فصل: قال الألوسي:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال الألوسي:

{وَالْمُؤْمنُونَ وَالمُؤْمنَاتُ} بيان لحسن حال المؤمنين والمؤمنات حالا ومآلا بعد بيان حال أضدادهم عاجلًا وآجلًا، وقوله سبحانه: {بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاء بَعْضٍ} يقابل قوله تعالى فيما مر: {بَعْضُهُمْ مّن بَعْضٍ} [التوبة: 67]، وتغيير الأسلوب للإشارة إلى تناصرهم وتعاضدهم بخلاف أولئك؛ وقوله عز وجل: {يَأْمُرُونَ بالمعروف وَيَنْهَوْنَ عَنِ المنكر} ظاهر المقابلة {يَأْمُرُونَ بالمنكر} إلخ والكلام في المنكر والمعروف معروف، وقوله جل وعلا: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} في مقابلة {نَسُواْ الله} [التوبة: 67] وقوله تعالى جده: {وَيُؤْتُونَ الزكواة} في مقابلة {يقبضون أَيْدِيهِمْ} [التوبة: 67] وقوله تعبارك وتعالى: {وَيُطِيعُونَ الله وَرَسُولَهُ} أي في سائر الأمور في مقابلة وصف المناقين بكمال الفسق والخروج عن الطاعة وقيل: هو في مقابلة {نَسُواْ الله}، وقوله سبحانه: {وَيُقِيمُونَ الصلاة} زيادة مدح، وقوله تعالى شأنه: {أُوْلَئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ الله} في مقابلة {فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] المفسر بمنع لطفه ورحمته سبحانه، وقيل: في مقابلة {إنَّ المُنَافِقِينَ هُمُ الفاسقون} [التوبة: 67] لأنه بمعنى المتقين المرحومين، والإشارة إلى المؤمنين والمؤمنات باعتبار اتصافهم بما سلف من الصفات الجليلة، والاتيان بما يدل على البعد لما مر غير مرة.
والسين على ما قال الزمخشري وتبعه غير واحد لتأكيد الوعد وهي كما تفيد ذلك تفيد تأكيد الوعيد، ونظر فيه صاحب التقريب ووجه ذلك بأن السين في الإثبات في مقابلة لن في النفي فتكون بهذا الاعتبار تأكيدًا لما دخلت عليه ولا فرق في ذلك بين أن يكون وعدًا أو وعيدًا أو غيرهما.
وقال العلامة ابن حجر: ما زعمه الزمخشري من أن السين تفيد القطع بمدخولها مردود بأن القطع إنما فهم من المقام لا من الوضع وهو توطئة لمذهبه الفاسد في تحتم الجزاء ومن غفل عن هذه الدسيسة وجهه، وتعقبه الفهامة ابن قاسم بأن هذا لا وجه له لأنه أمر نقلي لا يدفعه ما ذكر ونسبة الغفلة للأئمة إنما أوجبه حب الاعتراض، وحينئذ فالمعنى أولئك المنعوتون بما فصل من النعوت الجليلة يرحمهم الله تعالى لا محالة {أَنَّ الله عَزِيزٌ} قوي قادر على كل شيء لا يمتنع عليه ما يريده {حَكِيمٌ} يضع الأشياء مواضعها ومن ذلك النعمة والنقمة؛ والجملة تعليل للوعد. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
هذه تقابل قوله: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة: 67] لبيان أنّ الطائفة التي ينالها العفو هي الملتحقة بالمؤمنين.
فالجملة معطوفة على جملة: {المنافقون والمنافقات بعضهم من بعض} [التوبة: 67] وما بينهما جمل تسلسل بعضها عن بعض.
وقوله: {بعضهم أولياء بعض} مقابل قوله في المنافقين: {بعضهم من بعض} [التوبة: 67].
وعبّر في جانب المؤمنين والمؤمنات بأنّهم أولياء بعضضٍ للإشارة إلى أنّ اللحمة الجامعة بينهم هي وَلاية الإسلام، فهم فيها على السواء ليس واحد منهم مقلّدًا للآخر ولا تابعًا له على غير بصيرة لما في معنى الولاية من الإشعار بالإخلاص والتناصر بخلاف المنافقين فكأنّ بَعضَهم ناشيء من بعض في مذامّهم.
وزيد في وصف المؤمنين هنا {يقيمون الصلاة} تنويهًا بأنّ الصلاة هي أعظم المعروف.
وقوله: {ويؤتون الزكاة} مقابل قوله في المنافقين {ويقبضون أيديهم} [التوبة: 67].
وقوله: {ويطيعون الله ورسوله} مقابل قوله في المنافقين {نسوا الله} [التوبة: 67] لأنّ الطاعة تقتضي مراقبة المطاع فهي ضدّ النسيان.
وقوله: {أولئك سيرحمهم الله} مقابل قوله في المنافقين {فنسيهم} [التوبة: 67].
والسين لتأكيد حصول الرحمة في المستقبل، فحرف الاستقبال يفيد مع المضارع ما تفيد (قد) مع الماضي كقوله: {ولسوف يعطيك ربك فترضى} [الضحى: 5].
والإشارةُ للدلالة على أنّ ما سيرد بعد اسم الإشارة صاروا أحرياءَ به من أجللِ الأوصاف المذكورة قبل اسم الإشارة.
وجملة: {إن الله عزيز حكيم} تعليل لجملة {سيرحمهم الله} أي: أنّه تعالى لعزّته ينفع أولياءه وأنّه لحكمته يضع الجزاء لمستحقّه. اهـ.

.قال الشعراوي:

{وَالْمُؤْمِنُونَ وَالْمُؤْمِنَاتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ}
جاءت هذه الآية بعد آية سابقة وُصِفَ فيها المنافقون في قوله تعالى: {المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ...} [التوبة: 67].
فناسب أن يقابلهم بالمؤمنين والمؤمنات، وتلك مناسبة الضد بالضد؛ لأن قياس الضد إلى ضده يُظهر الأمرين معًا. والمثال قول الشاعر حين يمدح محبوبته فيقول:
فالوَجْهُ مثْلُ الصبح مُبيضٌ ** والشَّعْر مثل الليل مُسْودُّ

ضِدَّان لما استجمعا حَسُنَا ** والضِّدُّ يُظهِر حُسْن الضِّدُّ

وبعد أن ذكر الحق فضائح المنافقين ومعايبهم، وحنثهم فيما يحلفون، وخلفهم فيها يعاهدون، أراد أن يجعل تقابلًا بينهم وبين المؤمنين والمؤمنات. لكن التقابل هنا اختلف في شيء؛ لأنه سبحانه قال في المنافقين:
{المنافقون والمنافقات بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ}، وحين تكلم عن المؤمنين قال: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} فالمنافقون والمنافقات وصفهم الحق {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي أنهم كلهم متشابهون وسلوكهم مبني على التقليد والاتباع، فهم يقلدون بعضهم بعضًا. وبما أنهم قد أقاموا عقيدتهم على الشر، فكلهم شر، ولا يوجد بينهم من ينصحهم بالخير أو يحاول رَدَّهم عن النفاق، بل هم يمضون في تيار الشر إلى آخر مدى.
أما المؤمن فعقيدته مبنية على الاقتناع وعلى الخير. فإن وُجد في مؤمن شر؛ فَوليُّه من المؤمنين يبعده عن الشر ويعيده إلى طريق الخير؛ ذلك لأن النفس البشرية لها أغيار متعددة، ولا يسلك كل مؤمن السلوك الملتزم تمام الالتزام بمنهج الله في كل شيء. بل هناك خصلة ضعف في كل نفس بشرية. فإن وُجِدَ في المؤمن ضعف فأولياؤه من المؤمنين يُبيِّنون له نقطة ضعفه ويُبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضًا يُنبِّه غيره ويبصِّرونه وينصحون له، ويُرد في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضًا يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجتمع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، والمؤمن أيضًا يُنبِّه غيره ويبصِّره، وهكذا نجد أنه في المجمتع المؤمن، كل واحد يرد الآخر في نقطة ضعفه، وكل منهم ينصح الآخر ويعظه، ليكتمل إيمان الجميع، ومَنْ يقصر في شيء يجد القريب منه؛ وهو يسد الثغرة الطارئة في سلوكه. أما المنافقون فيصفهم الحق {بَعْضُهُمْ مِّن بَعْضٍ} أي: أنهم جميعًا من بعض، فلا يتناهَوْنَ عن منكر فعلوه، ولا يوجد بينهم ناصح.
وقول الحق سبحانه وتعالى: {والمؤمنون والمؤمنات بَعْضُهُمْ أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} لم يبين لنا من المولى ومن الموَالي، فكل مؤمن وهو ولي وهو موال؛ لأن الولاية مأخوذة من يليه، أي صار قريبًا، وضدها عاداهُ أي بَعُدَ عنه وتركه. إذن: فالموالاة ضدها العداوة. وفائدة القرب أن يكون الولي نصير أخيه المؤمن في الأمر الذي هو ضعيف فيه.
فإذا كنت ضعيفًا في أمر ما، فأخي المؤمن ينصرني فيه. وما دام أخي المؤمن ينصرني في أمر ما، فإن صار هو ضعيفًا في شيء أنصره أنا فيه، فنتفاعل ونتكامل ويصبح كل منا وليًا ومُوَالَى.
ولذلك يقول الحق سبحانه وتعالى: {والعصر إِنَّ الإنسان لَفِى خُسْرٍ إِلاَّ الذين آمَنُواْ وَعَمِلُواْ الصالحات وَتَوَاصَوْاْ بالحق وَتَوَاصَوْاْ بالصبر} [العصر: 1-3].
ولو قيل: وصَّوْا لكان هناك أناس يوصون وأناس يتواصون، لكن الحق قال: {وَتَوَاصَوْاْ} ومعناها أن كل مؤمن عليه أن يوصي أخاه المؤمن. فإن كان عندي نقطة ضعف فأنت توصيني وتقول: اعدل عن هذا ولا تفعله فأنت مؤمن. وإن كانت فيك نقطة ضعف أقول لك: لا تفعل هذا فأنت مؤمن.
إذن: فكل واحد منا مُوص ومُوصىً. كذلك الولاية فأنت وليي، أي قريب مني تنصرني في ضعفي، وأنا وليُّك، أي قريب منك، أنصرك في ضعفك لأننا أبناء أغيار؟ وكل واحد منا فيه نقطة ضعف تختلف عن نقطة ضعف الآخر.
والوَلاية تكون أيضًا في الحق، فقد أميل إلى الباطل في نقطة فيقول لي أخي المؤمن: اعدل. وقد يميل هو إلى الباطل فأقول له: اعدل. وهكذا يتكامل الإيمان، ولذلك تجد كلمة الوَلاية بمعنى القرب والنصرة في قول الحق في ذاته: {هُنَالِكَ الولاية لِلَّهِ الحق...} [الكهف: 44].
أي: أن النصر الحقيقي والقرب الحقيقي لله؛ لأننا نعيش في عالم أغيار، فقد تطلب النصر عندي فتكون قوتي قد ذهبت، أو يكون مالي قد فنى، أو يكون نفوذي قد انتهى، ولكن الحق سبحانه وتعالى هو وحده القوي دائمًا، والغني دائمًا، الذي يُغيِّر ولا يتغير، وعندما ينصرك الله فهذا هو النصر الحقيقي الدائم الذي لا نصر الأغيار.
وتجد الحق سبحانه وتعالى يقول: {ألا إِنَّ أَوْلِيَاءَ الله لاَ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلاَ هُمْ يَحْزَنُونَ} [يونس: 62] أي: أن الحق سبحانه وتعالى جعل أولياء لله.
وكذلك يقول تبارك وتعالى: {الله وَلِيُّ الذين آمَنُواْ...} [البقرة: 257] إذن: فالحق سبحانه وتعالى مرة يكون مواليًا. ومرة يكون مُوَالىً، فإن واليت الله بطاعتك يواليك سبحانه بنصره. ويقول تعالى: {إِن تَنصُرُواْ الله يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ} [محمد: 7] أي: إذا تقربت إلى الطاعة بطاعته ونصرة منهجه، فهو يقرب منك في أزماتك وينصرك ويُثبِّت أقدامك.
إذن: فالولاية في الأصل هي القرب والتناصر، وما دام هناك تناصر فلابد أن تكون هناك نقطة ضعف في مؤمن، ونقطة قوة في مؤمن آخر، ولكن مَن الذي سيكون في ضعف دائمًا، أو في قوة دائمًا؟ لا أحد. إذن: فكل واحد يَنصر، وكل واحد يُنصر.
وما دام الحق سبحانه وتعالى قد قال: {أَوْلِيَاءُ بَعْضٍ} ولم يعين البعض؛ فكل واحد صالح لأن يكون ناصرًا ومنصورًا.
ولكي يتضح المعنى اقرأ قول الحق سبحانه وتعالى: {أَهُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنَا بَيْنَهُمْ مَّعِيشَتَهُمْ فِي الحياة الدنيا وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجَاتٍ لِّيَتَّخِذَ بَعْضُهُم بَعْضًا سُخْرِيًّا...} [الزخرف: 32].
وشاء الحق سبحانه وتعالى أن يجعل منكم السادة والعبيد، ويجعل منكم الأغنياء والفقراء، وذلك في أمور الدنيا، فإن كنتم تريدون أن تُقسموا أمور الدين، فاقسموا أولًا معايشكم؛ لأن الحق سبحانه وتعالى هو الذي قسمها بينكم، وحياتكم في الدنيا تتبع قوانين الأسباب، ومن السهل عليكم أن تقسموها بدلًا من أن تأتوا لتقسموا رحمة الله التي هي حق لله سبحانه وتعالى وحده.
ونلاحظ في قول الحق سبحانه وتعالى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ} أن البعض مرفوع والبعض الآخر مرفوع عليه، وما دامت كلمة {بَعْضٍ} مبهمة، فإن كلًا منا مرفوع عليه. ولا يوجد واحد من البشر مرفوع على الجميع، بحيث يكون وحده مجموعة متكاملة من المواهب. ولكن كلاّ منا متميز في ناحية أخرى، حتى يكون التلاحم في الكون تلاحم ضرورة حياة وليس تفضلًا؛ ولذلك فإن الإنسان المؤمن إذا كان فاعلًا مرفوعًا عليه في شيء فلابد أن يسأل نفسه: في أي الأشياء أنا مرفوع فيه؟ وفي أي الأشياء الناس أحسن مني؟
ونقول له: أنت تتقن عملًا معينًا ولذلك أنت مرفوع فيه، ولكن في باقي الأشياء لا تعلم شيئًا، فأنت مرفوع عليك. إذن: فأنا في الشيء الذي لا أجيده مرفوع عليّ، وفي الشيء الذي أجيده مرفوع على الناس؛ ولذلك تجد كل واحد في كون الله مرفوعًا مرة ومرفوعًا عليه مرة، وهذا هو معنى: {وَرَفَعْنَا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ}.
ولكن الآفة أننا لا ننظر في الرفعة إلا في مجال واحد؛ هذا غني وهذا فقير، ولكننا لا ننظر إلى الصحة، أو العلم، أو الأولاد، أو صلاح الزوجة أو البركة في الحياة، وزوايا كثيرة، وبعضنا إذا أخذ درجة عالية في زاوية، فإنه قد يأخذ صفرًا في زاوية أخرى. ومجموع كل إنسان في نهاية الأمر يساوي مجموع أي إنسان آخر، ولا تفاضل إلا بالتقوى. فإن رأيت واحدًا متفوقًا عليك في شيء. فإياك أن تحسده ولكن اسأل نفسك في أي مجال أنت تتفوق عليه، وستجد هناك مجالات وزوايا أخرى تكون فيها أفضل من غيرك.
إذن: فكل منا مرفوع ومرفوع عليه، ولابد أن نفهم أن كل صاحب موهبة يفيد المجتمع بموهبته، وربما كان نفعه للمجتمع خيرًا من نفعه لنفسه. انظر إلى النجار مثلًا يجده يتقن عمل الأبواب والنوافذ للناس، أما لنفسه فلا يتقنها، لماذا؟ لأن الباب الذي يصنعه لنفسه هو الباب الوحيد الذي لا يتقاضى عليه أجرًا.
ولقد ضربنا مثلًا باليد اليمنى واليد اليسرى، فعند غالبية الناس تجد أن اليد اليمنى تؤدي الأعمال بسهولة، واليسرى تزاولها ببطء وتعثر، فإذا أردت أن تقص أظافر يديك مثلًا، فأنت تمسك المقص بيمينك وتقص أظافر اليد اليسرى بسهولة، ثم تمسك المقص بشمالك وتتعثر في قَصِّ أظافر اليد اليمنى.