
وقد صِرْتَ أُذْنًا للوُشاة سَميعةً ** ينالُون مِنْ عِرْضي ولو شئتَ ما نالوا

قوله: {وَرَحْمَةٌ}، قرأ الجمهور: {ورحمة}، رفعًا نسقًا على {أذن} و{رحمة}، فيمن رفع {رحمة}. وقال بعضهم: هو عطف على {يؤمن}؛ لأن {يؤمن} في محل رفع صفة لـ {أذن} تقديره: أذن مؤمنٌ ورحمةٌ.
وقرأ حمزةُ والأعمش: {ورحمة} بالجر نسقًا على {خير} المخفوض بإضافة {أذن} إليه. والجملة على هذه القراءة معترضةٌ بين المتعاطفين تقديره: أذن خير ورحمة.
وقرأ ابن أبي عبلة: {ورحمةً} نصبًا على أنه مفعول من أجله، والمعلل محذوف، أي: يَأْذَنُ لكم رحمةً بكم، فحذف لدلالة قوله: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ}.
والباءُ واللام في {يؤمن بالله} {ويؤمن للمؤمنين} مُعَدِّيتان قد تقدَّم الكلامُ عليهما في أول هذه الموضوع. وقال الزمخشري: قصد التصديقَ بالله الذي هو نقيض الكفر فعدى بالباء، وقصد الاستماعَ للمؤمنين، وأن يُسَلِّم لهم ما يقولون فعدى باللام، ألا ترى إلى قوله: {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17]. ما أنباه عن الباء، ونحوه: {فَمَا آمَنَ لموسى} [يونس: 83] {أَنُؤْمِنُ لَكَ واتبعك الأرذلون} [الشعراء: 111] {آمَنتُمْ لَهُ} [الشعراء: 49]. وقال ابن قتيبة: هما زائدتان، والمعنى: يصدِّق الله ويصدِّق المؤمنين وهذا قولٌ مردودٌ، ويدلُّ على عدم الزيادة تغايرُ الحرف الزائد، فلو لم يُقْصَدْ معنىً مستقلٌ لَمَا غاير بين الحرفين وقال المبرد: هي متعلقةٌ بمصدرٍ مقدر من الفعل كأنه قال: وإيمانه للمؤمنين.
وقيل: يقال: آمنتُ لك بمعنى صَدَّقْتُكَ، ومنه {وَمَا أَنتَ بِمُؤْمِنٍ لَّنَا} وعندي أن هذه اللامَ في ضمنها {ما} فالمعنى: ويصدِّق للمؤمنين بما يُخبرونه به. وقال أبو البقاء: واللام في للمؤمنين زائدةٌ دَخَلَتْ لتفرِّقَ بين {يؤمن} بمعنى يُصَدِّق، وبين يؤمن بمعنى يثبت الإِيمان. اهـ.

.من لطائف وفوائد المفسرين:

.من لطائف القشيري في الآية:

قال عليه الرحمة:
قوله جلّ ذكره: {وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النبي وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} عين العداوة بالمساوئ مُوَكَّلَة، وعين الرضا عن المعايب كليلة.
بسطوا اللائمة في رسول الله صلى الله عليه وسلم فعابوه بما هو أمارة كرمه، ودلالة فضله، فقالوا: إنه بحسن خُلُقِه يسمع ما يقال له، فقال عليه السلام: «المؤمِن غِرٌّ كريم والمنافق خَبٌّ لئيم».
قوله جلّ ذكره: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَّكُمْ يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنكُمْ وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللهِ لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ}.
وقيل: مَنْ العاقلُ؟ قالوا: الفَطِنُ المُتَغافِل. وفي معناه أنشدوا:
وإذا الكريمُ أتيْتَه بخديعةٍ ** ولقِيتَه فيما ترومُ يُسارعُ

فاعلمُ بأنَّكَ لم تُخادِعْ جاهلًا ** إنَّ الكريم بفضله يتخادع

اهـ.

.قال المقريزي:

.فصل: في ذكر من سب رسول الله صلّى الله عليه وسلّم أو آذاه أو تنقصه أو وقع فيه:

خرج أبو داود من حديث عباد بن موسى الختّليّ، أخبرنا إسماعيل بن جعفر المدني عن إسرائيل، عن عثمان الشحام، عن عكرمة، قال: حدثنا ابن عباس، أن أعمى كانت له أم ولد تشتم النبيّ صلّى الله عليه وسلّم وتقع فيه، فينهاها فلا تنتهي، ويزجرها فلا تنزجر، قال: فلما كانت ذات ليلة جعلت تقع في النبي صلّى الله عليه وسلّم وتشتمه، فأخذ المغول فوضعه في بطنها، واتكأ عليها فقتلها.
فوقع بين رجليها طفل فلطخت ما هناك بالدم، فلما أصبح ذكر ذلك لرسول الله صلّى الله عليه وسلّم فجمع الناس فقال: أنشد الله رجلا فعل ما فعل، لي عليه حق إلا قام، فقام الأعمى يتخطى الناس وهو يتزلزل، حتى قعد بين يدي النبي صلّى الله عليه وسلّم فقال: يا رسول الله أنا صاحبها: كانت تشتمك وتقع فيك فأنهاها فلا تنتهي وأزجرها فلا تنزجر، ولى منها ابنان مثل اللؤلؤتين، وكانت بي رفيقة، فلما كان البارحة جعلت تشتمك وتقع فيك، فأخذت المغول فجعلته في بطنها واتكأت عليها حتى قتلتها، فقال النبي صلّى الله عليه وسلّم: ألا اشهدوا أن دمها هدر.
وخرجه الحاكم من حديث إسرائيل به نحوه وقال: حديث صحيح الإسناد. وقال ابن الكلبي: وعمير بن عدي بن خرشة القارئ، ناصر رسول الله صلّى الله عليه وسلّم كانت امرأة هجت النبي صلّى الله عليه وسلّم فأتاها فقتلها في منزلها وقال ابن عبد البر: عمير الخطميّ القاري من بني خطمه من الأنصار، وكان أعمى كانت له أخت تشتم النبي صلّى الله عليه وسلّم فقتلها فقال رسول الله صلّى الله عليه وسلّم: أبعدها الله.
قال المؤلف: هذا هو الّذي ذكره ابن الكلبي، فإن عمير بن عدي بن خرشة من بني خطمة وهو عبد الله بن جشم بن مالك بن دوس.
ولأبي داود من طريق جرير، عن مغيرة، عن الشعبي، عن علي- رضي الله تبارك وتعالى عنه- قال: إن يهودية كانت تشتم رسول الله صلّى الله عليه وسلّم وتقع فيه فخنقها رجل حتى ماتت، فأبطل النبي صلّى الله عليه وسلّم دمها.