فصل: فصل: في حكم الذميّ إذا صرح بسب النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عرّض أو استخفّ بقدره:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



فأما ما لا يصح من هذه الأحاديث فواجب أن لا يذكر منها شيء في حق الله تعالى ولا في حق أنبيائه، ولا يتحدث بها ولا يتكلف الكلام على معانيها، والصواب طرحها، وترك الشغل بها، إلا أن يذكر على وجه التعريف بأنها ضعيفة المفاد، واهية الإسناد، وقد أنكر الأشياخ على أبي بكر بن فورك تكلفه في مشكله الكلام على أحاديث ضعيفة موضوعة لا أصل لها، أو منقولة عن أهل الكتاب الذين يلبسون الحق بالباطل، كان يكفيه طرحها ويغنيه على الكلام عليها التنبيه على ضعفها، إذ المقصود بالكلام على مشكل ما فيها، أزال اللبس بها واجتثاثها من أصلها وطرحها، أكشف للبس، وأشفى للنفس.
قال: ومما يجب على المتكلم فيما يجوز على النبي وما لا يجوز والمذاكر أن يلتزم في كلامه عند ذكره صلّى الله عليه وسلّم وذكر تلك الأحوال الواجبة من توقيره وتعظيمه، ويراقب حال لسانه، ولا يهمله وتظهر عليه علامات الأدب عند ذكره صلّى الله عليه وسلّم فإذا ذكر ما قاساه من الشدائد ظهر عليه الإشفاق والغيظ على عدوه، ومودة الفداء للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم والنصرة له لو أمكنه، وإذا أخذ في أبواب العصمة وتكلم على مجاري أعماله وأقواله صلّى الله عليه وسلّم، يجرى أحسن اللفظ، وأدب العبارة ما أمكنه، وهجر من العبارة ما يقبح كلفظة الجهل، والكذب، والمعصية.
فإذا تكلم في الأقوال قال: هل يجوز عليه الخلف في القول والإخبار بخلاف ما وقع سهوا أو غلطا؟ ونحوه من العبارة ويتجنب لفظه الكذب جملة واحدة، وإذا تكلم على العلم قال: هل يجوز أن لا يعلم إلا ما علم؟ وهل يمكن أن لا يكون عنده علم من بعض الأشياء حتى يوحى إليه؟ ولا يقول بجهل لقبح اللفظ وبشاعته، وإذا تكلم في الأفعال قال: هل يجوز منه المخالفة في بعض الأوامر والنواهي ومواقعة الصغائر؟ فهو أولى وأدب من قوله: هل يجوز أن يعصي أو يذنب؟ أيفعل كذا وكذا من أنواع المعاصي؟ فهذا من حق توقيره صلّى الله عليه وسلّم وما يجب له من تعزيز وإعظام.
قال: وإذا كان مثل هذا بين الناس مستعملا في آدابهم وحسن معاشرتهم وخطابهم ومطالبهم، فاستعماله في حقه صلّى الله عليه وسلّم أوجب، والتزامه آكد، فجودة العبارة تفج الشيء أو تحسنه، وتحريرها وتهذيبها يعظم الأمر أو يهونه، ولهذا قال صلّى الله عليه وسلّم: إن من البيان لسحرا. فأما ما أورده على جهة النفي عنه والتنزيه فلا حرج في تسريح العبارة وتصريحها فيه، كقوله: لا يجوز عليه الكذب جملة ولا إتيان الكبائر بوجه، ولا الجور في الحكم على حال ولكن مع هذا يجب ظهور توقيره، وتعظيمه، وتعزيزه عند ذكره مجردا، فكيف عند ذكر مثل هذا؟
قال في حكم سابّه، وشانئه، ومنتقصه ومؤذيه: وعقوبته أن مشهور مذهب مالك وأصحابه وقول السلف وجمهور العلماء قبله حدا لا كفرا إن أظهر التوبة منه ولهذا لا يقبل عندهم توبته، لا تنفعه استقالته ولا فيأته فيه، وحكمه حكم الزنديق، ومسّر الكفر، وسواء كانت توبته على هذا بعد القدرة عليه، والشهادة على قوله، أو جاء تائبا من قبل نفسه، لأنه حد واجب لا تسقطه التوبة.
قال أبو الحسن القابسي: إذا أقر بالسب وتاب منه وأظهر التوبة قتل بالسب لأنه هو حده.
قال القاضي عياض: وهذا قول أصبغ، ومسألة سابّ النبي صلّى الله عليه وسلّم أقوى، لا يتصور فيها الخلاف على الأصل لأنه حق متعلق للنّبيّ صلّى الله عليه وسلّم ولأمته بسببه لا تسقطه التوبة كسائر حقوق الآدميين، والزنديق إذا تاب بعد القدرة عليه فعند مالك والليث وإسحاق وأحمد لا تقبل توبته، وعند الشافعيّ تقبل، واختلف فيه عن أبي حنيفة وأبي يوسف. وحكى ابن المنذر عن علي بن أبى طالب يستتاب، وقال محمد بن سحنون: ولم يزل القتل عن المسلم بالتوبة من سبه صلّى الله عليه وسلّم، لأنه لم ينتقل من دين إلى غيره، وإنما فعل شيئا حده عندنا القتل لا عفو فيه لأحد كالزنديق، لأنه لم ينتقل من ظاهر إلى ظاهر.
وقال القاضي أبو محمد بن نصر محتجا لسقوط اعتبار توبته: والفرق بينه وبين من سبّ الله تعالى على مشهور القول باستتابته أن النبي صلّى الله عليه وسلّم بشر، والبشر جنس تلحقهم المعرة إلا من أكرمه الله تعالى بنبوته، والبارئ تعالى منزه عن جميع المعايب قطعا، وليس من جنس تلحق المعرة بجنسه، وليس سبه صلّى الله عليه وسلّم كالارتداد المقبول فيه التوبة، لأن الارتداد معنى ينفرد به المرتد لا حق فيه لغيره من الآدميين، فقبلت توبته ومن سب النبي صلّى الله عليه وسلّم تعلق فيه حق لآدميّ فكان كالمرتد ويقتل حين ارتداده، أو يقذف، فإن توبته لا تسقط عنه حدّ القتل والقذف.
وأيضا فإن توبة المرتد إذا قبلت لا تسقط ذنوبه من زنا وسرقة وغيرها ولم يقتل سابّ النبي لكفره لكن لمن يرجع إلى تعظيم حرمته، وزوال المعرّة به، وذلك لا تسقطه التوبة.
قال القاضي عياض: يريد- والله أعلم- أن سبّه لم يكن بكلمة تقتضي الكفر، ولكن بمعنى الإزراء أو الاستخفاف أو لأن بتوبته وإظهار إنابته ارتفع عنه اسم الكفر ظاهرا، والله تعالى أعلم بسريرته، وبقي حكم السب عليه.
وقال أبو عمران القابسيّ: من سبّ النبي صلّى الله عليه وسلّم ثم ارتد عن الإسلام قتل، ولم يستتب، لأن السبّ من حقوق الآدميين التي لا تسقط عن المرتد.
قال القاضي عياض: وكلام شيوخنا هؤلاء مبني على القول بقتله حدا لا كفرا وهو يحتاج إلى تفصيل، وأما على رواية الوليد بن مسلم، عن مالك ومن وافقه على ذلك ممن ذكرناه، وقال به من أهل العلم، فقد حرروا أنه ردة، قالوا: ويستتاب منها، فإن تاب نكل به، وإن أبى قتل، فحكم بحكم المرتد مطلقا في هذا الوجه الأول أشهر وأظهر لما قدمناه.
ونحن نبسط الكلام فيه فنقول: من لم يره ردة فهو يوجب القتل وفيه حدا، وإنما نقول ذلك مع فصلين، إما مع إنكاره ما شهد عليه به، أو إظهاره الإقلاع والتوبة عنه، فنقتله حدا لثبات كلمة الكفر عليه في حق النبي صلّى الله عليه وسلّم وتحقيره ما عظم الله تعالى من حقه، وأجرينا حكمه في ميراثه وغير ذلك حكم الزنديق إذا ظهر عليه، وأنكر أو تاب.
فإن قيل: فكيف تثبتون عليه الكفر ويشهد عليه بكلمة الكفر ولا تحكمون عليه بحكمه من الاستتابة وتوابعها؟ قلنا: نحن وإن أثبتنا له حكم الكافر في القتل فلا يقطع عليه بذلك لإقراره بالتوحيد والنبوة، وإنكاره ما شهد به عليه أو زعمه أن ذلك كان منه ذهلا ومعصية، وأنه مقلع عن ذلك نادم عليه ولا يمتنع إثبات بعض أحكام الكفر على شخص وإن لم تثبت له خصائصه كقتل تارك الصلاة.
وأما من علم أنه سبه معتقدا لاستحلاله، فلا شك في كفره بذلك، وكذلك إن كان سبه في نفسه كفر كتكذيبه، أو تكفيره، ونحوه، فهذا مما لا إشكال فيه، ويقتل وإن تاب منه، لأنا لا نقبل توبته ونقتله بعد التوبة حدا، لقوله ومتقدم كفره، وأمره بعد إلى الله تعالى المطلع على صحة إقلاعه، العالم بسره وكذلك من لم يظهر إلى التوبة واعترف بما شهد به عليه، وصمم عليه، فهذا كافر بقوله وباستحلاله، هتك حرمة الله تعالى وحرمة نبيه صلّى الله عليه وسلّم يقتل كافرا بلا خلاف، فعلى هذه التقصيلات يؤخذ كلام العلماء ونزل مختلف عبارتهم في الاحتجاج عليها وأخذ اختلافهم في الموارثة وغيرها على ترتيبها، يتضح لك مقاصدهم، إن شاء الله تعالى.
حكى ابن القصار أنه إجماع من الصحابة- رضي الله تبارك وتعالى عنهم- على تصويب قول عمر في الاستتابة ولم ينكره واحد منهم، وهو قول عثمان، وعلي وابن مسعود، وبه قال عطاء بن أبي رباح، والنخعي، والثوري ومالك، وأصحابه والأوزاعيّ والشافعيّ، وأحمد، وإسحاق، وأصحاب الرأي، وذهب طاووس، وعبيد بن عمير، والحسن في إحدى الروايتين عنه، أنه لا يستتاب، وقاله عبد العزيز بن أبي شيبة، وذكره معاذ، وأنكر سحنون عن معاذ، وحكاه الطحاوي عن أبي يوسف، وهو قول أهل الظاهر.
قالوا: وتنفعه توبته عند الله تعالى ولكن لا ندرأ القتل عنه لقوله صلّى الله عليه وسلّم: من بدل دينه: فاقتلوه، وحكى أيضا عن عطاء أنه إن كان ممن ولد في الإسلام لم يستتب، ويستتاب الإسلامي، وجمهور العلماء على أن المرتد والمرتدة في ذلك سواء روى عن عليّ لا تقتل المرتدة وتسترق، وقال عطاء وقتادة، وروي عن ابن عباس- رضي الله تبارك وتعالى عنهما-: لا تقتل النساء في الردة، وبه قال أبو حنيفة، وقال مالك: والحر والعبد والذكر والأنثى في ذلك سواء.
وأما مدتها: فمذهب الجمهور، وروى عن ابن عمر أنه يستتاب ثلاثة أيام يحبس فيها، وقد اختلف فيه عن عمر وهو أحد قولي الشافعيّ، وقول أحمد وإسحاق، واستحسنه مالك. وقال لا يأتي الاستظهار إلا بخير، وليس عليه جماعة الناس.
قال ابن أبي زيد: يزيد في الاستتابة ثلاثا، وقال مالك أيضا: الّذي آخذ به في المرتد قول ابن عمر يحبس ثلاثة أيام ويعرض عليه كل يوم فإن تاب وإلا قتل، وقال ابن القصار: في تأخيره ثلاثا روايتان عن مالك: هل ذلك واجب أو مستحب؟ واستحسن الاستتابة والاستيناء ثلاثا أصحاب الرأي، وروى عن أبي بكر الصديق- رضي الله تبارك وتعالى عنه- أنه استتاب امرأة فلم تتب فقتلها، وقال الشافعيّ مرة: إن لم يتب مكانه وإلا قتل، واستحسنه المزني وقال الزهري: يدعى إلى الإسلام ثلاث مرات، فإن أبى قتل، وروى عن علي: يستتاب شهرين، وقال النخعي: يستتاب أبدا وبه أخذ الثوري ما رجيت توبته، وحكى ابن القصار عن أبي حنيفة أنه يستتاب ثلاث مرات، فإن أبى ضربت عنقه، واختلف على هذا، هل يهدد أو يشدد عليه أيام الاستتابة ليتوب أم لا؟
فقال مالك: ما علمت في الاستتابة تجويعا ولا تعطيشا ويؤتى من الطعام بما لا يضره.
قال أصبغ: وأي المواضع حبس فيها من السجون مع الناس أو وحده إذا استوثق منه سواء، ويوقف ماله إذا أخيف أن يتلفه على المسلمين ويطعم منه ويسقى، وكذلك يستتاب أبدا كلما رجع وارتد. وهو قول الشافعيّ وأحمد.
وقاله ابن القاسم، وقال إسحاق: يقتل في الرابعة. وقال أصحاب الرأي: وإن لم يتب في الرابعة قتل دون استتابة، وإن تاب ضرب ضربا وجيعا. ولم يخرج من السجن حتى يظهر عليه خشوع التوبة.
قال ابن المنذر: ولا نعلم أحدا أوجب على المرتد في المرة الأولى أدبا إذا رجع وهو على مذهب مالك والشافعيّ والكوفي.
قال القاضي عياض: هذا، وحكم من ثبت عليه بما شهد عليه ذلك بما يجب ثبوته من إقرار أو عدول لم يدفع منهم فأما من لم تتم الشهادة عليه بما شهد عليه الواحد أو اللفيف من الناس، أو ثبت قوله، لكن احتمل ولم يكن صريحا وكذلك إن من تاب على القول بقبول توبته، فهذا يدرأ عنه القتل، ويتسلط عليه اجتهاد الإمام بقدر شهرة حاله، وقوة الشهادة عليه وضعفها، وكره السماع عنه، وصورة حاله من التهمة في الدين والتميز بالسفه والمجون، فمن قوى أمره أذاقه من شديد النكال من التضييق في السجن، والشد في القيود، إلى الغاية التي منتهى طاقته، مما لا يمنعه القيام لضرورته ولا يقعده عن صلاته، وهو حكم كل من وجب عليه القتل.
قال القابسي في مثل هذا: ومن كان أقصى أمره القتل فعاق عائق أشكل في القتل لم ينبغ أن يطلق من السجن ويستطال سجنه، ولو كان فيه من المدة ما عسى أن يقيم، ويحمل عليه من القيد ما يطيق، وقال في مثلها مما أشكل أمره، فشد في القيود شدا ويضيق عليه في السجن حتى ينظر فيما يجب عليه فقال في مسأله أخرى مثلهما: ولا يهراق الدم إلا بالأمر الواضح، وفي الأدب بالسوط، والسجن، نكال للسفهاء، ويعاقب عقوبة شديدة فأما إن لم يشهد عليه سوى شاهدين، فأثبت من عدولهما أو جرحهما، ما أسقطهما عنه، ولم يسمع ذلك من غيرهما، فأمره أخف، لسقوط الحكم عنه، وكأنه لم يشهد عليه إلا أن يكون ممن يليق به ذلك ويكون الشاهدان من أهل التبريز فأسقطهما بعداوة فهو وإن لم ينفذ الحكم عليه بشهادتهما، فلا يدفع الظن صدقها، للحاكم هنا في تنكيله موضع اجتهاد، والله ولى الإرشاد.

.فصل: في حكم الذميّ إذا صرح بسب النبي صلّى الله عليه وسلّم أو عرّض أو استخفّ بقدره:

قال القاضي عياض: أما الذمّيّ إذ صرّح بسبّه أو عرض أو استخف بقدره، أو وصفه صلّى الله عليه وسلّم بغير الوجه الّذي كفر به فلا خلاف عندنا في قتله إن لم يسلم، لأنا لم نعطه العهد على هذا، وهو قول عامة العلماء إلا أبا حنيفة، والثوري، وأتباعهما من أهل الكوفة، فإنّهم قالوا: لا يقتل لأن ما هو عليه من الشرك أعظم، ولكن يؤدب ويعذر.
واستدل بعض شيوخنا على قتله بقوله تعالى: {وَإِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ من بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَطَعَنُوا في دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ} [9: 12].
ويستدل أيضا بقتل النبيّ صلّى الله عليه وسلّم لابن الأشرف وأشباهه، ولأنا لم نعاهدهم ولم نعطهم الذمة على هذا ولا يجوز لنا أن نفعل ذلك معهم، فإذا أتوا ما لم يعطوا عليه العهد ولا الذمة، فقد نقضوا ذمتهم، وصاروا كفارا أهل حرب يقتلون لكفرهم.