فصل: قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



والحق سبحانه وتعالى يريد من المؤمنين أن يكونوا دائمًا في جانب الإيمان، وألا يقيموا حدًّا بينهم وبين الإيمان به. والأحكام الشرعية تسمى حدودًا، أي: أن كل حكم قد وضع ليحدد حدًّا من حدود الله، تحفظ به الحقوق والأوامر.
ومنهج الله إما أن يكون أوامر، وإما أن يكون نواهي؛ لأن منهج الدين كلمة في افعل ولا تفعل، ويضع الحق سبحانه وتعالى عقابًا لمن يتعدى حدوده سبحانه، فيقول سبحانه: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَقْرَبُوهَا...} [البقرة: 187].
ويقول: {تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا...} [البقرة: 229].
ويسأل بعض الناس: ما الفرق بين اللفظين {تَعْتَدُوهَا} و{تَقْرَبُوهَا}.
ونقول إذا كانت هناك أوامر فلا تتعد الأمر، وإذا كانت هناك نواهٍ فلا تقترب من المنهي عنه.
ونلحظ أن الحق سبحانه وتعالى حين نهى آدم وحواء عن الأكل من الشجرة المحرمة لم يقل: لا تأكلا من الشجرة، بل قال: {فَكُلاَ مِنْ حَيْثُ شِئْتُمَا وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة...} [الأعراف: 19].
وبذلك أباح سبحانه الأكل من كل ثمار الجن، ولكنه أمر {وَلاَ تَقْرَبَا هذه الشجرة} لأن القرب من هذه الشجرة إغراء بالمعصية؛ فقد يعجبهما منظر الثمرة. وقد تغريهما رائحتها، وقد يفتنهما لونها. ولكن عندما لا يقتربان من هذه المغريات كلها فهما يحميان نفسيهما من المعصية.
وعندما تكلم الحق سبحانه وتعالى عن الخمر قال: {إِنَّمَا الخمر والميسر والأنصاب والأزلام رِجْسٌ مِّنْ عَمَلِ الشيطان فاجتنبوه...} [المائدة: 90].
والحق لم يقل: لا تشربوا الخمر، ولكن أمر باجتناب الخمر، أي: لا تقرب أي مكان فيه خمر؛ لأن وجود الإنسان في مكان فيه خمر قد يوحي إليه بتناولها. وقد يجد من الجالسين من يحاول إغراء من لا يشرب بأن يتناول ولو جرعة. إذن: فالحق سبحانه يريد أن يبقي النفس المؤمن أن تغرى بالمعصية فتقع فيها.
ويقول سبحانه في أدب الاعتكاف: {وَلاَ تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي المساجد تِلْكَ حُدُودُ الله...} [البقرة: 187].
المنهي عنه هو المباشرة، أي: إن تواجدت الزوجة مع زوجها في المسجد، فليس في هذا الأمر معصية شرط ألا يباشرها الزوج، ثم يقول الحق سبحانه وتعالى: {تِلْكَ حُدُودُ الله} ولم يقل: فلا تفعلوها، ولكنه قال: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا...} [البقرة: 187].
إذن: ففيهما نهى الله سبحانه وتعالى عنه؛ مطلوب من المسلم ألا يقرب منه، أي: لا تكن انت والشيء الذي نهى عنه في مكان واحد، بل عليك أن تبتعد عن المكان؛ لأن المعصية لها إغراءات، وما دمت بعيدًا عن الإغراءات؛ فأنت تعصم نفسك، أما إن اقتربت منها فقد تقع فيها.
أما في الأوامر؛ فيقول الحق سبحانه وتعالى: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا}. وعلى سبيل المثال: إن نشأ خلاف بين الزوجين وفشلت كل محاولات الصلح بينهما، يقول الحق سبحانه: {فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيمَا حُدُودَ الله فَلاَ جُنَاحَ عَلَيْهِمَا فِيمَا افتدت بِهِ تِلْكَ حُدُودُ الله فَلاَ تَعْتَدُوهَا...} [البقرة: 229].
إذن: ففي الأوامر يقول الحق: {فَلاَ تَعْتَدُوهَا}، وفي النواهي يقول سبحانه: {فَلاَ تَقْرَبُوهَا}.
وهنا في الآية التي نحن بصدد خواطرنا عنها ينذر الحق سبحانه وتعالى الذين يحادون الله ورسوله فيقول: {أَلَمْ يعلموا أَنَّهُ مَن يُحَادِدِ الله وَرَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نَارَ جَهَنَّمَ خَالِدًا فِيهَا ذلك الخزي العظيم} والإنذار هنا يتمثل في أنه يوضح لهم أن ما ينتظرهم ليس هو العذاب الجسدي فقط، ولكنه عذاب فيه خزي وهوان، فمثلًا بعض الناس قد يتحمل ويتجلد أمام الألم حتى لا يشمت فيه عدوه؛ لذلك فالعذاب الذي يعدهم الله به في الآخرة ليس أليمًا فقط، ولكن فيه خزي وهوان. ويتمثل الخزي في أن المتكبر في الدنيا يأتي إلى الآخرة ويهان أمام الخلق جميعًا، ويكفي خزيًا أن يكون في النار. والمؤمنون الذين تكبَّر عليهم في الدنيا يعيشون في نعيم الجنة، وتلك حسرة تصيبه ليس بعدها حسرة. اهـ.

.قال صاحب المنار في الآيات السابقة:

{وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ} هَذَا ضَرْبٌ آخَرُ مِنْ دَلَائِلِ نِفَاقِ أُولَئِكَ الْمُنَافِقِينَ وَآثَارِهِ، وَهُوَ إِيذَاءُ الرَّسُولِ صلى الله عليه وسلم بِالطَّعْنِ فِي أَخْلَاقِهِ الْعَظِيمَةِ، وَشَمَائِلِهِ الْكَرِيمَةِ، كَإِيذَاءِ أُولَئِكَ الَّذِينَ لَمَزُوهُ فِي بَعْضِ أَفْعَالِهِ الْعَادِلَةِ وَهِيَ قِسْمَةُ الصَّدَقَاتِ، وَنَاهِيكَ بِكُفْرِ مَنْ يُصَغِّرُونَ مَا عَظَّمَهُ رَبُّ الْعَالَمِينَ، بِقَوْلِهِ لِرَسُولِهِ: {وَإِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ} (68: 4).
أَخْرَجَ ابْنُ إِسْحَاقَ وَابْنُ الْمُنْذِرِ وَابْنُ أَبِي حَاتِمٍ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ: كَانَ نَبْتَلُ بْنُ الْحَارِثِ يَأْتِي رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم فَيَجْلِسُ إِلَيْهِ فَيَسْمَعُ مِنْهُ، ثُمَّ يَنْقِلُ حَدِيثَهُ إِلَى الْمُنَافِقِينَ، وَهُوَ الَّذِي قَالَ لَهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ، مَنْ حَدَّثَهُ شَيْئًا صَدَّقَهُ، فَأَنْزَلَ اللهُ فِيهِ: وَمِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَيَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ وَلَكِنَّ مَنْطُوقَ الْآيَةِ يُسْنِدُ هَذَا الْقَوْلَ إِلَى جَمَاعَةٍ مِنْهُمْ وَهُوَ أَقْرَبُ، وَإِنْ كَانَ الْإِسْنَادُ إِلَى الْجَمَاعَةِ يَصْدُقُ بِقَوْلِ وَاحِدٍ وَإِقْرَارِ الْبَاقِينَ. وَالْأَوَّلُ مَرْوِيٌّ عَنِ السُّدِّيِّ عِنْدَ ابْنِ أَبِي حَاتِمٍ قَالَ: اجْتَمَعَ نَاسٌ مِنَ الْمُنَافِقِينَ فِيهِمْ جُلَاسُ بْنُ سُوَيْدِ بْنِ صَامِتٍ وَمَخْشِيُّ بْنُ حُمْيَرٍ وَوَدِيعَةُ بْنُ ثَابِتٍ فَأَرَادُوا أَنْ يَقَعُوا فِي النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فَنَهَى بَعْضُهُمْ بَعْضًا وَقَالُوا: نَخَافُ أَنْ يَبْلُغَ مُحَمَّدًا فَيَقَعُ بِكُمْ، وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مُحَمَّدٌ أُذُنٌ نَحْلِفُ لَهُ فَيُصَدِّقُنَا، فَنَزَلَ {وَمِنْهُمْ} وَذَكَرَ الْآيَةَ.
الْأَذَى: مَا يُؤْلِمُ الْحَيَّ الْمُدْرِكَ فِي بَدَنِهِ أَوْ فِي نَفْسِهِ وَلَوْ أَلَمًا خَفِيفًا، يُقَالُ: أَذَى الْإِنْسَانُ (كَرَضَى) بِكَذَا أَذًى، وَتَأَذَّى تَأَذِّيًا، إِذَا أَصَابَهُ مَكْرُوهٌ يَسِيرٌ- كَذَا قَالُوا- وَآذَى غَيْرَهُ إِيذَاءً، وَأَنْكَرَ الْفَيْرُوزَابَادِيُّ لَفْظَ الْإِيذَاءِ، وَإِنْ كَانَ هُوَ الْقِيَاسُ؛ لِأَنَّهُ لَمْ يُسْمَعْ مِنَ الْعَرَبِ إِلَّا الْأَذَى وَالْأَذَاةُ وَالْأَذِيَّةُ، وَرُبَّمَا يَشْهَدُ لَهُ قوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} (3: 111) مِنْ سُورَةِ آلِ عِمْرَانَ؛ لِأَنَّهُ مِنْ آذَى الْمُتَعَدِّي بِنَفْسِهِ لَا مِنْ أَذَى اللَّازِمِ، إِلَّا أَنْ يُقَالَ: إِنَّهُ اسْمُ مَصْدَرٍ، وَتَقْيِيدُهُمْ لِلْأَذَى بِالْمَكْرُوهِ الْيَسِيرِ غَيْرُ مُسَلَّمٍ عَلَى إِطْلَاقِهِ، فَالظَّاهِرُ أَنَّهُ يُطْلَقُ عَلَى الْيَسِيرِ وَالْخَفِيفِ وَعَلَى الشَّدِيدِ وَقوله تعالى: {لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذًى} مِنَ الْأَوَّلِ؛ لِأَنَّهُ مُسْتَثْنَى مِنَ الضَّرَرِ، وَمِثْلُهُ مَا وَرَدَ فِي الْأَذَى مِنَ الْمَطَرِ وَأَذَى الرَّأْسِ مِنَ الْقَمْلِ، وَمِنَ الثَّانِي قَوْلُهُ تَعَالَى فِي سُورَةِ الْأَحْزَابِ: {إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ وَرَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللهُ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَأَعَدَّ لَهُمْ عَذَابًا مُهِينًا وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتَانًا وَإِثْمًا مُبِينًا} (33: 57، 58) فَقَدْ وَرَدَ فِي الْمَأْثُورِ تَفْسِيرُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللهَ بِالَّذِينِ نَسَبُوا إِلَيْهِ الِابْنَ وَالْبَنَاتِ، وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَهُ بِالَّذِينِ شَجُّوا رَأْسَهُ يَوْمَ أُحُدٍ، وَبِالَّذِينِ كَانُوا يُكَذِّبُوا بِرِسَالَتِهِ وَيَقُولُونَ: سَاحِرٌ، وَشَاعِرٌ وَكَاهِنٌ. وَالَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ بِالطَّاعِنِينَ فِي الْأَعْرَاضِ، وَبِالزُّنَاةِ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ النِّسَاءَ لِمُرَاوَدَتِهِنَّ. وَنَاهِيكَ بِالْوَعِيدِ الشَّدِيدِ لِلْجَمِيعِ.
وَأَمَّا قَوْلُهُمْ: {أُذُنُ} فَهُوَ مِنْ تَسْمِيَةِ الشَّخْصِ بِاسْمِ الْجَارِحَةِ لِلْمُبَالَغَةِ فِي وَصْفِهِ بِوَظِيفَتِهَا وَهُوَ كَثْرَةُ السَّمْعِ لِمَا يُقَالُ وَتَصْدِيقُهُ كَأَنَّهُ كُلَّهُ أُذُنٌ سَامِعَةٌ، كَقَوْلِهِمْ لِلْجَاسُوسِ عَيْنٌ، وَيُطْلَقُ عَلَى لَازِمِهِ وَهُوَ عَدَمُ الدِّقَّةِ فِي التَّمْيِيزِ بَيْنَ مَا يُسْمَعُ، وَتَصْدِيقُ مَا يُعْقَلُ وَمَا لَا يُعْقَلُ، فَيُرَادُ بِهِ الذَّمُّ بِالْغَرَارَةِ وَسُرْعَةِ الِانْخِدَاعِ، وَهُوَ مِنْ أَكْبَرِ عُيُوبِ الْمُلُوكِ وَالرُّؤَسَاءِ لِمَا يَتَرَتَّبُ عَلَيْهِ مِنْ قَبُولِ الْغِشِّ بِالْكَذِبِ وَالنَّمِيمَةِ وَتَقْرِيبِ الْمُنَافِقِينَ، وَإِبْعَادِ النَّاصِحِينَ. وَكَانَ صلى الله عليه وسلم يُعَامِلُ الْمُنَافِقِينَ بِأَحْكَامِ الشَّرِيعَةِ وَآدَابِهَا الَّتِي يُعَامِلُ بِهَا عَامَّةَ الْمُسْلِمِينَ، كَمَا أَمَرَهُ اللهُ تَعَالَى بِبِنَاءِ الْمُعَامَلَةِ عَلَى الظَّوَاهِرِ، فَظَنُّوا أَنَّهُ يُصَدِّقُ كُلَّ مَا يُقَالُ لَهُ. قَرَأَ الْجُمْهُورُ: {أُذُنُ} بِضَمَّتَيْنِ وَنَافِعٌ بِسُكُونِ الذَّالِ وَهُمَا لُغَتَانِ.
وَقَدْ لَقَّنَهُ اللهُ تَعَالَى الرَّدَّ عَلَيْهِ بِقَوْلِهِ: {قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ} أَيْ: نَعَمْ هُوَ أُذُنٌ وَلَكِنَّهُ نِعْمَ الْأُذُنُ؛ لِأَنَّهُ أُذُنُ خَيْرٍ لَا كَمَا تَزْعُمُونَ، فَهُوَ لَا يَقْبَلُ مِمَّا يَسْمَعُهُ إِلَّا الْحَقَّ وَمَا وَافَقَ الشَّرْعَ، وَمَا فِيهِ الْخَيْرُ وَالْمَصْلَحَةُ لِلْخَلْقِ، وَلَيْسَ بِأُذُنٍ فِي غَيْرِ ذَلِكَ كَسَمَاعِ الْبَاطِلِ وَالْكَذِبِ وَالْغِيبَةِ وَالنَّمِيمَةِ وَالْجَدَلِ وَالْمِرَاءِ، فَهُوَ لَا يُلْقِي سَمْعَهُ لِشَيْءٍ مِنْ ذَلِكَ، وَإِذَا سَمِعَهُ مِنْ غَيْرِ أَنْ يَسْتَمِعَ إِلَيْهِ لَا يَقْبَلُهُ، وَلَا يُصَدِّقُ مَا لَا يَجُوزُ تَصْدِيقُهُ شَرْعًا أَوْ عَقْلًا، كَمَا هُوَ شَأْنُ مَنْ يُوصَفُونَ بِهَذَا الْوَصْفِ مِنَ الْمُلُوكِ وَالزُّعَمَاءِ فَيَسْتَعِينُ الْمُتَمَلِّقُونَ وَأَصْحَابُ الْأَهْوَاءِ بِهِ عَلَى السِّعَايَةِ عِنْدَهُمْ؛ لِإِبْعَادِ النَّاصِحِينَ الْمُخْلِصِينَ عَنْهُمْ، وَحَمْلِهِ عَلَى إِيذَاءِ مَنْ يَبْغُونَ إِيذَاءَهُ، وَالْإِضَافَةُ هُنَا إِضَافَةُ الْمَوْصُوفِ إِلَى الصِّفَةِ وَقَرَأَ نَافِعٌ {أُذُنٌ} بِالتَّنْوِينِ و{خَيْرٌ} بِالرَّفْعِ صِفَةً لَهُ.
وَالرَّدُّ مِنْ بَابِ أُسْلُوبِ الْحَكِيمِ فَهُوَ فِي أَوَّلِهِ يُوَافِقُهُمْ عَلَى قَوْلِهِمْ، ثُمَّ يُتْبِعُهُ مَا يَنْقُضُهُ عَلَيْهِمْ حَتَّى يَنْقَضَّ عَلَى رُءُوسِهِمْ، كَقَوْلِهِ فِي سُورَةِ الْمُنَافِقُونَ وَهُمْ يَقُولُونَ {لَئِنْ رَجَعْنَا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ} (63: 28) الْآيَةَ. فَهُمْ كَانُوا يَعْنُونَ أَنَّهُمُ الْأَعِزَّةُ، وَيُعَرِّضُونَ بِالرَّسُولِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِهِ فَقَلَبَ عَلَيْهِمْ مُرَادَهُمْ عَلَى تَقْدِيرِ تَسْلِيمِ أَصْلِ الْقَضِيَّةِ وَهِيَ إِخْرَاجُ الْأَعَزِّ لِلْأَذَلِّ بِإِثْبَاتِ الْعِزَّةِ لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، وَالتَّعْرِيضِ بِأَنَّهُمْ هُمُ الْأَذَلُّونَ وَلَوْ شَاءَ الرَّسُولُ صلى الله عليه وسلم لَأَخْرَجَهُمْ، وَلَكِنَّهُ لَا يَفْعَلُ إِلَّا إِذَا أَظْهَرُوا كَفْرَهُمْ؛ لِأَنَّ قَاعِدَةَ شَرْعِيَّتِهِ الْحُكْمُ عَلَى الظَّوَاهِرِ. وَجَعَلَهُ ابْنُ الْمُنِيرِ فِي الانتصاف مِنْ قَبِيلِ الْقَوْلِ بِمُوجِبِ الْعِلَّةِ فَقَالَ: لَا شَيْءَ أَبْلَغُ مِنَ الرَّدِّ عَلَيْهِمْ بِهَذَا الْوَجْهِ؛ لِأَنَّهُ فِي الْأَوَّلِ إِطْمَاعٌ لَهُمْ بِالْمُوَافَقَةِ ثُمَّ كَرٌّ عَلَى طَمَعِهِمْ بِالْحَسْمِ وَأَعْقَبَهُمْ فِي تَنَقُّصِهِ بِالْيَأْسِ مِنْهُ، وَيُضَاهِي هَذَا مِنْ مُسْتَعْمَلَاتِ الْفُقَهَاءِ الْقَوْلُ بِالْمُوجِبِ؛ لِأَنَّ فِي أَوَّلِهِ إِطْمَاعًا لِلْخَصْمِ بِالتَّسْلِيمِ، ثُمَّ بِالطَّمَعِ عَلَى قُرْبٍ وَلَا شَيْءَ أَقْطَعُ مِنَ الْأَطْمَاعِ ثُمَّ الْيَأْسِ يَتْلُوهُ وَيَعْقُبُهُ. اهـ.
ثُمَّ فَسَّرَ الْمُرَادَ مِنْ أُذُنِ الْخَيْرِ بِأَفْضَلِ الْخَيْرِ وَأَعْلَاهُ عَلَى طَرِيقِ الْبَيَانِ الْمُسْتَأْنَفِ فَقَالَ: {يُؤْمِنُ بِاللهِ وَيُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ} أَيْ: يُصَدِّقُ بِاللهِ تَعَالَى وَمَا يُوحِيهِ إِلَيْهِ مِنْ خَبَرِكُمْ وَخَبَرِ غَيْرِكُمْ، وَهُوَ الْخَبَرُ الْقَطْعِيُّ الصِّدْقُ، الَّذِي لَا يَحُومُ حَوْلَهُ الشَّكُّ؛ لِأَنَّهُ بُرْهَانِيٌّ وِجْدَانِيٌّ عِيَانِيٌّ لَهُ بِمَا كَشَفَهُ اللهُ لَهُ مِنْ عَالَمِ الْغَيْبِ، وَإِيمَانُهُ بِهِ أَثْبَتُ وَأَرْسَخُ فِي الْيَقِينِ مِنْ تَصْدِيقِ غَيْرِهِ بِمَا قَامَتْ عَلَيْهِ الْأَدِلَّةُ الْعَقْلِيَّةُ الْقَطْعِيَّةُ، وَيُصَدِّقُ فِي الدَّرَجَةِ الثَّانِيَةِ تَصْدِيقَ ائْتِمَانٍ وَجُنُوحٍ لَلْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقَيِ الْإِيمَانِ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالْأَنْصَارِ؛ الَّذِينَ بَرْهَنُوا عَلَى صِدْقِهِمْ بِجِهَادِهِمْ مَعَهُ فِي سَبِيلِ اللهِ بِأَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فَهُوَ يُصَدِّقُ أَخْبَارَهُمْ لَا لِذَاتِهَا بِمُجَرَّدِ سَمَاعِهَا، بَلْ لِمَا عَلِمَهُ مِنْ آيَاتِ إِيمَانِهِمُ الَّذِي يُوجِبُ عَلَيْهِمُ الصِّدْقَ وَلاسيما الصِّدْقُ بِمَا يُحَدِّثُونَهُ بِهِ، وَلِمَا يَجِدُهُ فِي أَخْبَارِهِمْ مِنْ أَمَارَاتِهِ وَآيَاتِهِ. وَيَتَضَمَّنُ هَذَا أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ لِهَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ إِيمَانَ تَسْلِيمٍ وَائْتِمَانٍ، وَلَا يُصَدِّقُهُمْ فِي أَخْبَارِهِمْ وَإِنْ وَكَّدُوهَا بِالْأَيْمَانِ كَمَا ظَنَّ مَنْ قَالَ مِنْهُمْ: هُوَ أُذُنٌ اغْتِرَارًا بِلُطْفِهِ وَأَدَبِهِ صلى الله عليه وسلم إِذْ كَانَ لَا يُوَاجِهُ أَحَدًا بِمَا يَكْرَهُ، وَبِمُعَامَلَتِهِ إِيَّاهُمْ كَمَا يُعَامِلُ أَمْثَالَهُمْ مِنْ عَامَّةِ أَصْحَابِهِ. وَفِي هَذَا تَهْدِيدٌ لَهُمْ وَتَخْوِيفٌ. بِأَنْ يُنْبِئَهُ اللهُ تَعَالَى بِمَا كَانُوا يُسِرُّونَهُ فِي أَنْفُسِهِمْ وَفِيمَا بَيْنَهُمْ، كَمَا سَيَأْتِي قَرِيبًا فِي قَوْلِهِ: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ (64)} وَتَخْوِيفٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يُسِيئُونَ الظَّنَّ فِيهِمْ كَعُمَرَ بْنِ الْخَطَّابِ- رَضِيَ اللهُ عَنْهُ- أَنْ يَظْهَرُوا عَلَى كُفْرِهِمْ فَيُخْبِرُوهُ بِهِ فَيَأْذَنَ بِالِانْتِقَامِ مِنْهُمْ.
وَأَمَّا كَوْنُهُ صلى الله عليه وسلم أُذُنَ خَيْرٍ لَهُمْ مَعَ هَذَا فَهُوَ مُعَامَلَتُهُ لَهُمْ بِالْحِلْمِ وَمَا يَقْتَضِيهِ حُكْمُ الشَّرْعِ مِنَ الْعَمَلِ بِالظَّوَاهِرِ، وَمِنْهَا قَبُولُ الْمَعَاذِيرِ قَبْلَ نَهْيِهِمْ عَنْهَا فِي هَذِهِ السُّورَةِ. وَلَوْ كَانَ يُعَامِلُهُمْ بِمُقْتَضَى مَا يَسْمَعُ عَنْهُمْ- كَمَا تَقْتَضِيهِ اسْتِعْمَالُ كَلِمَةِ أُذُنٍ لَمَا سَلِمُوا مِنْ عِقَابِهِ؛ لِأَنَّ أَخْبَارَ السُّوءِ عَنْهُمْ كَثِيرَةٌ بِكَثْرَةِ أَعْمَالِ السُّوءِ فِيهِمْ، فَلَوْ كَانَ يَقْبَلُ أَخْبَارَ الشَّرِّ لَقَبِلَهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الصَّادِقِينَ فِيهِمْ وَلَعَاقَبَهُمْ عَلَيْهَا.
وَفَسَّرَ الزَّمَخْشَرِيُّ قِرَاءَةَ التَّنْوِينِ فِي قوله: {أُذُنُ خَيْرٍ} بِأَنَّ كُلًّا مِنَ اللَّفْظَيْنِ خَبَرٌ لِمُبْتَدَأٍ مَحْذُوفٍ أَيْ هُوَ أُذُنٌ، هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ، يَعْنِي إِنْ كَانَ كَمَا تَقُولُونَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ؛ لِأَنَّهُ يَقْبَلُ مَعَاذِيرَكُمْ وَلَا يُكَافِئُكُمْ عَلَى سُوءِ دَخِيلَتِكُمْ. وَقَالَ غَيْرُهُ: أُذُنٌ ذُو خَيْرٍ لَكُمْ، أَوْ بِمَعْنَى: أَخْيَرُ لَكُمْ.
وَنُكْتَةُ تَعْدِيَةِ الْإِيمَانِ بِالْبَاءِ فِي اللهِ تَعَالَى. وَبِاللَّامِ فِي الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْأَوَّلَ عَلَى الْأَصْلِ فِي آمَنَ بِهِ ضِدَّ كَفَرَ بِهِ، وَصَدَّقَ بِهِ ضِدَّ كَذَّبَ بِهِ. وَأَمَّا الثَّانِي فَقَدْ ضَمِنَ مَعْنَى الْمَيْلِ وَالِائْتِمَانِ وَالْجُنُوحِ لِلْمُؤْمِنِينَ بِهِ، وَفِي مَعْنَاهُ آيَاتٌ كَقوله تعالى: {فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ} (29: 26) وَقَوْلِهِ: {فَمَا آمَنَ لِمُوسَى إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ} (10: 83) وَقَوْلِهِ إِخْبَارًا عَنْ قَوْلِ إِخْوَةِ يُوسُفَ لِأَبِيهِمْ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا} (12: 17) وَقَوْلِهِ فِي جِدَالِ قَوْمِ نُوحٍ لَهُ: {أَنُؤْمِنُ لَكَ وَاتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ} (26: 111) فَفِي كُلِّ هَذَا مَعْنَى التَّصْدِيقِ الْمُتَضَمِّنِ لِلِائْتِمَانِ وَالتَّسْلِيمِ وَالْمَيْلِ عَنْ جَانِبٍ إِلَى جَانِبٍ. وَإِنَّمَا يَكُونُ هَذَا فِي إِيمَانِ النَّاسِ بَعْضِهِمْ لِبَعْضٍ، لَا فِي الْإِيمَانِ بِاللهِ عَزَّ وَجَلَّ. وَبِهَذَا يُعْلَمُ كَذِبُهُمْ فِي زَعْمِهِمْ تَصْدِيقَهُ صلى الله عليه وسلم لَهُمْ فِيمَا يَعْتَذِرُونَ لَهُ، فَهُوَ لَا يُصَدِّقُهُمْ وَإِنْ حَلَفُوا؛ لِأَنَّهُ إِنَّمَا يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ الْمُنَافِقِينَ الْكَاذِبِينَ.
{وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ} أَيْ: هُوَ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ عَلَى كَوْنِهِ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ دُونَ غَيْرِهِمْ، وَهُوَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينِ آمَنُوا مِنْكُمْ إِيمَانًا صَحِيحًا صَادِقًا؛ إِذْ كَانَ سَبَبَ إِيمَانِهِمْ وَهِدَايَتِهِمْ إِلَى مَا فِيهِ سَعَادَةُ الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ، دُونَ مَنْ أَظْهَرَ الْإِسْلَامَ وَأَسَرَّ الْكَفْرَ مُنَافِقًا فَهُوَ نِقْمَةٌ عَلَيْهِ فِي الدَّارَيْنِ، كَمَا قَالَ: {إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَالَّذِينَ هَاجَرُوا وَجَاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللهِ أُولَئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَةَ اللهِ وَاللهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ} (2: 218) وَالْآيَاتُ فِي هَذَا الْمَعْنَى كَثِيرَةٌ. وَلَمَّا كَانَ كُلٌّ مِنْهُمْ يَدَّعِي الْإِيمَانَ كَانَ قَوْلُهُ: {مِنْكُمْ} تَعْرِيضًا بِغَيْرِ الصَّادِقِينَ مِنْهُمْ لَا تَصْرِيحًا. وَفَائِدَتُهُ أَنْ يَعْلَمُوا أَنَّ الرَّسُولَ صلى الله عليه وسلم عَالِمٌ بِأَنَّ مِنْهُمْ مُنَافِقِينَ، وَلَكِنَّهُ لَا يَعْرِفُ أَعْيَانَهُمْ وَأَشْخَاصَهُمْ، وَيَخْشَى أَنْ يُخْبِرَهُ رَبُّهُ بِهِمْ وَيَكْشِفَ لَهُ عَنْ أَسْرَارِ قُلُوبِهِمْ، كَمَا سَيَأْتِي فِي قوله تعالى: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ} (64) وَقِيلَ: إِنَّ الْمُرَادَ بِالَّذِينِ آمَنُوا مِنْهُمُ الَّذِينَ أَظْهَرُوا الْإِيمَانَ وَإِنَّهُ رَحْمَةٌ لَهُمْ بِقَبُولِ ظَوَاهِرِهِمْ وَمُعَامَلَتِهِمْ بِهَا مُعَامَلَةَ الْمُؤْمِنِينَ؛ وَلِذَلِكَ قَالَ: لِلَّذِينِ آمَنُوا فَعَبَّرَ عَنْهُمْ بِالْفِعْلِ، وَلَمْ يَقُلِ الْمُؤْمِنِينَ بِالْوَصْفِ، وَهَذَا الْقَوْلُ ضَعِيفٌ. وَكَثِيرًا مَا نَاطَ التَّنْزِيلُ الْجَزَاءَ عَلَى الْإِيمَانِ بِالتَّعْبِيرِ عَنْ أَهْلِهِ بِالْفِعْلِ الْمَاضِي.